بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

سلكه بعض السادة من أفاضل أهل العصر عند مناظرتي معه في المسألة للقول بوجوب الاحتياط عن ملاقي بعض المشتبهين.

ثمّ إنه لا فرق في فساد هذا الوجه أيضا بين المسلكين للقول بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة كما هو ظاهر.

فتبيّن ممّا ذكرنا كله : أنه لا مناص عن القول بما ذهب إليه المشهور في المسألة : من عدم وجوب الاحتياط عن ملاقي بعض المشتبهين والرجوع إلى الأصل الجاري فيه. نعم ، لو حكمنا بوجوب الاجتناب عن المشتبهين فيما كانا مسبوقي النجاسة من جهة الاحتياط بعد إلغاء الاستصحابين ، بل من جهة الاستصحاب ـ نظرا إلى عدم لزوم مخالفة قطعيّة لتكليف إلزامي من العمل بالاستصحابين في الفرض على ما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا وسنفصّل القول فيه في محلّه ـ لم يكن بدّ من القول بوجوب الاجتناب عن الملاقي من جهة الحكم بتنجّسه في مرحلة الظاهر من جهة استصحاب نجاسة الملاقى ولا يعارضه أصالة الطهارة في الملاقي من جهة حكومته عليها كما هو ظاهر ، ولعلّه خارج عن مورد كلام المشهور وإن كان شيخنا يزعم إطلاقه كما ستقف على كلامه في ذلك.

كما أنه لا يكون بدّ من الاحتياط عن الملاقي فيما تحقق له طرف بحيث يعلم يتنجّس أحدهما كما إذا لاقى الشيئان المشتبهين بأن لاقى أحدهما أحدهما ولاقى الآخر الآخر فيما انحصر العلم الإجمالي في الشيئين لعين ما عرفت من

٤٠١

الدليل لوجوب الاحتياط بالنسبة إلى المشتبهين.

(١١٤) قوله قدس‌سره : ( ولو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٤٤ )

أقول : ما تقدّم من الكلام كلّه في حكم الملاقي إنّما هو بالنسبة إلى إحدى صور المسألة وهي : ما لو كان ملاقاة شيء لأحد المشتبهين بعد العلم الإجمالي وكان الملاقى ـ بالفتح ـ موجودا.

بقي الكلام في حكم باقي الصور المتصوّرة في المسألة وهي أربع صور لا خامس لها :

الأولى : ما لو كانت الملاقاة قبل العلم الإجمالي مع بقاء الملاقى ـ بالفتح ـ ولا إشكال في عدم وجوب الاحتياط عن الملاقي في هذه الصورة أيضا كالصورة السابقة لعين ما عرفت من الوجه في تلك الصّورة.

الثانية : ما لو كانت الملاقاة قبل العلم الإجمالي وحصل العلم بعد فقد الملاقى ـ بالفتح ـ ولا إشكال في وجوب الاحتياط عن الملاقي ـ بالكسر ـ في هذه الصورة وقيامه مقام الملاقى في وجوب الاجتناب عنه ، أمّا على ما اختاره غير واحد من المسلك للحكم بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة من تعارض الأصلين في المشتبهين تساقطهما والرجوع إلى قاعدة الاحتياط من جهة العلم الإجمالي ، فواضح ؛ حيث إن الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ في الفرض لا محالة بالأصل في صاحب الملاقى ؛ حيث إنه لم يجر الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ حتى يعارضه الأصل في صاحبه ويبقى الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ سليما بعد

٤٠٢

تعارضهما وتساقطهما.

أمّا قبل حصول العلم الإجمالي فظاهر ؛ لعدم شكّ فيه ، أو عدم معارض للأصل الجاري فيه مع فرض الشكّ فيه. أمّا بعده فلفرض عدم وجوده حتى يجري الأصل فيه ويعارض الأصل في صاحبه ؛ ضرورة عدم جريان الأصل في المعدوم ؛ لأن حكم الشارع بالبناء على طهارة الشيء إنّما يستقيم بالنسبة إلى ما يمكن حكمه بوجوب الاجتناب عنه والمعدوم ليس قابلا لذلك جزما.

فإن شئت قلت : إن المعدوم الذي لا يمكن وجوده لا يمكن تعلّق الحكم الشرعي به سواء كان واقعيّا أو ظاهريّا ترخيصيّا أو إلزاميّا فإذا لم يجر الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ كان الأصل في صاحبه معارضا للأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ لا محالة فيتساقطان ويرجع إلى الاحتياط بالنسبة إليهما ؛ حيث إنه يلزم من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إليهما طرح العلم الإجمالي الموجود فيهما فلا بدّ من الحكم بالاحتياط الكليّ على ما هو الوجه في الحكم بوجوب الاحتياط في أصل مسألة الشبهة المحصورة بالفرض.

