بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

المطلب الثاني : اشتباه الواجب بغير الحرام وهو قسمان :

* القسم الأوّل : دوران الأمر بين المتبائنين

ـ المسألة الأولى : فقدان النص

ـ المسألة الثانية : إجمال النص

ـ المسألة الثالثة : تعارض النصين

ـ المسألة الرابعة : إشتباه الموضوع

* تنبيهات دوران الأمر بين المتباينين

الأوّل : لو كان الإشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب.

الثاني : كيفيّة النّيّة في الصلوات المتعدّدة في اشتباه القبلة ونحوه.

٥٦١

المطلب الثاني : اشتباه الواجب بغير الحرام وهو قسمان :

* القسم الأوّل : دوران الأمر بين المتبائنين

ـ المسألة الأولى : فقدان النص

ـ المسألة الثانية : إجمال النص

ـ المسألة الثالثة : تعارض النصين

ـ المسألة الرابعة : إشتباه الموضوع

* تنبيهات دوران الأمر بين المتباينين

الأوّل : لو كان الإشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب.

الثاني : كيفيّة النّيّة في الصلوات المتعدّدة في اشتباه القبلة ونحوه.

٥٦٢

الثالث : وجوب كلّ من المحتملات عقلي لا شرعي.

الرابع : لو انكشفت مطابقة المأتي به للواقع قبل فعل الباقي.

الخامس : لو كانت محتملات الواجب غير محصورة.

السادس : هل يشترط في الإمتثال الإجمالي عدم التمكّن من الإمتثال التفصيلي؟

السابع : لو كان المشتبه أمرين مترتّبين شرعا؟

* القسم الثاني : دوران الأمر بين الأقل والأكثر (١).

__________________

(١) يأتي في بداية المجلّد الرابع.

٥٦٣
٥٦٤

المطلب الثاني :

اشتباه الواجب بغير الحرام

(١٢٩) قوله : ( المطلب الثاني : في اشتباه الواجب بغير الحرام وهو على قسمين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٧٧ )

اشتباه الواجب بغير الحرام وأقسامه

أقول : حاصل أقسام هذا القسم : هو أن الدوران لا يخلو ؛ إمّا أن يكون بين متباينين أو الأقلّ والأكثر الارتباطيين. وعلى كل تقدير ؛ إمّا أن يكون الاشتباه التردّد من جهة عدم الدليل على التعيين ، أو إجمال ما دلّ عليه ، أو تعارض الدليلين فيه ، أو من جهة اشتباه الأمور الخارجية.

والثلاثة الأول تسمّى بالشبهة الحكميّة ؛ من حيث عدم تبيّن أصل الموضوع للحكم الشرعي ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي لا محالة ، والأخيرة تسمّى بالشبهة الموضوعيّة ، وفي لسان بعض بالشبهة المصداقيّة.

فالكلام في كل من القسمين يقع في أربع مسائل ، ولمّا لم يفرق الحكم من

٥٦٥

حيث البراءة والاحتياط بين كون الدوران ثنائيّا ، أو ثلاثيّا ، أو رباعيّا ، وكذا بين الواجب والمستحبّ ، أو الواجب والمباح ، أو الواجب والمكروه ، لم يذكر لكلّ عنوانا مستقلاّ ، كما أنه لم يتعرّض لكون الشبهة بين القليل في القليل ، أو الكثير في الكثير ، إلاّ بتقريب بيان الفرق حكما بين الشبهة الغير المحصورة في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب والمقام بما ستقف عليه في الشبهة الموضوعيّة ، وإلاّ فأصل التقسيم جار في المقام غاية ما هناك ظهور عنوانهم في القسم الأوّل ، وإلاّ فالمناط موجود في المقامين كما لا يخفى.

ثمّ إن المقصود من الحرام في المقام كالحرمة في مسائل الشكّ في التكليف على ما عرفت الإشارة إليه ثمّة هو الحرام الذّاتي لا التشريعي ، وإلاّ فيدخل في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام كما هو واضح.

ثمّ إن ما أفاده من نفي كون المثالين الأولين من الأقلّ والأكثر بقوله : ( وليس المثالان الأوّلان ... الى آخره ) (١)(٢) ـ على القول بجزئيّة التّسليم وعدم جواز العدول ـ

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧٧.

