بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

الاحتياط ورجحانه الثابت بالأدلّة الأربعة.

وقد عرفت الكلام فيه في « الكتاب » (١) ؛ فإنه وإن ذكر فيه عنوان المسألة في العبادات المحتملة بالمعنى الأخص ، إلاّ أن الاحتياط بالتقرّب بالأمر المحتمل بحيث يترتّب عليه أثر العبادة بقول مطلق ، لا يفرّق فيه بين العبارتين ، على القول بتوقّف العبادة على العلم بالأمر. نعم ، جواز الفعل لا بداعي الأمر المحتمل ، أو بداعيه مع عدم الالتزام بترتّب آثار العبادة عليه ، ممّا لا شبهة فيه في غير العبادة بالمعنى الأخصّ.

وكيف ما كان : الكلام في المقام : في إثبات استحباب الفعل لا في إثبات حسن الاحتياط عقلا أو رجحانه شرعا ، وأدلّة الاحتياط لا تثبت هذا المعنى إلاّ بإثبات مقدّمتين : إحداهما : كون الأمر به مولويّا. الثانية : تجريد الاحتياط عن عنوانه ، على ما عرفته في « الكتاب » (٢) ، وهما في حيّز المنع على ما عرفت ، فهذا الوجه لا يثبت المقصود في المسألة ، وإنّما يثبت رجحان الفعل بعنوان الاحتياط ولو لم يكن هناك خبر أصلا ، وهذا المعنى ممّا لا ينكره أحد ظاهرا.

__________________

(٤) منهم : صاحب الفصول في فصوله / ٣٠٥ وصاحب الهداية في هدايته : ج ٣ / ٤٧٩ ، والسيّد محمّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٣٤٧.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٥٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٥٦.

١٢١

ثانيها : الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة المحققة والمنقولة من الخاصة والعامّة ، بل لو ادّعى أحد الإجماع المحقق في المسألة بملاحظتها والفتاوى المحصّلة له بالتتبع ، يصدّق في دعواه ، بل لو ادّعى الاتفاق من غير صاحب « المدارك » كان مصدّقا ؛ لأنّ المحكيّ عن العلامة قدس‌سره الرجوع عما ذكره (١) ، بل هو المحكي عن السيّد في « المدارك » في « باب الصلاة » (٢) أيضا.

وبالجملة : دعوى الإجماع في المسألة ليست ببعيدة كلّ البعيد بعد ملاحظة ما عرفت.

ثالثها : الأخبار المستفيضة التي عرفتها وفيها الصحاح وغيرها ، بل نفى شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » التي أفردها في المسألة ـ البعد عن دعوى تواترها معنى (٣) ، أو احتفافها بالقرائن الموجبة للقطع بصدورها التي منها الإجماعات المعتضدة بالشهرة العظيمة هذا.

وقد أورد على التمسّك بها بوجهين :

أحدهما : ما يرجع إلى المنع عن التمسّك بها في المسألة مع تسليم صحتها سندا ودلالتها على المدّعى.

__________________

(١) حكاه السيّد المجاهد قدس‌سره في مفاتيح الأصول : ٣٤٦.

(٢) مدارك الأحكام : ج ٣ / ٢٣٨ في مسألة كراهة الصلاة وبين يدي المصلّي مصحف مفتوح.

(٣) رسالة في القاعدة التسامح في أدلة السنن : ١٤٢.

١٢٢

ثانيهما : ما يرجع إلى المنع عن دلالتها وإن سلّم جواز التمسّك بها في المسألة.

أمّا الأول ؛ فلما قيل : إن المسألة أصوليّة ولا يجوز التمسّك بأخبار الآحاد في الأصول وإن كانت صحيحة ، وإن جاز التمسّك بها في الفروع.

وأجيب عنه تارة ؛ بمنع كون الأخبار المذكورة من الآحاد المجردة.

وأخرى : بمنع عدم جواز التمسّك بالآحاد في الأصول العمليّة ، فإن الممنوع عدم جواز التمسّك بها في الأصول الاعتقادية لا العمليّة.

