بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

الأمور الخارجيّة ، وإن كان هناك مصاديق واضحة لها يعلم صدق المفهوم عليها مع عدم الإحاطة به على وجه التحديد من جهة رجوع الشكّ غالبا إلى دوران المفهوم بين قليل الأفراد وكثيره.

وهذا الذي ذكرنا كأنّه لا يحتاج من جهة وضوحه إلى بسط القول فيه ، وقد أشرنا إليه في الجزء الأول من التعليقة (١) أيضا ، فإنا نرى بالوجدان كثيرا من المفاهيم الواضحة التي لم يتعرض لمعناها في اللغة ـ من جهة وضوحه كلفظ الماء ، مثلا ـ يشكّ في صدقها على بعض الأشياء من جهة عدم الإحاطة بحقيقتها العرفية من غير أن يكون للأمور الخارجيّة مدخل فيه ، فليس السبب فيه إلاّ ما ذكرنا.

فإرجاع الفقيه الأمر إلى العرف في هذه المفاهيم إنّما يفيد في كون الموضوع للحكم الشرعي عنده هو الموضوع العرفي ـ وعدم حقيقة شرعيّة لها ولا متشرّعة ، ولا عرف خاصّ ؛ إذ على تقدير ثبوت أحد الأخيرين لم يتعلّق الحكم الشرعي به ـ لا في تبيّن موضوع الحكم بقول مطلق ؛ ضرورة عدم إفادة الإرجاع إلى العرف ـ والحال ما عرفت ـ إلاّ زيادة التحيّر.

فإذا سئل الفقيه عن الغناء من جهة رفع التحيّر عن المصاديق المشتبهة من جهة المفهوم فأحال في الجواب الأمر إلى العرف فلا فائدة فيه أصلا للعامي ، وإنّما المفيد له بيان الحكم الظاهري له الذي يقتضيه الأصول الشرعيّة عند الشكّ في

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١١٥.

٥٤١

صدق المفهوم عرفا كما يبيّن له مقتضى الأصل عند الشكّ في الصدق من جهة اشتباه الأمور الخارجيّة.

السّابع : أنّ ظنّ الفقيه في حال المصداق المردّد فيما تعلّق الحكم بالموضوع العرفي إن كان فيما يرجع الشك في الصّدق إلى الشك في المفهوم فيبني اعتباره على اعتبار الظن المطلق في اللّغات ، أو الأحكام ، سواء تعلق بالصدق ، أو بالعدم.

وإن كان فيما يرجع إلى الشكّ من جهة الأمور الخارجيّة فيحكم بعدم اعتباره ، وإن قيل بحجيّة الظن في اللغات ، أو الأحكام على ما أسمعناك شرح القول في الجزء الأول من التعليقة (١).

إذا عرفت ما قدّمناه لك من الأمور علمت : استقامة ما أفاده شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره في الاعتراض على القائل بكونهما من الحقائق العرفيّة ـ فيرجع إلى العرف في تشخيص مصداقهما ـ من أن تحديد المفهوم العرفي بتعسّر العد وعدمه (٢) ـ مضافا إلى عدم استقامته في نفسه ، وإلى أن الإرجاع إلى العرف إنّما يستقيم فيما كان مدرك الحكم فيهما نقل الإجماع على الحكم المشهور فيهما ، أو تحصيل الإجماع من فتاوي من عبّر عن موضوع المسألة باللفظين ، لا ما إذا كان

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١١١ فصاعدا.

(٢) كما عن الشهيد الثاني في روض الجنان : ٢٢٤ ، والمحقّق الثاني في حاشية الإرشاد المخطوط : ٤٠ وكذا جامع المقاصد : ج ٢ / ١٦٦ وهو المحكي عن الفاضل الميسي كما في مفتاح الكرامة : ج ٢ / ٢٥٣ وصريح سيّد المدارك في مداركه : ج ٣ / ٢٥٣.

٥٤٢

غيرهما من الوجوه المتقدّمة ـ لا يجامع تعليل الحكم في كلماتهم بتعسّر الاجتناب ؛ فإنه لا تلازم بين عسر العدّ وعسر الاجتناب ؛ فإن الألف وما فوقه وإن كان من المصاديق القطعيّة لغير المحصور عندهم مع أنه ليس عسر الاجتناب بقول مطلق كما يظهر أمره مما بيّنه في « الكتاب » وإن سلّم كونه عسر العدّ ، مع أنه غير مسلّم بالنسبة إلى الألف.