وبالجملة : المحذور اللازم من الرجوع إلى الأصلين في أصل المسألة يلزم من الجروع إلى الأصلين بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ وصاحب الملاقى ـ بالفتح ـ فلا مناص عن الرجوع إلى قاعدة الاحتياط اللازم هذا على مسلك التعارض والتساقط والرجوع إلى قاعدة الاحتياط في أصل المسألة ، وأمّا على المسلك الذي اخترناه تبعا لشيخنا ووفاقا لغير واحد : من عدم جريان أصالتي الطهارة والإباحة فيما وجد العلم الإجمالي المنجّز للخطاب لحصول الغاية الرافعة

٤٠٣

للأصلين وكون الاحتياط مرجعا من أول الأمر فيجب الاحتياط عن الملاقي ـ بالكسر ـ في الفرض أيضا ؛ نظرا إلى ما عرفت مرارا وستعرفه : من عدم الفرق في مانعيّة العلم الإجمالي من الأصل بين تعلّقه بالخطاب المفصّل المنجّز على كل تقدير وبين تعلقه بالخطاب المردّد المنجّز كذلك.

ضرورة تعلّق العلم في الفرض بالقسم الثاني ؛ حيث إنه يعلم بعد العلم بنجاسة أحد المشتبهين في المقام بتعلّق أحد الخطابين بالنسبة إليه وهو قوله :

« اجتنب عن النجس » ، على تقدير كون الباقي من المشتبهين مصداقا له أو قوله :

« اجتنب عن المتنجّس » ، على تقدير كون النجس هو المفقود.

وأمّا عدم الالتزام بذلك في الصورتين الأوليين ؛ فلما عرفت : من عدم ترديد في الخطاب المعلوم بالإجمال أصلا غاية ما هناك احتمال وجود خطاب آخر بالشكّ البدوي فيرجع بالنسبة إليه إلى الأصل السليم.

الثالثة : ما لو كانت الملاقاة بعد العلم الإجمالي مع فقد الملاقى ـ بالفتح ـ بعده أيضا لا إشكال في هذه الصّورة في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي وعدم قيامه مقام الملاقى أيضا على كل من المسلكين في وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي.

أمّا على مسلك التعارض والتساقط فسلامة الأصل في الملاقي في الصورة كالصورتين الأوليين عن معارضة الأصل في صاحب الملاقى لسقوطه من جهة المعارضة للأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ فلا يمكن عوده بعد فقده فيكون الأصل في الملاقي سليما ولو لا ذلك لأمكنت الحيلة في الحكم بجواز ارتكاب أحد

٤٠٤

المشتبهين بإتلاف أحدهما وإبقاء الآخر حيث إنه يعود الأصل فيه سليما بناء على التوهم المذكور ، مع أنه كما ترى بمكان من الضعف والسقوط بحيث لم يتوهمه أحد.

وأمّا على ما اخترنا من المسلك في وجوب الاحتياط فالأمر أوضح ؛ لعدم جريان الأصل في المشتبهين في الفرض أصلا حتى يتوهّم المنع من الرجوع إلى الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ.

فإن شئت قلت : إن الملاقي في الصورة ليس طرفا للعلم الإجمالي أصلا ، فكيف يؤثّر في المنع عن الرجوع إلى الأصل فيه؟

وتوهّم العلم الإجمالي بالخطاب المردّد في الفرض قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه في الصورتين الأوليين.

الرابعة : ما لو كانت الملاقاة قبل العلم الإجمالي مع كون فقد الملاقى وحصول العلم متقارنين ، ولا إشكال في الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ في هذه الصورة وقيامه مقام الملاقى كالصورة الثانية على المسلكين فإن تقارن الفقد مع حصول العلم أوجب عدم الأثر للعلم بالنسبة إلى المفقود وقيام ما لاقاه مقامه فيكون الأصل فيه معارضا لا محالة للأصل مع الطرف الآخر ، كما أنّ العلم الإجمالي بتنجّسه أو نجاسة الطرف الآخر يكون مؤثّرا في وجوب الاحتياط بالنسبة إليهما فالمسلكان لوجوب الاحتياط يقتضيان الحكم به في هذه الصورة من غير فرق بينهما أصلا كما لا يخفى.

نعم ، لمّا كان المختار عندنا من المسلكين : الأخير منهما تبعا لشيخنا قدس‌سره

٤٠٥

وكان المعلوم بالإجمال في هذه الصورة ـ كالصّورة الثانية ـ الخطاب المردّد وكان في تأثيره كلام ، بل وجوه ـ تقدّم شرح القول فيه في الجزء الأول من « الكتاب » (١) والتعليقة (٢) ، وإن كان المختار إلحاقه بالخطاب المفصّل مطلقا ـ أمر شيخنا الأستاذ العلاّمة بالتأمل (٣) عقيب الفراغ من بيان حكم الصّورة الثانية المشاركة للمقام في الحكم.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٩٤.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ٦١ ـ ٦٢.

