بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

بالوصول إلى الحرام ، أو ارتكبهما من غير هذا القصد.

وإن لم يكن منجّزا للخطاب المعلوم بالإجمال عنده ، فلا وجه للالتزام بعدم جواز ارتكابهما إذا قصد منه التوصّل إلى الحرام.

نعم ، لا إشكال أنه على التقدير الأول يكون ذم القاصد أشدّ عند العقلاء ، لكنّه نظير الذم على المتجرّي لا يوجب شيئا عند الأستاذ العلامة.

ودعوى : قبح الارتكاب على تقدير قصد التوصّل عند العقلاء مع قطع النظر عن التزامهم بإيجاب العلم الإجمالي تنجز الخطاب مطلقا كما ترى.

ومنه يظهر صحة ما ذكره بعض أفاضل من تأخر (١) : من إلزام القائل بالجواز بإفضاء قوله إلى جواز التوصّل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين تفصيلا على وجه يوجب الاشتباه حتى بالنسبة إلى المثال الذي ذكره من الجمع بين الأجنبيّة والزوجة ؛ ضرورة أنه بعد القول بعدم تأثير العلم الإجمالي في تنجز الخطاب عند العقل لم يفرّق فيه من الأمثلة ، غاية ما في المثال أن يقال : إن اهتمام الشارع في حفظ الأنساب يمنع عن الجمع فيه ، وهو لا يصلح للمنع ؛ لأن ما ذكر حكمة لم يقم دليل على وجوب مراعاتها دائما هذا.

ولكن لا يخفى عليك : أنه يمكن القول بعدم صحة ما ذكره هذا الفاضل على

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٨١.

٢٨١

تقدير البناء على جواز الارتكاب في الشبهة المحصورة وعدم الالتزام بالإطاعة رأسا وإن كان الارتكاب مع قصد التوصّل أيضا ؛ حيث إن الجمع على النحو الذي ذكره مع ارتكاب المشتبهين ، مخالفة عند العقلاء للخطاب التفصيلي المتعلق بالأمر المعلوم قبل إيجاد الاشتباه ، لكنّه كما ترى لا تعلق له بما أفاده الأستاذ العلامة من قصد التوصّل.

(٧٠) قوله : ( كما مثّلنا سابقا ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٠٩ )

لا فرق بين الخطاب الواحد والمردّد بين العنوانين

أقول : لا يخفى عليك أن التمثيل بالمثال الذي ذكره لم يسبق منه ( دام ظلّه ) في هذا الجزء من « الكتاب » فلعلّه أراد سبقه في الجزء الأول منه.

وكيف كان : لا إشكال في صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) وإن خالف غير واحد ، منهم : بعض الأفاضل ممن قارب عصرنا ؛ نظرا إلى أن الشك بالنسبة إلى كل من الخطابين يرجع إلى الشك الابتدائي ؛ لفرض عدم العلم بوجود متعلّقه والنهي عن العنوان المردّد بين العنوانين أيضا لم يقع في أحد من الأدلّة ، فلا مانع من البناء على الرجوع إلى الأصل في المقام هذا.

ولكنك خبير بفساد هذه المقالة واندفاع هذه الشبهة ؛ لأن الحاكم في مسألة الإطاعة والمعصية وفي مسألة تأثير العلم الإجمالي ليس إلاّ العقل ، ونحن نرى بالمشاهدة والعيان استقلال العقل بعدم الفرق في الحكم بوجوب الإطاعة بعد العلم بوجود متعلّق الخطاب الشرعي إجمالا بين كون الخطاب مردّدا بين

٢٨٢

الخطابين وبين كونه مفصّلا مميّزا عما عداه.

ويوضّح ما ذكرنا غاية الإيضاح ما ذكره الأستاذ العلامة : من فرض الكلام في شيء واحد مرددا أمره بين كونه أحد العنوانين الذين نهى الشارع عنهما فإن ما ذكر من الدليل بعينه جار فيه أيضا ، مع أن ضرورة العقل يحكم بعدم جوازه وليس الفرق بينه وبين المقام إلاّ تردّد العنوان المردّد بين العنوانين وعدمه ، والمفروض أنّ تردّد المتعلّق لا أثر له عند العقل في زعم هذا القائل في حكمه بتنجّز الخطاب ، فلم يبق إلاّ تردّد عنوان الحرام.

