بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

لأنا نقول ـ بعد تسليم اتفاقهم على ذلك ، مع أن بعضهم جوّز الرجوع إلى الثالث إذا اقتضاه الأصل ، مضافا إلى أن الظاهر من الشيخ قدس‌سره القائل بالتخيير (١) هو التخيير الواقعي الموجب لطرح قول الإمام عليه‌السلام على ما استظهره المحقّق منه (٢) ، وأورد عليه : بأنه لا ينفع القول بالتخيير فرارا عن اطّراح قول الإمام عليه‌السلام ؛ حيث إنه مع اتفاقهم على أحد القولين بعد الاختلاف مستلزم لبطلان التخيير الذي حكم به الإمام ؛ فإنّ التخيير إذا كان حكما ظاهريّا يدور مدار الشكّ والتحيّر ، فلا يمنع من قيام القاطع على الحكم الرافع لموضوعه ، وإن لم يعقل الحكم بالتخيير الواقعي بين الحكمين لواقعة واحدة. ومن هنا ذكر في « المعالم » (٣) وتبعه غير واحد (٤) : بأن مراده هو التخيير الظاهري وإن أخطأ في الحكم بعدم جواز الاتفاق على أحد القولين بعد الاختلاف ـ : نمنع من إرادتهم إطلاق القول بذلك حتى فيما لا يوجب الرجوع إلى الثالث الطرح من حيث العمل ، وإن كان التأمّل يشهد بإرادتهم إطلاق القول بذلك ، كما يظهر بالرجوع إلى كلماتهم ؛ حيث إن ظاهرهم كون الثالث طرحا للحكم الذي قال به الإمام عليه‌السلام وجعله حكم الواقعة ، ولا دخل له بالطرح العملي

__________________

(١) عدّة الأصول : ج ٢ / ٦٣٧.

(٢) معارج الأصول : ١٩٢.

(٣) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٨١.

(٤) انظر حاشية سلطان المبدوّة بقوله : « هذا ممنوع في العمل ... الى آخره » وكذا « القوانين » : ج ١ / ٣٨٣ ، والفصول : ٢٥٧.

٢٢١

أصلا. ومن هنا أمر قدس‌سره بالتأمّل عقيب استظهار الطرح من حيث العمل من كلماتهم.

لا يقال : كيف يجوز الالتزام بالإباحة في مرحلة الظاهر ، مع العلم بكونها مخالفة للحكم الواقعي الثابت للواقعة في نفس الأمر؟

لأنّا نقول ـ بعد النقض بالتخيير الظاهري في المقام على قول المشهور والتخيير في موارد تعارض الأخبار وموارد التسامح فيما لا يحتمل في الواقع إلاّ الوجوب والإباحة وغير ذلك ممّا لا يخفى ـ : لا مانع منه أصلا ؛ فإنه إن كان من جهة التضاد بينهما فممنوع عندهم. ومن هنا يحكم في الظاهر كثيرا مّا مما يكون مخالفا للواقع عند الله « تبارك وتعالى ». وإن كان من جهة إيجابه طرح الواقع ، فقد عرفت أنه لا يوجبه عملا ولا التزاما. وإن كان من جهة عدم مساعدة دليل الإباحة فهو ليس وجها آخر يتمسّك به للمنع في قبال دليل البراءة ، وقد أسمعناك شمول دليلها للمقام أيضا ، هذا حاصل ما يقتضيه تحريره قدس‌سره في المقام.

الحق عدم جريان أصالة الإباحة هنا

ولكنّ الحق ما أفاده قدس‌سره في أوّل « الكتاب » : من عدم جواز الرجوع إلى البراءة والحكم بالإباحة ، لا لما أفاده في المقام : من انصراف أدلّتها اللفظيّة إلى غير المسألة المفروضة ـ : من دوران حكم الواقعة بين الوجوب والتحريم حتى يمنع منه ، وعدم استقلال العقل بعد تجويز ورود الالتزام بأحد الحكمين من الشارع كما قال به المشهور ، وإن لم يساعده دليل فلا بد من التوقّف وعدم الالتزام بحكم

