بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

الاتفاق عليه : اعتبار القدرة العقلية في التكاليف ليس إلاّ ، فإن رجع عدم الابتلاء إلى انتفاء القدرة فلا بحث وإلاّ فلا معنى لقدحه في التكليف إلاّ أنه يجده المنصف المتأمّل المتتبّع.

ألا ترى فتوى الفقيه بوجوب تعلّم مسائل الحيض والنفاس مثلا على العامي الغير المزوّج؟ وكذا بوجوب تعلّم مسائل الجهاد على العوام؟ وهكذا ...

مع أنه لا يمتنع عقلا تحقّق الحاجة إليه بالنسبة إلى هذه المسائل حاشا ثم حاشا ، مع أنه يجب تعلّمها واستنباطها على المستنبط وأضرابها من المسائل الفقهيّة من حيث حفظ أحكام الشرع من الاندراس ، وإلاّ لم يكن حاجة إليها أصلا ، فكم من مسألة غير معنونة في كلماتهم يعلم حكمها بحكم الحدس القطعي عندهم.

ثمّ إن الوجه في اعتبار التعيين بالنسبة إلى البعض في عنوان هذا الوجه يظهر مما ذكرنا له في الوجه السابق ، فإن عدم الابتلاء بالنسبة إلى أحدهما لا على التعيين يرجع ـ على تقدير تحقّقه ـ إلى عدم الابتلاء بالمجموع من حيث المجموع فلا ينافي الابتلاء بكل واحد بخصوصه.

ثمّ إن هذا كله فيما لو علم انتفاء الخطاب التنجيزي بالنسبة إلى بعض أطراف الشبهة بأحد الوجوه والأمور الثلاثة ، وأمّا لو شكّ فيه من جهة الشكّ في الابتلاء بالنسبة إلى تمام الأطراف وهو الواقع كثيرا من حيث خفاء مراتب الابتلاء والعدم ، فيجيء التعرض لحكمه في كلام شيخنا ونتكلّم فيه أيضا.

٣٦١

وأمّا لو شكّ فيه من جهة أحد الأولين ولم يكن هناك أصل موضوعيّ تشخّص حال الأطراف من حيث تحققهما بالنسبة إليهما وعدمه كاستصحاب العلّة أو الكريّة أو النجاسة أو الطهارة أو التمكّن أو عدمه ، فلا إشكال في البناء على عدم تحقق الشرط بالنسبة إلى المشكوك فيرجع إلى البراءة.

كما فيما علم عدم تحقّق أحدهما بالنسبة إلى بعض الأطراف ، وليست المسألة مما يرجع فيها إلى إطلاقات أدلة التكليف وعموماتها ؛ لرجوع الشكّ فيها بالفرض إلى الشك في الموضوع الخارجي. والشبهة الموضوعيّة لا يرجع فيها إلى الأصل اللفظي من حيث اختصاصه بالشكّ في المراد من اللفظ ، لا في تحقّق ما أريد منه في الخارج كما هو ظاهر.

ثمّ إنه على تقدير الإشكال في اعتبار الابتلاء على الوجه الذي عرفته أو منعه فإنّما هو بالنسبة إلى ما علم كونه من أطراف العلم الإجمالي مع خروج صاحبه عن محلّ الابتلاء ، وأمّا بالنسبة إلى ما يكون خارجا من أطرافه وإن فرض هناك علم إجمالي للمكلّف تعلّق بأحد أمرين ، أو أمور ، يكون أحدهما أو أحدها ، خارجا عن محل الابتلاء فلا إشكال في الرجوع إلى الأصل بالنسبة إليه من غير فرق بين أصل البراءة وغيره من الأصول.

وهذا الذي ذكرنا وإن كان أمرا واضحا إلاّ أنه دعاني إلى التنبيه عليه بعض كلمات شيخنا قدس‌سره فيما تقدّم ويأتي ممّا يوهم بظاهره التباس الأمر.

٣٦٢

(١١٢) قوله : ( وهذا باب واسع ينحلّ منه الإشكال عما علم ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٣٤ )

الموارد التي لا يجب الإجتناب فيها ولو كانت محصورة

لكونها خارجة عن محلّ الإبتلاء

أقول : لا إشكال في وضوح ما أفاده : من عدم وجوب الاحتياط فيما ذكره من الأمثلة ونظائرها عند الفقهاء وجواز المخالفة القطعيّة فيها ، مع أن المشهور بينهم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، فضلا عن تسالمهم على حرمة المخالفة القطعيّة ، فربّما يتوهّم الجاهل خروجها لدليل خاص في كل مورد مع انتفائه قطعا. مضافا إلى عدم إمكان طروّ التخصيص في حكم العقل بقبح المخالفة القطعيّة والإذن فيها من الشارع.