(٣) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« يعني اذا حصل العلم الإجمالي قبل فقد الملاقي والملاقاة فقد تنجّز التكليف متعلّقا بالمشتبهين وحصل التعارض بين أصليهما فعند حصول الملاقاة لا مانع من إجراء الأصل في الملاقي ، وفقد الملاقي لا يؤثّر بعد الحكم بطهارة الملاقي في أن يجعل التعارض بين أصله وأصل الطرف الآخر كما هو كذلك إذا كان العلم بعد فقد الملاقي والملاقاة.

والحاصل : أن فقد الملاقي بعد العلم والملاقاة لا يوجب انقلاب حكم الملاقي بالطهارة إلى الحكم بوجوب الإجتناب.

ويمكن أن يناقش في ذلك : بأنّا إنّما حكمنا بطهارة الملاقي قبل الفقدان لمكان التعارض بين الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ والأصل في الطرف الآخر فلمّا فقد الملاقى وسقط الأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ بارتفاع موضوعه قام الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ مقامه وحصل التعارض بينه وبين الأصل في الطرف الآخر كما في صورة فقد الملاقي قبل العلم الإجمالي على ما صرّح به في المتن قبيل هذا ولعلّه إلى ذلك أشار بقوله : ( فتأمل ) فتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٠٥.

٤٠٦

* التنبيه الخامس :

قوله : ( الخامس : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات فإن كان ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٤٥ )

__________________

(١) قال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« الحكم بالتفصيل المذكور غير مختص بصورة الإضطرار إلى البعض ، بل يعمّ صورة تلف البعض أيضا. نعم ، لو انتفى حكم البعض بواسطة قيام أمارة شرعيّة كالبيّنة أو القرعة على تعيين المحرّم أو النجس ، جاز ارتكاب الباقي مطلقا من دون التفصيل المذكور.

وأمّا لو انتفى حكم البعض من غير أمارة شرعيّة فلا فرق في إتيان التفصيل المذكور بين استناد إنتفاء الحكم إلى الإضطرار أو إلى إنتفاء الموضوع كالتلف » إنتهى.

أنظر تعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٢.

* وقال قدس‌سره أيضا معلّقا على قول المصنّف قدس‌سره : ( فالظاهر عدم وجوب الإجتناب عن الباقي ) :

« أقول : والسّر في ذلك ان العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي المقتضي للتكليف فكما ان الإضطرار إلى الشيء المعيّن من الموانع التي اذا سبق على العلم التفصيلي المقتضي للتكليف رفع موضوعه عن مورد الإضطرار ، وإذا تأخّر عنه أو كان المضطر إليه غير معيّن رفع حكمه عن مورد الإضطرار بمقدار مانعيّة الإضطرار لا أزيد ، كذلك الإضطرار إلى الشيء المعيّن اذا سبق على العلم الإجمالي المقتضي للإحتياط رفع موضوعه ، فلم يبق لتبعيض حكمه ـ وهو الإحتياط ـ مسرح ، وإذا تأخّر عنه أو كان المضطرّ اليه غير معيّن رفع حكمه

٤٠٧

__________________

عن مورد الإضطرار بمقدار مانعيّة الإضطرار لا أزيد.

ألا ترى أنّ التكليف بعد تنجّزه يقتضي الإمتثال بالعلم التفصيلي ، وإذا وجد المانع عنه فبالظن التفصيلي ، وإذا وجد المانع عنه فبالظنّ الإجمالي وهكذا إلى أن يصل المانع الى حدّ الوهم ولم يسقط التكليف بعد تنجّزه في شيء من مراتب وجود المانع إلاّ بمقدا مانعيّة المانع بحكم العقل والعرف ، ومقدار مانعيّة الإضطرار إلى حد المشتبهين معيّنا إذا حصل بعد العلم الإجمالي المقتضي لحرمة المخالفة القطعيّة ، ولوجوب الموافقة القطعيّة هو منع وجوب الموافقة القطعيّة فقط ، ويبقى حرمة المخالفة القطعيّة القاضية بوجوب الإجتناب عن الباقي غير المضطرّ اليه ، سليمة عن المانع والمعارض.

وكذا مقدار مانعيّة الإضطرار إلى أحدهما على البدل ولو حصل قبل العلم الإجمالي هو منع وجوب الموافقة القطعيّة لا منع حرمة المخالفة القطعيّة.

ووجه كون الإضطرار المتقدّم على العلم الإجمالي إلى أحد المشتبهين على التعيين رافعا لموضوع العلم الإجمالي : أنّ هذا الإضطرار بعد تعلّقه بالمعيّن المحتمل لكونه الحرام واقعا لم يبق في المشتبه الآخر إلاّ مجرّد احتمال الحرمة فينقلب موضوع العلم الإجمالي بالحرمة إلى مجرّد الشك البدوي وهو الإحتمال.