٢٢٢

ظاهريّ من حيث عدم الدليل عليه ، والمفروض عدم توقّف الموافقة بحسب العمل عليه لكون الحكمين توصّليّين ، وإن هو إلاّ نظير دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب في العبادات ؛ حيث إنه يكفي العلم بالرجحان المشترك في قصد القربة ، ولا يتوقف على العلم بالخصوصيّة حتى يقال : بأن عدم قيام الدليل على وجوب الالتزام بأحد الحكمين عند العقل وإن جوّز وروده كاف في حكمه بالبراءة ، وإلاّ لم يحكم بالبراءة في مورد من الموارد ـ بل لما أفاده هناك : من أن ترخيص الشارع والحكم بإباحة ما تردّد أمره بين الوجوب والتحريم في الشبهات الحكميّة ، قبيح في حكم العقل ؛ من حيث رجوعه إلى الإذن في المعصية والمخالفة القطعيّة العمليّة في واقعتين ، فلا بدّ من الالتزام بأحد الحكمين فرارا عن ذلك.

ولا يرد ذلك على القول بالتخيير على القول بكونه استمراريّا ؛ ضرورة كون المكلّف في كل واقعة مطيعا للشارع ولو في مرحلة الظاهر ، فيتدارك مفسدة فوت الواقع بالأمر الظاهري. ومنه يظهر فساد القياس بالتخيير الاستمراري في موارده كما في تعارض الخبرين ، أو فتوى المجتهدين ، والعدول عن تقليد القائل بالوجوب إلى تقليد القائل بالحرمة من جهة وجود بعض مسوّغاته من فوت ، أو جنون ، أو نحو ذلك ممّا فصّل في محلّه.

وبالجملة : القبيح عند العقل المخالفة القطعيّة العمليّة ولو في واقعتين من دون التزام بما يحتمل الموافقة للواقع عند كل واقعة ؛ لما عرفت من الوجه

٢٢٣

ولا يتوهّم عدم الابتلاء للمكلّف بالنسبة إلى الوقائع المستقلّة ، فلا يمنع تحقّق المخالفة القطعيّة بملاحظتها من الرجوع إلى البراءة كما ستقف عليه في فروع الشبهة المحصورة ؛ ضرورة ثبوت الفرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة وتحقّق الابتلاء في الشبهات الحكميّة دفعة واحدة. فتدبّر.

لا يقال : نتيجة ذلك عدم جواز اختيار المكلّف للترك إذا اختار الفعل في واقعة ، وكذا العكس لا التخيير بين الحكمين.

لأنا نقول : عدم تجويز الشارع للترك للمكلّف إذا اختار الفعل في واقعة مع حكمه بالإباحة ، لا يجتمعان قطعا كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا كله وإن ظهر وجه القول بالتخيير ووجه التوقف وإن لم يقل به أحد غير شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره في ظاهر كلامه في باديء النظر ـ وإن احتمل قريبا كون ذكره من حيث كونه وجها في المسألة ، ويكون المختار عنده ما أنصفه في أول « الكتاب » من التخيير بعد استظهار اتفاقهم عليه في مسألة اتفاق الأمّة على القولين ، كما أن أمره في المقام بالرجوع إلى ما ذكره في أوّل « الكتاب » والحوالة عليه ربّما يستظهر منه ذلك ـ إلاّ أنه لا بأس في الإشارة إليهما والتكلّم فيهما على وجه التلخيص والإجمال.

٢٢٤

دليل القول بالتّخيير في المقام

فنقول : أمّا وجه القول بالتخيير ودليله في المقام فهو حكم العقل به بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح بعد إثبات وجوب الالتزام بأحد الحكمين ؛ من حيث إن في تركه وتجويز الرجوع إلى الإباحة ، أو البناء على عدمهما ولو في مرحلة الظاهر تجويز للمعصية ومخالفة للواقع عملا ولو في واقعتين ، وهو قبيح عقلا ويستأنس له بالأخبار الدالّة على التخيير بين الخبرين المتعارضين.

لا يقال : حكم العقل بالتخيير على ما ذكرت مبنيّ على مقدّمتين :

إحداهما : وجوب الالتزام بأحد الحكمين.

الثانية : عدم ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر ، ولا كلام في الثانية في المقام ؛ فإن المخالف فيها من قدّم جانب الترجيح على الوجوب وسيجيء الكلام عليه.