كاستقامة ما أفاده ثانيا في الاعتراض على ما ذكره المحقّق الثاني قدس‌سره في « فوائد الشرائع » (١) من الرجوع إلى الظنّ بإلحاق مورد الشك بأحد الطرفين الحاصل من العرض على الأشباه والنظائر سواء أريد به الظنّ بالموضوع المستنبط كما هو الظاهر ، بل المقطوع من كلامه ، أو بالموضوع الخارجي ، لما أسمعناك في طي الأمور : من عدم الدليل على حجيّة الظن المطلق بالموضوعات اللغويّة والعرفية فضلا عن الظن بالموضوعات الخارجيّة.

تحرير ما جعله المصنّف تتمة في الضابط

وأمّا ما أفاده في الاعتراض الثالث عليه الراجع إلى ما ذكره قدس‌سره : من الرجوع إلى الاستصحاب الذي جعله متمّما للضابطة الذي ذكره لتميز المحصور عن غيره في جميع الموارد ، فلا يخلو عن إجمال في البيان ، بل عن مناقشة في المرام.

وحقّ البيان والتحرير أن يقال : إنّ الرّجوع إلى الاستصحاب في موارد

__________________

(١) لا يزال مخطوطا ، أنظر الورقة ٢٤ منه.

٥٤٣

الشكّ غير مستقيم مطلقا سواء أريد به استصحاب الحلّيّة الواقعيّة ، أو الظاهريّة ، أو الحرمة الواقعيّة ، أو الظاهريّة ؛ ضرورة عدم حالة سابقة للعدد المردّد أصلا سواء قلنا بكون مقتضى الأصل عند الدوران بين الشبهتين الاحتياط كما عرفت تحقيقه منّا ، أو البراءة كما يقتضيه البناء على الوجه الخامس على ما عرفت ؛ ضرورة كون كل منهما حكما ظاهريّا لنفس العدد المردّد ، لا حكما ثابتا له في السابق يشك في بقائه حتى يتوهّم استصحابه.

وأمّا الحرمة الواقعيّة لما يكون من مصاديق الحرام الواقعي في المحصورة وغيره كالحلّيّة الواقعيّة لما يكون من مصاديق الحلال الواقعي فممّا لا شكّ فيه أصلا حتى يجري فيه الاستصحاب ؛ لأن احتمال عدم الحصر ليس معناه ارتفاع الحرمة الواقعية احتمالا ، كما أن احتمال الحصر ليس معناه ارتفاع الحليّة الواقعيّة عن الحلال الواقعي ، وإلاّ لم يكن معنى للشبهة كما هو ظاهر هذا.

فإن شئت قلت : مفروض البحث الشبهة المردّدة بين المحصورة وغيرها مع العلم بحكم الشبهتين بحسب الواقع والظاهر ، ومن المعلوم عدم الجدوى لهذا العلم بالحكم بالنسبة إلى الموضوع المردّد ، ولا في جريان الاستصحاب بالنسبة إليه.

كما أن العلم بحكم البول والماء لا ينفع في العلم بحكم الموضوع المردّد بينهما ولا في استصحابه.

فإن قلت : إنا نفرض عددا يعلم بكونه محصورا أو غير محصور ، ثم يزيد عليه في الأوّل بما يوجب الشّك في الصّدق ، أو ينقض عن الثاني بما يوجب الشكّ والتردّد ، فيستصحب في الأوّل وجوب الاجتناب والحرمة الظاهريّة وفي الثاني

٥٤٤

الحلية الظاهريّة ، نظير استصحاب الكرّيّة والقلّة في المسبوق بهما بعد النقيصة والزيادة بما يوجب الشكّ في بقائهما ، والمناقشة بعدم بقاء الموضوع وتغيّره في الاستصحاب المبحوث عنه جارية في الاستصحابين أيضا مع أنهما من الاستصحابات المسلّمة عندهم.

قلت : قياس المقام بالاستصحابين قياس مع الفارق ؛ لأن العرف يساعد على بقاء الموضوع فيهما بخلاف المقام ؛ لوضوح الفرق في المسامحة العرفيّة بين اتصال الكمّ وانفصاله في كل من الزيادة والنقيصة.