ووجه أنّ الإضطرار المتأخّر عن العلم الإجمالي إلى أحد المشتبهين معيّنا والإضطرار إلى أحدهما على البدل لم يرفعا موضوع العلم الإجمالي وإنّما يرفعان حكمه بمقدار المانعيّة :

أمّا في الصورة الأخيرة فوجهه : أن الإضطرار في الواقع إنّما يتعلّق بالمباح المعيّن وإن قنع في الظاهر بأحد محتملاته لا على التعيين كما قنع في الأخذ بالحالة السابقة في

٤٠٨

__________________

الإستصحاب فيبقى موضوع العلم الإجمالي وهو الحرام الواقعي وما قنع الشارع به عنه إضطرارا على حاله.

وأمّا في الصورة الأولى فوجهه : انّه وإن لم يعلم تعلّق الإضطرار بالمباح واقعا ، إلاّ انّ مجرّد احتمال تعلّقه به لا بالحرام كاف في بقاء موضوع العلم الإجمالي بالحرام المنجّز للتكليف فتدبّر.

ولكن لا يخفى ان الفرق المذكور بين الصّورة الأولى وسائر الصّور الثلاثة بكون الإضطرار المتقدّم على العلم الإجمالي إلى أحد المشتبهين على التعيين رافعا لموضوع العلم الإجمالي بخلافه في سائر الصّور الأربع إنّما هو مبني على ما ذهب اليه الماتن هو في التنبيه السابق :

من أنّ خروج أحد أطراف الشبهة من تحت الإبتلاء مانع من تنجّز التكليف أو أنّ دخوله شرط في تنجّزه.

وأمّا على ما ذهب اليه أستاذنا العلاّمة [ الفاضل الإيرواني ( المتوفى سنة ١٣٠٦ ه‍ ) ] : من أنّ متعلّق الأحكام الطبائع لا الأفراد وأن الدخول والخروج تحت الإبتلاء لا مدخليّة له في شيء من شروط التنجيز فمن البيّن أنّ تقدّم الإضطرار كتأخّره ، وتعيين المضطر اليه كعدم تعيينه لا يرفعان موضوع العلم الإجمالي ولا يمنعان من اقتضاء المقتضي لتنجيز حكمه المتعلّق بالطبائع المطلقة من قيد الأفراد وغيرها ، خصوصا على تقدير عدم كون العلم كالعقل والقدرة من الشروط العقليّة لتنجيز التكليف حتى يكون تأخيره مانعا من تحقّق التكليف قبله ، بل الجهل عذر والعلم كاشف عن سبق تنجّز الأحكام الواقعيّة على وجه يستوي فيه العالم والجاهل ، بل الموجود والمعدوم كما هو مذهب المخطّئة وعدم انحصار التكليف

٤٠٩

__________________

بالظاهر ومؤدّي الطرق الظاهريّة ويصدّقه قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل الملزم بها وجوب شكر المنعم ووجوب تحصيل المعرفة والنظر في المعجزة وصحّة عقوبة جميع الكفرة حتّى المخدّرات في الحجر على كلّ ما يفوتهم من الأصول والفروع ولو كانت محتملة » إنتهى.

أنظر تعليقه على فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٣ ـ ٣٩٥.

* وقال صاحب قلائد الفرائد ( ج ١ / ٤٦٥ ) :

« أقول : مرتقى الأقسام أربعة ؛ لأن المكلّف إذا اضطرّ الى ارتكاب بعض الأطراف فإمّا أن يكون هذا البعض معيّنا أو غير معيّن ، وعلى التقديرين : فإمّا أن يكون الإضطرار إليه قبل العلم الإجمالي ـ وبحكمه صورة المقارنة ـ أو بعده.

أمّا الأوّل : ـ أعني ما إذا كان الإضطرار إلى البعض المعيّن وحصل قبل العلم الإجمالي ـ :

فالظاهر عدم وجوب الإجتناب من الباقي ؛ لأنّ مناط وجوب الإجتناب إمّا تعارض الأصول ، او أنّ المناط هو تحقق وجوب الإجتناب عن كل واحد على تقدير العلم التفصيلي بحرمته ، والمقام فاقد لكل منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإضطرار يوجب سقوط الأصل في طرف المضطرّ اليه فيكون الأصل الجاري في الباقي سليما عن المعارض.

وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير العلم التفصيلي بحرمة المضطرّ اليه لا يجب الإجتناب عنه.

وأمّا الثاني ـ أعني ما إذا كان الإضطرار اليه بعد العلم الإجمالي ـ : فالمحقّق فيه وجوب الإجتناب عن الآخر ، لأن الحرام بعد ثبوته يجب الإجتناب عنه ولا بد في مقام إمتثاله من

٤١٠

__________________

تحصيل العلم تفصيلا أو إجمالا ، وإن لم يكن فالظنّ المعتبر وإن لم يكن فلا بد من الإمتثال الإحتمالي ، وكون المقام فاقدا للأوّل والثاني لا يوجب عدم مراعاة الأخير فيه ، وهذا معنى قوله رحمه‌الله : « لأنّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلميّة ... ».