أمّا الأولى : فهي كما يتوقّف على بطلان الرجوع إلى الإباحة وإثبات ذلك ، كذلك يتوقّف على بطلان التوقّف ؛ حيث إنه لولاه لا يثبت وجوب الالتزام بأحد الحكمين في مرحلة الظاهر ، والأول وإن كان ثابتا بالنظر إلى ما عرفت : من أن تجويز ذلك قبيح عقلا ، ولكن الثاني لم يثبت مما تقدّم ، وليس عليه دليل أيضا وإن سبق ادّعاء بطلانه ؛ حيث إن عدم التخطّي عمّا اختاره من الفعل والترك من غير

٢٢٥

التزام بالحكم في مرحلة الظاهر ، لا محذور فيه أصلا. وليس الالتزام بما اختاره من الفعل والترك التزاما بحكمه ، كما أنّه ليس التخيير بين الفعل والترك تخييرا بين الحكمين كما هو ظاهر.

لأنّا نقول : الالتزام المزبور بعد الاختيار مسبوق بالتخيير بين الفعل والترك من أوّل الأمر ، وهو وإن كان غير التخيير بين الحكمين على ما ذكر ، إلاّ أنه يرجع إلى الإباحة الظاهريّة حقيقة فإن المراد منها عدم الجرح في كلّ من الفعل والترك هذا.

وأمّا وجه القول بالتوقّف عن الحكم بكل حكم في مرحلة الظاهر من الإباحة التخيير فهو عدم الدليل عليه حقيقة ، بعد عدم توقّف العمل بالواقع عليه كما هو المفروض لما عرفت من عدم مساعدة دليل على البراءة في مفروض البحث كعدم الدليل على الالتزام بأحد الحكمين في مرحلة الظاهر بعد عدم اقتضاء دليل وجوب تصديق الشارع والالتزام بما جاء به ذلك ، هذا بعض الكلام في وجوه الاحتمالات في المسألة.

وجوه القول بلزوم الأخذ بالتحريم

وهنا قول آخر ـ على تقدير وجوب الالتزام ـ ذهب إليه غير واحد من الخاصّة والعامّة ، وهو : لزوم اختيار احتمال التحريم والبناء عليه في مرحلة الظاهر. لا بدّ من الإشارة إلى وجهه والكلام عليه ، وقد ذكروا له وجوها :

٢٢٦

الأوّل : الأصل. أي : قاعدة الاحتياط عند دوران الأمر بين التخيير والتعيين فإنّ مقتضاها تقديم احتمال التحريم والبناء عليه في مرحلة الظّاهر.

وفيه : ما لا يخفى ؛ لأن الدّوران في المسألة ليس بحسب الحكم الواقعي جدّا ، كما في دوران الخصال ونحوه ؛ ضرورة كون الحكم في مرحلة الواقع أحدهما المعيّن ، بل قد عرفت ـ في طيّ المناقشة فيما استظهر من كلام الشيخ قدس‌سره ـ عدم تعقّل التخيير الواقعي بين الوجوب والتحريم في مفروض البحث ، بل إنّما هو بحسب الحكم الظّاهري الذي يحكم به الشارع ، أو العقل.

والدليل عليه من الشرع ليس إلاّ ما عرفت ؛ من فحوى أخبار التخيير الواردة في تعارض الخبرين ، ولا يحتمل منها تعيين احتمال التحريم في المسألة قطعا.

وأمّا العقل فلا يعقل الدوران والترديد فيما يحكم به ؛ فإمّا أن يستقلّ بالتخيير ، أو التعيين ؛ ضرورة أن الترديد من الحاكم لا يجامع الحكم على كل تقدير ، فلا دوران حتى يرجع إلى الأصل ، ولما كان حكمه بالتعيين مبنيّا على ترجيح احتمال التحريم وأهميّته في نظر العقل ، ولا ترجيح عنده لاحتمال التحريم على احتمال الوجوب ، فلا محالة يحكم بالتخيير.

وأمّا القول : بأنه وإن لم يحتمل تعيين احتمال التحريم في نظر العقل إلاّ أنه يحتمل تعيّنه عند الشارع ـ من جهة احتمال تماميّة بعض الوجوه التي استدلّوا بها على التعيين ، وهو يوجب وقوف العقل عن الحكم بالتخيير فيجب البناء على

٢٢٧

التحريم ؛ من حيث كونه متيقّنا على كل تقدير ـ فاسد.

فإنّ مجرّد احتمال كون الحكم الظاهري عند الشارع الأخذ باحتمال التحريم ، لا يوجب وقوف العقل عن الحكم بالتخيير لما عرفت وتعرفه من أن العلم بالتعيّن مانع لحكم العقل ورافع لموضوعه ، مع أنّ تيقّن التعيّن لا معنى له ؛ إذ هو في عرض التخيير. نعم ، الأخذ باحتمال التحريم على التقدير المذكور متيقّن ، وأين هذا من تيقّن التعيين؟ فتدبر.

