بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

توضيح ذلك : أنه لا يخلو ؛ إمّا أن نقول : بكون حرمة التطهير بالماء النجس ذاتيّا كالتطهير بالماء المغصوب ، كما نسبه في « الكتاب » في هذا المقام إلى الأصحاب وإن خالف ظاهر ما تقدّم منه ، بل صريحه في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم من مسائل الشك في التكليف ، فحينئذ لا إشكال في أن الحكم بترك الوضوء عنهما موافق للاحتياط المقصود في الشبهة المحصورة.

وإمّا أن نقول : بكون حرمة التطهير بالماء النجس تشريعيّا كالتطهير بالماء المضاف ، فحينئذ لا إشكال في أن مقتضى القاعدة ـ بناء على وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ـ هو الوضوء عنهما كما حكموا به من غير خلاف بينهم في المضاف المشتبه بالمطلق ؛ ضرورة ارتفاع التشريع موضوعا بالاحتياط ، فلا وجه لإلقاء الأمر بالوضوء. وحينئذ يكون الأمر بترك الوضوء عنهما من باب محض التعبّد على خلاف القاعدة في الشبهة المحصورة حسبما اعترف به الأستاذ العلاّمة سابقا في ردّ التمسّك بالاستقراء في تقديم جانب احتمال التحريم على احتمال الوجوب ، فلا يمكن حينئذ الاستدلال به على المدعى.

نعم ، هنا إشكال على هذا التقدير في الرواية وهو : أنه كيف جوّز هنا المخالفة القطعيّة للأمر بالوضوء بالماء الطاهر مع أنه مما يحكم به العقل بقبحه ـ حسبما عرفت تفصيل القول فيه ـ؟ هذا.

ويمكن دفعه : بكشفه عن عدم الأمر بالوضوء واقعا في المقام من جهة تقديم الطهارة الخبثيّة لوجود البدل للوضوء ، والجمع بين الوضوء بأحدهما

٣٢١

والتيمّم لا يحصل إلاّ احتمال التطهير بالماء وهو معارض باحتمال نجاسة البدن من الوضوء به.

وبالجملة : العلم التفصيلي مأخوذ في موضوع الأمر بالوضوء بالماء الطاهر ، فليس في صورة الاشتباه أمر واقعي بالوضوء حتى يكون ترك الوضوء بالمائين مخالفة قطعيّة له هذا.

وقد يقال : بملاحظة ما ذكرنا في مقام التوجيه كون الحكم بترك الوضوء عن المائين موافقا للقاعدة على تقدير الحرمة التشريعيّة.

نعم ، مقتضى القاعدة وجوب رفع النجاسة بهما على التعاقب لو فرض انحصار الماء بهما ؛ لأنّ استصحاب الطهارة مثبت للطهارة ظاهرا فتأمل.

والعجب من صاحب « الحدائق » (١) : أنه كيف تمسّك بالاستقراء بالمقام مع كونه أخباريّا ، مع كونه داخلا تحت عنوان القياس عند بعض المجتهدين ـ لعدم استقامة إرادة الاستقراء التام في المقام على ما عرفت ـ؟!

ثمّ إنّ ما ذكره من الخصوصيّة ، الظاهر أنه لا يخلو عن إشكال أيضا ، لأن الظاهر أن الحكم المذكور ليس اتفاقيّا بينهم كما يعلم من الرجوع إلى كلماتهم.

__________________

(١) الحدائق النّاضرة : ج ٥ / ٥٠٣.

٣٢٢

(٩٢) قوله : ( ومنها : ما ورد في الصلاة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٢٢ )

أقول : هذا المثال وإن لم يكن من أمثلة الفرض ؛ لأن الكلام في الشبهة التحريميّة لا الوجوبيّة ، إلاّ أن المناط في المقامين واحد كما لا يخفى.