وقد يستدلّ لوجوب الإجتناب عن الباقي تارة بالإستصحاب وأخرى بقاعدة الإشتغال.

وفيه : أمّا الأوّل : فبأنه إن أريد به استصحاب الموضوع ـ أعني الخمر المعلوم بالإجمال مثلا ـ فهو من الأصول المثبتة. وإن أريد به استصحاب الإشتغال فهو بمحل المناقشة عند المصنّف.

وإن أريد به استصحاب وجوب الإجتناب. ففيه : انه حكم عقلي لا مسرح للإستصحاب فيه.

وأمّا الثاني : فهي وإن كانت من الأصول المحكمة لكن جريانها في المقام بمعزل عن الثبوت.

توضيحه : ان الشك في بقاء التكليف وعدمه :

تارة يكون منشأه الشك في حصول الإمتثال بالنسبة إليه وعدمه. كما إذا اشتبه له القبلة وصلّى إلى بعض الأطراف ؛ فإن منشأ الشك في بقاء التكليف فيه إنما هو الشك في حصول الإمتثال به.

وأخرى يكون منشأه الشك في بقاء الموضوع ، كما إذا أمر باكرام زيد العالم ثم اشتبه بالجاهل وفقد أحدهما فإن منشأ الشك في بقاء التكليف فيه إنّما هو الشك في بقاء الموضوع وفقده.

وما هو مسلّم الثبوت من مورد التمسّك بالقاعدة المرقومة إنما هو الأول دون الثاني ، وذلك لأنّها إنما بعثت من حكم العقل بلزوم إطاعة المولى فلا نعمل بها إلاّ في موارد الشك في حصول الإمتثال بخلاف القسم الثاني الذي يكون ما نحن فيه من قبيله ؛ فإن منشأ الشك في

٤١١

__________________

بقاء التكليف فيه هو الشك في بقاء الموضوع والمفروض فيما نحن فيه عدم جريانه.

وأمّا الثالث والرابع : فالحكم فيهما وجوب الإجتناب عن الباقي ، أمّا اذا كان الإضطرار بعد العلم الإجمالي فواضح. أمّا اذا كان قبله فوجه الفرق بينه وبين القسم الأوّل : أنّ الإضطرار فيه لكونه إلى معيّن يوجب سقوط موضوع الأصل عن طرف المضطرّ اليه أعنى الشك فيكون الأصل في الباقي بلا معارض بخلاف المقام ؛ فإن الإضطرار فيه لكونه إلى غير معيّن لا توجب زوال موضوع الأصل فيه ؛ لبقاء الشك حينئذ وإنّما يرفع أثره أعني وجوب الإجتناب عن المضطرّ اليه ، فالإضطرار في الأوّل مزيل للموضوع وفي الثاني مزيل للحكم وهذا هو الفارق » إنتهى.

* وقال المحقق للفقيه آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : توضيح الفرق بين ما لو اضطرّ إلى واحد معيّن قبل العلم الإجمالي وبين ما لو اضطرّ اليه بعده : هو أنّ الإضطرار إلى الحرام رافع لحرمته واقعا ؛ إذ ما من حرام إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطرّ إليه ، فمتى إضطرّ إلى واحد معيّن يحتمل أن يكون ذلك المعيّن هو الحرام الواقعي المردّد المرتفع حرمته لأجل الإضطرار ، كما انه يحتمل أن يكون الحرام المعلوم ذلك الآخر ، فيكون حراما فعليّا ، فاتّصاف الحرام المعلوم إجمالا بصفة الحرمة فعلا غير معلوم ، فيرجع في الطرف الآخر ـ الذي يحتمل ان يكون حراما فعليّا ـ إلى أصل البراءة.

وإن شئت قلت : إنّ الواحد المعيّن الذي اضطرّ اليه حلال في حقّه جزما ، سواء كان نجسا أو خمرا أو نحو ذلك أم لم يكن ، والطرف الآخر شيء مشكوك الحلّيّة فيرجع فيه إلى الأصل السالم عن المعارض ، وهذا بخلاف ما لو اضطرّ إلى واحد غير معيّن ؛ حيث إنّ الإضطرار لم

٤١٢

__________________

يتعلّق بنفس الحرام ـ ولو على سبيل الإحتمال كما في الفرض السابق ـ بل تعلّق بما هو أعمّ من الحرام بحيث لو علم بالحرام تفصيلا لوجب عليه الإجتناب عنه واختيار الطرف الآخر.