لا يقال : إن حكم العقل بالتخيير مبنيّ على ما عرفت على مقدّمتين ؛ أحدهما : ثبوت وجوب الأخذ بأحد الحكمين. الثانية : عدم الترجيح لأحدهما على الآخر ، ومع احتمال التعيين لا يقطع بالمساوات ، فلا يحكم بالتخيير. وأمّا التعيين فلا نقول بكونه ممّا يحكم به العقل من حيث كونه متعيّنا في نظره أوّلا وبالذات ، وإنّما نقول بحكمه بلزوم الأخذ باحتمال التحريم من حيث كون الأخذ به جائزا على كل تقدير.

لأنا نقول : بعد وقوف العقل عن الحكم الظاهري ليس هناك حكم ظاهري مردّد ، فتأمل.

الثاني : ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة بناء على كون المراد من التوقّف هو عدم الدخول في الشبهة وعدم الحركة إليها والسكون عندها على ما عرفت بيانه في مطاوي ما قدّمناه لك عند ذكر الاحتمالات المتطرّقة في لفظ التوقّف.

٢٢٨

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت من عدم دلالته على الوجوب وظهور التوقّف في المعنى الأعمّ الشامل للشبهة الوجوبيّة أيضا ـ : إنه ظاهر بالنظر إلى تعليله فيما لا يحتمل الضّرر على ترك الشبهة فلا يشمل مفروض البحث هذا. وقد استظهر في « الكتاب » من السيد الشارح « للوافية » التمسّك بأخبار الاحتياط في المقام أيضا (١). وهو كما ترى ، لا محصّل له أصلا ؛ إذ المفروض عدم إمكان الاحتياط.

الثالث : ما عن غير واحد : من حكم العقل واتفاق العقلاء على رعاية جانب المفسدة ولزوم دفعها عند دوران الأمر بينها وبين المصلحة وتحصيل المنفعة (٢) ،

__________________

(١) شرح الوافية : ٢٩٩ ( مخطوط ) وأنظر فرائد الأصول : ج ٢ / ١٨٨.

(٢) وقال المحقق الطهراني قدس‌سره :

« إن الأحكام الشرعيّة ليست إرشادية بل هي : مولويّة تابعة لما في أنفسها من المصالح والمكلّف وظيفته دفع استحقاق العقاب عن نفسه ولا فرق في ذلك بين الواجب والحرام وتقدّم الحرام وغلبته مع التزاحم ليس من هذا الباب وأولويّة إجتناب السيّئات من اكتساب الحسنات أجنبيّة عن المقام فإن المراد بالحسنات ما يترتّب على المندوبات وتأتّي المقصود من الحرام بالترك مطلقا دون الواجب يتم في غير التوصّلي ولا دلالة له على الأولويّة بالإمتثال كما لا يخفى.

والتقدّم في مرحلة التزاحم لا يحتاج إثباته الى دليل وأيّام الإستظهار يعتمد فيها على استصحاب الحيض كما ان وجوب الإجتناب عن أطراف الشبهة مستند إلى العلم المنجّز للتكليف بالواقع فلا دوران بين الوجوب والحرمة ، ولا معنى لما قيل : من ان سقوط الوضوء

٢٢٩

ومبنى الاستدلال به على كون الحرمة مسبّبة عن المفسدة الملزمة في الفعل ، والوجوب مسبّبا عن المصلحة فيه من دون أن يكون مفسدة في تركه.

واستشهد للكليّة المذكورة بما ورد في غير واحد من الأخبار عن أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه وعلى أولاده الطاهرين المعصومين ) : من أن « اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات » (١).

وفيه أيضا : ما لا يخفى ؛ لأنه بعد تسليم كون دفع كل ضرر أولى من جلب كل منفعة عند العقلاء ، أن فوت المصلحة الملزمة عن المكلّف ضرر أيضا ، وإلاّ لم يقتض الإلزام على المكلّف كما لا يخفى.

وأمّا الاستشهاد بما عرفت من الأخبار فهو في غير محلّه ؛ ضرورة كون ترك الواجب سيّئة ، كيف! وقد عدّ ترك الصلاة من أكبر الكبائر ويتلوه ترك الزكاة ، فالمراد من الحسنة ما لا يكون في تركها عصيان. وبالجملة : الأخبار المذكورة لا تعلّق لها بالمقام أصلا.