ومن هنا جعل بعض المشايخ وضوح الحكم في الأمثلة دليلا على البراءة في الشبهة المحصورة ، فليس الجامع للأمثلة المذكورة وأشباهها ـ ممّا يعلم فيه رجوعهم إلى الأصل والوجه لمخالفتهم لقاعدة الشبهة المحصورة ـ إلاّ خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء في جميعها.

ومثل ما ذكره في « الكتاب » من الأمثلة : ما هو محلّ ابتلاء الغالب في الشتاء من وقوع طين السوق ، أو الطريق على لباس الشخص ، أو بدنه ، مع حصول العلم الإجمالي بنجاسة بعض ما فيهما على وجه ينتهي إلى الشبهة المحصورة

٣٦٣

قطعا ؛ فإنّ محلّ ابتلاء المكلّف خصوص ما وقع في لباسه ، أو بدنه ، وأما الموجود في أرض السوق والطريق فهو خارج عن محل ابتلائه ، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة بالنسبة إلى ما وقع على بدنه ولباسه ، فيجوز له الصّلاة في تلك الحال من دون إزالة الطين فضلا عن تطهير البدن.

نعم ، هنا وجه آخر في خصوص المثال وأشباهه لجواز الصّلاة من دون تطهير ـ على تقدير الإشكال في اعتبار الابتلاء أو إرادة الاحتياط في المسألة ـ وهو أن يزيل الطين من البدن واللباس بحيث لا يبقى له عين أصلا فيدخل نفس البدن ، أو اللباس في عنوان ملاقي الشبهة المحصورة فيرجع فيه إلى أصالة الطهارة السليمة عن المعارض على ما هو المشهور بين الأصحاب كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إن المفروض فيما مثّل به : من شكّ الزوجة والزوج في باب الطلاق ، والفرق بينهما في الحكم ، وجواز الرجوع إلى الأصل وعدمه فيما علما إجمالا بوقوع طلاق إحدى الأزواج ، والغرض من ترتيب أحكام الزوجيّة من جهة الاستصحاب في حقّهن مع العلم الإجمالي لكل واحدة بوقوع طلاق بعضهنّ من الزوج ، إنّما هو فيما لم يوجب إعانة على الإثم في حق الزوج المكلّف بالاجتناب عن جميعهنّ ، كما أنه مشروط على ما صرّح به بعدم صيرورة طلاق البعض واقعة لغيرها ، كما إذا أرادت التصرّف في نفقتها ونفقة ضرّاتها مثلا.

ومن أمثلة المقام أيضا : ما لو علم الزوج بحيض بعض زوجاته مع عدم

٣٦٤

ابتلائه ببعضهن ، كما إذا كانت غائبة عنه وأراد الوقاع مع الحاضرة ؛ فإنه يجوز له ذلك. ولو أراد طلاق الحاضرة والحال هذه جاز له ذلك فيما كانت الغيبة مجوّزة لطلاق الحائض ، لكنه ليس من فروع هذا الأمر ، بل من فروع الأمر الأوّل كما هو ظاهر.

ومن أمثلته أيضا : ما لو علم الزوج بارتداد بعض زوجاته مع غيبة بعضهنّ ؛ فإنه يجوز إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الحاضرة. إلى غير ذلك من الفروع الكثيرة المتفرّعة على الأصل المذكور بحيث يعلم عدم ابتنائها إلاّ عليه ، مع وضوح الحكم فيها ومن هنا قال قدس‌سره : « ومثل ذلك كثير في الغاية » (١).

نعم ، ما وقع عنوانه في كلام غير واحد من علم واجدي المني في الثوب المشترك بينهما بجنابة واحد منهما لا على التعيين من فروع الأمر الأوّل بالنسبة إلى الأمر بالغسل ؛ فإن جنابة شخص لا يؤثّر في الأمر بالغسل بالنسبة إلى غيره من المكلّفين أصلا.