(٢) قال المحقّق السيد اليزدي قدس‌سره الشريف :

« أمّا المثال الأوّل :! فتوهّم كونه من الأقلّ والأكثر في غاية الضعف ؛ لاختلاف كيفيّة صلاة الظهر والجمعة الكاشفة عن اختلاف حقيقتهما ، مضافا إلى اختلاف عدد الرّكعات.

وأمّا المثال الثاني : فقد يتخيّل كونه من الأقلّ والأكثر بدعوى : أنّ صلاة القصر والتمام

٥٦٦

ظاهر لا شبهة فيه أصلا ، وإن توهّم الإشكال في القصر والتمام من حيث كون التمام مشتملا على القصر ، غاية الأمر اختلاف محلّ التسليم فيهما ، لكنه كما ترى.

وأمّا على القول بعدم جزئيّته وجواز العدول ، فقد يتأمّل فيه في باديء النظر.

لكنّك خبير بفساده ؛ لأن مرجع القصر إلى أقل بشرط لا ، ومرجع المقام إلى أقلّ بشرط شيء ، لا لا بشرط ، فلا محالة يكون بينهما التباين. وجواز العدول لا يدلّ على عدم تباينهما ؛ إذ ليس العدول في المقام ، إلاّ مثل العدول عن العصر إلى الظهر هذا كله. مع أن الركعتين المخصوصتين باعتبار استحباب التسليم عقيبهما والخطبة كما في الجمعة تغايران أربع ركعات التمام والظهر كما لا يخفى.

__________________

فردان لحقيقة واحدة كالظهر مثلا ولا إختلاف بينهما إلاّ انّ الإتمام يزيد على القصر بركعتين وتشهد مع اتّفاق الكيفيّة فيكون نظير الصلاة مع السورة والصلاة بلا سورة.

لكنه ضعيف أيضا ؛ لأنّ الفرد الأقلّ وهو القصر إنّما يصحّ بشرط لا وبشرط عدم إلحاق الرّكعتين الأخيرتين فيباين الأكثر وهو بشرط الرّكعتين الأخيرتين ، وأمّا الصّلاة مع السورة وبلا سورة فالأقلّ فيها إنّما يصحّ لا بشرط ؛ إذ لو كان الواجب في الواقع هو الصّلاة بلا سورة لا ينافيه قراءة السورة ندبا ، ولو فرض دوران الأمر بين كون السورة جزءا أو مانعا يكون نظير القصر والإتمام من المتباينين ؛ لأن الأقلّ حينئذ يكون بشرط لا وبشرط عدم السورة ، والأكثر يكون بشرط السورة وهما متباينان كالقصر والتمام » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٦.

٥٦٧

(١٣٠) قوله : ( واعلم أنّا لم نذكر في الشبهة التحريميّة من الشكّ في المكلّف به ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٧٧ )

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره الشريف :

« محصّل المراد :

أنّ المحرّم المردّد بين الأقلّ والأكثر ليس كالواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر منقسما إلى قسمين : إرتباطي واستقلالي ، بل منحصر في الإستقلالي وبيان ذلك :

أنّ الواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر قد يكون استقلاليّا كأداء الدين الواجب المردّد بين درهم ودرهمين بمعنى : أنّ أجزاء الواجب لا يرتبط بعضها ببعضه فلو كان الواجب في الواقع أداء درهمين لا يتوقف إمتثاله بأداء مجموع الدرهمين ، بل يحصل الإمتثال بأداء درهم أيضا بقدر الدرهم ، لكن يبقى الاشتغال بدرهم آخر ، فالواجب ينحل بالأخرة إلى واجبين يدور الموافقة والمخالفة في كلّ منهما مدار موافقته ومخالفته لا الموافقة والمخالفة في الآخر.

وفي هذا القسم يرجع العلم الإجمالي بوجوب أداء درهم أو درهمين إلى العلم التفصيلي بوجوب درهم واحد على كلّ تقدير والشك في وجوب أداء الدرهم الآخر ابتداء ولا إشكال في كونه مجرى للبراءة.