ولهذا بنى على وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة.

ومنه يظهر فساد ما يقال في الفرق بين المقام والمثال : من حصول العلم التفصيلي بالحرام في المثال ، وإن كان متولّدا من العلم الإجمالي بخلاف المقام هذا. وقد تقدّم تفصيل القول في ذلك مشروحا في الجزء الأول فراجع إليه.

ثمّ إن ظاهر « الكتاب » بل صريحه نسبة الخلاف إلى صاحب « الحدائق » ولكن الذي يحكي عنه في تنبيهات المسألة لا تعلّق له بالتفصيل في المقام ، بل صريحه التفصيل بين كون المشتبهين مندرجين تحت عنوان واحد وغيره كما ستقف عليه ، فراجع إلى « الحدائق » (١) لعلّك تظفر على مخالفته في المسألتين وإن كنا لم نقف عليها بعد المراجعة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ج ١ / ٥١٧.

٢٨٣

* المقام الثاني : وجوب اجتناب جميع المشتبهات (١)

(٧١) قوله : ( لنا على ما ذكرنا : أنه إذا ثبت ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١٠ )

أقول : مما يحكم به العقل ضرورة ـ بعد ثبوت الاشتغال على وجه اليقين ـ وجوب تحصيل القطع بالبراءة مهما أمكن ، ولذا اشتهر بين العوام فضلا عن الخواص : أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة ، وهو معنى ترك ارتكاب كلام المشتبهين في المقام. والوجه في حكمه بذلك وجوب الدفع الضّرر المحتمل الأخروي عنده ، كما يحكم بوجوب النظر إلى المعجزة لذلك ، وهكذا في جملة من الأمور.

وهذه القاعدة الظاهر أنها مسلّمة بين الكلّ ، وأما من لم يحكم بوجوب الاحتياط في المقام مع اعترافه بتنجّز الخطاب فإنّما هو من جهة الأخبار الكاشفة عن عدم احتمال الضرر في فعل أحدهما ؛ حيث إن إجراءها بالنسبة إليه لا مانع عنه على ما يدّعيه حسبما ستقف عليه.

نعم ، ربّما يجري في لسان بعض متأخّري المتأخرين من الأصحاب (٢)

__________________

(١) وبعبارة أخرى : المراد بالمقام الثاني هنا البحث عن وجوب الموافقة القطعيّة للتكليف المعلوم وعدمه.

(٢) المحقق الخوانساري والفاضل القمي في بعض كلماته وإن كان يظهر من بعض آخر موافقته

٢٨٤

عدم وجوب دفع الضّرر المحتمل لعدم الدليل عليه ؛ لأن الذي يحكم به العقل هو دفع الضّرر المقطوع ، أو المظنون ، وأما الضّرر المحتمل فلا يحكم العقل بوجوب دفعه.

ولكنك قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه في مطاوي كلماتنا السابقة.

(٧٢) قوله : ( وبعبارة أخرى : المكلف (١) ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١٠ )

إثبات الملازمة بين حرمة المخالفة القطعيّة

ووجوب الموافقة القطعيّة

أقول : أراد بذلك دعوى الملازمة في نظر العقل بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ؛ فإن حرمة الأولى إنّما هو من جهة تنجّز التكليف بالمعلوم بالإجمال عند العقل ، وقد عرفت : أن العقل مستقلّ بأن طريق الامتثال بعد ثبوت الاشتغال وتنجّز الخطاب هو الاحتياط المطلق وتحصيل الموافقة القطعيّة.

فالقول بالأولى وعدم القول بالثانية حسبما هو قضية دعوى الخصم ، مما لا معنى له.

__________________

لما ذكر. منه « دام ظلّه ».

(١) كذا وفي الكتاب : « وبعبارة أخرى : التكليف بذلك المعلوم إجمالا ... ».

