بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

(١٨) قوله قدس‌سره : ( ونظير هذا التوهّم ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٢ )

أقول : لا يخفى عليك أن المفروض في الشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة وإن كان مشابها للمقام بعينه من جهة حيث يؤول الشكّ فيه إلى الشكّ البدوي في التكليف النفسي المستقل ، وإن كان هناك قدر متيقّن يقينيّ.

ومن هنا يحكم فيه بالبراءة كما في المقام ، إلاّ أن المقام أولى بجريان البراءة من حيث أن المفروض هناك علم إجمالي بخطاب متوجّه إلى المكلّف فيتوهّم جريان قاعدة الاشتغال. ومن هنا ذهب جماعة من المجتهدين فيه إلى الاحتياط ، بل نسب إلى الأكثر ، وهذا بخلاف المقام فإن المفروض فيه عدم العلم بتوجّه الخطاب أصلا.

(١٩) قوله قدس‌سره : ( قلت (١) : إن أريد بالضرر العقاب ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٢ )

عدم جريان مناط قاعدة الإشتغال في المقام

أقول : لمّا بيّن قدس‌سره جريان حكم العقل بالبراءة في المقام في قبال توهّم مانعيّة العلم بصدور الخطاب المبيّن الواصل إلى المكلّف عن حكمه بالبراءة ، أراد دفع توهّم جريان مناط قاعدة الشغل في المقام ، وهو وجوب دفع الضّرر المحتمل في حكم العقل ؛ بأن قاعدة القبح واردة على قاعدة وجوب الدفع بالنسبة إلى الضرر المحتمل الأخروي ، وتوهّم العكس مدفوع بلزوم الدور على ما نبّه عليه

__________________

(١) كذا وفي النسخة المطبوعة من الفرائد : قلنا.

٦١

سابقا هذا بالنسبة إلى الضّرر الأخروي.

وأمّا الضّرر الدنيوي فالمستفاد من كلامه قدس‌سره في المقام منع حكم العقل بوجوب دفع محتمله أوّلا ، ثم منع كون حكم العقل به دليلا على حكم الشارع وكاشفا عنه ثانيا من حيث تصريح الشارع بحلّيّة ما لم يعلم حرمته شرعا.

وهذا كما ترى لا يخلو عن إجمال ؛ فإن فيه وجوها من حيث احتمال رجوعه إلى منع التلازم ولو في خصوص المقام ، أو كونه ظاهريّا مشروطا بعدم حكم الشارع بخلافه ، أو كونه واقعيّا ، إلاّ أن حكم الشارع بخلافه ظاهرا في مورده ، يكشف عن ارتفاع موضوعه على ما ستقف عليه من الشرح والبيان في قوله : « لكن الإنصاف » (١) فالفرق بالإجمال والتفصيل فتأمل.

(٢٠) قوله قدس‌سره : ( وإن أريد ما لا يدفع العقل ترتّبه ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٢ )

أقول : لا بد من أن يحمل ما احتمله في الجواب على تقدير إرادة الضرر الدنيوي المحتمل على تماميّته بعد ذلك من أنّ حكم العقل بدفع الضّرر مطلقا حتى في المقطوع مقيّد بعدم التدارك ، فلا يحكم بوجوب دفعه شرعا فيما ثبت تداركه من جهة انتفاء الحكم العقلي حقيقة لا من جهة التفكيك بينهما ، كما ربّما يوهمه قوله : « فوجوب دفعه عقلا لو سلّم ... الى آخره » (٢).

ثمّ إنّ السؤال المذكور متعلّق بأصل الحكم في المسألة ، لا بالاستدلال عليها

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٢٤.

(٢) نفس المصدر : ج ٢ / ١٢٣.

٦٢

بحكم العقل من جهة قاعدة قبح العقاب من غير بيان ، وإلاّ فالجواب المذكور على تقدير إرادة الضّرر الدنيوي لا يفيد في شيء من حيث رجوعه إلى التشبّث بالأخرة بذيل الأدلّة النقليّة.

(٢١) قوله قدس‌سره : ( فإن قيل : نختار ـ أوّلا ـ احتمال الضّرر ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٣ )

أقول : لا يخفى عليك : أن ما ذكر أوّلا لا تعلق له بالشبهة الموضوعيّة أصلا ؛ لأن المفروض صدور البيان التام من الشارع ووصوله إلى المكلّف. فأين عدم البيان حتى نتكلّم فيه أنه لمصلحة أو لا لها؟

وقد جرى ذكره في المقام غفلة وسهوا من القلم ، وإلاّ فهو مختصّ بالشبهة الحكميّة كما صرّح به في « العدّة » وغيرها جوابا لما استدلّ به القائلون بأصالة الإباحة في الأشياء من أنه لو كان هناك مضرّة آجلة لبيّنها الشارع.