(٩٣) قوله : ( ومنها : ما ورد في وجوب ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٢٢٢ )

أقول : لا يخفى عليك أن هذا الخبر أوضح دلالة من جميع هذه الأخبار ، بل يمكن استفادة الحكم منه كلية بملاحظة التعليل وإن كان لا يخلو من إشكال ؛ من حيث احتمال الاختصاص بخصوص الطهارة ، فتدبّر.

(٩٤) قوله : ( ومنها : ما دلّ على بيع الذبائح ... إلى آخره ) (٣). ( ج ٢ / ٢٢٢ )

__________________

(١ و٢) مرّ ما ينفعك في التعليقة السابقة من كلمة السيّد المحقق اليزدي فراجع.

(٣) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« روايتان للحلبي لم يعمل بهما المشهور ، تقريب الإستدلال : أنّ المنع عن بيعها من المسلم ليس إلاّ من جهة منجّزية العلم الإجمالي.

والإنصاف : أن الإستدلال بهما في غاية الضّعف ؛ إذ لو لم يكن العلم الإجمالي منجّزا أيضا لم يجز البيع المذكور ؛ لعدم جواز أكل الشيء من المشتبهين ؛ لأنّ الأصل الموضوعي في كل منهما عدم التذكية ولا تقصر الشبهة فيهما عن الشبهة البدويّة والأصل فيها الحرمة لجريان أصالة عدم التذكية ، فهو نظير ما كان الإناءان المشتبهان مسبوقين بالنّجاسة وقد طهر احدهما ، فيجري فيهما استصحاب النجاسة ويجب الإجتناب عنهما ولو لم نقل بمنجّزية العلم الإجمالي ، بل نقول : مقتضى القاعدة : عدم جواز البيع المذكور ممّن يستحلّ الميتة أيضا

٣٢٣

أقول : قد يورد عليه : بأنه تدل على خلاف المدّعى ؛ حيث إنه يدل على جواز التصرّف في بعض أطراف الشبهة ، فلو سلّم أن قضيّة بيع خصوص المذكّى يرفع الحرمة في المقام لم يكن له دلالة على أحد المذهبين هذا.

ولكنك خبير بفساد هذا الإيراد ؛ لأن المقصود هو بيع مجموع الذبائح من أهل الكتاب مع جعل الثمن بإزاء خصوص المذكّى منها ، أو هو مع ما لا تحلّه الحياة من الميتة ، هذا معنى قصد المذكّى فلا وجه للإيراد المذكور أصلا.

نعم ، هنا شيء آخر وهو : أن يقال : إن الرواية لا دلالة لها على أحد المذهبين ولا تنافيهما ، اللهم إلاّ أن يوجّه ما ذكر على وجه يكون له المفهوم وهو لا يخلو عن تأمّل ، فتأمل.

__________________

سواء قلنا بمنجّزيّة العلم الإجمالي أو لم نقل ؛ لأنّ الكفار أيضا مكلّفون بالفروع كالأصول وحكم المسلم والكافر سواء.

لا يقال : انّ الكفار يقرّون على ما يستحلّون وتمضي معاملاتهم عليها.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن لا يجوز معاملة المسلم معهم فيما يستحلّون كالخمر والخنزير وهو واضح.

وبالجملة : إمّا أن نطرح الرّوايتين لما ذكرنا كما فعله المشهور ، أو نعمل في خصوص موردهما تعبّدا أو نؤوّلهما بما يوافق القواعد وقد تعرّض المصنّف لذلك في كتاب المكاسب وذكر هناك شطرا وافيا في فقه المسألة وفقه الخبر فراجع » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧٧.

٣٢٤

(٩٥) قوله : ( وقد يستأنس له ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٢٣ )

أقول : وجه الاستئناس من دلالته على وجوب الاحتياط عن جميع الغنم قبل القرعة على ما يظهر من كلامه ( دام ظلّه ) بعد هذا. ولكن لا يخفى عليك : أن الاستئناس بهذا المعنى موجود لقول الخصم أيضا ؛ لأنه يدلّ على جواز الارتكاب في الجملة ، فالحق أنه لا دخل له بأحد القولين.