نعم ، لو كان مراد المحقّق من الاستصحاب غير معناه بأن يكون مراده أصالة الحلّيّة مجازا مسامحة ـ على تقدير صحة الإطلاق ـ استقام الرجوع إليها على تقدير الاستناد في حكم الشبهة الغير المحصورة إلى الوجه الخامس ، وإن كان فاسدا عندنا على ما عرفت شرح القول فيه.

وأمّا ما أفاده في الاعتراض على ما حكاه عن « كاشف اللّثام » (١) و« مفتاح الكرامة » (٢) فهو أيضا مستقيم ؛ لأنه يتوجّه عليه ـ مضافا إلى عدم مساعدة العرف

__________________

(١) هو الفقيه النحرير الشيخ بهاء الدّين محمّد بن تاج الدين حسن بن محمّد الاصفهاني المعروف بالفاضل الهندي المتوفي في فتنة الأفاغنة الأخباث حدود سنة ١١٣٧ ه‍ ق ـ أنظر كلامه المذكور في كشف اللثام : ج ٣ / ٣٤٩.

(٢) للفقيه المتتبّع السيّد محمّد جواد الحسيني العاملي المتوفى سنة ١٢٢٦ ه‍ ـ أنظر ما ذكره في مفتاح الكرامة : ج ٢ / ٢٥٣.

٥٤٥

وهذا دليل آخر عليه ـ : إن التأدية إلى ترك الصّلاة غالبا إنّما هو إذا لوحظ بالنسبة إلى آخر الوقت لا مطلقا ، كما أن ترك التزويج لا بد من أن يلاحظ بالنسبة إلى المكان الخاصّ ، وإلاّ لم يكن معنى له ، وحينئذ قد يفرض تحقّقه في الشبهة المحصورة أيضا. وبالجملة : النسبة بين ما ذكراه والشبهة الغير المحصورة عموم من وجه.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في بيان الضابط بقوله : ( ويمكن أن يقال (١) ـ بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس ـ ... الى آخره ) (٢) ويقرب عنه ما حكي عن المحقّق المحشّي « للمعالم ».

ففيه ـ مضافا إلى ابتنائه على تماميّة الوجه الخامس الممنوعة عنده ـ : أنه لا

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره في قلائده ( ج ١ / ٤٩٢ ) :

« أقول : هذا وجه آخر لبيان ضابط غير المحصور.

والأولى في بيان الضابط أن يقال :

إن غير المحصور ما كثر أطرافه وكان الإجتناب عنها مورثا للحرج. فالمناط في تحقّقه أمران : كثرة الأطراف وإيراث الإجتناب عنها للحرج.

أمّا الأوّل : فيستفاد من فهم العرف ؛ فإنّهم لا يفهمون من لفظ غير المحصور إلاّ الكثرة.

أمّا الثاني : فيستفاد من الإستدلال في المسألة بدليل الحرج ؛ لأنّ الدليل الخاص يخصّص العنوان العام هذا » إنتهى.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧١.

٥٤٦

يرفع التحيّر والتردّد في كثير من الموارد (١) ؛ لأنه كثيرا ما لا يعلم باعتناء العقلاء بالعلم الإجمالي وعدمه ، فيرجع الأمر بالآخرة إلى عدم فائدة له في تشخيص موارد الاشتباه. ومن هنا اعترف بعدم استقامته في طي ما أفاده بقوله بعد ذلك : ( وهذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر ... إلى آخره ) (٢). فإنه صريح في عدم الوثوق بتماميّة شيء من الوجوه المذكورة (٣).

__________________

(١) قال المحقق الأصولي السيّد علي القزويني قدس‌سره :

« [ ما ذكره الأستاذ طاب ثراه ] في النّظر الدقيق إحالة إلى المجهول لجهالة ضابط العلم الإجمالي الذي لا يعتني به العقلاء على وجه لا يشذّ منه شيء من الموارد ، والعمدة في المقام بيانه لا غير وإلاّ فلا خفاء على أحد أنّ امتياز غير المحصور عن المحصور إنّما هو في كون العلم الإجمالي في الأوّل ممّا لا يعتني به العقلاء بخلاف الثاني » إنتهى.

أنظر تعليقة على معالم الأصول : ج ٦ / ١٥٠.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧٢.