٢٨٥

نعم ، هنا مطلب آخر قد أشار إليه الأستاذ العلاّمة في الجزء الأول من « الكتاب » وهو : أنه لو فرض عدم حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل ، فهل يحكم بقبح المخالفة القطعيّة وعدم جوازها أو لا؟ وقد بنى على حكمه بقبحها مع قطع النّظر عن حكمه بوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأن حكم العقل بدفع الضّرر المقطوع لا دخل له بحكمه بدفع الضّرر المحتمل ، وإن كان الثاني أيضا ثابتا عندنا هذا كلّه.

مضافا إلى إمكان القول بلزوم الاحتياط مع قطع النظر عن حكم العقل أيضا لدلالة بعض الأخبار عليه كالمرسل المروي في بعض كتب الفتاوى « اترك ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس » (١) المجبور ضعفه بالشّهرة المحققة والإجماع المنقول المحكي في « الكتاب » عن جماعة ، وغيره من الأخبار التي ستمرّ عليك.

(٧٣) قوله : ( قلت : أصالة الحلّ غير جارية هنا ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١١ )

أقول : لا يخفى عليك أن محصّل ما ذكره ( دام ظلّه ) في الجواب عن السؤال المذكور يرجع إلى وجهين :

أحدهما : أنه بعد العلم الإجمالي لا يجري أصالة الحل في المشتبهين أصلا حتى يتحقّق التعارض بينهما فيحكم بالتخيير ؛ لأن طريق الإطاعة في نظر العقل

__________________

(١) مصباح الشريعة : ٥٧ ، عنه بحار الأنوار : ج ٦٧ / ٢٩٦ ـ ح ١.

٢٨٦

بعد تنجّز الخطاب هو لزوم الاحتياط ، فلا معنى لورود الدليل الشرعي على خلافه. هكذا استفيد من كلام الأستاذ العلاّمة بالنظر إلى ما يقتضيه النظر الجليّ في كلامه.

لكنك خبير بتطرّق المناقشة إلى هذا البيان ؛ لأنك قد عرفت منا ومن الأستاذ العلامة : أن حكم العقل بلزوم الاحتياط معلّق على عدم ورود الدليل من الشارع على جواز ارتكاب بعض الأطراف في الشبهة المحصورة ، فالإذن من الشارع وارد على حكم العقل بلزوم الاحتياط ، فلا يمكن أن يصير لزوم الاحتياط مانعا من الإذن الشرعي.

فالأولى أن يقال ـ في تقرير عدم جريان أصالة الحلّ بعد العلم الإجمالي ـ : أنه لا يخلو :

إمّا أن يجري بالنسبة إلى كلّ واحد من المشتبهين بالخصوص على سبيل اليقين ، بمعنى كون المراد من الأخبار إثبات الحلّيّة في كل منهما بالخصوص.

وإمّا أن يجري بالنسبة إلى كل واحد منهما على سبيل البدليّة والتخيير على ما هو مدعى الخصم.

وإمّا أن يجري بالنسبة إلى أحدهما المعيّن عند الله الغير المعيّن عندنا ، بمعنى كونه المراد من الأخبار.

وإمّا أن يجري بالنسبة إلى أحدهما الغير المعيّن الذي يرجع بالمآل إلى الثاني.

٢٨٧

لا سبيل إلى الأوّل ؛ لمنافاته العلم الإجمالي ، مضافا إلى عدم قول الخصم به أيضا.

ولا إلى الثاني ؛ لعدم الدليل عليه عدا ما عرفته من أخبار البراءة وهي غير دالّة عليه قطعا ؛ لأن مفادها إثبات الإباحة في كل مشتبه على سبيل التعيين ، فإن قيل بشمولها لصورة العلم الإجمالي فلا بد من القول بجواز المخالفة القطعيّة. والمفروض التسالم على عدم جوازها وإن قيل بعدم شمولها حسبما [ هو ](١) قضيّة التحقيق ، فلا بد من القول بعدم دلالتها على الإباحة في صورة وجود العلم الإجمالي أصلا ورأسا.