نعم ، لو فرض هناك أثر مترتّب على جنابة الغير كما في مسألة الائتمام بناء على القول بكون جنابة الإمام من الموانع الواقعيّة في حق المأموم أيضا كما في حقّ نفسه ، فلو علم بها بعد الفراغ يجب عليه الإعادة كما يجب على الإمام ـ كما عليه المشهور ـ لم يجز لأحدهما الائتمام بالآخر مطلقا ، كما لا يجوز لغيرهما

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٣٥.

٣٦٥

الائتمام بهما ، أو بأحدهما مع الالتفات إلى حالهما.

نعم ، على القول بترتّب صحة صلاة المأموم واقعا على طهارة الإمام ولو بحسب تكليفه الظاهري صحّ الائتمام واقعا من دون أن يجري المأموم أصلا في حقّ الإمام ، وإن كانت أصل صلاته صحيحة ظاهرا ؛ من حيث استناد المأموم في إحراز طهارته إلى الاستصحاب كصلاة الإمام ، فليس هذا الاستدراك من خصائص هذا الفرع ولا من خصائص هذا الأمر ؛ لاختلاف الأحكام باختلاف الحالات والموضوعات.

فكما أنه قد لا يكون بعض أطراف العلم واقعة للمكلّف بالنسبة إلى حكم وأثر ، ويكون واقعة له بالنسبة إلى حكم آخر ـ كما أنه قد يكون واقعة له بالنسبة إلى حكم خاصّ في حال دون حال ـ فكذلك قد لا يؤثّر العلم الإجمالي في خطاب وتكليف بالنسبة إلى بعض أطرافه ، ويكون له تأثير في هذا الطرف بالنسبة إلى خطاب آخر ، بل قد يكون الحال على هذا الوجه بالنسبة إلى الاشتراط وإطلاق الخطاب واشتراطه أيضا وهو الأمر الثاني ، فقد لا تؤثّر في تنجّز خطاب خاصّ بالنسبة إلى بعض أطرافه ولا يوجب تعلّقه به إلاّ على وجه الاشتراط ، وتؤثّر في هذا الطرف الخاصّ بالنسبة إلى خطاب آخر ويوجب تعلّقه به وتوجّهه إلى المكلّف على وجه الإطلاق ، فلا بدّ من ملاحظة الأحكام المتعلّقة بالمعلوم بالإجمال وأطرافه وحالات المكلّف وغير ذلك من الخصوصيّات الموجبة للاختلاف.

٣٦٦

ومنه يظهر الوجه في حملهم لصحيحة عليّ بن جعفر (١) في قبال الشيخ قدس‌سره القائل بالعفو عما لا يدركه الطّرف من الدّم لصغارته (٢) استنادا إليها ، على أن المفروض فيها إصابة الدم للإناء وهي لا يستلزم إصابة الماء ، وهذا النحو من العلم الإجمالي لا يؤثّر في وجوب الاحتياط لعدم الابتلاء ، فظهر الإناء الذي هو طرف للعلم أيضا محمول على الغالب من عدم الابتلاء بظهر الإناء.

كما أن ما حكاه صاحب « المدارك » (٣) عن الأصحاب تأييدا لما قوّاه : من عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة من عدم وجوب الاحتياط عندهم عن الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه ، أو في خارجه ، مع حصر الشبهة أيضا صحيح ؛ على ما قدّمنا من الضابط لوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، لكنّه أيضا محمول على الغالب من عدم الابتلاء بخارج الإناء لسجدة ونحوها ؛ إذ ليس مرادهم إطلاق القول بذلك جزما. كيف! وقد صرّحوا بوجوب الاحتياط في

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٧٤ باب « النوادر » ـ ح ١٦ ، والتهذيب : ج ١ / ٤١٢ باب « المياه وأحكامها » ـ ح ١٨ ، وكذا الإستبصار : ج ١ / ٢٣ باب « الماء القليل يحصل فيه شيء من النجاسة » ـ ح ١٢ ، والوسائل [ عن الكافي ] : ج ١ / ١٥٠ باب « ٨ من أبواب الماء المطلق » ـ ح ١.

(٢) الاستبصار : ج ١ / ٢٣ باب « الماء القليل يحصل فيه شيء من النجاسة » ذيل ـ ح ١٢.

(٣) مدارك الأحكام : ج ١ / ١٠٨ ، وللمحدّث البحراني كلام لطيف في المقام ونقد لسيّد المدارك ينبغي مراجعته أنظر الحدائق الناضرة : ج ١ / ٥٠٣.