وقد يكون إرتباطيّا كالصّلاة الواجبة المردّدة بين كونها مع السورة أو بلا سورة بمعنى أن أجزاءها مرتبطة بعضها ببعض ، فلو كان الواجب في الواقع هو الصّلاة مع السورة لا يحصل الإمتثال بالصّلاة بغير السورة بل تكون لغوا محضا وهذا القسم هو معركة الآراء في انه لو علم إجمالا بوجوب أحدهما هل هو مجرى للبراءة أو الإشتغال؟ ـ على ما يأتي تفصيله في

٥٦٨

__________________

المتن ـ

وأمّا الحرام المردّد بين الأقلّ والآكثر : فإن كان من قبيل الأوّل كقراءة العزائم للجنب والحائض المردّدة بين كون المحرّم عليها قراءة خصوص آية السجدة أو تمام السورة ، فلا شك انّه مجرى للبراءة كالشبهة الوجوبيّة ؛ لأنه يرجع إلى العلم بحرمة خصوص الآية تفصيلا والشك في حرمة ما سواها بدوا ؛ إذ لو كان المحرّم في الواقع تمام السورة وقرأ آية منها فقط فقد فعل الحرام بقدرها وحصل الإمتثال بالنسبة إلى الباقي.

وإن كان من قبيل الثاني ممّا كان الحرام مركّبا بوصف التركيب حتى لا تكون أجزاءه حراما كتصوير صور ذوات الأرواح وكقراءة ما زاد على السبع أو السبعين آية من القرآن للجنب والحائض ؛ فإن تصوير بعض الصور كيد واحدة أو رجل واحدة وكذا قراءة آية أو آيتين مما لا يصدق عليه المركّب ليس بحرام جزما ، وحينئذ فلو علم إجمالا بحرمة التصوير المردّد بين تصوير الصّورة التامة أو ما يشمل الصورة الناقصة بمثل عين أو يد أو رجل ، وكذا لو علم إجمالا بحرمة قراءة القرآن مردّدة بين ما زاد على السبع وبين ما زاد على السبعين ؛ فإنّ ذلك مورد البحث.

وغرض المصنّف : انه يرجع أيضا إلى الأقلّ والأكثر الإستقلالي في الشبهة التحريميّة كالقسم الأوّل منها ؛ لأن التصوير التام وكذا قراءة ما زاد على السبعين معلوم الحرمة تفصيلا ؛ فإنّه إمّا نفس الحرام أو مشتمل على الحرام ، والتصوير الناقص وكذا ما زاد على السبع ولم يبلغ السبعين مشكوك الحرمة بدوا فيكون مجرى للبراءة كالقسم الأوّل.

وبالجملة : يدور الأمر بين كون الحرام فردا واحدا من التصوير وهو التام فقط أو فردين منه

٥٦٩

__________________

أي التام والناقص ، فالتام متيقّن الحرمة والناقص مشكوك الحرمة بدوا مجرى للبراءة هذا غاية توضيح مرامه قدس‌سره.

والتحقيق : أنّ المحرّم المردّد بين الأقلّ والأكثر إذا كان مركّبا يتصوّر على صور ؛ لأنّه قد يكون مردّدا بين الأقل بشرط لا وبشرط عدم الزيادة عليه بحيث لو أتى بالزائد لم يفعل محرّما أصلا ، وبين الأكثر وهو الأقل بشرط شيء وبشرط الإتيان بالزائد معه بحيث لو لم يأت بالزائد لم يفعل محرّما ، وقد يكون مردّدا بين الأقلّ لا بشرط الزيادة وعدمها وبين الأكثر وهو الأقل بشرط الزيادة.

أمّا القسم الأوّل : فإنه يرجع إلى المتباينين وحكمه وجوب الإحتياط على ما مرّ في الشبهة المحصورة وهكذا في الشبهة الوجوبيّة أيضا لو دار بين وجوب الأقلّ بشرط لا والأكثر كان حكمه وجوب الإحتياط وليس داخلا في المسألة المعروفة المتنازع فيها وهو ظاهر.

والظاهر أنّ مراد المصنّف ليس هذه الصورة.

وأمّا القسم الثاني : فهو أيضا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون كلّ واحد من الأقلّ والأكثر دفعي الحصول.

والثاني : أن يكون تدريجي الحصول بحيث يوجد الأقل في ضمن الأكثر قبل حصول الأكثر ثم يوجد الأكثر بانضمام الأجزاء الزائدة.