ولا إلى الثالث ؛ لوجوه لا يخفى على المتأمل ، مضافا إلى عدم نفعه للمستدل كما لا يخفى. ولا إلى الرابع ؛ لأن أحد المشتبهين ليس فردا آخر مغايرا للمشتبهين ، وإنما هو مفهوم منتزع عنهما ، مضافا إلى أن الخصم إنّما يريد إجراءها بالنسبة إلى كل من المشتبهين حتى يحكم بالتخيير من باب التعارض ، فتعيّن أن يقال : بأن العلم الذي [ هو ](٢) غاية للحليّة في أخبارها أعمّ من التفصيلي والإجمالي ، هذا ملخّص الكلام في الوجه الأول.

ثانيهما : أنه بعد تسليم جريان أصالة الحليّة بالنسبة إلى كل من المشتبهين وتعارض الأصلين فيهما نمنع من جواز الرّجوع إلى التخيير ؛ لأن مقتضى الأصل

__________________

(١ و٢) زيادة يقتضيها السياق.

(١ و٢) زيادة يقتضيها السياق.

٢٨٨

في تعارض الأصلين هو الحكم بالتساقط لا التخيير (١) ، حتى لو قلنا بأنه الأصل في تعارض الخبرين. كيف! ولا نقول به ، وإنّما نحكم فيه بالتخيير من جهة الأخبار الواردة به المذكورة في محلّها هذا.

وتفصيل الكلام فيما يتعلّق بالمقام يطلب ممّا كتبناه في مسألة تعارض الأدلة على سبيل الاستقلال وممّا نعلّقه على ما كتبه الأستاذ العلامة فيها.

(٧٤) قوله : ( فإن قلت : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل شيء لك حلال ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى اختيار الشق الثاني من الشقوق المتقدّمة عن قريب.

وتوضيحه : أن المراد من شمولها لكلّ من المشتبهين على البدل في صورة العلم الإجمالي ، ليس هو استعمالها في التخيير البدليّة في المقام والتعيين في غيره ؛ حتى يلزم استعمال للفظ في أكثر من معنى فيمنع منه بناء على ما عليه الأكثر ، بل

__________________

(١) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

« لا معنى للتعارض والتحكيم في الأصول ؛ فإنّ الأصل وظيفة صرفة ولا كشف له ؛ والتعارض فرع التنافي في الدلالة ، مع أنّ العلم بانقطاع الأصل في أحد الأمرين لا يصلح لأن يوجب التعارض ، بل يوجب السقوط من غير تعارض ، كما إذا علم بفساد إحدى المعاملتين فتسقطان عن الإعتبار ، لا أنّهما تتعارضان ، وكما اذا علمنا ببطلان إحدى البيّنتين ؛ فإنه يوجب سقوط الجميع عن الأعتبار لا التعارض » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ٣٧.

٢٨٩

بناء على القول بالجواز أيضا ؛ حيث إن ظاهر الأخبار هو التعيين لا التخيير ، بل المراد أن مفاد الأخبار ليس إلاّ التعيين في جميع المقامات ، لكنّها إنّما تدلّ على الإباحة التعيينية في مشكوك الحلّيّة بمعنى دلالتها على عدم الاعتناء باحتمال الحرمة وجعل محتمل الحليّة بمنزلة مقطوعها والبناء على كونه هو الموضوع المحلّل.

وهذا المعنى في المشتبهات بالشبهة البدويّة موجود بالنسبة إلى جميعها ؛ لأن المفروض عدم العلم الإجمالي فيها ، فالبناء على حلّيّة بعضها لا تنافي البناء على حليّة بعضها الآخر ، فتدل على حلّيّة جميعها يقينا. وأمّا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فلا يوجد إلاّ بالنسبة إلى بعضها ؛ لأن الموجود فيها ليس إلاّ شكّ واحد واحتمال كون بعضها حلالا وبعضها الآخر حراما ، فالبناء على حلّيّة بعضها وكونه الموضوع المحلّل يستلزم عقلا للبناء على كون غيره هو الموضوع المحرّم ، فالتخيير الموجود فيها إنّما هو من لوازم وحدة الشكّ فيها ووجوده على البدل في كلّ من المشتبهات ، لا من جهة استعمال اللفظ في التخيير.