وثالثة : بما ذكره غير واحد من المشايخ المتأخرين (١) : من أن مرجع البحث في المسألة ليس إلى إثبات حجيّة خبر الضعيف في السنن حتى يمنع منها ـ من حيث كون المسألة أصوليّة فلا يجوز التمسّك بأخبار الآحاد فيها ، أو يستبعد ثبوتها بالخبر الضعيف ؛ من حيث إن أحكام الشرع لا تختلف من حيث المدرك ؛ فإن خبر الضعيف الغير المنجبر بالعمل ، ليس بحجّة مطلقا من غير فرق بين مفادها حتّى أنه لا يجوز إثبات الإباحة بها فضلا عن الاستحباب ـ بل إلى إثبات استحباب كل فعل بلغ عليه الأجر والثواب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الوصيّ الراجع إلى البلوغ عن الله تعالى. وخبر الضعيف موجد ومحدث لهذا العنوان الوجداني حقيقة ، فإن صدق البلوغ لا يتوقف على الحجيّة أصلا.

__________________

(١) منهم : السيّد المجاهد قدس‌سره في المفاتيح : ٤٣٨.

١٢٣

ومن هنا تعدّى غير واحد وسرّى المسألة إلى إثبات السنن بفتوى الفقيه أيضا بناء على تعميم البلوغ بالنسبة إلى الخبر الحدسيّ أيضا كما ستقف على شرح القول فيه في تنبيهات المسألة وكذا التزموا بإثبات الاستحباب فيما دلّ الخبر الضعيف على وجوب شيء من حيث إنّ الإخبار عن الوجوب إخبار عن الثواب بالالتزام.

فالبحث يرجع إلى البحث عن مسألة فرعيّة كليّة ؛ وهو استحباب كل فعل بلغ فيه الخير. والدليل على هذا الحكم الفرعيّ الكلي : الأخبار المتقدّمة الصحيحة المعمول بها. والمثبت للصغرى بحكم الحسّ والوجدان خبر الضعيف. وأين هذا من التمسّك بخبر الضعيف لإثبات الأحكام الشرعيّة؟

وهذا نظير جبر ضعف السند بالشهرة ، أو غيرها من الأمارات الغير المعتبرة ، على القول بأن الحجيّة الخبر المظنون الصدور مطلقا أو الدلالة كذلك ، فحصل بملاحظتها الظن بالصدور أو الدلالة ؛ فإنه لا يمكن أن يقال بالمنع عن ذلك ؛ من حيث إن الشهرة ليست بحجة مثلا فإن الحجّة في المسألة حقيقة الخبر بمقتضى ما دلّ على حجيّته ، والشهرة إنّما يوجب وجود أمر وجداني فلا يتمسّك بها حقيقة.

وبالجملة : فرق بين جعل خبر الضعيف حجّة في مدلوله من غير فرق بين مدلوله ، وبين تأثيره في أمر وجداني وهو الإخبار من الثواب على الفعل ولو التزاما ، وإن كان مدلوله الوجوب مطابقة.

والأوّل : يتوقّف على إثبات حجيّته كالخبر الصحيح من غير فرق بينهما.

١٢٤

والثاني : لا يتوقّف على حجيّته لكونه سببا له بحكم الوجدان.

فهذا نظير أن يقال : إذا اختلف الأقوال في المسألة فافعل كذا ؛ فإن سببيّة كل قول لحدوث الاختلاف لا يتوقّف على حجيّته وهكذا. وهذا نظير يد المسلم والجهل بالطهارة في كلماتهم ؛ فإن الدليل على الملكيّة حقيقة ما دلّ على ملكيّة ما في يد المسلم وطهارة المجهول لا نفس اليد الجهل حقيقة. والأولى جعل النظير ما دلّ على وجوب الاحتياط في موارده ، والأخبار الدالة على حرمة نقض اليقين بالشكّ في الشبهات الحكميّة ؛ فإن الشكّ في المكلّف به وسبق اليقين ليسا دليلا على الحكم الظاهري حقيقة وإنما هما من قبيل الموضوع له ، فكذا المقام فتدبّر. هذا ملخّص ما يقال في تقريب الجواب الثالث.

وأورد عليه شيخنا قدس‌سره بوجوه :

أحدها : كونه خلاف ظاهر كلمة القائلين بالتسامح ؛ فإن ظاهرها ـ كما لا يخفى لمن راجع إليها ـ جعل خبر الضعيف حجّة في السنن والاستدلال لها به وجعل الأخبار المذكورة دليلا على حجيّة خبر الضعيف ، ومن هنا ذكروا : أنه يتسامح في أدلّة السنن والفضائل.