(٣) قال المحقّق الأصولي الشيخ المشكيني قدس‌سره :

« قد عرفت : أن أسباب عدم الفعليّة ـ من العسر والضّرر وعدم المقدوريّة وعدم الإبتلاء ـ غالبة الحصول مع عدم الحصر بخلاف الحصر ولكنّه لا يوجب الفرق فيما هو المهم وحينئذ إن قطع بعدم عروضها في أطراف العلم فلا شك في التنجيز ، وإن قطع به فلا إشكال في العدم ، وإن شك فإن كان الواقع ممّا ثبت بدليل لبّي منفصل ـ مثل السيرة والإجماع والعقل المنفصل ـ فالمحكّم هو الإطلاق خلافا [ للآخوند ] على ما تقدّم منه في [ الكفاية في ] مسألة الإبتلاء ، وإن ثبت من دليل لفظي ـ كما في الأوليين ـ فالمحكّم فيه البراءة ؛ بناء على التحقيق : من

٥٤٧

وأمّا ما أفاده لتقريب الوجه المذكور بقوله : ( وقد ذكرنا : أن المعلوم بالإجمال ... الى آخره ) (١).

فيتوجّه عليه : ما عرفت سابقا في رد الوجه الخامس من الفرق بين تلك الآثار واحتمال العقاب ، فإنه إذا وجد في مورد ولو كان في غاية الضعف حكم العقل بلزوم دفعه ، وهذا بخلاف سائر الآثار حتى الآثار العرفيّة المترتبة على الظواهر.

وأما ما أفاده في تحديد كثرة المحتملات وقلّتها بما يقع واقعة للمكلّف ومحلاّ لابتلائه وتناوله بقوله : ( وليعلم : أن العبرة في المحتملات كثرة وقلّة ... إلى آخره ) (٢).

فهو وإن لم يخلو عن وجه بناء على الوجه الخامس الذي هو مبنى ما أفاده ظاهرا ، إلاّ أنه قد يقع الاشتباه أيضا في الضّابط الذي أفاده ، فلا بد من الرجوع إلى

__________________

عدم حجّيّة الأصول التامّة في المصداق المشتبه المردّد بين كونه داخلا فيما بقي تحت العام أو في المخصّص.

[ على ] أنّ ما ذكروا من الموازين لعدم الحصر غير تامّ كما لا يخفى على من راجعها ، مضافا إلى الحاجة إليها بعد عدم الفرق بين الشبهتين على ما عرفت » إنتهى.

انظر حاشية المحقّق المشكيني على الكفاية : ج ٤ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧١.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧٢.

٥٤٨

الأصل كلّ على ما ذهب إليه.

فقد تلخص ممّا ذكرنا كلّه : أنه لا مناص عن الرجوع إلى قاعدة وجوب الاحتياط عند الدّوران ؛ نظرا إلى وجود احتمال الضّرر في كل شبهة ، وهو المراد ممّا أفاده شيخنا بقوله : ( فالأولى : الرجوع في موارد الشكّ ... الى آخره ) (١) فإن مراده تعيين الرجوع إلى ما ذكره كما هو واضح.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢ / ٢٧٢.

٥٤٩

* المورد الثالث :

اذا كان المردّد بين الأمور غير المحصورة أفرادا كثيرة

(١٢٧) قوله : ( الثالث : إذا كان المردّد بين الأمور الغير المحصورة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٧٤ )

أقول : الحرام المشتبه قد يكون واحدا ، وقد يكون متعدّدا. وعلى الأول ؛ إمّا أن يكون مشتبها بين أمور قليلة فيسمّى بالشبهة المحصورة ، وباشتباه القليل في القليل في لسان بعض. وإمّا أن يكون مشتبها بين أمور كثيرة فيسمّى بالشبهة الغير المحصورة ولو في الجملة ، وباشتباه القليل في الكثير ، وقد عرفت حكمهما.

وعلى الثاني لا يخلو أيضا إما أن يبلغ مرتبة الكثرة ، أو لا يبلغها. فإن لم يبلغها يدخل في أحد القسمين لا محالة فيلحقه حكمه ، وإن بلغها فلا بد أن يكون الاشتباه بين أمور كثيرة ، كما فيما ذكره من المثال له في « الكتاب » من اشتباه خمسمائة في ألف وخمسمائة ونحوه ، لاستحالة اشتباه القليل في الكثير. ويسمّى هذا القسم باشتباه الكثير في الكثير ، وهو إن كان خارجا عن الشبهة الغير المحصورة موضوعا ظاهرا ، إلاّ أنه ملحق بها حكما جزما.