(٧٥) قوله : ( الظاهر من الأخبار المذكورة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنه لما كان دليل الخصم مركبّا من مقدمتين :

أحدهما : كون الأخبار مسوقة لبيان وجوب البناء على كون محتمل التحريم هو الموضوع المحلّل.

٢٩٠

ثانيتهما : وحدة الشك في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

فأراد الأستاذ العلامة إبطال دليله وإفساده بمنع كلتا المقدّمتين ، أمّا ما ذكره في منع المقدمة الأولى (١) فمراده مما لا يحتاج إلى البيان إلاّ أن الإشكال في توجّه المنع إليها.

توضيح الإشكال : أن القول بكون الأخبار مسوقة لبيان وجوب البناء على كون المشكوك هو الموضوع المحلّل ، يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يكون مسوقة للدلالة على وجوب البناء على كون المشكوك

__________________

(١) قال المحقق الكرماني معلّقا على قول الشيخ الأعظم : « ولو سلّم » :

« يعني ولو سلّم ظهور الأخبار في وجوب البناء على كون المشتبه هو الموضوع المحلّل ، فظاهرها البناء على كون كلّ واحد من المشتبهين هو الموضوع المحلّل لا أحدهما المحلّل والآخر المحرّم ، فالبدليّة المدّعاة غير مستفادة من الأخبار.

وأنت خبير : بأن القائل لم يمنع من الآخر بدلالة الأخبار ، بل لمكان العلم الإجمالي فحلّيّة كلّ واحد من المشتبهين بني المكلّف عليها بدلالة الأخبار يلزمها البناء على حرمة الآخر وعدم البناء على حلّيّته فالآخر ممنوع من جريانه مجرى الأوّل بالعلم الإجمالي.

فإن قلت : فما الفرق بين فإن قلت الأوّل والثاني؟

قلت : مبني الأوّل على التمسّك بالأصل والثاني بالإخبار ، وإن كان الأصل أيضا مأخوذا منها.

وأيضا مبنى الأوّل على تعدّد الشك والمشكوك والثاني على اتّحاد الأوّل وتعدّد الثاني ولعلّ قوله قدس‌سره : « فتدبر » إشارة إلى ما ذكرنا » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٢٤٥.

٢٩١

هو الموضوع المحلّل المفروض وجوده قطعا على سبيل الإجمال ، وكونه منطبقا عليه.

ثانيهما : أن يكون مسوقة للدلالة على وجوب البناء على كون المشكوك هو الحلال واقعا وكونه موضوعا محلّلا في نفسه كذلك لا كونه الموضوع المحلّل المفروض وجوده والفرق بينهما غير مخفيّ على المتأمل.

إذا عرفت هذا فنقول :

إن أراد الخصم من قوله : هو المعنى الأوّل ، ففساده وورود ما ذكره ( دام ظلّه ) عليه غير خفيّ على ذي مسكة ؛ لكنّه لا يقول به قطعا وليس بمراد له جزما ، كيف! ولازمه تخصيص دلالة الأخبار بناء عليه بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

وإن أراد المعنى الثاني ، فلا إشكال في صحته ؛ لأنه معنى عدم الاعتناء باحتمال الحرمة كما لا يخفى ، وهو يكفي في إثبات دعواه على تقدير تمامية المقدّمة الثانية ؛ فإنه إذا فرض وحدة الشك في الشبهة المحصورة فمن اللّوازم العقليّة للحكم بحلّيّة بعض أطرافها والبناء على كونه حلالا واقعا هو البناء على حرمة الآخر ، فهذا المعنى إنّما يحصل من فرض وحدة الشك لا من جهة دلالة الأخبار عليه فتأمل.

وأمّا ما ذكره في منع المقدّمة الثانية فبيانه : أن مقابل احتمال الحلّية في كل

٢٩٢

من المشتبهين في الشبهة المحصورة هو احتمال الحرمة فيه لا في صاحبه ، فكل منهما محتمل الحلّيّة والحرمة ، فالشك موجود في كل منهما ، فبناء على تعميم الأخبار لصورة وجود العلم الإجمالي وجعل الغاية هو العلم التفصيلي لا بد من الحكم بحلّيّة كليهما ، والمفروض التسالم على عدم جوازه.