(٩٦) قوله : ( لكنّه (٢) لا تنهض لإثبات ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنه أراد ( دام ظلّه ) بذلك ، الردّ على من ذهب إلى القرعة من جهة هذا الخبر ، وهو لا يخلو عن تأمّل ؛ لأن الأصل في المقام ليس إلاّ

__________________

(١) قال السيد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« لم يعرف وجه الإستيناس بالخبر لكون وجوب الإجتناب عن كل من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمة عليهم‌السلام والشيعة في مقابل القول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، بل الاستيناس به لهذا القول أقرب.

اللهم إلاّ أن يكتفى في الإستيناس بما ذكره في المتن بعيد هذا من دلالة الرّواية على عدم جواز إرتكاب شيء من أطراف الشبهة قبل القرعة وفيه تأمل.

وكيف كان : فقد ظهر مما ذكرنا انّه لا يستفاد من شيء من الأخبار المذكورة وجوب الإحتياط في الشبهة المحصورة التحريميّة فضلا عن أن يحصل منها الإستقراء القطعي أو الظّنّي أو يستشمّ منها الإستقراء » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧٨.

(٢) في الكتاب « لكنّها ».

٣٢٥

أصالة الاحتياط المبنيّة على وجوب دفع الضّرر المحتمل الذي يستقل به العقل ، وبعد ورود الخبر لا يبقى احتمال الضّرر. وليس هذا الأصل من القواعد التي لا يجوز الخروج عنها بمجرد ورود خبر على خلافها من جهة إبائها عن التخصيص.

ولو استند ( دام ظلّه ) في عدم النهوض بعدم اعتباره من جهة إعراض المشهور عنه لكان أولى. ولعلّه المراد من كلامه ( دام ظلّه ) بأن يجعل المشار إليه الخبر من حيث وصف إعراض المشهور عنه فتأمل.

وممّا ذكرنا كله يظهر : الكلام في التمسّك للقول بالقرعة بعموماتها الواردة في كل مجهول ومشتبه ؛ حيث إنها وإن كانت واردة على أصالة الاحتياط على ما عرفت بها على تقدير العمل بها ، إلاّ أنّها من جهة كثرة ورود التخصيص عليها لا يعمل بها من دون جبر ، وهاهنا الحاصل بكثرة الخارج بعمل جمع من الأصحاب في الموارد الشخصيّة ، والمفروض أن المشهور قد تركوا العمل بها في المقام وأعرضوا عنها ، فكيف يتمسّك بها؟ بل قد عرفت : قدح إعراضهم في الرواية الخاصّة ، فكيف بالعمومات الموهونة؟ فافهم.

(٩٧) قوله : ( ولكن الإنصاف : أن الرواية ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٣ )

أقول : لا يخفى عليك الوجه فيما ذكره ؛ فإنه بناء على حمل القرعة على الاستحباب تدلّ الرواية على جواز الارتكاب من دون القرعة أيضا مع إبقاء مقدار الحرام أوّلا معه ، ولكن يحمل عليه جمعا بينه وبين ما دلّ على عدم الإذن

٣٢٦

في المخالفة القطعيّة للحرام الواقعي. ومن المعلوم أنه لا قول بالفصل في جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام بين مورد الرّواية وغيره.

نعم ، بناء على حملها على الوجوب لا يدلّ على أحد المذهبين حسبما عرفت القول فيه ، فعلى فرض الأخذ بالرواية سندا مع حمل القرعة فيها على الاستحباب ، لا بد من القول بدلالته على مطلب الخصم.

وأمّا على مذهب المشهور : من وجوب الاحتياط كليّة ، فلا بد من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها والله العالم. هذا مجمل القول في أصل المسألة وقد عرفت ما يجب سلوكه فيها.