فإن كان الأول فالظاهر أنه ينطبق على ما في المتن من أنّ الأكثر متيقّن الحرمة والأقلّ مشكوك الحرمة ابتداء ؛ لأنّ الأمر دائر بين كون الحرام كلا الفردين بحيث لو أتى المكلّف بأحدهما فعل محرّما أو بهما فعل محرّمين ، وبين كون الحرام خصوص الأكثر بحيث لو أتى

٥٧٠

__________________

بالفرد الأقلّ لم يفعل حراما ، فيكون الفرد الأقلّ مشكوك الحرمة بدوا والفرد الأكثر متيقّن الحرمة.

نعم ، لا يعلم أن الأكثر بتمام أجزاءه حرام أو بعضها ، وهذا لا أثر له بعد كون الفعل آني الحصول يوجد بايجاد واحد.

وإن كان الثاني كحرمة التصوير المردّد بين التام والناقص فلا يتم ما ذكره المصنّف من رجوعه إلى الأقل والأكثر الإستقلالي.

وما ذكره : من انّ الأكثر متيقّن الحرمة تفصيلا ، فيه : انه ليس كذلك ؛ لأنّه لم يعلم بعد أنّ المحرّم تمام الأكثر أو بعضه فهو باق على إجماله وإنّما يتم كلامه لو علمنا بأنّ الأكثر بجميع أجزاءه حرام.

والحق انه لا فرق بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة في الإرتباطي في الابتلاء على البراءة والإشتغال كلّ على مذهبه ؛ لأنّ من يدّعي الإشتغال في الشبهة الوجوبيّة يقول :

إنّا قد علمنا بالتكليف بواجب واقعي معيّن عند الله ، مردّد عندنا بين الأقلّ والأكثر ولا يحصل اليقين بالفراغ منه إلاّ بإتيان الأكثر ، ونحن نقول : يجري نظيره فيما نحن فيه بأنّا قد علمنا بالإشتغال بترك محرّم واقعي معيّن عند الله ، مردّد عندنا بين الأقلّ والأكثر ولا يحصل اليقين بامتثال ذلك التكليف يالواقعي إلاّ بترك الأقل والأكثر جميعا ؛ إذ لو إقتصر على ترك الأكثر وأوجد الأقلّ لم يتيقّن الإمتثال ؛ لاحتمال كون المحرّم هو الأقلّ المأتي به ، بل نقول :

إنّ هذا البيان يجري في الأقلّ والأكثر الدفعي الحصول أيضا بعينه كما لا يخفى.

ثم انه يرد على ما اختاره في المتن : جواز المخالفة القطعيّة نظير ما أورد على المحقّق القمّي

٥٧١

الفرق بين الأقلّ والأكثر في الشبهة الوجوبيّة

وبينهما في الشبهة التحريمية

أقول : أما أصل جريان التقسيم بين الأقلّ والأكثر في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب كجريانه في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام فهو مما لا شبهة فيه أصلا ، وعدم التعرّض لحكمه في المطلب الأوّل إنّما هو لما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة : من رجوع الشكّ والدوران بينهما فيه إلى الشكّ في أصل التكليف النفسي المستقلّ بالنسبة إلى الأقلّ ؛ حيث إن الأكثر معلوم الحرمة ولو من جهة اشتماله على الحرام. والأقل مشكوك الحرمة من جهة احتمال كونه هو المركّب المحرّم ، فينحلّ العلم الإجمالي إلى معلوم ومشكوك بالشكّ البدوي فيدخل في الشكّ في التكليف الذي عرفت حكمه في المقام الأوّل.

__________________

على ما اختاره من جواز ارتكاب أحد المشتبهين بالشبهة المحصورة : من انه يلزمه جواز المخالفة القطعيّة بارتكاب المشتبه الآخر مثلا لو جاز تصوير الصورة الناقصة ؛ لأنه من الشبهة البدويّة وارتكبه المكلّف جاز إتمامه أيضا ، لأن الشبهة بالنسبة إلى الإتمام أيضا شبهة بدويّة فيجوز إرتكابه ، غاية الأمر انه بعد الإتمام يعلم انه قد أتى بالحرام إمّا بالبعض أو الكل وتحصيل العلم بارتكاب الحرام لا دليل على حرمته » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣٧ ـ ٣٤٠.