٣٦٧

الشبهة المحصورة هذا. وقد أشرنا إلى ذلك في مطاوي كلماتنا السابقة أيضا.

ثمّ إنه كثيرا ما يشتبه الأمر بالنسبة إلى حكم خاصّ بالنسبة إلى بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ من حيث كونه محلاّ للابتلاء واقعة للمكلّف من حيث خفاء الأمر ؛ حيث إن تحقّق الابتلاء عرفا بالنسبة إلى جميع أطراف الشبهة ، أو عدمه بالنسبة إلى بعضها ، ليس أمرا واضحا بالنسبة إلى جميع الموارد ، وإن كانا واضحين في الجملة. فلا بد من الرجوع في موارد خفاء الأمر وعدم وضوحه إلى القواعد والأصول ، وإلى ذلك أشار شيخنا قدس‌سره بقوله : « إلاّ أن الإنصاف أن تشخيص موارد الابتلاء ... » (١) إلى آخر ما أفاده لبيان إثبات موارد الاشتباه والالتباس عدم وضوح الأمر بذكر الأمثلة.

وتوهّم : عدم وقوع الاشتباه المحوج إلى الرجوع إلى القواعد والأصول ـ بعد كون الضابط في تحقّق الابتلاء بالنسبة إلى جميع الأطراف ، وحسن توجيه الخطاب بعنوان الإطلاق والتنجيز إلى كل واحد على تقدير العلم التفصيلي بحرمته ، وفي عدم قبح ذلك بالنسبة إلى بعضها بحكم العرف ، فلا بد من عرض المطلب عليهم في موارد الخفاء والاشتباه فيرتفع الاشتباه بمعونة حكمهم فلا يبقى شكّ حتّى يرجع فيه إلى الأصل ـ فاسد جدّا ؛ لأن إيكال الأمر إلى العرف لا يزيد

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٣٦.

٣٦٨

إلا زيادة التحيّر ، وإلى ما ذكر أشار بقوله : « والمعيار في ذلك ... إلى آخره » (١).

ثمّ إن الكلام في موارد الشكّ يقع في مواقع :

الأوّل : في مقتضى الأصول العمليّة.

الثاني : في مقتضى الأصول اللفظيّة.

الثالث : في بيان وجود الضابط الشرعي وعدمه ، وأنه هل ورد في الشرع ما يتميّز به مورد تحقّق الابتلاء عن مورد عدمه أم لا؟

أمّا الموضع الأول فلا شكّ في أن قضية الأصل العملي الأوّلي عند الشكّ والدوران البناء على عدم تحقّق الابتلاء ؛ نظرا إلى رجوع الشكّ المذكور إلى الشك في أصل التكليف والخطاب التنجيزي الذي هو القاطع لعذر المكلّف والمصحّح لمؤاخذته على مخالفة الواقع ، لا وجود الخطاب كيف ما اتفق كما هو المفروض.

فالشكّ في المقام نظير الشكّ في إطلاق التكليف واشتراطه الذي اتفقوا فيه على كون الأصل فيه البراءة ، بل الشكّ في الفرض يرجع إلى الشك المزبور باعتبار حقيقته ، ونظير الشكّ في الشرطية والجزئية المطلقتين فيما عجز المكلف عن الشرط والجزء كما في فاقد الطهورين مثلا ؛ فإن إطلاق المقدّميّة مع العجز عن المقدّمة توجب العجز عن ذيها فيرتفع التكليف عنه ؛ من حيث إن القدرة على

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢ / ٢٣٧.

٣٦٩

جميع المقدّمات الوجوديّة شرط ومقدّمة للوجوب ، فإذا شكّ في إطلاقها واختصاصها بحال القدرة فلا محالة يشكّ في وجوب ذيها ، فيرجع إلى أصالة البراءة. وهذا مع وضوحه قد حقق في بحث وجوب المقدّمة.