نعم ، حلّيّة أحدهما في الواقع تلازم حرمة الآخر لمكان العلم الإجمالي ، لا أن مقابل احتمال الحليّة في أحدهما احتمال الحرمة في الآخر ؛ حتى يكون معنى إلغائه فيه إعمال احتمال الحرمة في الآخر هذا.

فتبيّن مما ذكرنا كلّه : أن إذن الشارع في بعض أطراف الشبهة إن لم يكن ممنوعا عقلا على الوجه الذي عرفته ، إلاّ أنه ما لم يرد الدليل القطعي به ولا الظّنّي المعتبر ، يحكم العقل بوجوب الاحتياط والبناء على عدم الإذن ، فقد عرفت : أن في أخبار البراءة ليس من الإذن عين ولا أثر ، فاللازم الحكم بوجوب الموافقة القطعيّة وعدم جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة.

(٧٦) قوله : ( وأما لما ذكره بعضهم ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١٤ )

نقل كلام الفاضل النّراقي

أقول : لا يخفى عليك أن هذا البعض الفاضل النّراقي في « مناهجه » فإنه قال ـ في الجواب في توضيح الجواب الثالث عما استدلوا به ثانيا للقول بوجوب الاحتياط : من أن المفروض وجود النجس أو الحرام القطعي فالحكم بطهارة

٢٩٣

الجميع وحلّيّته حكم بطهارة النجس وحلّيّة الحرام ، وبطهارة واحد وحلّيّته ترجيح بلا مرجّح ، بعد ما أجاب عنه أوّلا بالمعارضة بوجود الحلال والطاهر القطعيين أيضا ، وثانيا وثالثا بما يطول المقام بذكره ـ ما هذا لفظه :

« والتوضيح : أنه منع الشارع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجواز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه ، وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ، وكل منهما بشرط الانفراد مجهول الحرمة فيكون حلالا ، ولا نرجّح أحدهما حتى يلزم الترجيح بلا مرجّح ، ولا المجموع حتى يلزم العلم باستعمال الحرام ».

ثم قال :

« فإن قيل : الحرام المعلوم في كل منهما بشرط الاجتماع إمّا هو المشروط ، أو الشرط ، أو مجموعهما ، والكل باطل. قلنا : غير الثلاثة ؛ فإن هنا أمورا أربعة : مجموع الشرط والمشروط وكل واحد منهما بعينه ، وأحدهما لا بعينه ، أي : المجهول عندنا. والحرام هو الأخير ونجاسته كل بشرط الاجتماع باشتماله على ذلك لا باعتبار نفسه ولا شرطه ، وإذا ترك واحد لم يشمل الباقي على الواحد لا بعينه من المجموع ، فلذا يجوز استعماله ». انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

وقد أطال الكلام في توضيح مرامه بإيراد أسئلة وأجوبة عنها لا ثمرة مهمّة

٢٩٤

في نقله ومن أراد الوقوف عليه فليراجع إلى كتابه (١).

(٧٧) قوله : ( والجواب عن ذلك ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١٤ )

أقول : قد عرفت ما هو المبنى للترديد من كون الغاية في الأخبار حصول العلم التفصيلي فتشمل المشتبهين جميعا ، أو الأعمّ منه ومن العلم الإجمالي فلا يشمل أحدهما.

__________________

(١) مناهج الأحكام في أصول الفقه : ٢١٧.

٢٩٥

(٧٨) قوله : ( وإن أريد : أنّ الممنوع عنه ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢١٥ )

استقلال العقل بوجوب الموافقة القطعيّة

بعد ثبوت الإشتغال

أقول : لا يخفى عليك بداهة استقلال العقل وحكم العقلاء قاطبة بوجوب

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« هذا الشقّ من الترديد يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يريد أنّ حرمة المخالفة العلميّة صارت سببا لوجوب إبقاء مقدار الحرام ومانعا عن إجراء أصالة الحلّ فيه بحيث لو خالف وارتكبه بعد ارتكاب ما عدا مقدار الحرام كان حراما يعاقب عليه لو صادف الحرام الواقعي وإلاّ كان تجرّيا ولم يحصل حرام يعاقب عليه ؛ لأنّ ما ارتكبه أوّلا ممّا عدا مقدار الحرام كان مرخّصا فيه بدليل حلّ الشبهة وما ارتكبه أخيرا كان حلالا في الواقع وإن كان ممنوعا عنه في الظاهر.