ثانيها : أن ما ذكروه يرجع عند التأمّل إلى التمسّك بالخبر الضعيف في باب السنن وجعله حجّة فيه ؛ إذ لا فرق بين أن يقال : كل فعل دلّ خبر ضعيف على استحبابه فهو مستحبّ. وبين أن يقال : كل خبر ضعيف حجّة في إثبات الاستحباب ؛ فإن معنى حجيّة الشيء في الأدلّة الظنّيّة جعله موضوعا للحكم

١٢٥

الظاهري ووسطا لحكم متعلّقه.

ثالثها : أنا نسلّم الفرق بين المعنيين وأن مرجع التسامح في السنن ليس إلى كون خبر الضعيف حجّة في مدلوله بحيث يصدّق فيه ويترتّب عليه أحكام ، بل إلى كون الخبر موجدا لموضوع بلوغ الثواب الدليل على استحباب هذا الفعل ، الأخبار المتقدمة. نظير احتمال التكليف الإلزامي الذي قضى بوجوب الاحتياط فيه ، ما دلّ على الاحتياط. ونظير احتمال بقاء الثابت سابقا الذي قضى على البناء بالبقاء فيه ، الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشك كما ذكروه : لكن نقول : إن مرجعه إلى إثبات المسألة الأصوليّة عند التحقيق بالأخبار المذكورة ، لا إثبات المسألة الفرعيّة.

المسألة أصوليّة

ومن هنا منع المحقّق قدس‌سره من التمسّك بالنّبوي « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (١) في إثبات وجوب الاحتياط من حيث إنه مسألة أصوليّة لا يجوز التمسّك لها بالخبر الواحد (٢). والمحقق السبزواري (٣) وبعض آخر من التمسّك

__________________

(١) جوامع الجامع : ج ١ / ٦٣ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٦٧ باب « وجوب التوقف والاحتياط » ـ ح ٤٣ ، وقد مرّ تخريجه عن عولي اللئالي ، وأصل الخبر في كتب العامّة.

(٢) معارج الأصول : الفصل الخامس من الباب السابع / المسألة الحادية عشر : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، والفصل الثالث من الباب العاشر / المسألة الثالثة : ٢٩٨.

١٢٦

بأخبار الاستصحاب (١) ، من حيث إن مسألة الاستصحاب مسألة أصوليّة ؛ لأن الحكم المستنبط من الأخبار المذكورة لا ينفع العامي ولا يتعلق بالعمل بلا واسطة ، كما أن الحكم المستنبط من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » في الشبهة الحكميّة لا ينفع العامي من حيث توقّفه على إحراز أركانه بالفحص وعدم قيام دليل على خلافه ، كما أن التشبّث بذيل الخبر الضعيف ؛ نظرا إلى الأخبار المذكورة يتوقّف على فهم مدلوله ، وعدم احتمال الحرمة في المسألة ، وعدم قيام دليل معتبر على خلافه.

فالأخبار المذكورة كأخبار الاستصحاب والاحتياط ينفع المجتهد والمستنبط فقط ، ولا حظّ للعامي فيها وإن كان الحكم المستنبط في الجزئيّات ينفع المجتهد والعامي. كما أن الخبر الدّال على وجوب فعل يعمل به الفريقان ، مع أن حجيّته لا ينفع العامي.

والوجه في ذلك : أن المسألة الأصوليّة لما مهّدت للاستنباط فلا ينفع إلاّ للمستنبط ، وهذا بخلاف المسألة الفرعيّة فإنه يشترك فيه الفريقان بعد استنباط المجتهد حكمها من الأدلّة كوجوب السورة ، أو الاستعاذة ، أو البناء على الأكثر في شكوك الصّلاة ، أو عدم الالتفات إلى الشّكّ بعد التجاوز ، إلى غير ذلك من

__________________

(٣) في النسخة المطبوعة من رسالة الشيخ الأعظم ١ : الخوانساري بدل السبزواري.

(١) انظر مشارق الشموس للمحقق الخوانساري : ٧٦ في مسألة الاستنجاء بثلاثة أحجار.

١٢٧

الجزئيّات ، والكليّات ؛ فإنها أحكام لموضوعات أفعال المكلّفين لا مدخل لخصوص المجتهد في موضوعها ، وينفع الفريقان ويعملان بهما بعد الاستنباط.