ثمّ إنه لا فرق فيما ذكرنا من قضيّة الأصل الأوّلي بين صور الشكّ المتصوّرة ومواردها مع عدم وجود ما يكون واردا أو حاكما عليه هناك من الأصل اللفظي ، أو دليل آخر سواء كان الشكّ في أصل الاشتراط والإطلاق ، أو كان الشكّ في وجود الشرط وما قيّد به المكلف يقينا ، أو كون الموجود والمتحقّق من أفراده ومصاديقه من غير فرق بين استناد الشكّ والتردّد إلى الشبهة الحكميّة المستقلّة ، أو المستندة إلى الشبهة المفهوميّة ، أو الموضوعيّة المستنبطة ، واستناده إلى الشبهة الموضوعيّة الخارجيّة الصرفة لما قد عرفت : من جريان البراءة في جميع صور الشكّ في التكليف من غير فرق بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة والوجوبية والتحريميّة.

وإلى ما ذكرنا من مقتضى الأصل الأولي أشار قدس‌سره بقوله : « نعم ، يمكن أن يقال عند الشكّ في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب » (١) إلى آخر ما أفاده في بيان قضيّة الأصل. هذا بعض الكلام في الموضع الأول.

وأمّا الموضع الثاني : وهو تحقيق الأصل اللفظي فيما ثبت الوجوب أو

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٣٧.

٣٧٠

التحريم بالدليل اللفظي فحاصل القول فيه :

أنه لا إشكال في الرجوع إلى إطلاق الهيئة الدالّة على الطلب عند الشكّ في أصل التقييد فيما تحقق فيه شرائط التمسّك بالإطلاقات. ومن هنا تسالموا على كون مقتضى الأصل اللفظي إطلاق الواجب عند الشكّ في الاشتراط كما ذكر في بحث المقدّمة.

كما أنه لا إشكال في عدم الرجوع إليه فيما لو علم بالقيد والاشتراط وشكّ في أصل وجود القيد في الخارج من جهة الشبهة في الموضوع لا في كون الخارج من مصاديقه فيرجع فيه إلى الأصول العمليّة ، وإن اقتضت وجود الشرط كما إذا كان مسبوقا بالوجود.

أما لو علم بالاشتراط والقيد وشكّ في كون الموجود في الخارج من مصاديقه وأفراده ؛ فإن كان مستندا إلى الشبهة الموضوعيّة الخارجيّة ، فلا إشكال في عدم ظهور اللفظ وإطلاق له حتى يرجع إليه بالنسبة إلى هذا الشك والتردّد مطلقا ، كما هو الشأن في جميع موارد الشكّ في الأمور الخارجيّة ؛ لعدم تعلّق الشكّ بالمراد من اللفظ حتى يرجع إليه.

وإن كان مستندا إلى الشبهة المفهوميّة ؛ فإن كان التردّد بين المتبائنين فلا إشكال في عدم الظهور وسراية الإجمال إلى لفظ المطلق. وإن كان التردّد في المراد من التقييد بين الأقل والأكثر ـ كما هو الغالب في إجمال المفاهيم العرفيّة ـ فإن كان المقيّد متّصلا فلا إشكال في سراية إجماله إلى لفظ المطلق وصيرورته

٣٧١

مجملا أيضا ، وإن كان منفصلا ، فلا إشكال عندنا في عدم سراية إجماله إلى بيان المطلق.

ثمّ إن هذا كلّه فيما كان للمقيّد أو الخاص لفظ وعنوان قيّد به المطلق ، أو خصّص به العام. وأما إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل ورد مطلق وعلم تقييده بحكم العقل ، أو العرف بما يعلم تحققه في الخارج وعدمه في بعض الموارد في الجملة ، وشكّ في تحقّقه في بعضها من جهة عدم الإحاطة بحقيقته العرفية ، ولم يكن له وان فربّما قيل بكونه من المقيّد المتّصل فيوجب الإجمال في المطلق مطلقا ، ولكن الأمر ليس كذلك عند شيخنا قدس‌سره على ما يظهر مما أفاده في المقام في وجه يحمل عليه كلامه.

إذا عرفت ذلك على سبيل الضابطة فنقول : إنّه لا إشكال في إطلاق ما دلّ على تحريم المعلوم بالإجمال وشموله لمورد الشك في تحقق الابتلاء ؛ من جهة عدم العلم بحقيقته العرفيّة. والمعلوم خروجه عنه : هو ما علم تقبيح العرف إرادته من المطلق ، فيرجع في محلّ الشكّ إلى الإطلاق فيحكم بوجوب الاحتياط بعد شمول النهي والحكم بتنجّزه بمقتضى الإطلاق ، فيصير مقتضى الأصل وجوب الاحتياط بعد هذه الملاحظة. وعلى ما ذكرنا يحمل قوله قدس‌سره في تقريب الأصل اللّفظي : « إلا أن هذا ليس بأولى من أن يقال : إن الخطابات بالاجتناب عن

٣٧٢

المحرّمات مطلقة ... إلى آخر ما أفاده » (١) وإن كان ربّما يستظهر منه في باديء النظر غير ما ذكرنا فتدبّر.