٥٧٢

وهذا بخلاف دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في مفروض البحث ؛ فإن الأقلّ فيه متيقّن الوجوب وإنّما الشكّ في وجوب الزائد بالوجوب الغيري والفرق أن وجوب الأكثر يستلزم وجوب الأقلّ من غير عكس ، وتحريم الأكثر لا يستلزم تحريم الأقل ، كما أن تحريم الأقل لا يستلزم تحريم الأكثر ، وإن كان الإتيان بالأكثر إتيانا بالحرام من حيث الاشتمال من غير أن يكون للحرام أثر بالنسبة إليه ، فيرجع الأمر حقيقة إلى تحريم الأقلّ المتحقّق في ضمنه.

وهذا من جهة ما تقرّر في مسألة وجوب المقدّمة عندهم : من أن وجوب الشيء يستلزم وجوب ما يتوقّف عليه سيّما إذا كان من الأجزاء ، بخلاف تحريم الشيء ؛ فإنه لا يوجب تحريم مقدّماته إلاّ المقدّمة السببيّة عند المشهور ، ولا ينافي هذا ما قضى به النص والفتوى من تحريم بعض الأفعال المقصود به ترتّب الحرام عليه كغرس الخمر ، وبيع الخشب ليعمل صنما ، والمشي لسعاية مؤمن ، إلى غير ذلك مما لا يحصى ؛ فإن ذلك ليس من باب المقدّميّة والتحريم التبعي الغيري ، بل من حيث الإعانة والتحريم النفسي ؛ ضرورة استحالة اقتضاء المقدّميّة التحريم في حق غير فاعل الحرام كما هو الشأن بالنسبة إلى الواجب أيضا فهو خارج عن عنوان المسألة ، ورد التعبّد به خصوصا أو عموما.

نعم ، في كلام بعض من تأخّر : الحكم بتحريم ما يتوقّف عليه الحرام مطلقا إذا كان الغرض منه التوصّل إلى فعل الحرام. وهو كما ترى ، مما لا يقتضيه العقل الحاكم في المسألة.

٥٧٣

نعم ، لا بأس به على ما اختاره من حرمة التجرّي ، لكنّه بناء عليه أيضا يخرج عن عنوان الحرمة الغيريّة فهو يشبه قول بعض الأساطين بحرمة مقدّمة الحرام فيما قصد التوصّل بها إليه من حيث حرمة الإعانة على الإثم (١).

والحاصل : أن القول بحرمة المقدّمة الغير السببيّة بالنسبة إلى الحرام مما لم يعهد ، وإلاّ لزم الحكم بحرمة أكثر الأفعال المباحة بالذات من حيث كونها مقدّمة لمحرّم من المحرّمات ، فإن كان وجوب المركّب مستلزما لوجوب أجزائه وحرمة الأكثر غير مستلزمة لحرمة أجزائه كان الأقل عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأول متيقّن الإلزام ، فيحكم العقل بوجوب الإتيان به من حيث العلم بكون تركه سببا لاستحقاق العقوبة ، وفي الثاني مشكوك التحريم رأسا فيرجع بالنسبة إليه إلى البراءة.

فإن قلت : على القول بالرجوع إلى البراءة عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الواجب كما هو المختار وعليه المشهور ـ على ما سيجيء في محلّه ـ لا مناص من إرجاع الشك بالنسبة إلى الأكثر إلى الشك في أصل التكليف ، وإلاّ لم يكن معنى للرجوع إليها ـ على ما ستقف عليه ـ غاية الأمر رجوع الشكّ في الفرض بالنسبة إلى الأكثر إلى الشك في أصل التكليف وفي الدوران في الحرام

__________________

(١) أنظر كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء : ج ١ / ١٦٩ وشرح القواعد : ج ١ / ١٥٥ و١٦٠ و٢١٤.

٥٧٤

بين الأقلّ والأكثر بالنسبة إلى الأقل إلى الشكّ في أصل التكليف ، وهذا لا يؤثّر في جعل الأول من أقسام الشكّ في المكلّف به والثاني من أقسام الشك في التكليف بعد انحلال العلم الإجمالي فيهما إلى معلوم ومشكوك ، فلو لم يكن هذا الانحلال موجبا لخروج مورده عن الشكّ في المكلّف به لم يكن موجبا في المقامين ، وإن كان موجبا كان كذلك في المقامين فالفرق لا معنى له.