وهذا بخلاف المقام ؛ فإنه كالعمل بالأدلّة والأصول في الشبهات الحكميّة من حيث توقف العمل على تشخيص مداليلها ومجاريها والفحص عن معارضاتها ، فكما أنه ليس للمفتي أن يقول للعامي ؛ خذ بمقتضى الحالة السابقة فيما شككت من بقاء الحكم الشرعي الكلي ، كذلك لا يجوز له أن يقول للعامي : خذ بالخبر الضعيف الدالّ على استحباب فعل إذا لم يكن هناك معارض ، وهذا بخلاف الاستصحاب في الموضوعات فإنه حكم فرعيّ يشترك فيه المجتهد والمقلّد ، ومن هنا يكون مسألة فرعيّة ولو قلنا باعتباره من باب الظنّ.

ومن هنا يظهر : أن [ تنظير ](١) المقام بالعمل باليد وقاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة ليس ممّا ينبغي ، بل نظير المقام : العمل بالقاعدة في الشبهات الحكميّة.

لا يقال : العمل بالخبر الضعيف الدال على استحباب فعل يشترك فيه المجتهد والعامي غاية ما هناك كون المجتهد نائبا عن العامي في تشخيص مدلول الخبر ودفع معارضاته.

لأنا نقول : ما ذكر جار بالنسبة إلى جميع المسائل الأصوليّة ؛ فإنه كما يعمل

__________________

(١) في الأصل : « تنظّر » والصحيح : ما أثبتناه.

١٢٨

المجتهد بخبر العادل في الفروع ، كذلك يعمل العامي به ؛ غاية الأمر كون المجتهد نائبا عنه في تشخيص مدلول الخبر ودفع معارضاته. ومن هنا جاز للعامي في زمان الحضور العمل بالروايات كما جاز له التقليد والعمل بالفتاوي ، مع أنه لم يقل أحد بكون مسألة حجيّة خبر الواحد مسألة فرعيّة ؛ فاختصاص [ ال ] مسائل الأصوليّة في زماننا هذا وأشباهه بالمجتهد إنّما هو عارضيّ من جهة قدرته على العمل بها وعجز العامي عنها. هذا ما لخّصناه من إفاداته بطولها في « الرسالة » في الإيراد على الجواب الثالث (١).

وقال قدس‌سره ـ بعد ما لخصّناه ـ ما هذا لفظه : « إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك : أن قاعدة التسامح مسألة أصوليّة ؛ لأنها بعد إتقانها واستنباط ما هو مراد الشارع منها في الأخبار المتقدّمة ، فهو شيء يرجع إليه المجتهد في استحباب الأفعال ، ولا ينفع المقلّد في شيء ؛ لأن العمل بها يحتاج إلى إعمال ملكة الاجتهاد وصرف القوّة القدسية في استنباط مدلول الخبر ، والفحص عن معارضة الراجح عليه ، أو المساوي له ، أو نحو ذلك ممّا يحتاج إليه العمل بالخبر الصحيح ، فهو نظير مسألة حجيّة الخبر الواحد ، ومسائل الاستصحاب ، والبراءة ، والاحتياط ؛ في أنها يرجع إليها المجتهد ولا ينفع المقلّد ؛ وإن كانت نفس القاعدة قطعيّة المراد من حيث العموم أو الخصوص.

__________________

(١) رسالة في قاعدة التسامح في أدلّة السنن : ١٤٤ ـ ١٤٩.

١٢٩

وممّا ذكرنا ظهر : أن إطلاق الرخصة للمقلّدين في العمل بقاعدة التسامح غير جائز ، كيف! ودلالة الأخبار الضعيفة غير ضروريّة ، فقد يظهر منها ما يجب طرحها لمنافاته لدليل معتبر عقليّ أو نقلي ، وقد يعارض الاستحباب احتمال الحرمة الذي لا يتفطّن له المقلّد ، وقد يخطأ في فهم كيفيّة العمل إلى غير ذلك من الاختلال.

نعم ، يمكن أن يرخّص له ذلك على وجه خاصّ تؤمن معه الخطأ كترخيص أدعية كتاب « زاد المعاد » (١) مثلا للعامي الذي لا يقطع باستحبابها ، وهو في الحقيقة إفتاء باستحبابها لا إفتاء بالتسامح » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأن العمدة ما ذكره أخيرا : من التمسّك بلازم المسألة الأصوليّة وخاصيّتها في المقام ، وإلاّ فيتوجّه المناقشة إلى ما أفاده أوّلا وثانيا بما لا يحتاج إلى البيان.