(٢٢) قوله قدس‌سره : ( وهذا الدليل ومثله رافع للحلّيّة الثابتة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٣ )

أقول : وجه وروده على الرواية على ما يوهمه ظاهر العبارة : كون الغاية في الحديث العلم بالحرمة ولو في مرحلة الظاهر. وبعبارة أخرى : العلم بحرمة الشيء مطلقا ولو من جهة كونه مجهول الحليّة والحرمة ، والمفروض : أنّ حليّته المشكوك في مرحلة الظاهر لا ترفع احتمال الضرر ، لكونه دنيويّا بالفرض لا يختلف فيه الحال بحسب العلم والجهل كالضرر الأخروي ، فموضوع الآية موجود ولو مع ملاحظة الحديث ، بخلاف العكس.

نعم ، لو كانت الغاية للحليّة في الحديث العلم بالحرمة في مرحلة الواقع ، وبعبارة أخرى : العلم بحرمة الشيء من حيث هو لا بعنوان كونه مجهول الحرمة

٦٣

وقع التعارض بينهما لا محالة.

(٢٣) قوله قدس‌سره : ( قلت : سلّمنا (١) احتمال المصلحة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٤ )

أقول : قد عرفت : أن حديث وجود المصلحة في ترك البيان وعدمه أجنبيّ عن المقام ؛ مع أنك قد عرفت : أنه لا فائدة فيه في وقوف العقل عن الحكم بعدم الضرر الأخروي في الشبهة الحكميّة أيضا ؛ نظرا إلى أن مناط حكم العقل بدفع العقاب هو استقلاله في الحكم بقبح العقاب ، من غير وصول البيان إلى المكلف وعلمه به ، سواء بيّنه الشارع ، أو لم يبيّنه لمصلحة ، مع أن البيان من الشارع بعد تكميل الدين مفروض ، فلا تعلق لهذه المقالة بباب البراءة أصلا.

نعم ، لو أريد استكشاف الإباحة الواقعيّة وعدم التحريم النفس الأمري للفعل من جهة ثبوت الملازمة في حكم العقل بين ثبوت التحريم وبيانه بقاعدة اللطف كما هو ظاهر استدلالهم في مسألة الحظر والإباحة ، كان الجواب المذكور مستقيما مع فرض عدم العلم بتكميل الدين ، لكنّه لا تعلّق له بباب البراءة أصلا سيّما بالشبهة الموضوعيّة على ما عرفت.

وجوه الجواب عن السؤال الأول

فإن شئت قلت : إنّ الجواب عن السؤال الأول من وجوه :

أحدها : أن وجود احتمال المصلحة في ترك البيان وعدمه لا تعلّق له بالمقام

__________________

(١) كذا وفي نسخة الفرائد المطبوعة : قلت : لو سلّمنا ... إلى آخره.

٦٤

أصلا ، فإن الكلام في الشبهة الموضوعيّة ، والمفروض وجود البيان التّام من الشارع ووصوله إلى المكلفين ، ووقوع الاشتباه في بعض الجزئيّات من جهة اشتباه الأمور الخارجيّة لا يجب على الشارع رفعه ؛ إذ ليس من شأنه من حيث إنه شارع إزالة الشبهة عن الموضوعات الخارجيّة كما هو واضح.

ثانيها : أن المفروض في الشبهات الحكميّة بعد فرض تكميل الدين أيضا بيان أحكام جميع الموضوعات ووصولها إلى نوع المكلفين ، وإن لم يصل إلى جميع أشخاصهم من جهة المقصّرين ، فلا يحتمل ترك البيان في الشبهات الحكميّة أيضا ؛ حتى نتكلّم فيه أنه لمصلحة أو لا لمصلحة ؛ فقضيّة احتمال المصلحة في ترك البيان أجنبيّة عن المقامين ، وإنّما تفيد على تقدير الإغماض عمّا سيجيء في أوائل البعثة.