أمّا الكلام في الموضع الثالث فملخّص القول فيه :

أن ما يصلح مميّزا لموارد الشكّ ممّا ورد شرعا في هذا الباب ليس إلاّ صحيحة عليّ بن جعفر بعد فساد حملها على ما أفاده الشيخ قدس‌سره على ما عرفت ؛ كفساد حملها على كون المراد منها بيان عدم وجوب الاحتياط في خصوص هذه الشبهة المحصورة ؛ خروجا عن القاعدة المقرّرة في الشبهة المحصورة ، كما استبعده قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « إذ يبعد حملها على خروج ذلك ... إلى آخره » (٢) أو مطلقا بانضمام عدم القول بالفصل بين أفراد الشبهة المحصورة على ما زعمه القائل بعدم وجوب الموافقة القطعيّة في الشبهة المحصورة.

بناء على أن الظاهر منها السؤال عن حكم خصوص الماء الذي في الإناء لا عن جميع أطراف الشبهة ، والمراد بالجواب بيان خصوص جواز استعمال الماء أو طهارته فيما لم يعلم بإصابة الدّم له ، لا البناء على طهارة جميع الأطراف الموجب للإذن في المخالفة القطعيّة ؛ بتقريب أن حملها على ما ذكرنا من الضابطة ـ لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، من حيث خروج ظهر الإناء عن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٣٧.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ / ٢٣٨.

٣٧٣

محلّ الابتلاء غالبا ـ يوجب تبيّن الحال ورفع الاشتباه عن غالب موارده ، وإن لم يوجب رفع الاشتباه عن جميع موارده ؛ فإنه بعد عرض موارد الاشتباه على مورد الصحيحة يحكم بعدم تحقّق الابتلاء فيما كان مساويا له من حيث الوضوح والخفاء ، وما كان أجلى منه من حيث عدم الابتلاء. نعم ، يبقى ما كان أخفى منه من حيث تحقّق عدم الابتلاء وهو قليل في الغاية.

وإلى ما ذكرنا كله أشار قدس‌سره بقوله : « إلا أن يقال : إن المستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة كون الماء وظاهر الإناء ... إلى آخره » (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٣٨.

٣٧٤

* التنبيه الرابع :

الثابت في المشتبهين خصوص وجوب الاجتناب

(١١٣) قوله قدس‌سره : ( الرابع (١) : أن الثابت في كل من المشتبهين لأجل العلم الإجمالي بوجود الحرام ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٣٩ )

أقول : لما كان هذا الأمر أهمّ الأمور في هذا الباب وقد اشتبه أمره على بعض الأساطين من المتقدّمين وغير واحد من المتأخرين ، وإن كان واضحا عند المشهور ، فبالحريّ أن نبسط فيه الكلام حسبما يساعدنا التوفيق من الملك العلام فنقول :

إنّ الحكم الشرعي المتعلّق بالنجس الواقعي أو الحرام الواقعي على أنحاء ؛ فإنه قد يتعلّق بهما من حيث تعلّقه بالفعل المتعلق بهما أوّلا وبالذات ، كالحرمة المتعلّقة بفعل المكلّف المتعلّق بالنجس والحرام كحرمة أكلهما وشربهما ، أو الانتفاع بهما ، أو التصرّف في الحرام كما في الغصب ، أو الصلاة فيهما ولو بالحرمة التشريعيّة إلى غير ذلك.

وقد يتعلّق بفعل المكلف المتعلّق بالحرام مثلا بواسطة فعل آخر للمكلّف

__________________

(١) من تنبيهات الشبهة المحصورة.

٣٧٥

متعلق بالحرام ، كوجوب إقامة الحدّ مثلا المتعلّق بالخمر من حيث الشرب المتعلّق به.

وقد يتعلّق بفعل المكلّف المتعلق بهما بواسطة أمر متعلّق بهما ليس من مقولة فعل المكلف أصلا ، كوجوب الاجتناب المتعلّق بملاقي النجس بتوسّط الملاقاة التي ليست من مقولة الفعل أصلا.