ومع ذلك يناقش فيه أوّلا : بأن العمل بما ورد من التسامح في السنن

__________________

(١) « زاد المعاد » من مؤلفات المحدّث الجليل العلاّمة المجلسي غوّاص بحار الأنوار ومستخرج كنوز أحاديث الأئمة الأطهار « صلوات الله تعالى عليهم » ـ وهو من خيرة كتب الدعاء المؤلّفة باللغة الفارسيّة بل قد اكتسب من القبول والإقبال عند الخواص والعوام بما لم ينجح بمثله « مفاتيح النجاة » لمعاصره الفقيه الشيخ محمّد باقر السبزواري رغم انه كتب باللغة الفارسية أيضا. بل لم يطبع لحد الآن ولا يزال مخطوطا في زوايا المكتبات.

(٢) المصدر السابق للشيخ الأعظم قدس‌سره : ١٤٩ ـ ١٥٠.

١٣٠

لا يتوقف كثيرا مّا على إعمال قوّة نظريّة ، كما في الأدعية ، والآداب ، والزيارات ، ونحوها ، بل في الفروع الفقهيّة ؛ إذ كثيرا مّا يعلم العامي بعدم احتمال الحرمة الذاتية في المسألة التي ورد الخبر الضعيف في استحبابها. والحرمة التشريعيّة غير مانعة جزما ؛ لارتفاع موضوعها بالأخبار المذكورة ، ومجرّد هذا ليس اجتهادا في المسألة ولو بمعنى التجزّي في الاجتهاد.

مثلا إذا ورد خبر ضعيف في الاستعاذة قبل القراءة في الركعة الأولى ويرجع العامي في المسألة ، وعلم بأن القول منحصر بين الفقهاء فيها بين الوجوب والاستحباب ، ولم يقل أحد بحرمتها ، فعمل بأخبار التسامح فيها لم يكن هذا منه اجتهادا في المسألة من حيث هي ؛ إذ لا قدرة له على استنباط نفس حكم المسألة من الأدلّة فتدبّر.

وثانيا : بأن ما أفاده من اللازم للمسألة الأصوليّة والفرعية ممنوع ، وإنما يسلّم بالنسبة إلى غالب المسائل الفرعيّة فإنها كما أفاده في حكمها. كيف! وقد استظهر قدس‌سره ـ كما يظهر من مطاوي كلماته في باب الاستصحاب في ردّ بعض السادة الفحول (١) كما ستقف عليه (٢) ، وفي ردّ المحقق فيما أفاده بالنسبة إلى النبوي وفي غيرهما ـ كون الأصول العمليّة في الشبهات الحكميّة من المسائل

__________________

(١) العلامة الفقيه السيد مهدي بحر العلوم قدس‌سره المتوفى سنة ١٢١٢ ه‍.

(٢) انظر فرائد الأصول : ج ٣ / ١٩ ـ ٢٠.

١٣١

الفرعيّة. نعم ، على القول بها من باب الظّنّ يكون البحث فيها بحثا عن المسألة الأصوليّة فافهم ، وانتظر لبقيّة الكلام وتوضيح المقام فيما يتلو عليك في الجزء الثالث (١) ، هذا حاصل الكلام فيما يرجع إلى الإيراد على التمسّك بالأخبار في المسألة بعد تسليم تماميّتها سندا ودلالة.

وأمّا ما يرجع إلى الوجه الثاني (٢) ، أعني : منع دلالتها ، فيتوقّف بيانه وتوضيحه على تقريب دلالتها على المدّعى أولا على سبيل الإجمال ، ثمّ التعرض للمناقشة فيها. فنقول :

أمّا دلالتها عليه ؛ فإنما هي من جهة أن المستفاد منها الإخبار بتنجز الثواب الموعود على العمل بمقتضى الخبر الضعيف الدال عليه ، والظاهر منها استحقاق العامل لذلك بمقتضى عمله ، ولا يكون ذلك بحكم العقل إلا بكونه مطيعا ، ولا إطاعة إلاّ مع تعلّق الأمر بالمأتيّ به ، فالإخبار بالثواب على العمل ، إخبار عن تعلق الأمر الشرعي المولويّ به ولو كان ظاهريّا ؛ حيث إن مرجع الأخبار المذكورة إلى الإخبار عن الثواب ولو على تقدير عدم مطابقة الخبر للواقع.

وهذا كما ترى ، لا يجامع الاستحباب الواقعي ، فهو نظير كثير من المستحبّات الواقعيّة المبنيّة في لسان الشرع بالإخبار عن الثواب عليها من الجهة

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٣ / ٧.

(٢) من وجوه الإيراد على التمسك بها.