ثالثها : أنّ تجويز العقل المصلحة في ترك البيان بالنسبة إلى جملة من الأحكام من حيث كون بناء الشارع على تبليغ الأحكام على الوجه المتعارف ، وعلى حسب اقتضاء المصالح الموجبة لبيانها إنّما يرفع قبح ترك البيان من الشارع من حيث كونه لطفا ومقصودا من الخلقة ، ولا يوجب حسن المؤاخذة والعقاب والحال هذه ؛ ضرورة استقلال العقل في الحكم بالقبح مع عدم وصول البيان التامّ إلى المكلفين ، أو عدم توجيهه إليهم وإن وصل إليهم كما هو المفروض في المقام على ما عرفت ، وإن قطع بترك بيان الشارع لحكم الواقعة لمصلحة من المصالح فضلا عما لم يقطع بذلك ، واحتمل البيان مع عدم وصوله إلى المكلّفين فتدبّر.

٦٥

رابعها : أنه على تقدير الإغماض عما ذكر ، يوجب وقوف العقل عن حكمه بقبح العقاب والبراءة في المقام ، ولا يمنع من الحكم بالبراءة الشرعيّة من جهة أخبارها ، فيحكم لأجلها بالبراءة وعدم الضّرر الأخروي فتأمل ، هذا.

ولعلّ اقتصار شيخنا قدس‌سره في الجواب على الوجه الأخير ؛ إنّما هو لوضوح الأجوبة الثلاثة ، هذا ملخّص الجواب عن السؤال الأوّل.

وأمّا الضرّر الدنيوي فقد أجاب : بمنع قيام الدليل الشرعي على وجوب دفع مشكوكه ؛ حيث إن الآية الشريفة لا يظهر منها حكم المشكوك. ومن هنا ذهب المشهور في باب الصّوم والتيمّم من جهة ما زعمه من دلالة الأخبار عليه من حيث لحوق الحكم بالخوف بمقتضاها فيصدق مع الشكّ أيضا. والثمرة بين القولين مضافا إلى ما ذكر ظاهرة هذا.

والذي أظنّ أن حكم المشهور بذلك إنّما هو من حيث حكمهم بحجيّة الظنّ في باب الضّرر الدنيوي ، لا من حيث دلالة الآية عليه من حيث الموضوعية أو الطريقية في زعمهم ، وإن استند بعضهم إليها فراجع.

٦٦

(٢٤) قوله قدس‌سره : ( ولكنّ الإنصاف : إلزام العقل ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٤ )

في الزام العقل بدفع الضّرر المشكوك فيه

أقول : قد أسمعناك شرح الكلام فيما يتعلّق بالآية الشريفة في الجزء الأول من التعليقة كما أسمعناك شرح القول فيما يتعلّق بمسألة الضّرر ثمّة (١) ، وذكرنا هناك ما حاصله :

أنه وإن لم يكن فرق في حكم العقل في الضّرر الدنيوي الغير المتدارك فيما يحكم العقل بلزوم دفعه بين مراتبه ، فما يحكم في مقطوعه بلزوم الدفع يحكم به في مظنونه ومشكوكه ، لكنّه فيما تعلّق الظن والشكّ ابتداء بالضّرر لا من جهة الظن بالحرمة ، أو الوجوب أو الشكّ فيهما بناء على تبعيّة الأحكام عند العدليّة للمصالح والمفاسد ؛ إذ ربّما يكون هناك عنوان منطبق على الفعل يمنع من ترتب الضرر عليه ، وما دلّ على إلغاء الظنّ في الشرعيّات سيّما في الموضوعات الخارجيّة ، وعلى الرجوع إلى الأصول العمليّة مطلقا في الشبهات الحكمية والموضوعيّة ، يثبت تدارك المفسدة على تقدير ثبوتها.

نعم ، فيما تعلّق الظنّ ابتداء بالضّرر الدنيوي كان ظاهرهم الاتّفاق على اعتباره ، ويقتضيه شبه دليل الانسداد أيضا عند شيخنا قدس‌سره كما عرفته في الجزء

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٨٣.

٦٧

الأوّل من « الكتاب » ، لكنّه لا تعلّق له بالظنّ بالمفسدة المتولد عن الظنّ بالحكم الإلزامي في الواقعة الكلّيّة والجزئيّة هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده ـ مضافا إلى ما عرفت الإشارة إليه من منع حكم العقل بوجوب دفع الضّرر الدنيوي بقول مطلق ، وبجميع مراتبه حتى ما يستكشف من احتمال الحرمة المعلومة للمفسدة على ما ذهب إليه العدلية ، وما لا يرجع إلى هلاك النفس ونحوه في المرتبة ـ :