لأنك قد عرفت : أن قضية العلم الإجمالي فيما تعلّق بالخطاب المنجّز

٥٥٠

بحسب جميع أطرافه هو وجوب الاحتياط مطلقا من غير فرق في نظر العقل الحاكم بهذه القضيّة بين صور الاشتباه ، غاية ما هناك قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط الكليّ في الشبهة الغير المحصورة ، والمتبع منه على تقدير تسليم الصدق غير الفرض قطعا ، فيرجع إلى حكم العقل ، بل الظّاهر من كلماتهم في طيّ التمسّك بدليل الانسداد التسالم على كون قضيّة الأصل وجوب الاحتياط في الوقائع المنسد فيها باب العلم ، مع أنها من اشتباه الكثير في الكثير بالضرورة.

ومن هنا تمسّكوا بعدم وجوب الاحتياط الكلّي فيها بالإجماع ، ولزوم الاختلال والحرج ، ولو لا كون مقتضى القاعدة وجوب الاحتياط فيها لما احتاجوا إلى ذلك ، لوضوح عدم وجوب الاحتياط عندهم في الشبهة الغير المحصورة ، فيكفي في نفي وجوب الاحتياط الإشارة إلى الموضوع وكون الشبهة في المقام من الشبهة الغير المحصورة. هذا كله على تقدير التمسّك في المسألة بالإجماع بقسميه.

وأمّا على تقدير التمسّك فيها بالوجه الخامس فلا إشكال أيضا في عدم اقتضائه لعدم وجوب الاحتياط ، بل اقتضاؤه الوجوب في الفرض ، بل قد يقال : إن الأمر على تقدير التمسّك به أوضح منه على تقدير التمسّك بالإجماع ؛ حيث إن الوجه في عدم اعتناء العقلاء بالعلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة ـ على ما عرفت في طيّ تقرير الوجه الخامس ـ هو ضعف احتمال الحرمة وبعده أو وهنه.

ومن المعلوم ضرورة : أن ضعف احتمال الحرمة في كل مشتبه إنما هو من

٥٥١

جهة كثرة الاحتمالات المعارضة له من حيث تباينها وعدم اجتماعها معه ، كما فيما فرض. مثلا أنه حصل العلم بنجاسة واحد من ألفي إناء على سبيل الإجمال ، فإن احتمال نجاسة كل واحد معارض باحتمالات كثيرة عدد المشتبهات ، فيوجب هذه المعارضة ضعف الاحتمال الموجب لعدم الاعتناء به عند العقلاء.

وهذا المناط كما ترى ، غير متحقّق بالنسبة إلى المقام جدّا ؛ فإنّا إذا فرضنا العلم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة وأردنا أكل واحد من الشياه لم يكن احتمال تحريمه معارضا بألف وأربعمائة وتسع وتسعين احتمال بعدد الشياه ؛ ضرورة اجتماع تحريمه مع تحريم أربعمائة وتسع وتسعين شياه ؛ لأن المفروض العلم بحرمة خمسمائة ، فيكون الاحتمالات المتباينة المتعارضة في الفرض ثلاثة. وأمّا غيرها من الاحتمالات وهي وإن كانت كثيرة ، إلاّ أنها لا يكون متعارضة فلا يوجب ضعف احتمال التحريم ووهنه عند العقلاء ، فهي كاشتباه الواحد بين الثلاثة من الحيثيّة المذكورة.

ومن هنا قد يقال : بكون الاشتباه الكثير في الكثير من الشبهة المحصورة موضوعا ؛ حيث إن الحصر وعدمه لا بدّ أن يلاحظ بالنسبة إلى قلّة الاحتمالات المتعارضة وكثرتها لا بالنسبة إلى مطلق الاحتمالات ولو اجتمعت ؛ ضرورة كون موصوف الوصفين الشبهة بمعنى الدوران الذي لا يتحقّق إلاّ بتعارض الاحتمالات وتنافيها وعدم اجتماعها فتأمل.