١٣٢

التي ذكرناها ، كما أنه قد يكتفى عن بيان الوجوب بالعقاب على ترك الفعل ، وعن بيان التحريم بالإخبار عن العقاب على الفعل.

ثمّ إن الثواب على الطّاعة وإن كان لازم أعمّ من الأمر الندبي ؛ ضرورة تحققها بالنسبة إلى الأمر الإيجابي أيضا ، إلاّ أنّ لازم الأمر الإيجابي لمّا كان ترتّب العقاب على مخالفته أيضا والمفروض قصر الأخبار على إعطاء الأجر والثواب ، فيستظهر منها : أن الأمر المستفاد منها بالدلالة العرفية هو الأمر الندبي هذا.

مضافا إلى أن المستفاد منها كونها في مقام الترتيب على العمل ، وإلى أنه قد لا يكون مفاد الخبر الضعيف كما هو الغالب في موارد التسامح إلاّ استحباب الفعل.

هذه غاية ما يقال في تقريب دلالة الأخبار المذكورة على ما ذكره المشهور.

مناقشة مختار المشهور في تقريب دلالة الأخبار المزبورة

فقد نوقش فيها بوجوه :

الأوّل : أن الإخبار عن الثواب في الأخبار المذكورة لا يكشف عن تعلّق الأمر الشرعي بنفس الفعل استحبابا ؛ حيث إن الثواب الموعود على الفعل إنّما هو فيما إذا أتي به باحتمال أن يكون مطلوبا للمولى ، وأن يكون الخبر الدالّ على استحبابه أو الثواب عليه مطابقا للواقع لا مطلقا ، كيف! ولا يكون الأمر ظاهريّا إلاّ بالملاحظة المذكورة. ويكشف عن ذلك قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : « التماس

١٣٣

ذلك » (١) وقوله عليه‌السلام : « التماس قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢) فإن المقصود من هذا التعبير جعل احتمال الواقع الذي أخبر عنه الخبر الضعيف ، داعيا على العمل.

وهذا التعبير وإن لم يكن موجودا في أكثر الأخبار ، إلاّ أن النّاظر إليها يستظهر كون المراد منها مطلب واحد لا مطلبين. فالمستظهر منها : الإخبار عن الثواب على العمل بعنوان الاحتياط ، فيكشف عن رجحان الاحتياط شرعا كما يستقلّ به العقل ، فإن قلنا : بأن المحتاط يستحقّ الأجر عقلا من حيث كون نفس الاحتياط حسنا عقلا وإطاعة حكميّة ، فلا يلزم هناك أمر شرعيّ مولويّ أصلا.

فهذه الأخبار على التقدير المذكور ، نظير ما دلّ على الأجر على الإطاعة الحقيقيّة ؛ فإنه لا يكشف عن تعلّق أمر مولويّ بالإطاعة ، وإن قلنا بعدم حكم العقل باستحقاقه الأجر من حيث كون المدح عليه فاعليّا ، فمرجعها إلى الإخبار عن تفضّل الشارع بإعطاء الأجر ، فيكون كقوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها )(٣) فلا يكشف أيضا عن تعلّق الأمر الشرعي بالفعل ، إلاّ بعنوان الاحتياط.

وبالجملة : المدّعى والغرض : إثبات استحباب الفعل بالأخبار المذكورة كما

__________________

(١) مضى تخريجه قريبا.

(٢) كذلك أيضا.

(٣) الأنعام : ١٦٠.

١٣٤

هو مدلول الخبر الضعيف ، لا إثبات رجحان الاحتياط في مورده فإنه راجح وإن لم يكن هناك خبر أصلا.

ومن هنا أشرنا إلى خروجه عن محلّ البحث هذا كله ، مضافا إلى بعد كون الأمر الظاهري المستفاد من الأخبار المذكورة ممّا يترتّب على إطاعته الأجر والثواب بخصوصه ، على خلاف ما يقتضيه التحقيق في إطاعة سائر الأوامر الظاهريّة. وإلى هذه المناقشة أشار شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بعد دفع الإيرادين بقوله :

« وأمّا الإيراد الأوّل ؛ فالإنصاف أنه لا يخلو عن وجه ؛ لأن الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعا على البلوغ ، وكونه الدّاعي على العمل ، ويؤيّده تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتماس الثواب الموعود ... إلى آخر ما أفاده » (١) هذا.