وهاهنا وجوه أخر مذكورة في كتب الأصحاب تمسّكوا بها لوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، وإنّما أعرضنا عن ذكرها لضعفها.

* * *

٣٢٧
٣٢٨

تنبيهات

الشبهة المحصورة

٣٢٩
٣٣٠

تنبيهات الشبهة المحصورة

* التنبيه الأوّل :

« لا فرق بين كون المشتبهين مندرجين

تحت حقيقة واحدة وغيره »

(٩٨) قوله : ( فإنه ذكر كلام صاحب « المدارك » ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٥ )

أقول : أي ذكر كلاما لصاحب « المدارك » الذي ذكره في مقام تأييد ما قوّاه وذهب إليه من عدم وجوب الاحتياط عن المشتبهين.

(٩٩) قوله : ( وفيه : بعد منع كون ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٦ )

أقول : لا يخفى عليك أنه يرد عليه أيضا : أن ما ذكره الأصحاب من الفرض لا يلزم أن يكون من باب الشبهة الغير المحصورة ، بل يعمّها والمحصورة ، فتدبّر.

ثمّ إن الوجه في حكمهم بعدم وجوب الاحتياط في الفرض وأمثاله ـ مثل ما ذكره الأستاذ العلامة : من فرض العلم بوقوع النجاسة إمّا في الإناء أو في ظهره

٣٣١

مع أن بناءهم على وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة مطلقا سواء كان المشتبهان مندرجين تحت حقيقة واحدة أو حقيقتين كما هو واضح لمن راجع إلى كلماتهم ـ هو ما سيتلى عليك : من أن الشرط في إيجاب العلم الإجمالي وجوب الاحتياط : هو كون جميع أطرافه محلاّ للابتلاء ، فلو خرج بعضها عن محل الابتلاء لم يؤثّر العلم المذكور في إيجاب الاحتياط ، بل يكون حاله حال الشك الابتدائي في كون الحكم فيه الرجوع إلى البراءة.

وكلامهم في باديء النظر وإن كان مطلقا ، إلاّ أنه يعلم بعد التأمل التّام أن مرادهم ما ذكرنا لا الإطلاق. وستقف على ما ذكرنا من التوجيه في كلام الأستاذ العلامة أيضا.

(١٠٠) قوله : ( كما يدلّ عليه : تأويلهم لصحيحة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٦ )

أقول : وهي : « ما عن رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس (١) ».

الحديث.

واستدل به الشيخ على عدم تنجيس ما لا يدركه الطّرف من النجاسة مطلقا

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٧٤ باب « النوادر » ـ ح ١٦ ، والتهذيب : ج ١ / ٤١٢ باب « المياه وأحكامها » ـ ح ١٨ ، الاستبصار : ج ١ / ٢٣ باب « الماء القليل يحصل فيه شيء من النجاسة » ـ ح ١٢ ، عنها الوسائل : ج ١ / ١٥٠ باب « نجاسة ما نقص عن الكر » ـ ح ١.

٣٣٢

كما عن « المبسوط » (١) ، أو خصوص الدم كما عن « الإستبصار » (٢).

وأجاب المشهور عنه : بأن المراد من عدم الاستبانة في الماء هو عدم العلم بإصابته بالماء لا عدم إدراك الطّرف له مع القطع بوصوله ، وفي السؤال إنّما فرض إصابة الدم بالإناء وهي أعم من إصابته بمائه فلا تدل على المدّعى.

(١٠١) قوله : ( أمّا أوّلا : فلعموم الأدلّة المذكورة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٦ )

أقول : قد عرفت مرارا : أن الدليل على وجوب الاجتناب عن المشتبهين إنما هو حكم العقل بعد فرض شمول الخطاب الواقعي لا نفس الخطاب الموجود في الأدلّة ، ولكن يمكن إرجاع ما أفاده إلى ما ذكرنا.