الثاني : أن يريد القائل أنّ المخالفة العلميّة حرام بمعنى كون العلم بالمخالفة سببا لكون المحرّم الواقعي الموجود في البين حراما فعلّيا يعاقب عليه وإن كان المحرّم ما ارتكبه أوّلا وحينئذ فمعنى ترخيص الشارع له في الفرض ليس إلاّ الترخيص بشرط أن لا يرتكب مقدار الحرام بعده وإلاّ فهو حرام يعاقب عليه بشرط ارتكابه بعده بانيا على ذلك من أوّل الأمر كما هو أحد الإحتمالين ، أو مطلقا ولو لم يكن بانيا على ارتكاب الجميع من أوّل الأمر لكن بدا له وارتكب الجميع على الإحتمال الآخر الأظهر.

وكيف ما كان : جوابه بجميع الإحتمالات ما ذكره في المتن » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٦٣.

٢٩٦

تحصيل الموافقة القطعيّة بعد ثبوت اشتغال الذمة بالأمر المردّد على ما عرفت تفصيل القول فيه ، بل أقول : إن قضية ظاهر كلمات العلماء أيضا تسليم ذلك ؛ لأن الوجوب الذي حكم جماعة بنفيه في مقدّمة الواجب حتى بالنسبة إلى المقدّمة العمليّة على تقدير تسليم شمول كلامهم لها هو غير الوجوب المبحوث عنه في المقام ؛ لأن المدّعى في المقام هو الوجوب الإرشادي لا الغيريّ التّبعيّ.

والفرق بينهما غير خفيّ على ذي مسكة ؛ فإن الأول من منشأت العقل ، والثاني من منشأت الشرع ، وإن كان مدركه العقل على تقدير القول بوجوب المقدّمة وثبوت الملازمة عند العقل بين طلب الشيء وطلب ما يتوقف عليه ، ولما كان وجوب تحصيل العلم من باب الإرشاد فلا يتعلّق بمقدّمته إلاّ الوجوب الإرشادي المبني على رفع الضّرر المحتمل ، ولما كان الوجوب بهذا المعنى مسلّما عندهم لمطلق المقدّمة ؛ ضرورة حكم العقل بلزوم تحصيلها من جهة تحصيل الواجب ، قيل بخروج المقدّمة العلميّة عن محل النزاع ، وإلاّ فالتحقيق كما فصّلنا القول فيه في بحث الملازمة خروج مطلق المقدمة عن محلّ النزاع بهذا المعنى.

وبالجملة : لا إشكال في أن النزاع في بحث المقدّمة في الوجوب الغيريّ التبعيّ لا الإرشاديّ الثابت في المقدّمة العمليّة حسبما فصّلنا القول فيه في محلّه هذا.

مع أنا لا نحتاج إلى اتفاق العلماء حتى بمنع ثبوته أو كشفه ؛ نظرا إلى كون النزاع في المسألة العقليّة ؛ لأن حكم العقل بالوجوب على سبيل الضرورة من باب

٢٩٧

وجوب دفع الضرر المحتمل يكفي مؤنته الاستدلال بغيره هذا كله ممّا لا إشكال فيه إن شاء الله.

إنّما الإشكال فيما ذكره ( دام ظلّه ) من منع حرمة المخالفة العمليّة التي تعلّق العلم بها بعد المخالفة ؛ فإنه كيف يجامع ما بنى عليه ( دام ظلّه ) في غير مورد من كلامه : من استقلال العقل وحكم العقلاء قاطبة بقبح المخالفة القطعيّة وكونها مبغوضة عندهم مع قطع النظر عن حكمهم بوجوب الموافقة القطعيّة ولو حصلت تدريجا كارتكاب أحد الإناءين بعد ارتكاب الآخر؟

وكلّما تأمّلت لم يظهر لي ما يدفع به الإشكال والتدافع بين كلاميه ، هذا كلّه بناء على ما ذكره.