وقد يدفع المناقشة المذكورة ؛ بأن ظاهر الأمر المستفاد من الأخبار لا يقتضي إلاّ ملاحظة جهل المكلّف بالواقع واحتماله في موضوعه ، أمّا ملاحظة المكلّف احتمال الواقع حين العمل وجعله الداعي عليه فلا يقتضيها أصلا ، كما هو الشأن في جميع الأوامر الظاهريّة حيث إنّ مقتضاها بأسرها ما ذكرنا.

نعم ، موافقة الأمر بالاحتياط إنّما هي بجعل احتمال الواقع داعيا على

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٥٥.

١٣٥

العمل ، لكنها ليست من جهة اقتضاء الأمر الظاهري لذلك ، بل من جهة عدم تحقّق الاحتياط الذي هو موضوع للأمر إلاّ بالإتيان بالفعل بالداعي المذكور.

وأمّا التقييد في بعض الأخبار بما يقتضي ملاحظة الواقع في العمل في حقّ العامل فليس محلاّ للإنكار ، إلاّ أنه لا يوجب التقييد في الأخبار المطلقة ، لعدم التنافي بين المثبتين في المندوبات كما هو ظاهر.

وأمّا الظهور العرفي المدّعى للأخبار بملاحظة وحدة السّياق ، فهو ظهور غير مستند إلى اللفظ ، فلا يعارض به ظهور المطلقات في الإطلاق.

وإلى ما ذكرنا أشار قدس‌سره في مواضع من « الرسالة » منها ما لفظه ـ : « فالأخبار الخالية عن تعليل الفعل برجاء الثواب ، غير ظاهرة في مضمون الأخبار المشتملة على التعليل ، بل هي ظاهرة في ترتّب الثواب على نفس الفعل ، واللازم من ذلك كونها مسوقة لبيان استحبابه ؛ لما عرفت من أن إتيان محتمل المطلوبيّة بما هو هو لا يوجب الثواب ، فالإخبار بثبوت الثواب عليه بيان لاستحبابه ، ويؤيّد ما ذكرنا فهم الأصحاب القائلين بالتسامح » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وما أفاده من إطلاق أكثر ما ورد في الباب مضافا إلى فهم الأصحاب وإن كان مستقيما ، إلاّ أنّ في النفس من ذلك شيء.

__________________

(١) رسالة في قاعدة التسامح في أدلة السنن : ١٥٣.

١٣٦

الثاني (١) : أنّ مورد الأخبار المذكورة والمستفاد من مجموعها هو التسامح في مقدار الثواب الخاص بعد مفروغيّة الثواب والاستحباب ، كالوارد في شأن كثير من المستحبّات الثابتة في الشرع ، كما في الزيارات والأدعية ، لا أصل الثواب الكاشف عن الاستحباب.

ويدلّ عليه قوله في بعض الأخبار المتقدّمة : « من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به » (٢) مضافا إلى ما تقدّم من الإشكال في أوامر الاحتياط من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يمكن أن يكون هي المصحّحة للفعل إلى آخر ما عرفته.

ويدفعه : أن ما ذكر وإن كان مقتضى ظاهر بعض الأخبار المتقدّمة ، إلاّ أنه خلاف مقتضى إطلاق الأكثر وهو المرجع لما عرفت : من أنه لا يحمل في المقام المطلق على المقيّد ، وأمّا الإشكال المتقدّم في أوامر الاحتياط فقد عرفت التفصّي عنه نقضا وحلاّ فراجع.

الثالث : أنّ الأخبار المذكورة أخصّ من المدّعى ؛ نظرا إلى اختصاصها بما

__________________

(١) الوجه الثاني من وجوه المناقشة على التقريب الذي أفاده المشهور في دلالة الأخبار ، وممن أشار الى هذا الإشكال المحقق الخوانساري قدس‌سره في مشارق الشموس ، في مسألة استحباب الوضوء لحمل المصحف : ٣٤.

(٢) مضى تخريجه قريبا.

١٣٧

دلّ الخبر على الثواب على العمل ، لا ما إذا دل على طلب الفعل ورجحانه ؛ فإنه ليس إخبارا عن الثواب.

ودعوى : أن الإخبار عن الطلب ، أو الأمر بالفعل ، إخبار عن الثواب التزاما من حيث كون إطاعة الأمر ملازمة للثواب.

مدفوعة : بأن ظاهر الأخبار المذكورة ، الإخبار عن الثواب ابتداء وبالذات لا ثانيا وبالعرض ؛ من حيث اللزوم العقلي.