وهذا دليل على انّ ذلك الحرام المعلوم بالإجمال متّصف بالفعل بصفة الحرمة ، يجب التجنّب عنه مع الإمكان ؛ فإنّ المعيار في تشخيص كون العلم الإجمالي منجّز للتكليف وعدمه : هو كون كلّ واحد من أطراف الشبهة على وجه لو علم المكلّف تفصيلا بكون ذلك الحرام المعلوم بالإجمال لتنجّز في حقّه التكليف بالإجتناب عنه ، ومقتضى كونه حراما بالفعل وجوب التجنّب عنه بترك جميع محتملاته ، وحيث تعذّر ترك الجميع ، حكم العقل بمعذوريّته في ترك البعض الذي اضطرّ اليه أي : في المخالفة الإحتمالية الحاصلة بفعل هذا البعض لا مطلقا.

وبعبارة أخرى : توجيه الخطاب بالإجتناب عن ذلك الحرام المردّد بين الأطراف في الفرض الأوّل غير محرز وفي الثاني محرز وهو مقتض لوجوب الإجتناب ، وما يصلح للمانعيّة عن تنجّزه ليس إلاّ الإضطرار ، وهو لا يصلح للمانعيّة عن نفس الحرمة ولا عن تنجّزها رأسا ، وإنّما يمنع عن المؤاخذة على ارتكاب المحرّم ـ على تقدير تحققه ـ بفعل ما اضطر اليه لا غير ، فاحتمال مصادفة الحرام في سائر المحتملات التي لم يضطرّ إلى فعلها سبب تامّ لوجوب التجنّب عنها عقلا ، كما انّه كذلك فيما إذا حصل الإضطرار بعد حصول العلم الإجمالي وإن تعلّق ببعض معيّن ؛ فإن الإضطرار الحاصل فيما بعد ليس إلاّ كإراقة بعض أطراف الشبهة أو إتلافه أو خروجه عن مورد ابتلاء المكلّف ، ومن الواضح أنّ هذا لا يجدي

٤١٣

لو اضطرّ إلى إرتكاب بعض الأطراف

أقول : توضيح الكلام في المقام على وجه يرفع الحجاب عن وجه المرام : هو أنه إذا حصل الاضطرار إلى ارتكاب بعض المحتملين ، أو بعض المحتملات في الشبهة المحصورة بحيث يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه في الصورة الثانية :

إما لدفع عطش مضرّ بحاله ، أو معالجة مرض ، فلا يخلو ؛ إمّا أن يكون الاضطرار إلى واحد معيّن من أطراف الشبهة ، كما إذا كان أحدهما ماء والآخر ماء لرمّان مثلا ، فاضطرّ إلى شرب الماء من جهة رفع العطش ، أو إلى شرب ماء الرمّان من جهة المعالجة أو إلى واحد غير معيّن ، كما إذا كانت أطراف الشبهة جميعها ماء ، أو ماء الرمّان فاضطرّ المكلّف إلى شرب بعضها من جهة فقد غيرها من المياه الغير المقرونة بالعلم الإجمالي.

__________________

في جواز إرتكاب سائر الأطراف التي وجب التجنّب عنها ؛ لاحتمال مصادفتها للحرام الذي ينجّز التكليف بالإجتناب عنه بواسطة العلم.

فتخلّص ممّا ذكر : انّه متى اضطرّ إلى واحد معيّن قبل العلم الإجمالي أو معه رجع في حكم سائر الأطراف إلى قاعدة البراءة ، وإن اضطرّ إليه بعد العلم ، أو اضطرّ إلى واحد غير معيّن ـ سواء كان قبل العلم أم بعده ـ عمل في سائر الأطراف بما تقتضيه قاعدة الشغل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢١١.

* أقول : ولاحظ أيضا تعليقة السيّد اليزدي قدس‌سره في حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٠٦.

٤١٤

وعلى كل تقدير ؛ إمّا أن يكون الاضطرار قبل العلم الإجمالي ، أو بعده ، أو معه.

أمّا لو كان الاضطرار إلى واحد معيّن :

فإن كان قبل العلم الإجمالي ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن غير المضطرّ إليه أيضا لعدم تأثير العلم الإجمالي في الفرض في الخطاب المنجّز حتى يحكم بوجوب الاجتناب عن غير ما قضت الضرورة بجواز ارتكابه ؛ حيث إن الحرام ، أو النجس لو كان هو المضطرّ إليه لم يحدث بالعلم الإجمالي خطاب بالاجتناب عنه أصلا ، غاية ما هناك : احتمال وجود الخطاب باحتمال كون الحرام ، أو النجس غير المضطرّ إليه فيكون كالشبهة البدويّة في تعيين الرجوع إلى الأصل لا الرجوع إلى أصالة الاحتياط على ما أسمعناك شرح القول فيه مرارا : من أن العلم الإجمالي الغير المؤثّر في الخطاب المنجّز على كل تقدير وجوده كعدمه ؛ ضرورة عدم تأثيره في الاشتغال اليقيني حتى يقتضي بحكم العقل والشرع من جهة دفع الضرر المحتمل المقدّمة العلميّة البراءة اليقينية.