بأنه على تقدير تسليم استقلال العقل في الحكم بالوجوب ، يكون حكم العقل من حيث كون الشكّ في الضّرر موضوعا في حكمه ، فيكون الإقدام معه بملاحظة قاعدة التلازم حراما شرعيّا واقعيّا ، لا ظاهريّا ، فلا معنى للحكم بالبراءة في مورده ؛ حتى يستكشف من تدارك الضّرر بما يرجع إلى الدنيا أو الآخرة ، حيث إن عدم العلم بالحكم والجهل فيه مأخوذ فيه ، وإن كان هذا الحكم العقلي كحكمه عند القطع بالضّرر الدنيوي ، أو الظنّ به ، لا يمنع من ترخيص الشارع لارتكابه من حيث كشفه عن عنوان منطبق على المضرّ مزاحم عن تأثيره ؛ فإن الضّرر في حكم العقل ليس علّة تامّة لحكمه كالظلم والكفر بالله والإيمان به مثلا ، وإنّما هو مقتض لذلك كالكذب والصّدق ونحوهما فيرجع إلى العنوان التقييدي ، أي : الضّرر الذي لم يعلم انطباق النفع عليه ، إلاّ أن دليل الترخيص لا بد أن يكون تنجيزيّا غير معلّق على عدم العلم بالحكم ، وإلاّ فلا يكون مفيدا في ردع العقل عن حكمه في مورد الشكّ ، كما لا يكون مفيدا في مورد الظن بالضّرر ، وهذا بخلاف الضّرر الأخروي ؛

٦٨

فإن حكم العقل بوجوب دفعه حتى في المعلوم منه لا يمكن أن يكون كاشفا عن حكم شرعيّ في عنوان الضّرر ، فيكون ترخيص الشارع في مورد احتماله ولو من جهة دليل البراءة رافعا لموضوعه هذا.

ولكنّ الإنصاف فساد المناقشة المذكورة :

أمّا أوّلا : فلأنّ حكم العقل بلزوم دفع الضّرر المشكوك وإن لم يكن من حيث كون الشكّ طريقا إلى الضّرر من حيث عدم إمكان طريقيّة ، إلاّ أنه ليس حكما نفسيّا واقعيّا ، وإنّما هو طلب غيريّ إرشاديّ لرعاية عدم الوقوع في الضّرر الواقعي ، كما يحكم به بهذا العنوان في الضّرر المحتمل الأخروي أيضا.

فإذا كان هناك ما يقتضي ترخيص الشارع في محتمل التحريم فلا يمنعه حكم العقل المذكور من حيث كونه كاشفا قطعيّا عن تدارك الضّرر الواقعي ، على تقدير مصادفته ، فيرفع القيد المأخوذ في موضوع حكم العقل ، والمفروض عدم إيجابه العلم بالحكم الواقعي ولو في مرحلة الظاهر ، حتى يرفع موضوع أدلّة البراءة ، فيكون أدلّة البراءة واردة على الحكم المذكور ، كما تكون واردة على حكم العقل بالنسبة إلى الضّرر المحتمل الأخروي حرفا بحرف ، غاية ما هناك أنها ترفع أصل الضّرر بالنسبة إلى الضّرر الأخروي ، وترفع قيده بالنسبة إلى الضّرر الدنيوي ، وهذا لا يجدي فرقا بعد فرض عدم حصول العلم بالحكم الواقعي من حكم العقل بوجوب دفع الضّرر من حيث كونه تعليقيّا.

وتوهّم : عكس ما ذكر ورود قاعدة وجوب الدفع على دليل البراءة جار في

٦٩

الموضعين ، كما أن دفعه بلزوم الدور من ورود القاعدة على دليل البراءة متوجّه فيهما ؛ حيث إن ورود القاعدة عليه ، أو تحكيمها عليه يتوقف على عدم ثبوت الترخيص والتدارك من الشارع في مورد الاحتمال ، ولو في مرحلة الظاهر ، والمفروض ثبوته.

فإن شئت قلت : إن الحكم المأخوذ في وجود موضوعه عدم شيء لا يمكن أن يكون مانعا عن وجوده ؛ وإلاّ لزم الدور. وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنه بعد الإغماض عن كون حكم العقل في المقام غيريّا إرشاديّا وتسليم كونه نفسيّا شرعيّا يعاقب على مخالفته ، لا يجدي في التحكيم أو الورود على دليل البراءة ، بل الأمر بالعكس ؛ نظرا إلى كونه ثابتا في موضوع احتمال التحريم الواقعي الذي لم يثبت الترخيص فيه من الشارع ولو في مرحلة الظاهر ؛ فإن ثبوت الترخيص من حيث كونه كاشفا عن التّدارك ، رافع لقيد موضوع حكم العقل ، فلا يمكن إطلاقه بالنسبة إليه.