ومما ذكرنا كلّه يظهر لك : المراد مما أفاده في « الكتاب » وإن كان قوله :

٥٥٢

( وأما ما عدا هذه الاحتمالات ... الى آخره ) (١) لا يخلو عن تكلّف بظاهره ؛ إذ اشتمال سائر الاحتمالات على الحرام لا يتحقّق إلاّ في بعض الفروض النادرة ، فبالحريّ أن يعتبر بدل قوله المذكور : ( وأمّا ما عدا هذه الاحتمالات فهي احتمالات غير متعارضة ) كما رأيته في بعض النسخ.

وكيف ما كان : لا ينبغي الإشكال في حكم المسألة. ولو فرض لزوم الحرج من الاحتياط الكلي في المقام في بعض الصور فلا بدّ من الحكم بعدم وجوبه كما عرفته فيما مثّلنا لك في صورة انسداد باب العلم والظن الخاص بالأحكام ، وهذا غير إلحاق المقام على الإطلاق بالشبهة الغير المحصورة ؛ فإنّ الحرج قد يتّفق بالنسبة إلى الشبهة المحصورة أيضا فافهم.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧٤.

٥٥٣

* المورد الرابع :

أقسام الشك في الحرام مع العلم بالحرمة

(١٢٨) قوله : ( الأولى منها : الشبهة الموضوعيّة وأما الثلاث الأخر ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٧٥ )

حكم الشبهات الحكميّة من دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب

أقول : مقتضى إطلاق ما أفاده كما ترى الحكم بوجوب الاحتياط في جميع صور الشبهة الحكميّة إذا كانت من شبهة القليل في القليل كالشبهة المحصورة ، والحكم بعدم وجوبه إذا كانت من شبهة القليل في الكثير كالشبهة الغير المحصورة ، غاية ما هناك ندرة الفرض الثاني في الشبهات الحكميّة ؛ لما عرفت من إلحاق ما يوجد من الشكّ في المكلّف به في الشبهات الحكميّة على القول بانسداد باب

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره الشريف :

« ظاهره : أنه يجب الإحتياط في المسائل الثلاثة بناء على وجوب الإحتياط في الشبهة المحصورة ، بل هي منها بحسب المناط ، لكن لا يخفى أنّ مسألة تعارض النّصّين لها خصوصيّة من بينها ؛ فإنه يحكم فيها بالتخيير إمّا لأنّه الأصل في المتعارضين وإمّا لثبوت التعبّد به بأخبار التخيير » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٥.

٥٥٤

العلم في الأحكام بالشبهة المحصورة.

وهذا كما ترى ، لا ينافي كون الحكم التخيير عندنا وعند المشهور فيما تعارض النصّان من جميع صور الاشتباه في الحكم من غير فرق بين الشكّ في التكليف والمكلّف به ؛ لأنه حكم ثبت من الشارع في باب التعارض على خلاف الأصول والقواعد بناء على حجية الأخبار من باب الطريقيّة كما هو المختار عندنا ، والظاهر عند المشهور على ما ستقف عليه في محلّه ، وإلاّ فمقتضى الأصل على هذا القول : هو الحكم بالتوقّف تساقط المتعارضين في مورد التعارض والرجوع إلى الأصل الغير المخالف لهما ، والمفروض أن الأصل في المسألة هو وجوب الاحتياط ، فما أفاده مبنيّ على هذه الملاحظة من دون نظر إلى الدليل الخارجي الوارد من الشارع فتأمل.

ثمّ إن الدوران بين الحرام وغير الواجب من جهة تعارض النصّين إنّما هو فيما تعارضا في تعيين الحرام بعد الفراغ عن أصل ثبوته ، وإلاّ لم يكن من الشكّ في المكلّف به.

ثمّ إن جعل الغناء من أمثلة الفرض إنّما هو فيما تردّد بين مفهومين بينهما عموم من وجه ، كالصوت المشتمل على الترجيع وإن لم يكن فيها طرب ، أو المشتمل على الطرب وإن لم يكن فيها ترجيع ، كما صنعه في « الكتاب » ؛ فإن مادّتي الافتراق مما يعلم بحرمة إحداهما مع العلم بحرمة مادّة الإجتماع ، وأما إذا احتمل كون الغناء مادة الاجتماع فقط فيخرج من أمثلة الفرض ، ويدخل في أمثلة

٥٥٥

دوران الأمر في الحرام بين الأقل والأكثر الذي يندرج في صور الشكّ في التكليف النفسي ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه ـ فلا تعلّق له بالمقام أصلا ، أو قيل بكونها الصوت اللهوي ، أي : كيفيّة في الصوت من غير مدخل لمادّة مخصوصة فيها كما هو الأظهر ، فيعلم صدقها في جملة من الموارد ويشك في جملة من جهة عدم الإحاطة بحقيقتها فيخرج من أمثلة الفرض أيضا.