(١٠٢) قوله : ( وأما ثانيا : فإنه (٣) لا ضابطة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٦ )

أقول : يمكن أن يقال : إن الضابط عنده هو اشتراكهما في عنوان قريب وصدقه عليهما كالإناء في الإناءين ، والماء في المائين ، والثوب في الثوبين ، والأرض في قطعتين منها ، إلى غير ذلك.

ثم قد يقال ـ علي ما ذكره ( دام ظلّه ) ثانيا ـ بأن مجرد عدم وجود الضابط [ الذي ] يتميّز به الأفراد المشكوكة لا يقدح في أصل التفصيل الذي ذكره على

__________________

(١) المبسوط : ج ١ / ٧ طبعة المكتبة المرتضويّة ، وج ١ / ٢٣ من طبعة جماعة المدرسين.

(٢) الإستبصار : ج ١ / ٢٣ ذيل الحديث رقم ١٢.

(٣) هذا وفي الكتاب « فلأنّه ».

٣٣٣

فرض دلالة دليل عليه ، فليؤخذ بمقتضاه فيما هو متّضح الفرديّة ويرجع في المشكوك إلى الأصول والقواعد ، فتدبّر.

(١٠٣) قوله : ( والأقوى : أن المخالفة القطعيّة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٧ )

أقول : قد أسمعناك سابقا : أن الظاهر من جماعة من متأخر الأصحاب ، منهم :

بعض أفاضل من عاصرناه هو التفصيل في الشبهة المحصورة بين كون الخطاب المعلوم وجود متعلّقه بين الشيئين ، أو الأشياء المحصورة مفصّلا أو مردّدا بين الخطابين ، فحكموا بوجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة في الأول وجوّزوا المخالفة القطعيّة في الثاني ؛ تمسّكا بأنّ حسن المؤاخذة إنّما هو فيما توجّه خطاب تفصيلي إلى العبد من المولى ، ولو كان متعلّقه مرددا بين الشيئين مثلا.

وأمّا لو لم يوجد ذلك فلا ، فإذا شرب مائعين يعلم بأن أحدهما إمّا نجس أو مال الغير كان معذورا ؛ لأنه لم يعلم بتوجّه خطاب النّجس إليه حتّى يبنى على امتثاله ولا يتوجّه خطاب حرمة التصرّف في مال الغير إليه حتى يبنى على امتثاله ، فالعقاب على ما صادف منهما الواقع عقاب على أمر مجهول ، فيرجع إلى العقاب من غير بيان الذي يستقل العقل بقبحه.

فإن قلت : إذا علم بحرمة أحد الشيئين ولو باعتبار العلم بتعلّق أحد الخطابين به ، فقد علم بوجوب الاجتناب عنه من قبل الشارع تفصيلا ، فالخطاب

٣٣٤

المعلوم أوّلا وإن لم يكن خطابا تفصيليّا ، إلاّ أنه ينتقل منه إلى خطاب تفصيليّ.

قلت : نمنع الانتقال منه إلى خطاب تفصيلي خاطب به الشارع ، وإنّما ينتزع من الخطاب المردّد خطاب تفصيلي فلا عبرة به قطعا هذا.

ولكن قد عرفت فيما تقدّم : أن ما حقّقه الأستاذ العلامة هو الحق الذي يتعيّن المصير إليه والحكم به ؛ لأن الحاكم في مسألة قبح العقاب في صورة الجهل ، وحسنه في صورة العلم ولو إجمالا ـ إنّما هو العقل وبناء العقلاء الكاشف عنه ، ولا ريب عند من راجع الوجدان كون العقل مستقلاّ في الحكم بحسن العقاب في صورة العلم بتعلّق خطاب بالمكلّف ، ولو كان مردّدا بين الخطابين سواء كانا من جنس واحد ، أو من جنسين كالوجوب والتحريم.