فإذا فرض قوله عليه‌السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام » الترخيص والإذن في محتمل التحريم ؛ إذ المفروض عدم الدليل على ثبوت الحرمة الواقعيّة ولو في مرحلة الظاهر ، وإن كان هناك حرمة نفسيّة واقعيّة مترتّبة على نفس الشك في الضّرر ، فلا محالة يكون كاشفا عن تدارك الضرر على تقدير ثبوته ، فيكون رافعا لقيد الموضوع في الحكم العقلي ، ولو فرض كونه واقعيّا.

ومن هنا ذكر شيخنا قدس‌سره في بعض كلماته السابقة : « أن قاعدة وجوب الدفع

٧٠

لو تمّت عوقب على مخالفتها » (١) لا على الواقع المحتمل ، فما لم يوجد هناك طريق معتبر إلى الضّرر ولو كان هو الظنّ به كما ثبت اعتباره فيما لو تعلّق بالضّرر ابتداء في الشبهات الموضوعيّة للضّرر حكم بالإباحة الظاهريّة من جهة أدلّتها ، ولا ينافي القول المذكور أصلا ، كما أنه إذا كان هناك طريق معتبر إليه حكم بالحرمة الشرعيّة الظاهريّة.

وهذا ملخّص ما تقدّم في ردّ الاستدلال على حجيّة مطلق الظنّ في الأحكام الشرعيّة من حيث إن الظنّ بالحكم الإلزامي ظنّ بالضّرر ، ودفعه لازم في حكم العقل. وهذا الكلام وإن لم يكن محرّرا في الضّرر المشكوك ، إلاّ أن طريق الردّ واحد.

فإن قلت : إذا فرض تسليم حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المشكوك الدنيوي بالوجوب النفسي المترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة والمؤاخذة من حيث كشفه عن الوجوب الشرعيّ المولوي ، فكيف يمكن الالتزام بترخيص الشارع لها في مرحلة الظاهر الكاشف عن تدارك الضّرر؟

حيث إنّه يؤول إلى الإذن في مخالفة الخطاب الإلزامي ؛ فإن المفروض اجتماع متعلّق الخطاب الإلزامي الترخيص الشرعي ، فلا بد من تنزيل الترخيص على غير مورد حكم العقل في باب الضّرر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٧.

٧١

قلت : ما ذكر يرجع إلى إعادة الإشكال بعبارة أخرى حقيقة ، وقد عرفت دفعه : بأن تطبيق الموضوع الكليّ الذي يحكم به العقل المستقل على الشبهة الموضوعيّة التحريميّة يتوقّف على منع جريان دليل الإباحة الشرعيّة الرافع لما هو المأخوذ قيدا في الموضوع العقلي فيها ، فلو استند المنع إلى نفس حكم العقل فيلزمه الدور الباطل.

فإن شئت قلت : إن ترتيب القياس في المقام يتوقّف على إحراز صغرى الضّرر المشكوك الغير المتدارك ، وهو يتوقف على منع جريان دليل الإباحة ، فلو استند منعه إلى نفس الكبرى المتوقّفة على الصغرى فيلزمه ما ذكرنا من توقّف الشيء على نفسه ، فلا يكون هناك اجتماع بين الحكمين أصلا ، بل الحكم الشرعي بالحلّيّة رافع لموضوع الحكم العقلي فافهم ، هذا كلّه.

مضافا إلى لزومه لغويّة دليل الإباحة الشامل للمقام يقينيا بحيث لا يحتمل خروجه عنه ؛ نظرا إلى كونه موردا لبعض أخبار الحلّيّة ، وهذا بخلاف حمل القاعدة على غير المقام ممّا فرض فيه وجود العلم الإجمالي بالحرمة في الشبهة المحصورة ، فإنه لا يلزم طرح القاعدة رأسا هذا كله.

مضافا إلى أن الحقيق بالمقام هو الوجه الأوّل ، وأن ما ذكر ثانيا فإنّما هو بناء على الإغماض والتسليم ؛ فإن إثبات كون حكم العقل في باب دفع الضّرر المشكوك من حيث هو لا من جهة مراعات عدم الوقوع في المضرّة الواقعيّة المحتملة ، دونه خرط القتاد.