الرّابع : أن اقتضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من حيث إن الترك يجامع كل فعل ، مضافا إلى حصوله مع الغفلة فيما لم يكن الحرام على تقدير ثبوته تعبّديّا كما

__________________

مستند إلى ثبوت البدل له ؛ ضرورة انّ مقتضى العلم الإجمالي عدم صحّة الوضوء وإن لم يكن له بدل » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٣٢.

(١) غرر الحكم : ٨١ ـ الفصل الأوّل ، الحكمة : ١٥٥٩.

٢٣٠

هو الغالب ، وهذا بخلاف الوجوب ؛ فإن المقصود منه الفعل والغالب في الأفعال التنافي وعدم الاجتماع ، فكان اختيار احتمال الحرمة بهذه الملاحظة أرجح وأولى عند العقلاء ، مضافا إلى أن بناء الشارع على ملاحظة اليسر والسهولة في الأحكام ، فيكون احتمال التحريم أولى عند الشارع أيضا.

وهو كما ترى ؛ إذ لو كان المراد أن مجرّد السهولة مرجّح يوجب منع حكم العقل بالتخيير ، ففيه : المنع من ذلك.

وإن كان المراد أنّه بعد الحكم بالتخيير عند العقلاء يختارون جانب الترك من حيث كونه أسهل الأمرين. ففيه : أنه لا يجدي نفعا.

الخامس : الاستقراء ـ بالتقريب الذي ذكره قدس‌سره في « الكتاب » بناء على أن تقديم جانب التحريم في موارد اشتباه الواجب بالحرام ـ يقتضي تقديم احتمال التحريم على احتمال الوجوب عند الشارع ؛ من حيث إن تقديم المعلوم يكشف عن اهتمام الشارع بشأن الحرام.

وفيه ـ مضافا إلى عدم تحقق استقراء التام بل الناقص الغير المفيد بالأمثلة القليلة المذكورة ـ : أن ترك العبادة في أيام الاستظهار فيما تجاوز الدم العادة فيما كانت أقل من عشرة ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ، بل الاحتياط عندهم الجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة. فلو قيل بالوجوب فليس من مصاديق الفرض أصلا ؛ حيث إن حرمة العبادة في حق الحائض تشريعيّة لا ذاتيّة.

٢٣١

ومن هنا يحتاط فيها كثيرا مّا ، فلا بدّ من أن يكون القول بالحرمة مستندا إلى الأصل الموضوعي ، أي : استصحاب الحيض ، لا الأصل الحكمي كما توهمه عبارة « الكتاب ».

وأمّا ترك غير [ ذات ](١) العادة العبادة بمجرّد الرؤية فلا بدّ أن يكون مستندا إلى قاعدة الإمكان ونحوها ممّا يقتضي كون الدم حيضا ، فيرفع اليد بهما عن استصحاب الطّهارة ، وإلاّ فقد عرفت خروج المسألة عن دوران الأمر بين الواجب والحرام الذاتي.

وأمّا ترك الإناءين المشتبهين من جهة النصّ الوارد فيهما وترك الوضوء بهما مع الانحصار على تقدير القول بكون الوضوء بالنجس الأعم من المتنجّس حراما ذاتيّا لا تشريعيّا ؛ من حيث كونه من الانتفاع بالنجس المحرّم بالنص والفتوى ، فليس له تعلّق بالمقام أيضا من تقديم الشارع جانب الحرمة على الوجوب من جهة الدوران حتى يستكشف حكم المقام عنه.

فإن الوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم الحرام لا من جهة كون الحرام ، من حيث هو مقدّما على الواجب من حيث هو عند الدوران حتى يستنبط منه العلّة الظنيّة بملاحظته ونظائره على تقدير ثبوتها فيتعدى منه إلى المقام.

ومن هنا يحكم بترك الوضوء فيما لو انحصر الإناء في المشتبهين بالذهب

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

٢٣٢

والفضّة أو الغصب مع الانحصار. وكيف لا يكون لما ذكرنا من ثبوت البدل للوضوء؟ مع أن المفروض رفع اليد عن الواجب العيني وتجويز المخالفة القطعيّة من جهة رعاية الموافقة القطعيّة في جانب الحرام.