وأما الفرق بينهما برجوع الشك في تحريم الأقلّ إلى الشك في التحريم النفسي بخلاف الشكّ في وجوب الزائد ؛ فإنه يرجع إلى الشكّ في الوجوب الغيري ، ففاسد ؛ من حيث إن مورد البراءة الشكّ في وجوب الأكثر لا الجزء الزائد ووجوبه لا يكون إلاّ نفسيّا كحرمة الأقل.

قلت : الفرق بين الموضعين في غاية الظهور والوضوح على تقدير جعل مورد البراءة وجوب الأكثر لا الزائد ؛ فإن مجرى البراءة مطلق وجوب الأكثر لا خصوص النفسي وإن كان الثابت في الواقع على تقدير ثبوته هو النفسي ليس إلاّ ، إلاّ أنه لا يلاحظ بلحاظ النفسيّة عند الرجوع إلى البراءة ؛ فإن الوجوب المعلوم بالنسبة إلى الأقل هو مطلق الإلزام لا خصوص النفسي ؛ فإنه مشكوك الثبوت له كما أنه مشكوك الثبوت للأكثر أيضا.

فإن شئت قلت : إن دوران الأمر في الحرام بين الأقلّ والأكثر كدوران الأمر في الواجب بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين في الخروج عن الشكّ في المكلّف به ،

٥٧٥

منتهى الأمر كون الأقلّ معلوم الوجوب في الفرض والأكثر معلوم الحرمة في الحرام المردّد.

ومن هنا لم يجعله الأستاذ العلاّمة من صور الشك في المكلّف به ، مع أنه قد قيل بالرجوع إلى الاشتغال في بعض فروضه ، بل هو الظاهر عن الأكثر في دوران الفائتة على ما عرفت شرح القول فيه.

* * *

٥٧٦

المسألة الأولى :

إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة عدم النص

(١٣١) قوله : ( أما الأول : فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٧٩ )

في حرمة المخالفة القطعيّة

أقول : لا يخفى عليك أن الحق في تحرير المقام : أن يسلك ما سلكه في إثبات المطلب الثاني في إثبات المطلب الأوّل ، وبعد إثباته يتشبّث في إثبات المطلب بذيل حكم العقل المستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل ، كما صنعه في إثبات الحرمة المخالفة القطعيّة في الشبهة المحصورة وغيرها ، وما أفاده وإن كان كافيا في إثبات المرام ، إلاّ أنّا نتكلّم في حكم الموضعين بعض الكلام لعلّه يوجب توضيح المقام على أوائل الأفهام.

فنقول : أمّا المخالفة القطعيّة فلا إشكال في قبحها وحرمتها على ما يشهد به ضرورة العقل بعد ملاحظة شمول الخطاب للمعلوم بالإجمال ، وعدم المانع من تنجّزه على المكلف ، ويحكم به العقلاء كافّة على التقدير المذكور ، ولعله ممّا لا

٥٧٧

خلاف فيه أصلا ؛ إذ المخالف ؛ إمّا يدّعي عدم شمول الخطاب ، أو المانع عنه بعد ثبوت المقتضي على ما ستقف عليه.

أمّا عموم الخطاب وشموله للمعلوم بالإجمال ؛ فلعدم إمكان تخصيص الخطابات الواقعيّة والأحكام النفس الأمريّة بالعالم بها تفصيلا سواء كان بجعل الحاكم وتخصيصه من أول الأمر وفي زمان الخطاب ، أو نصب الدليل عليه من الخارج ؛ من حيث لزوم الدور على تقدير التخصيص بأيّ وجه كان ؛ ضرورة تأخّر العلم عن المعلوم ، فكيف يتوقّف المعلوم على العلم؟

ومن هنا يعلم أنه لا اختصاص لما ذكرنا بالعلم التفصيلي ، بل هو جار في العلم الإجمالي أيضا ؛ حيث إن توقّف تعلّق الحكم الواقعي عليه موجب للدور أيضا ، ولذا ذكرنا في غير موضع من كلماتنا ـ تبعا للعلامة قدس‌سره وغيره ـ : أن شرطيّة العلم للتكاليف في حكم العقل ليس على حدّ سائر الشروط كالقدرة والعقل والتميز في حكمه ؛ فإنها شروط لأصل تعلّق الحكم ، والعلم بالمعنى الأعمّ شرط لتنجّزه ، بل ما ذكرنا ليس مختصا بالعلم ، بل يجري بالنسبة إلى جميع الإدراكات من حيث تأخّرها عن المدرك ، فلا يمكن توقّفها عليها ولذا قيل باستحالة التصويب على بعض تقريراته على ما عرفته في محلّه ؛ ضرورة توقّف الظن على المظنون ، فكيف يؤخذ فيه ويجعل قيدا لموضوعه؟