وأمّا الأذان الثالث الذي دلّت جملة من الروايات كرواية حفص (١) وغيرها (٢) على حرمته في يوم الجمعة ، فقد قيل (٣) : إن المراد منه الأذان للعصر بناء على أن المراد بالأوّل والثاني أذان صلاة الصبح والظهر ، أو الجمعة ، أو بناء على أن المراد بالأوّل أذان الظهر ، وبالثاني إقامتها ؛ إذ قد يسمّى الإقامة أذانا.

وقيل : الأذان الثاني للجمعة بناء على أن المشروع من الأذان للجمعة ما كان قبل صعود الإمام المنبر

للخطبة ، أو بعد صعوده وجلوسه على المنبر ، فالأذان الثالث ما لم يكن بين يدي الخطيب.

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٤٢١ باب « تهيئة الإمام للجمعة وخطبته والانصات ـ ح ٥ ، والتهذيب : ج ٣ / ١٩ باب « العمل في ليلة الجمعة ويومها » ـ ح ٦٧ ، عنهما الوسائل : ج ٧ / ٤٠٠ ـ باب « تحريم الاذان الثالث يوم الجمعة ، واستحباب الجمع بين الفرضين » ـ ح ١ و٢.

(٢) لم نعثر على رواية أخرى في المقام سوى رواية حفص بن غياث.

(٣) أنظر كشف اللثام : ج ٤ / ٢٨٨ ـ ٢٩٠ ، والتحفة السنية : ١٢٩ ، ومفتاح الكرامة : ج ٦ / ٣٨٩ وروض الجنان : في الأذان والإقامة : ج ٢ / ١٦٩.

٥٥٦

محتملات حديث « من جدّد قبرا ... »

وأمّا ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام ». ففيه وجوه ، بل أقوال أشار إليها في « الكتاب ».

قال الشيخ الصدوق ـ في محكي « الفقيه » ( قدّس الله نفسه الزكيّة ) ـ : قال أمير المؤمنين : « من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام ». واختلف مشايخنا في معنى هذا الخبر ، فقال محمد ابن الحسن الصفار رحمه‌الله هو جدّد بالجيم لا غيره ، وكان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد « رضي‌الله‌عنه » يحكى عنه : أنه قال : لا يجوز تجديد القبر وتطيين جميعه بعد مرور الأيام عليه وبعد ما طيّن في الأوّل ، ولكن إذا مات ميّت وطيّن قبره فجائز أن ترمّ سائر القبور من غير أن تجدد. وذكر عن سعد بن عبد الله : أنه كان يقول : إنّما هو من حدّد بالحاء الغير المعجمة ، يعني من سنّم قبرا. وعن أحمد ابن أبي عبد الله البرقي : أنه قال : إنّما هو جدث ، ونفس الجدث القبر ، فلا ندري ما عنى به ، والذي أذهب إليه : أنه جدّد بالجيم. ومعناه : نبش قبرا. وجدّده ، وأحوج إلى تجديده ، وقد جعله جدثا محفورا.

وأقول : إن التجديد على المعنى الذي ذهب إليه محمّد بن الحسن الصفّار ، والتحديد بالحاء الغير المعجمة الذي ذهب إليه سعد ابن عبد الله ، والذي قال البرقي : إنّه جدث ، كله داخل في معنى الحديث ، وإنّ من خالف الإمام في التحديد ،

٥٥٧

والتسنيم ، والسعي ، أو استحلّ شيئا من ذلك فقد خرج من الإسلام » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

والاحتمال الثاني في كلامه ( رضوان الله عليه ) من جهة ظهور الرواية في ابتداء النظر في كفر الفاعل وخروجه عن الإسلام ، كما حمل غيرها مما ظاهره كفر العاصي بفعل جملة من المحرّمات وترك جملة من الواجبات على هذا المعنى ، وإن كان خلاف الظاهر من جهة. وعلى المعنى الأوّل وفي كلامه لا بد من أن يحمل الرواية على المبالغة في العصيان وتأكّده.