وأمّا بناء على ما ذكرنا : من التلازم في حكم العقل والعقلاء بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة بمعنى أنهم لو لم يحكموا في مورد من الموارد بالثاني من غير ما يمنع عنه من إذن الشارع وغيره ، لم يحكموا بالأوّل أيضا فلا إشكال في صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) من الإيراد على الوجهين ، فتدبّر.

(٧٩) قوله : ( ومما ذكرنا يظهر : فساد الوجه الثاني ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢١٦ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« وأيضا يرد عليه : أنّ مجموع الأطراف ليس شيئا وراء آحاد الأطراف التي حكمت بحلّيّتها

٢٩٨

أقول : قد عرفت ـ من كلام الفاضل المتقدّم ذكره ـ : أن حرمة المجموع ليس باعتبار نفسه ، وكذا حرمة كل بشرط الاجتماع ليس باعتبار شرطه ، بل باعتبار الحرام الواقعي الموجود فيهما المعيّن عند الله الغير المعيّن عندنا ، فلا يعقل أن يكون لوصف الاجتماع وانضمام الجزء الأخير علّيّة في حرمة الجزء الحرام قطعا ، وإنّما يكون له مدخل في حصول القطع بتحقّق الحرام ، فإذا فرضنا عدم حكم العقل بقبح تحصيل العلم بتحقق الحرام فلا معنى للحكم بحرمة ما هو سببه كما لا يخفى ، فإثبات حرمته بدون إثبات حرمة تحصيل العلم بتحقّق الحرام دونه خرط القتاد.

(٨٠) قوله : ( أو بضميمة ما دل على المنع ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢١٦ )

أقول : لا يخفى عليك ما في انضمام الضميمة المذكورة من حيث دلالتها على خلاف المدّعى والمقصود ؛ فإنّ المقصود في المقام إيقاع التعارض بين ما دل على جواز الارتكاب في الشبهة المحصورة ، وما دل على المنع عن ارتكاب الحرام الواقعي حتى يجمع بينهما بحمل ما دل على الجواز على جواز ارتكاب بعض الأطراف والاجتناب عن الباقي من باب البدليّة إن كان له ظهور في ارتكاب الجميع. ومعلوم أن هذه الضميمة تدل على المنع لا على الجواز حتى

__________________

بمقتضى أخبار الحلّ إلاّ بالإعتبار ، وأيضا لو كان بهذا الإعتبار محرّما لكونه معلوم الحرمة على ما ذكرت حصل التعارض بينه وبين ما دلّ على حلّيّته باعتبار الآحاد يحتاج ترجيحه إلى دليل مفقود » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٦٤.

(١) أنظر الهامش رقم ١ من الفرئد الأصول : ج ٢ / ٢١٦.

٢٩٩

يجعل منضمة إلى ما يكون المقصود منه الدلالة على الجواز.

اللهم إلا أن يقال : إن الغرض من هذا الوجه الثاني : الاستدلال بما دل على جواز ارتكاب بعض مصاديق الشبهة الغير المحصورة ، فإن كان ظاهرا في ارتكاب البعض ولم يكن ظاهرا في ارتكاب الكل فلا إشكال ؛ فإنه يحمل على البدليّة ، فلا ينافي ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي على ما عرفت مرارا. وإن كان ظاهرا في ارتكاب الجميع فلا بدّ من صرفه وحمله على إرادة بعض الأطراف ؛ نظرا إلى تقبيح العقل الإذن في الجميع من حيث كونه إذنا في المعصية.

وهذا هو المراد من دليل المنع ، لا ما يتوهّم منه : من دليل تحريم العنوان الواقعي وبعد الصرف يحصل الجمع بينه وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي بجعل البعض الممنوع بدلا على ما عرفت.

فقوله : « على تقدير ظهوره في جواز تناول الكل » (١) لا بدّ أن يكون مذكورا قبل قوله : « على جواز تناول الشبهة » أو مقصودا قبله ، كما أن المراد من الدلالة على الجواز في الجملة ولو بالنسبة إلى بعض الأطراف ، فعلى هذا لا يتوجّه على العبارة شيء فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢١٦.

٣٠٠