نعم ، يمكن أن يجعل الظن بحكم المخاطبين موضوعا لحكم غيرهم ، كما أنه يمكن أن يجعل كلاّ من الظن والشكّ بحكم موضوعا لحكم آخر سواء كان هذا

٥٧٨

الحكم الآخر حكما ظاهريّا أو واقعيّا من سنخ حكم متعلّقه ، أو من غير سنخه ، كما أنه يمكن ذلك بالنسبة إلى العلم أيضا ؛ بأن يؤخذ العلم بحكم واقعي موضوعا لحكم آخر من غير سنخ حكم لمتعلّقه ، وبهذا يفترق مع الظن من حيث إنه يمكن أن يؤخذ موضوعا واقعا وفي نفس الأمر لحكم من سنخ حكم متعلّقه ، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الأول من التعليقة تبعا لشيخنا ( دام ظلّه ) هذا.

عدم شرطيّة العلم للتّنجيز

ولكن الذي يقتضيه التحقيق ـ على ما أسمعناك في طي كلماتنا السّابقة ـ عدم شرطيّة العلم بالمعنى الأعمّ من الإجمالي في التنجّز أيضا في الأحكام الشرعيّة مطلقا سواء كانت من الاعتقادية ، أو العمليّة مع التمكّن من الفحص عن الواقع. ومن هنا يلزم العقل النظر في معجزة مدّعي النّبوّة ، ويحكم باستحقاق الجاهل الملتفت العقاب على مخالفة الواقع مع ترك الفحص على المختار المشهور عند الأصحاب وإن زعم بعض ـ فيما سيجيء من كلامه في الخاتمة ـ كون عقابه على ترك الفحص والتعلّم.

نعم ، لا إشكال في كون العلم بالمعنى الأعمّ شرطا لتنجّز التكليف في الموضوعات الخارجيّة ومعذورية الجاهل البسيط بها عقلا وشرعا ـ على ما عرفته مرارا وستعرفه مفصّلا هذا.

٥٧٩

وأمّا عدم المانع عن تنجّز الخطاب بعد شموله وثبوت مقتضاه في نفس الأمر ؛ فلأن المتصوّر منه في المقام ليس إلاّ الجهل التفصيلي بالمأمور به ، ومانعيّته إمّا بحكم العقل وإمّا بحكم الشرع.

أمّا مانعيّته عقلا : فهي إمّا من جهة عجز الجاهل عن الإتيان بالواقع حتى يرجع عدم الجهل إلى شرط من شروط وجود المأمور به ؛ من حيث إن الجهل مانع عن وجوده ، وإمّا من جهة عدم قابليّة الجاهل لتوجّه التكليف إليه ، وإمّا من جهة حكمه بقبح عقاب الجاهل تفصيلا على مخالفة الواقع ، وشيئا من هذه الوجوه لا يكون موجودا.

أمّا الأول ؛ فظاهر ؛ ضرورة تمكّن الجاهل تفصيلا من إتيان الواقع سيّما في التوصّليات التي لا تعتبر في صحتها ، بل وقوعها واجبا قصد التقرّب ، فضلا عن قصد الوجه ، نعم ، لو قيل باعتبار قصد الوجه التفصيلي في التعبديّات حتى فيما لا يتمكّن المكلّف من تعيينه تعيّن القول في الفرض بعدم تنجّز الخطاب.

لكنّه مما لم يقل به أحد ظاهرا ، بل لا يعقل القول به أيضا ؛ حيث إن لازمه القول بعدم وجود الحكم واقعا في حقّ الجاهل ؛ لأن القدرة على المقدّمة الوجودية شرط للوجوب بالاتّفاق ، بل بالضرورة ـ على ما قرّر في بحث المقدّمة ـ فيلزم عليه الدور أيضا وإن كان مع الواسطة.

ومن هنا تعرف أن جعل هذا الوجه والوجه الثاني دليلا لنفي التنجيز لا يخلو

٥٨٠