وإن كان بعده فلا إشكال في وجوب الاجتناب عن غير المضطر إليه كما لو لم يكن هناك اضطرارا لما أسمعناك سابقا : من أنه بعد تنجّز الخطاب الاجتناب عن الحرام الواقعي يجب بحكم العقل إطاعته في المقدار المقدور من المحتملات ويقبح بحكمه إذن الشارع في ارتكاب جميع الأطراف فيجب بحكم العقل الاجتناب عن غير المضطرّ إليه.

٤١٥

فإن شئت قلت : إن مقتضى اعتبار العلم الإجمالي وكونه مؤثّرا في الخطاب المنجّز ـ كما هو المفروض في المقام ـ احتمال الضّرر في كل محتمل من أطرافه ، والاضطرار إلى واحد معيّن بعده لا يقتضي إلاّ ارتفاع الاحتمال المذكور بالنسبة إليه في حكم العقل على تقدير المصادفة للحرام ، فيلقى (١) بالنسبة إلى غيره من محتملات المعلوم بالإجمال ، فيجب بحكم العقل الاجتناب عن جميع ما عداه ؛ دفعا للضّرر المحتمل ، هذا بناء على ما قضى به التحقيق في باب إذن الشارع في ارتكاب بعض أطراف الشبهة وبنى عليه شيخنا الأمر عليه في الجزء الأوّل من « الكتاب » : من عدم لزوم جعل البدل الظاهري للواقع على الشارع عند إذنه في ارتكاب بعض أطراف الشبهة.

وأما بناء على ما بنى الأمر عليه في هذا الجزء : من عدم جواز الإذن عليه في ارتكاب البعض إلاّ بعد جعل الاجتناب عن غيره من الأطراف بدلا ظاهريّا عن اجتناب الحرام الواقعي فكذلك أيضا ؛ لأن المفروض تنجّز الخطاب بالواقع من جهة العلم الإجمالي الحاصل قبل الاضطرار ، فلا يجوز الإذن من الشارع إلاّ بعد جعل البدل على ما هو مبنى هذه الطريقة ، وهذه بخلاف الصورة الأولى ؛ فإن المفروض فيها حصول الاضطرار قبل العلم الإجمالي ، وقد حكم بكونه مانعا من تنجّز الخطاب بالواقع المعلوم فليس هناك خطاب إلزامي منجّز بالنّسبة إلى الواقع

__________________

(١) الصحيح : فيلغى.

٤١٦

حتى يمنع من إذن الشارع في محتملاته إلاّ بعد جعل البدل له هذا.

وإن كان مع العلم الإجمالي فلا إشكال أيضا في عدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى غير المضطرّ إليه كما في الصّورة الأولى ؛ لأنّ حصول الاضطرار مع العلم يمنع من تأثيره في إحداث الخطاب المنجّز بالنسبة إلى المعلوم بالمعنى الذي عرفته مرارا ، فلا مقتضي للحكم بوجوب الاحتياط بالنسبة إلى غير المضطرّ إليه هذا كلّه فيما لو كان الاضطرار إلى ارتكاب واحد معيّن من المشتبهين ، أو المشتبهات.

وأمّا لو كان إلى ارتكاب واحد غير معيّن فالحقّ : هو وجوب الاجتناب عن غير المضطر إليه فيما كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي فضلا عن القسمين الأخيرين ؛ لعدم مانعيّة الاضطرار إلى الغير المعيّن عن تنجّز الخطاب بالنسبة إلى الحرام المعلوم بالمعنى المقصود الذي عرفته مرارا واجتماعهما ؛ فإنّه لو فرض انقلاب علمه الإجمالي بالعلم التفصيلي وعلم كون الحرام الواقعي هو هذا بالخصوص أو ذاك لم يمنع الاضطرار إلى ارتكاب أحدها لا على التعيين عن الأمر بالاجتناب عنه منجّزا.

مثلا : إذا كان هناك إناءان من ماء الرمّان واضطرّ المكلّف من جهة المعالجة وانحصار ماء الرمّان فيهما إلى شرب أحدهما من غير فرق بينهما أصلا في رفع حاجته واضطراره ، ثم علم بوقوع قطرة من البول مثلا في أحدهما لم يكن إشكال في صحّة توجيه الخطاب بالنجس الواقعي في الفرض والمثال بالمعنى الذي

٤١٧

عرفته ، وعدم صلاحيّة سبق الاضطرار إلى شرب أحدهما لا على التعيين للمانعيّة عن توجيه الخطاب فيه.

وهذا وإن كان أمرا ظاهرا لا سترة فيه عند التأمّل والنظر التام ، إلاّ أنّه لمكان غموضه في أوّل النظر توجّه عليه سؤال أورده في « الكتاب » بقوله :

« فإن قلت : ترخيص ترك بعض المقدّمات دليل على عدم إرادة الحرام الواقعي ...