ويدفعه ـ مضافا إلى عدم القول بالفصل ومنع ظهور الاختصاص بالنسبة إلى كثير ـ : أن المستظهر منه ما ذكرنا ، اقتصر فيه ببلوغ الثواب ، والمراد منه بقرينة قوله : ( فعمله ) نفس الفعل الذي يوجب الأجر والثواب ، لا نفس الثواب.

الرّابع : أنها معارضة بما دلّ على عدم حجيّة خبر الفاسق من آية النبأ وغيرها والمرجع بعد التعارض الأصل.

ويدفعه : ما عرفت من أن مدلولها ليس حجيّة خبر الضعيف حتّى يعارض بما دل على عدم حجيّته ، بل الحجة في المسألة نفس الأخبار المتقدمة الصحيحة المعتضدة بما عرفت هذا.

وأجاب عنه بعض أفاضل مقاربي عصرنا ـ بعد جعل النسبة بين الأخبار المتقدمة والآية العموم من وجه ؛ من حيث إن [ ال ] أخبار المذكورة تشمل جميع أقسام الخبر في الأحكام المترتّبة على بلوغها الثواب ، والآية تشمل جميع أفراد

١٣٨

خبر الفاسق من غير فرق بين الموضوعات والأحكام بجميع أقسامها ـ بما هذا لفظه :

« والجواب : أن تناول أخبار الباب لخبر الفاسق أقوى من تناول آية النّبأ ؛ لأن المطلقات التي يقع في سياق العموم كالرجل في قولك : « من أكرم رجلا فله كذا » تفيد العموم ، تبعا لألفاظ العموم للتلازم. إلى أن قال : مضافا إلى اعتضاد عموم الأخبار بالشهرة وبظاهر العقل كما عرفت » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه ما لا يخفى.

وذكر شيخنا قدس‌سره في « الرسالة » : « أن التحقيق في الجواب : أنّ دليل طرح خبر الفاسق إن كان هو الإجماع ، فهو في المقام غير ثابت. وإن كان آية النبأ فهي مختصّة بشهادة تعليلها بالوجوب والتحريم ، فلا بدّ في التعدّي عنهما من دليل مفقود في المقام » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذا الجواب كالسابق عليه مبنيّ على ما عرفت تضعيفه من دلالة الأخبار على حجيّة خبر الفاسق. ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ : المنع من اختصاص التعليل بخصوص الوجوب والتحريم ؛ لأن المراد منه كون خبر الفاسق في معرض الوقوع في خلاف الواقع من غير فرق ، فتدبّر هذا.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٠٦.

(٢) رسالة في التسامح في أدلّة السنن : ١٥٢.

١٣٩

مضافا إلى أن دليل طرح خبر الفاسق ليس مختصا بالإجماع والآية ، بل يستفاد من الأخبار أيضا كقوله عليه‌السلام : « لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا » (١) وغيره ، مما تقدّم في البحث عن حجيّة أخبار الآحاد فتأمل.

الخامس : أنّها على تقدير تسليم دلالتها على ترتب الثواب على العمل الذي أخبر بترتّبه عليه ولو بطريق ضعيف ؛ لا يدلّ على الإذن في الإتيان بذلك العمل ، بل غاية ما يستفاد منها الإخبار بسعة فضله وكرمه تعالى ... إلى آخر ما ذكره الشيخ الفاضل قدس‌سره في « الفصول » (٢). وقد أطال الكلام قدس‌سره في دفعه والجواب عنه بما لا يخلو عن مناقشة. ولمّا كان أصل المناقشة غير محصّل المراد أعرضنا عنه.

السّادس : أنّها أخصّ من المدّعى من جهة أخرى ؛ حيث إنّها مختصّة بما إذا كان الخبر الوارد دالاّ على الاستحباب أو الثواب على العمل ، وأمّا إذا دلّ على الوجوب ، أو الثواب على الفعل والعقاب على الترك ، أو اقتصر على العقاب على الترك ، فلا يظهر حكمه من الأخبار المذكورة ، مع أن حكمهم بالتسامح يشمل جميع الصور. ولعلّه المراد بقوله قدس‌سره في « الكتاب » « وثالثة : بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض ... إلى آخره » (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٥٠ ، باب « وجوب الرجوع في القضاء والفتوى الى رواة الحديث » ـ ح ٤٢ ، عن رجال الكشى : ج ١ / ٧ ـ ح ٤.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٠٦.

(٣) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٥٥.

١٤٠