ثمّ إن ما أفاده قدس‌سره من دخول المعاني الثلاثة في مفهوم الحديث ، لعلّ مراده منه : ثبوت الحكم المستفاد من الحديث لها من باب الاحتياط ؛ من جهة العلم الإجمالي بحرمة بعضها المستفادة من الحديث ، وإلاّ فكيف يمكن إرادة الجميع مع اختلافها وعدم الجامع لها؟ وليس هذا من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى حتى يتوهّم جوازه على القول به ؛ ضرورة وجود التردّد والاختلاف في الحديث بالنسبة إلى اللفظ لا المعنى ، وإنّما اشتبه المعنى من جهة تردّد اللفظ فلا تعلّق له

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ١٢٠ ـ ١٢١ ذيل الحديث ٥٧٩ ، والتهذيب : ج ١ / ٤٥٩ ـ ٤٦٠ ـ باب « تلقين المحتضرين » ح ١٤٢ ، عنهما الوسائل : ج ٣ / ٢٠٨ ـ باب « عدم جواز نبش القبور ، ولا تسنيمها ، وحكم دفن ميّتين في قبر » ـ ح ١.

٥٥٨

بمسألة جواز الاستعمال في أكثر من معنى ، فلا معنى لما أفاده إلاّ ما ذكرنا وإن كان خلاف ظاهره جدّا. اللهمّ إلاّ أن ينزّل اختلاف المشايخ في لفظ الحديث منزلة الروايات المتعدّدة فيعمل بجميعها ؛ لعدم التعارض والإجمال فيخرج عن محلّ البحث فتدبّر.

ثمّ إن قراءة خدّد بالخاء المعجمة محكيّة عن المفيد « رضوان الله عليه » ، قال العلاّمة « طيّب الله رمسه الشريف » في « التذكرة » تكره تحديد القبور لقول عليّ عليه‌السلام « من جدّد قبرا ، أو مثّل مثالا ، فقد خرج عن الإسلام » واختلف علماؤنا ، فقال محمّد بن الحسن الصفّار : بالجيم ، أي : يجدّد بناءها أو يطيّنها ، وحكي أنه لم تكره ريّها (١) ، وقال البرقي : من جدث بالجيم والثاء ، أي : يجعل القبر جدثا دفعة أخرى. وقال سعد بن عبد الله : إنّها بالحاء ، وعنى به التسنيم. وقال المفيد :

إنها بالخاء المعجمة ، وعنى شقّها ، من خددت الأرض أي شققتها » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

والمستفاد منه : حمل الرواية على الكراهة بناء على ما اختاره من كون لفظها جدّد بالجيم والدال المهملة المشدّدة.

__________________

(١) هذا وفي المصدر « رمّها ».

(٢) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ١٠٦.

٥٥٩

بمسألة جواز الاستعمال في أكثر من معنى ، فلا معنى لما أفاده إلاّ ما ذكرنا وإن كان خلاف ظاهره جدّا. اللهمّ إلاّ أن ينزّل اختلاف المشايخ في لفظ الحديث منزلة الروايات المتعدّدة فيعمل بجميعها ؛ لعدم التعارض والإجمال فيخرج عن محلّ البحث فتدبّر.

ثمّ إن قراءة خدّد بالخاء المعجمة محكيّة عن المفيد « رضوان الله عليه » ، قال العلاّمة « طيّب الله رمسه الشريف » في « التذكرة » تكره تحديد القبور لقول عليّ عليه‌السلام « من جدّد قبرا ، أو مثّل مثالا ، فقد خرج عن الإسلام » واختلف علماؤنا ، فقال محمّد بن الحسن الصفّار : بالجيم ، أي : يجدّد بناءها أو يطيّنها ، وحكي أنه لم تكره ريّها (١) ، وقال البرقي : من جدث بالجيم والثاء ، أي : يجعل القبر جدثا دفعة أخرى. وقال سعد بن عبد الله : إنّها بالحاء ، وعنى به التسنيم. وقال المفيد : إنها بالخاء المعجمة ، وعنى شقّها ، من خددت الأرض أي شققتها » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

والمستفاد منه : حمل الرواية على الكراهة بناء على ما اختاره من كون لفظها جدّد بالجيم والدال المهملة المشدّدة.

__________________

(١) هذا وفي المصدر « رمّها ».

(٢) تذكرة الفقهاء : ج ٢ / ١٠٦.

٥٦٠