إلى آخره » (١).

وجوب الإحتياط الكلّي في الشبهة المحصورة والجواب عنها

وتوضيحه : أن التكليف بالواقع المجهول إن كان ثابتا وباقيا فلا يجوز الاكتفاء في امتثاله بغير الاحتياط الكلّي والاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ؛ لعدم إحراز الواقع بدونه ، وإن لم يكن بالواقع بما هو هو باقيا كما هو قضيّة تجويز ارتكاب بعض أطراف الشبهة فلا مقتضي لوجوب الاحتياط الجزئي والاجتناب عن بعض أطراف الشبهة.

فإن شئت قلت : إن ترخيص الشارع لارتكاب بعض أطراف الشبهة دليل على عدم تعلّق الإرادة الحتميّة بالاجتناب عن الحرام الواقعي من غير فرق بين ترخيص البعض المعيّن أو المردّد ؛ فإن الإذن في ترك المقدّمة المطلقة كاشف عن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٤٦.

٤١٨

ارتفاع وجوب ذيها ، كما أنّ إيجابه ملازم في حكم العقل لإيجابها على ما حقّقنا القول فيه في بحث « مقدّمة الواجب » فالتلازم من الطرفين.

والحاصل : أن المضطر إليه الذي يرتكبه المكلّف لو كان حراما في علم الله قبح توجّه الخطاب بالنسبة إليه ، فلم يبق إلاّ احتمال توجّه الخطاب بالنسبة إلى المكلّف المضطر مطلقا ، فيرجع إلى البراءة لا إلى الاشتغال لرجوع الشك مع الاضطرار إلى الشك في أصل التكليف هذا.

وقد سبق ذكر هذه الشبهة في الجزء الأوّل عند الكلام في حجيّة مطلق الظنّ (١) ، ولكنك خبير بضعف هذه الشبهة وفسادها.

أمّا أوّلا : فبالنقض بموارد الأمارات المعتبرة والأصول الشرعيّة المقتضية للاقتصار على بعض المحتملات الواقع كالأمارات القائمة على تعيين المكلّف به الاستصحابات المقتضية لذلك : من الاستصحابات الموضوعيّة والحكميّة كاستصحاب التمام أو القصر ، فإنّ تعلّق الإرادة الحتميّة بالواقع لا يجامع الاكتفاء والقناعة ببعض محتملاته على ما هو مبنى الشبهة المذكورة. ومع عدم تعلّق الإرادة الحتميّة لا مقتضي لإيجاب سلوك ما يكون طريقا إليه ، أو ما يجب معه البناء على كونه الواقع الأوّلي ؛ ضرورة كون الحكم الظاهري مطلقا ـ من غير فرق بين موارد الأمارات ومجاري الأصول ـ تابعا لبقاء الحكم الواقعي وفرعا له.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٢٠٧.

٤١٩

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، وبيانه :

أنه إن أريد من عدم كفاية غير الاحتياط في امتثال الواقع عدم وجود الواقع في نفس الأمر بغير الاحتياط الكلّي وعدم تحقق إتيانه إلاّ به فهو في محلّ المنع جدّا ، كيف! وقد يحصل ترك الحرام النفس الأمري بترك بعض المحتملات ؛ حيث إنّه لازم كونه من محتملاته.

وإن أريد منه عدم كفايته في إحراز الواقع وتحصيل العلم بالاجتناب عنه ـ حسبما يفصح عنه ظاهر السؤال ـ فهو صحيح لا محيص عنه ، إلاّ أنه لا يجدي شيئا في المقام ؛ حيث إن ترك جميع المحتملات ـ كما هو المفروض ـ مقدّمة للعلم بترك الواقع الواجب تحصيله في حكم العقل ـ من جهة لزوم دفع الضّرر المحتمل في حكمه ـ فاللازم من إذن الشارع في فعل بعض المحتملات رفع إيجاب تحصيل العلم المترتب على تركه ؛ من جهة استلزام إذنه رفع احتمال الضّرر بالنسبة إلى مورد إذنه ، فيبقى احتمال الضّرر في فعل باقي الأطراف ، فيجب بحكم العقل تركه دفعا لاحتمال الضّرر ؛ إذ ليس وجود احتمال الضّرر بالنسبة إلى كل محتمل منوطا بترك غيره أو احتمال الضّرر بالنسبة إليه بحيث يناط بترك المجموع من حيث المجموع ؛ ضرورة فساد ذلك. فإنّ احتمال الحرمة بالنسبة إلى كل واحد من المحتملات ليس منوطا باحتمالها في غيره ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

فإن شئت قلت : إنّه إن أريد من بقاء التكليف بالنسبة إلى الواقع ـ في جميع موارد قناعة الشارع ببعض محتملاته وإذنه في ترك غيره ـ هو التكليف الواقعي

٤٢٠