أمّا الأوّل ؛ فلا إشكال في تنجّزه على المكلّف بعد العلم الإجمالي بوجود الحرام أو النجس بين المشتبهين مثلا المقتضي في حكم العقل الشرع لوجوب الاحتياط عن جميع أطراف الشبهة ـ على ما عرفت عند الكلام في أصل المسألة على المشهور الذي قويناه في قبال بعض من خالفهم ـ فيجب الاجتناب عن كلّ مشتبه بالحرام ، أو النجس المعلومين إجمالا من باب المقدّمة العمليّة لتحصيل اليقين بالبراءة بعد ثبوت الاشتغال بهما من جهة دفع الضّرر المحتمل فيه ولو بالوجوب الإرشادي العقلي ، فهذا الحكم يسري من الحرام الواقعي إلى المشتبهين من باب المقدّميّة ؛ ولو كان الحكمان مختلفين من حيث النفسيّة والمقدّميّة ومن حيث الشرعيّة والإرشاديّة ومن حيث الظاهريّة والواقعيّة.

أما الأخيران فلا إشكال بل لا خلاف في عدم اقتضائهما شيئا على المكلّف بمجرّد العلم بوجود الحرام ، بل لا يعقل اقتضاؤهما له ؛ ضرورة لزوم الخلف من الاقتضاء كما هو واضح على الأوائل فضلا عن الأواخر.

ومنه يظهر : أنه لا معنى لتوهّم اقتضائهما الالتزام بهما ظاهرا عند ارتكاب

٣٧٦

أحد المشتبهين من باب المقدّمة العلميّة ، فلا معنى لإقامة الحدّ مثلا على من شرب أحد المشتبهين بالخمر بتوهّم وجوب تحصيل العلم بإقامة الحدّ على من شرب الخمر ؛ ضرورة أن وجوب تحصيل العلم إنّما هو بعد ثبوت التكليف بمجرّد العلم الإجمالي بالحرام ، فإذا لم يثبت ذلك على ما عرفت فلا معنى لإيجاب العقل تحصيل العلم المتوقف على الاحتياط من جميع أطراف الشبهة.

فالمرتكب لأحد المشتبهين بالخمر كالمرتكب للمشتبه بالخمر مشكوكه بالشبهة المجرّدة في عدم جواز إقامة الحدّ عليه من غير فرق بينهما من هذه الجهة أصلا. وهذا معنى ما يستفاد من إفادات شيخنا قدس‌سره : من عدم جريان باب المقدّميّة بالنسبة إلى الآثار المترتّبة على فعل الحرام.

فإن شئت قلت : وجوب إقامة الحدّ مثلا إنّما هو على من شرب الخمر من المكلّفين ودخل في هذا العنوان ، ومجرّد العلم بوجود الخمر بين المشتبهين لا يقتضي حصول تعلّق هذا التكليف ووجوده في الخارج وهو شرب المكلّف له ، فلا معنى لجريان المقدّميّة ولا يعلم صدقه بالفرض على شرب أحد المشتبهين ، فلا محالة يتعيّن الرجوع إلى أصالة عدم تحقّق موجب الحدّ كارتكاب الشبهة المجرّدة على ما عرفت.

وهذا معنى ما قرع سمعك : أن « فعل الحرام بالنسبة إلى هذه الآثار من قبيل الوضع » فلا معنى للحكم بثبوتها من دون العلم به ؛ حيث إن شرب الخمر مثلا سبب في حكم الشارع لوجوب إقامة الحدّ على شاربه ، فإن علم بهذه العلامة الوضعيّة

٣٧٧

وجب ترتيب أثرها عليها عند اجتماع الشرائط ، وإلاّ فيرجع إلى أصالة عدم وجود السبب فيحكم بعدم المسبب.

فالقاتل لأحد المشتبهين بمهدور الدّم لا يجوز قصاصه وإن كان معاقبا مطلقا ، أو عند المصادفة لقتل محقون الدم ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الآثار التي تكون من هذا القبيل. نعم ، لا إشكال في لزوم الالتزام بمقتضائهما عند ارتكاب كلا المشتبهين للعلم بحصول متعلّقها حينئذ ، لكنّه خارج عن محلّ الكلام هذا.