٧٢

* التنبيه الأوّل

(٢٥) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : أن محل الكلام في الشبهة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٢٧ )

الشبهة الموضوعيّة ومحلّ الكلام فيها وكذا الكلام في أنّ كلّ

أصل حكميّ مشروط بعدم أصل موضوعيّ حاكم عليه

أقول : ما أفاده ـ مضافا إلى ما تقدّم الإشارة إليه في مطاوي الكلمات مرارا ـ لا إشكال فيه أصلا ، ولا يختصّ بأصالة الإباحة ؛ لأن كلّ أصل حكميّ مشروط بعدم أصل موضوعيّ حاكم عليه ، سواء كانا متعارضين متنافيين بحسب المفاد ، أم كانا متعاضدين. فمثل المرأة المردّدة بين الزوجة والأجنبيّة لا يجري أصالة الإباحة فيها ؛ من جهة حكومة أصالة عدم حدوث علاقة الزوجيّة بينهما وأصالة عدم وقوع النكاح عليها على أصالة الحلّيّة ، بل لو أغمض النظر عنها لم يجز الرجوع إلى أصالة الإباحة من جهة أخرى ، فإن استصحاب الحرمة وإن كان أصلا حكميّا أيضا حاكم عليها وإن كان خارجا عن محل البحث كما هو ظاهر.

بل ربّما يناقش في جريانه ؛ من حيث إن الحرمة كانت محمولة في السابق على الأجنبيّة والمفروض الشكّ فيها ، فكيف يستصحب حكمها؟

إذ مع استصحاب الموضوع ، أي : الأجنبيّة ، لا يبقى شكّ في الحرمة ؛

٧٣

فاستصحاب الحرمة ساقط على كلّ تقدير ، إلاّ أن يتسامح في موضوع المستصحب ومعروضه ، فيقال : إنّ وطيء المرأة المردّدة والنظر إلى محاسنها كانا محرّمين في السابق يقينا ، فيجعل الموضوع نفس المرأة لا بعنوان كونها أجنبيّة ، وتحقيق ما يتعلّق بالمقام يأتي في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وأمّا المال المردّد بين ملك نفسه وملك الغير فله صور :

الأولى : ما لم يعلم الحالة السابقة له من حيث كونه ملك غيره أو ملك نفسه.

الثانية : ما علم أنه ملك غيره.

الثالثة : ما علم أنه ملك نفسه.

لا إشكال في ترتيب آثار ملكه عليه في الثالثة ، كما أنه لا إشكال في ترتيب آثار ملك غيره عليه في الثانية ، والحكم ببقائه في ملك الغير وعدم حدوث علاقة الملكيّة لنفسه في زمان الشكّ.

نعم ، لو كان هناك يد له عليه وقلنا بكونها طريقا إلى الملك في زمان الشكّ حتى في حقّ ذي اليد ، حكم بمقتضاها بجواز التصرّف فيه وترتيب آثار ملكه عليه ، لكنّه خارج عن المفروض. كما أنه خارج عن الصورة الأولى أيضا ؛ فإن الكلام في صور المسألة من حيث اقتضاء الأصل.

وأمّا الصّورة الأولى : فلا إشكال في نفي ما يتوقّف على الملك كالبيع والعتق ونحوهما فيها ؛ لأن الأصل عدم دخوله في ملكه ، ولا يعارض بأصالة عدم دخوله في ملك غيره ؛ لأنه لم يقصد من الأصل المذكور حتى ينفى بالأصل فيتعارضان.

٧٤

وأمّا التصرّفات الغير المتوقّفة على الملك فهل يحكم بإباحتها من جهة الأصل أو بحرمتها ؛ نظرا إلى الشك في وجود السبب المحلّل؟ وجهان كما في « الكتاب » ، هذا في المال المردّد.

وأمّا في غيره ممّا علم قطعا بعدم سبق ملك أحد عليه :

فإن ملكه بأحد الأسباب المملكة فلا إشكال فيه.

وإن لم يملكه : فإن أراد ترتب ما يتوقف على الملك ، فلا يجوز له قطعا. وإن أراد غيره كإحراق الحطب المباح مع عدم قصد تملّكه ، فلا إشكال في جوازه ظاهرا كما هو ظاهر.

وأمّا اللحم المردّد بين المذكّى والميتة فلا إشكال أيضا في تعيين الرجوع فيه إلى أصالة عدم التذكية المقتضية للحكم بالحرمة والنجاسة لحكومتها ـ على ما عرفت ـ على أصالة الإباحة ؛ لكون الشكّ في حليته مسبّبا عن الشكّ في التذكية.