بل قد عرفت ـ في طيّ كلماتنا السابقة في الشك في التكليف ـ حكم العقل بحسن العقاب في بعض صور الشكّ في التكليف أيضا كما في البناء على البراءة قبل الفحص في الشبهة الحكمية فكيف فيما كان هنا علم بالخطاب؟

ويدلّك على ما ذكرنا ويوضح لك الأمر ما ذكره ( دام ظلّه ) من فرض وحدة متعلّق الخطاب المردد ؛ فإن لازم المفصّل أن يقول بجواز الرجوع إلى البراءة فيه أيضا لجريان ما ذكره في الشبهة المحصورة بعينه في الفرض أيضا ، كما لا يخفى.

حيث إن القادح في وجوب الاحتياط عنده والمجوّز للرجوع إلى البراءة

٣٣٥

فيما جوّزه هو نفس تردّد الخطاب من غير مدخليّة تردّد المتعلق ، مع أن بداهة العقل يحكم بعدم جواز ارتكاب المانع المردّد بين النجس ومال الغير مثلا.

والحاصل : أنّ تردّد المتعلق غير مؤثر عند المفصّل في تنجّز الخطاب ، ولهذا حكم بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة في الجملة ، وإنّما المانع عنده تردد الخطاب ، فلا فرق فيه بين تردّد متعلّق الخطاب المردّد وعدم تردّده كما هو واضح.

ومما يدلّك على ما ذكرنا هو ما ذكره ( دام ظلّه ) بقوله : « والحاصل : أن النواهي الشرعيّة ... الى آخره » (١) وحاصله يرجع إلى أن الوجه في عدم جواز تجويز الشارع لارتكاب الشبهة في صورة العلم الإجمالي بالحرام ؛ هو لزوم الإذن في معصية النهي أو التناقض في جعله ، وهو بعينه موجود في صورة تردّد الخطاب ؛ لأن العلم بوجود متعلّق أحد الخطابين المشتبهين يكون الإذن في ارتكابهما إذنا في ارتكاب ما نهي عنه قطعا ، وهذا معنى كون النواهي الشرعيّة بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنه يمكن إرجاع هذا إلى ما ذكرنا أوّلا في تقرير دليل حكم العقل كما يعلم من الرجوع إليه والتدبّر فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٢٨.

٣٣٦

(١٠٤) قوله : ( وبالجملة : فالظاهر ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٨ )

أقول : ما ذكره لا يخفى وضوحه على من له أدنى تدبّر ؛ إذ بعد فرض كون العلم على الوجه المذكور منجّزا للخطاب المردّد ، لزم احتمال الضّرر في كل من المشتبهين لاحتمال وجود متعلّقه. وقد عرفت : أنّ المناط في حكم العقل بوجوب الاحتياط وتحصيل الموافقة القطعية ليس إلاّ احتمال الضّرر الأخروي في فعل المشتبه وهو لازم قضية تنجّز الخطاب كما لا يخفى.

فلا تفكيك في المقام بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعية ، بل قد عرفت في غير مورد من كلماتنا السابقة : أنه لا تفكيك بينهما بالنظر إلى حكم العقل في جميع الموارد ، وأنه لا ينافي عدم التفكيك بينهما في حكمه تجويزه إذن الشارع في عدم تحصيل الموافقة القطعيّة وعدم تجويزه إذنه في المخالفة القطعيّة فراجع إليه حتى تقف على حقيقة الأمر.

ولكن لا يخفى عليك أن ما ذكره ( دام ظلّه ) في تقرير إثبات وجوب الموافقة القطعيّة لا يخلو عن تأمّل ؛ لأن الظاهر منه ـ كما لا يخفى على المتأمل ـ إرادة إثبات الوجوب مع قطع النظر عن حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل بنفس عدم جريان أدلة البراءة ، ونظير هذا قد تقدّم منه في أول مسألة الشبهة المحصورة وقد عرفت ما فيه ثمّة.