وقد يستدلّ للمدّعى في كثير من الموارد والأمثلة : بأن الأمر فيه دائر بين المحذورين ؛ فإنه كما يجب إقامة الحدّ على من شرب الخمر ، أو زنى بامرأة ، أو أوقب غلاما مثلا ، كذلك يحرم إقامة الحدّ على من لم يشرب الخمر ، ولم يزن ، ولم يدخل بغلام ، ففي ارتكاب أحد المشتبهين يدور الأمر بين المحذورين. وهكذا في مسألة القصاص فيما وجب ، وأمثالها من موارد الدوران.

وفيه ما لا يخفى ؛ فإن نتيجة ذلك جواز ترتيب آثار فعل الحرام تخييرا ، وهو كما ترى.

وقد يستدل له أيضا في الجملة ممّا دل على درء الحدود بالشبهات منطوقا ، أو من باب فحوى الخطاب. والأولى ما ذكرنا في تقريب الاستدلال ؛ من حيث إن غيره على تقدير تماميّته لا يفي بالمدّعى في جميع صوره.

٣٧٨

حكم ملاقي الشبهة المحصورة

ثمّ إن ما ذكرنا من حكم الأقسام مما لا إشكال بل لا خلاف فيه ظاهرا بين أهل العلم من حيث الكبرى وإن وقع الإشكال بل الخلاف بينهم من حيث الصغرى في بعض الموارد ، كما في ملاقي أحد المشتبهين بالشبهة المحصورة ؛ فإنّ المحكيّ عن المشهور : عدم وجوب الاجتناب عنه وترتيب آثار الطهارة عليه ، والمحكي عن بعض الأصحاب : وجوب الاجتناب عنه كالملاقى بالفتح.

ومبنى الإشكال والخلاف بينهم ـ مع اتفاقهم على ما ذكرنا في حكم الأقسام ـ على أنه هل يكون هناك ملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء والاجتناب عن ملاقيه كلّيّة بحيث يكون الخطاب الدّال عليه بالدلالة الأوليّة دالاّ عليه بالملاحظة الثانويّة وبالملازمة ، أو لا يكون بينهما ملازمة أصلا ، فلا يكون الخطاب الدالّ عليه دالاّ على وجوب الاجتناب عن ملاقيه؟ فيكون الدليل على وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس بناء عليه هو الدليل الخاصّ الخارجي التعبّدي الدالّ على تنجّس ملاقي خصوص النجس ، من غير أن يكون للدليل الدال على وجوب الاجتناب عن النجاسات دلالة على وجوب الاجتناب عن ملاقيها بإحدى الدلالات أصلا ، بل المراد منها خصوص الاجتناب عن أعيانها ليس إلاّ ؛ بحيث لو لم يثبت هذا الحكم التعبّدي في باب النجاسات لم يقل به ؛ من حيث انتفاء دليل يدلّ عليه ، فيكون ملاقاة الظاهر للنجس مع التأثر والسراية سببا

٣٧٩

تعبّديّا في حكم الشارع لتنجسه ووجوب الاجتناب عنه ، فيدخل في القسمين الأخيرين من الأقسام.

والمدّعي لوجوب الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين ؛ إنّما يقول به من جهة ما استفاده من الملازمة المذكورة بين وجوب الاجتناب عن الشيء وما يلاقيه بزعمه ، لا من جهة ما دلّ على تنجّس ملاقي النجس ؛ ضرورة عدم حكم أحد بنجاسة المشتبهين وإلاّ لم يكن معنى للاشتباه وهو خلف.

والمفروض عدم جريان باب المقدّميّة بالنسبة إلى هذا النحو من الأثر أيضا على ما أسمعناك ، فخلافه ليس في المعنى الذي ذكرنا أصلا.

نعم ، هنا مسلك آخر للحكم بوجوب الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين سلكه بعض الأصحاب يغاير المسلك المعروف ستقف عليه بعد التكلّم فيما هو المعروف بينهم.

الإستدلال على الملازمة بوجهين والجواب عنهما

فنقول : قد استدلّ على الملازمة المذكورة في قبال المشهور القائلين بعدم الملازمة والرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ بوجهين :

أحدهما : ظهور ما دل على وجوب الاجتناب عن الشيء ؛ فإن ظاهره وجوب الاجتناب عما يلاقيه ، فما دلّ على وجوب الاجتناب عن كل مشتبه في الفرض يدلّ على وجوب الاجتناب عمّا يلاقيه.

٣٨٠