في رد كلام صاحب المدارك

نعم ، من ينكر اعتبار الاستصحاب مطلقا حتى في العدميّات كصاحب « المدارك » يذهب إلى الحكم بالحليّة والطهارة لأصالتيهما ؛ فإنه صرّح : بأنّ حكم المشهور بالحرمة والنّجاسة مبنيّ على اعتبار الاستصحاب ، وهو ممنوع عندنا (١).

__________________

(١) مدارك الأحكام : ج ٢ / ٣٨٧.

٧٥

لكنّه ضعيف ، مضافا إلى ما يستفاد من جملة من الأخبار من كون أصالة الحرمة في اللحوم مسلّما عند الأئمّة عليهم‌السلام كما يظهر مما ورد في حكم الصّيد المرميّ الذي لم يعلم استناد موته إلى الرمي ، وكذا فيما أرسل إليه الكلب ولم يعلم استناد موته إليه. ومن هنا ذهب بعض المتأخرين : إلى أصالة الحرمة في اللحوم مع حكمه بعدم الجدوى ، لاستصحاب عدم التذكية من جهة المعارضة.

وبالجملة : هذا القول ضعيف كضعف تضعيف الأصل المزبور من جهة معارضته بأصالة عدم موت حتف الأنف ، فيحكم بالحلّيّة والطهارة كما عرفته سابقا عن شارح « الوافية » بتوهّم : أن موضوع الحرمة والنّجاسة ، الميتة المقابلة للمذكّى كما أن موضوع الحلّيّة والطهارة المذكى ، فكما أن أصالة عدم التذكية تقتضي نفي الحلّيّة والطهارة ، كذلك أصالة عدم موت حتف الأنف تقتضي نفي الحرمة والنجاسة. والمفروض العلم بثبوت واحد مما نفاه الأصلان ، فيتعارضان فيحكم بالحليّة والطهارة ؛ نظرا إلى الأصل فيهما.

وهذا البيان أولى مما ذكره السيد الشارح : من أن أصالة عدم التذكية يثبت موت حتف الأنف وأصالة عدم موت حتف الأنف ، يثبت التذكية فيتعارضان فيرجع إلى الأصل المحكوم ؛ فإن الحكم الشرعي من الحلّيّة والحرمة رتّب على المذكّى وغيره ، فلا يكون للميتة حكم كما يدلّ عليه الآيات والأخبار ، فالحكم بحرمة الميتة في بعض الآيات والأخبار من جهة انطباق غير المذكّى عليه هذا.

٧٦

مع إمكان أن يقال : إن المراد من الميتة في لسان الشارع ما خرج روحه بغير التذكية الشرعيّة (١). فالمراد منها ما ينطبق على سائر الآيات والأخبار هذا.

وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في بعض المسائل السّالفة فراجع.

__________________

(١) قال الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« غير المذكّي » أمر عدمي طبق الأصل وليس أمرا وجوديّا كيما ينفى بالأصل ، وذلك لأن التذكية وجودي وغير المذكّي وهو المنفي عند التذكية الذي هو وجودي عدمي ، والمقسم هو لحم الحيوان فغير المذكّي هو لحم الحيوان غير المذكّي ، والخراساني عمّم غير المذكّى تعميما أوسع من دائرة منطقة البروج بحيث يشمل جميع ما سوى المذكّي الحيوانات والنباتات والجمادات ، ثم منّ على المصنّف واعتذر عنه بأن المراد ليس مطلق ما يغايره ، بل خصوص ما ليس بمذكّي.

وليت شعري هل يصدق على شيء انه غير المذكّي ولا يصدق عليه انه ما ليس بمذكّي؟ وإذا لم يكن بين التعبيرين تفاوت باعتبار الشمول وضمّ الخصوص باللفظ الشامل لا يخرجه عن الشمول فيما شمل فلا فرق بين التعبيرين.

وإن قال : إن المراد من « ما ليس بمذكّى هو لحم الحيوان لا مطلق ما ليس به.

قلنا : ذلك في غير المذكّي حرفا بحرف بل تقسيم اللحم إلى المذكّي وغيره يفيد نفي الواسطة صريحا دون مذكّى وما ليس بمذكّي.

وكيف كان ليس همّنا صرف الوقت في هذه المسائل ولكن حديث ما حديث الرّواحل » إنتهى. أنظر فرائد المحشّي : ٢٢٣.