وستقف في مسألة دوران الأمر بين الواجب والحرام من مسائل الشك في المكلّف به كونه ممّا اتّفق العلماء ، بل العقلاء على خلافه ؛ فإن المخالفة القطعيّة لخطاب لا تصير مقدّمة للموافقة القطعيّة لخطاب آخر ، إلاّ إذا فرض رفع الخطاب من جهة أهميّة غيره في نظر الشارع. والأهميّة قد تكون في جانب الحرام ، وقد تكون في جانب الواجب ، ومن هنا جوّز الشارع أكل مال الغير إذا توقف حفظ النفس عليه ، وكذا التصرّف فيه عند توقّف إنقاذها عليه ، وجوّز تعريض النفس المحترمة للهلاك إذا توقّف حفظ بنية الإسلام عليه ، وهكذا.

(٤٧) قوله قدس‌سره : ( ثم لو قلنا بالتخيير فهل هو في ابتداء الأمر ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٨٩ )

في ان التخيير ـ على القول به ـ بدويّ أو استمراري؟

أقول : لا يخفى عليك أن الوجوه الثلاثة المذكورة إنّما تطرّق في المقام على القول باستفادة التخيير فيه من الأخبار الواردة في باب تعارض الخبرين.

فإنه إذا كان التخيير شرعيّا وكان الحاكم به الشرع ، يمكن القول بعدم إطلاق في دليل حكمه يشمل بعد الأخذ من حيث كونه مسوقا لبيان حكم أصل الأخذ

٢٣٣

بالخبرين أو الاحتمالين ، فلا تعرّض له لحكم بعد الأخذ بأحدهما ، وإن كان التخيير باقيا فيجري استصحاب المختار مطلقا ، أو إذا كان بانيا على الأخذ والاستمرار على ما اختاره ؛ نظرا إلى كون الحكم تابعا للاختيار ما دام باقيا وموجودا فيرتفع الموضوع بارتفاعه ، أو قاعدة الاحتياط مع قطع النظر عن الاستصحاب لا جمعا بينهما ، أو استصحاب التخيير الحاكم على الأول والوارد على الثاني على تقدير البناء على كفاية وحدة الموضوع في القضية المتيقّنة والمشكوكة مسامحة.

وأمّا إذا كان التخيير عقليّا فقد عرفت مرارا : أنه لا يعقل التّردّد والشك في حكمه حتّى ترجع فيه إلى الأصل ، فلا بد في المقام إما من الالتزام بكونه حاكما بالتخيير الاستمراري لوجود مناط حكمه بالتخيير قبل الأخذ فيه بعد الأخذ ؛ ضرورة عدم كون الأخذ العمل بمقتضى حكم العقل موجبا لترجيح المأخوذ على المطروح في الوقائع المستقبلة ، أو حاكما بالترجيح ، فعلى كل تقدير لا يتصوّر هنا شكّ وتردّد كما هو ظاهر.

* * *

٢٣٤

* المسألة الثالثة :

دوران الأمر بين المحذورين من جهة تعارض النصّين (١)

(٤٨) قوله قدس‌سره : ( فالحكم هنا : التخيير ؛ لإطلاق أدلّته ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٩١ )

أقول : المشهور بين الأخباريّين موافقة المجتهدين في الحكم بالتخيير في المسألة ؛ لسلامة أخباره عن معارضة أخبار التوقّف والاحتياط حتى ما ورد منها في باب التعارض كالمقبولة ، بل ما هو أخصّ منها كالمرفوعة كما هو ظاهر ، إلاّ بتوهّم جعل الوقف كناية عن ترك الفعل على ما عرفت سابقا وعرفت فساده هذا. مضافا إلى ما ورد من التخيير في خصوص المسألة.

نعم ، هنا خلاف آخر لا من جهة معارضة الأخبار ، بل من جهة وجود المرجّح لما دلّ على التحريم ، لما دل على الوجوب من المرجّحات المذكورة في المسألة الأولى وغيرها ، فيخرج المسألة عن موضوع أخبار التخيير فإنه فيما لا يكون هناك مرجّح لأحد المتعارضين على صاحبه ، لكنّه ضعيف لضعف المرجّحات المذكورة كما عرفت ، بل لو قيل بتقديم جانب التحريم لقاعدة الاحتياط في دوران الأمر بين التخيير والتعيين ونحوها في المسألة الأولى ، قلنا

__________________

(١) لم يعلّق الميرزا الآشتياني قدس‌سره على المسألة الثانية بشيء ولذلك لم يأت لها ذكر هنا.