٣٣٧

ومن الرجوع إليه والتأمّل فيه يظهر لك حقيقة الحال في المقام أيضا فلا حاجة إلى إطالة الكلام ، وإن أمكن أن يقال : إن مراده ممّا أفاده إثبات عدم المانع بعد فرض وجود المقتضي لوجوب الاحتياط لفرض انحصاره في دليل البراءة ، وإن لم يساعده قوله : « بل الظاهر استقلال العقل في المقام » (١) لما عرفت : من أن الدليل على وجوب الاحتياط والموافقة القطعيّة هو حكم العقل المذكور بعد شمول الخطاب الواقعي فتأمل.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٢٨.

٣٣٨

* التنبيه الثاني :

هل تختص المؤاخذة بصورة الوقوع في الحرام أم لا؟

(١٠٥) قوله : ( أقواهما : الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٩ )

أقول : لا يخفى : أن ما أفاده : من أن حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل حكم إرشادي لا يترتّب على مخالفته من حيث هي مخالفته شيء على ما هو الشأن في الطلب الإرشادي مطلقا في غاية الوضوح. وقد تكرّر القول منّا فيه في طيّ كلماتنا السّابقة في هذا الجزء وفي الجزء الأوّل من التعليقة ، إلاّ أن ما أفاده من الترقّي بالنسبة إلى الضّرر المقطوع لا بدّ من أن يحمل على الضّرر الأخروي كما هو الظاهر من العبارة عند التأمل أيضا.

كيف! ويصرّح بعد ذلك : بكون ارتكاب الضّرر المقطوع الدنيوي من المحرّمات الشرعيّة ، ولا ينافي كون حكم العقل في باب الضّرر مطلقا إرشاديّا كما هو شأن حكمه في جميع الموارد ، لامتناع صدور الطّلب المولوي الذي يناط به الثواب والعقاب من العقل وإن كان الحكم الشرعي المنكشف منه بقاعدة التلازم في مسألة التحسين والتقبيح مولويّا على ما عرفت شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا السابقة.

٣٣٩

ثمّ إن الكلام في المسألة لا تعلّق له بالفقه ولا أصوله ؛ لعدم ترتب ثمرة عمليّة عليها من حيث إن تعدّد العقاب ووحدته لا يثمر ان أصلا في هذه النشأة ، اللهم إلاّ أن يفرض هناك ثمرة نادرة.

(١٠٦) قوله : ( وإلى هذا المنع (١) أشار ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢٩ )

أقول : قد يورد على ما ذكره بأن إيجاب الشارع ترك ما لا بأس به في نفسه ومع قطع النظر عن هذا الخطاب لا ينافي وجود البأس بملاحظة هذا الخطاب ، ومجرّد المعنى المذكور لا يدلّ على كون الأمر بالترك إرشاديّا فيؤخذ بظاهره ويحكم باستحقاق العقاب على مخالفته ، وإن لم يكن هناك عقاب مع قطع النظر عن هذا الأمر إلاّ على ارتكاب المنهيّ عنه واقعا هذا.

ولكن قد عرفت عند التكلّم في أخبار التوقّف ما يظهر منه فساد هذا الإيراد.

ونقول هنا أيضا : أن الأمر بالترك في نفسه وإن كان ظاهرا في الطلب الشرعي على ما هو قضيّة ظاهر الأمر الصّادر من الشارع على الإطلاق ، إلاّ أن تعقيبه عليه‌السلام الأمر بقوله ـ : « حذرا عما به البأس » (٢) الظاهر في العلّيّة لا الحكمة قرينة على كون المقصود من الأمر مجرد الإرشاد ، وظهوره حاكم على ظهور

__________________

(١) هذا وفي الكتاب « وإلى هذا المعنى ».

(٢) ورد ما يقرب منه في البحار : ج ٧٧ / ١٦٦ ـ ح ١٩٢.

٣٤٠