٧٧

* التنبيه الثاني

(٢٦) قوله قدس‌سره : ( الثاني : أن الشيخ الحر أورد في بعض كلماته اعتراضا ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٣٠ )

أقول : قال الشيخ رحمه‌الله (١) ـ في محكيّ « الفوائد الطّوسيّة » ـ :

فائدة : سئل بعض الفضلاء عن الشبهة التي يجب اجتنابها ، كيف خصّصوها بالشّبهة في نفس الحكم الشرعي دون طريق الحكم الشرعي ، وما حدّهما والدليل على التقسيم؟ وعلى هذا يكون شرب التتن داخلا في القسم الثاني.

قال : « والجواب : حدّ الشّبهة في نفس الحكم الشرعي : ما اشتبه حكمه الشرعي أعني : الإباحة والتحريم ، كمن شكّ في أن أكل الميتة حلال أو حرام.

وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعي : ما اشتبه فيه موضوع الحكم الشرعي مع كون محموله معلوما ، كما في اشتباه اللحم المشترى من السوق لم يعلم أنه مذكّى أو ميتة ، مع العلم بأن الميتة حرام والمذكّى حلال. وهذا التفسير يستفاد من أحاديث الأئمة عليهم‌السلام ومن وجوه عقلية مؤيّدة لتلك الأحاديث ويأتي جملة منها. ويبقى قسم آخر مردّد بين القسمين ... إلى آخر ما حكاه عنه في « الكتاب ».

__________________

(١) الشيخ الحرّ العاملي أعلى الله تعالى مقامه الشريف.

٧٨

إلى قوله : وهذه التفاصيل يستفاد من مجموع الأحاديث ... إلى آخر كلامه المحكي في « الكتاب » (١).

والظاهر : أن غرضه من قوله : « وهذه التفاصيل يستفاد من مجموع الأحاديث » ليس دلالة كل حديث على التفصيل بين الشبهتين في الحكم ، بل دلالة المجموع من حيث المجموع ، ولو بدلالة بعضها على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة من غير تعرّض لحكم الشبهة الموضوعيّة ، وبعضها على الحلّيّة في الشبهة الموضوعيّة من غير دلالة على حكم الشبهة الحكميّة كما يفصح عنه كلماته عند التأمّل فيها.

فما أفاده شيخنا قدس‌سره في الردّ عليه بقوله : « كأنّ مطلبه أن هذه الرّواية وأمثالها مخصّصة لما دلّ على وجوب التوقّف الاحتياط ... الى آخره » (٢)(٣) لعلّه لا تعلّق له به.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣٠ عن الفوائد الطوسيّة للشيخ المحدّث الحرّ العاملي : ٥١٨ ـ ٥١٩.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣١.

(٣) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« مراده : انّه كأنّ مطلب المحدّث المذكور ما مرّ من أنّ مقتضى ما دلّ على وجوب التوقّف في مطلق الشبهة وجوبه مطلقا ، لكن ثبت خروج الشبهة الموضوعيّة ، وأمّا خروج الشبهة الحكميّة فلا.

٧٩

نعم ، من حكم بعموم الرّواية للشبهتين ، له أن يورد عليه بعمومها لهما. لكنّك قد عرفت اختصاص الرّواية بالشبهة الموضوعيّة وفساد القول بعمومها لهما كما عليه غير واحد ممن عاصرناه أو قارب عصرنا.

كما أن ما أفاده في الردّ عليه بقوله : « أقول : فيه مضافا إلى ما ذكرناه من إباء سياق الخبر عن التخصيص ... الى آخره » (١) كأنه لا توجّه له به ؛ لأن قوله بعد نقل الحديث : « وهذا إنما ينطبق على ما اشتبه فيه نفس الحكم الشرعي » (٢) كالنصّ في دعوى الاختصاص.

__________________

لكن لا يخفى ما في عبارته قدس‌سره من القصور في إفادة المراد وكان عليه أن يقول :

( كأنّ مطلبه أنّ هذه الرّوايات وأمثالها إنّما هي مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقّف في مطلق الشبهة بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة لا غير ). » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدد : ج ٤ / ١١٣.

* وقال السيّد الفقيه اليزدي قدس‌سره :

« بل الظاهر أن مطلبه أنّ هذه الرّواية دليل على البراءة في الشبهة الموضوعيّة بالخصوص دون الحكميّة بالقرينة التي أشار إليها في ذيل كلامه من قوله : « واذا حصل الشك ... إلى آخره ».

نعم ، هذه القرينة لو تمّت مختصّة بالرّواية المذكورة دون باقي الرّوايات فإنها عامّة للشبهة الحكميّة أيضا » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٨١.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣٢.

(٢) نفس المصدر بالذات.

٨٠