٢٣٥

بالتخيير في المسألة من جهة الأخبار الحاكمة بالتخيير فيها ووجه الفرق والتفصيل ظاهر.

ثمّ بعد البناء على التخيير ، فهل يحكم بالاستمرار ، أو العدم ، أو التفصيل؟ وجوه تقدّمت إليها الإشارة وجها ، ودليلا.

والحق هو التخيير الاستمراري ، لا لإطلاق أخباره لما عرفت من ضعفه ، بل لاستصحابه الحاكم على استصحاب المختار.

نعم ، لو قيل بعدم كفاية المسامحة في الحكم بوحدة الموضوع في القضيّتين في باب الاستصحاب كما أشار إليه بقوله : « إلاّ أن يدّعى أن موضوع المسألة ... الى آخره » (١) تعيّن الحكم بالثاني ، لا من جهة استصحاب المختار ، بل للشك في حجيّة المطروح بعد عدم وجود الإطلاق للأخبار وعدم جريان الاستصحاب في المسألة الأصوليّة ، استنادا إلى عدم العلم ببقاء الموضوع بالمداقّة وعدم كفاية المسامحة العرفيّة ، وإن كان محلاّ للتأمّل عند شيخنا قدس‌سره بل مرجوحا عنده كما ستقف عليه في باب الاستصحاب ، ومن هنا أمر بالتأمّل في المقام.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٩٢.

٢٣٦

* المسألة الرابعة :

الدوران بين المحذورين من جهة اشتباه الموضوع

(٤٩) قوله قدس‌سره : ( وقد مثّل بعضهم (١) له باشتباه الحليلة ) (٢). ( ج ٢ / ١٩٣ )

__________________

(١) وهو صاحب الفصول في فصوله : ٣٦٣.

(٢) قال المحقّق الفقيه آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : ولعلّ نظر هذا البعض إلى ما لو تعدّد أطراف الشبهة كما لو علم بأنّ إحدى المرأتين زوجة والأخرى أجنبيّة واشتبهتا ؛ فإن العلم الإجمالي على هذا التقدير مانع عن اجراء الأصل فيكون كلّ واحدة منهما مثالا لما نحن فيه وإن كان الحكم بالتخيير بعد البناء عليه في خصوص هذا المثال مشكلا.

وأمّا ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من إجراء الأصل ففرضه فيما لو حلف على وطي زوجته واشتبهت عليه زوجته بأن رأي مثلا بحيال وجهه إمرأة واحتمل كونها زوجته احتمالا غير مقرون بعلم إجمالي في موارد ابتلاءه ؛ فإنّ الأصل فيها عدم الزوجيّة كما ذكره المصنّف فيخرج عن كونه مثلا لما نحن فيه.

ولا يخفى عليك إنّ ما فرضه المصنّف رحمه‌الله هو المناسب مثلا لما نحن فيه ؛ لإنّ الكلام إنّما هو فيما يقتضيه الإحتمالات بالنسبة إلى متعلّقه من حيث هو ، وبهذه الملاحظة لو لوحظت كلّ واحدة من الأطراف فهو مجرى الأصل ، وأمّا العلم الإجمالي الحاصل في المقام من ضمّ

٢٣٧

__________________

محتمل آخر مانع عن إجراء الأصل فهو أجنبيّ عمّا نحن بصدده فلاحظ وتدبّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ١٨٩.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

* قال السيد عبد الحسين اللاري قدس‌سره :

أقول : محلّ الكلام في المسألة ـ كسائر مسائل الباب ـ إنّما هو فيما لم يمكن في البين أصل موضوعي حاكم على ما يقتضيه الأصل الحكمي في المسألة ؛ فإن الكلام إنّما هو فيما يقتضيه الأصل الحكمي في المسألة لا غير ؛ لأن الأصل الموضوعي أمر غير مطّرد ، بل هو مختلف باختلاف الموارد والمواضع فليس الكلام في المسألة إلاّ كسائر مسائل الباب في ما لم يكن في البين أصل موضوعي.

ومن هنا يتضح لك وجه عدم صحّة التمثيل للمسألة باشتباه الحليلة الواجب وطؤها بالأجنبية ، لاشتماله على الأصل الموضوعي وهو أصالة عدم الزوجيّة بينهما الحاكم على ما يخالفه ويوافقه أصالة عدم الوجوب فيتعيّن الحرمة.

وعدم صحّة التمثيل أيضا بالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر لاشتماله أيضا على الأصل الموضوعي وهو أصالة عدم الحلف عليه والحاكم على ما يخالفه ويوافقه أيضا أصالة الإباحة الحلّيّة.

وأمّا فرض الماتن المثل للمسألة فيما اذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق وإشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة ، فهو وإن كان أولى من المثالين السابقين نظرا إلى معارضة الأصل الموضوعي فيه وهو أصالة عدم الفسق بمثله وهو أصالة عدم العدالة بناء على انّ كلاّ

٢٣٨

__________________

من الفسق والعدالة وجوديّان وانّه لا واسطة بينهما فيكون وجود الأصل الموضوعي فيه كعدمه إلاّ انّ الأولى منه ـ على ما قاله الأستاذ ( الفاضل الإيرواني ) دام ظله ـ هو التمثيل بما لو نذر شيئا ثم اشتبه المنذور عليه هل هو وطي الحليلة أو ترك وطيها أو هو فعل شيء او تركه؟

أقول : تمثيل الاستاذ بهذا المثال وإن كان أقرب من مثال المصنّف من جهة أن الفعل والترك من الأضداد التي لا ثالث بينهما بخلاف الفسق والعدالة على بعض الوجوه إلاّ انّه أبعد من جهة خروج مثاله عمّا نحن فيه من باب الشك في التكليف ودخوله في الشك في المكلّف به وذلك لأنّ المعيار المائز بين الشك في التكليف والمكلّف به : هو انه لو علمنا نوع التكليف وجهلنا متعلّقه سواء كان التكليف وجوبيّا أو تحريميّا ، فالشك إنّما هو في المكلّف به لا التكليف لعلمنا به.

وأمّا اذا علمنا جنس التكليف وجهلنا نوعه فيكون الشك حينئذ في التكليف كما إذا علمنا الالزام وجهلنا هل هو على وجه الوجوب أو الحرمة ، فالشك في التكليف ؛ لأنّا ما علمناه.

نعم ، قد يتّفق مورد يكون الشك في بادي الرأي في المكلّف به إلاّ انه بعد التأمّل يرجع إلى الشك في التكليف كدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ـ سيّما الإستقلالي منه ـ لأول الأمر إلى العلم التفصيلي في الأقلّ والشكّ الصّرف في الأكثر.

فتبيّن عدم انطباق شيء من الأمثلة المذكورة على ما نحن فيه.

نعم ، قد مثّل له بعض أصحاب البحث مثال منطبق سليم عن كلّ ما ذكر وهو جهر الخنثى

٢٣٩

أقول : لما كان المفروض البحث في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم لا الواجب والحرام ، فلا بدّ من التمثيل بما لا يكون هناك علم إجمالي يوجب دخول المثال في الشك في المكلف به ، فلا بد أن يكون محلّ الابتلاء في مسألة « المرأة المردّدة » و« المائع المردّد » ، بمرأة واحدة ، ومائع واحد. وأمّا لو فرض الابتلاء بمرأتين أو ما تعيّن يعلم بتحقّق خطابين إلزاميّين بالنسبة إليهما ، أحدهما : الوجوب ، والآخر : الحرمة ، فيخرج عن مفروض البحث كما هو ظاهر.

ثمّ إنه لا إشكال في عدم كون المقام الأول متعلّقا بالمقام من حيث إن الكلام في الأصل الحكمي مطلقا حتى في الشبهات الموضوعيّة فيما لم يكن هناك أصل موضوعي سليم عن المعارض يشخص حال الموضوع ويرفع الدوران عنه بحكم الشارع ، فإذا كان الحكم في المرأة المردّدة الرجوع إلى أصالة عدم تحقّق العلاقة الزوجيّة بينها وبين المكلّف ، فيحكم بحرمة وطئها من جهة الأصل المذكور ، فيرتفع الشكّ عن الحكم بالحكومة الشرعيّة وإن لم يرتفع واقعا.

وممّا ذكرنا يظهر : أنه لا معنى لإجراء أصالة عدم وجوب الوطئ بعد الأصل المذكور كما يستظهر من شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ؛ فإن الحكم بالحرمة من جهة

__________________

في الجهريّة وإخفاتها الدائر بين الوجوب والحرمة على تقديري ذكوريّته وأنوثيّته وكذا لبسها كلاّ من مختصّي الرّجال والإناث ، وكذلك كشف رأسها في الإحرام الدائر بين الوجوب والحرمة على تقديري الذّكوريّة والأنوثيّة » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٥٥.

٢٤٠