بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

الشأني المقابل للفعلي.

ففيه : أنّه لا يقتضي في حكم العقل ما لم يبلغ مرتبة الفعليّة امتثالا أصلا لا بطريق الاحتياط ولا بغيره.

وإن أريد منه التكليف الفعلي.

ففيه : أن فعليّة التكليف إنّما هو بملاحظة حكم العقل بوجوب إطاعة الحكم الواقعي الصادر من الشارع ؛ ضرورة عدم كون التكليف الفعلي حكما مجعولا للشارع في قبال الحكم الواقعي بحيث يكون له إنشاءان وحكمان بالنسبة إلى كلّ موضوع أحدهما الشأنيّ والآخر الفعليّ ، وإنّما الشأنيّة والفعليّة من شؤون الخطاب الوحداني الصادر من الشارع ومراتبه وحالاته بالنسبة إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على مخالفته وحسنها وإيجابه إطاعته.

فالحكم الواحد الصادر من الشارع شأنيّ في مرتبته ، وفعليّ في مرتبة أخرى ، فإذا كان الأمر كذلك فالحاكم بعدم كفاية غير الاحتياط الكلّي في إطاعة الأحكام الشرعيّة وكفايته العقل ، وليس أمر الكفاية والعدم في حكمه على نهج واحد ، وقد يحكم بعدم الكفاية في حالة وبالكفاية في حالة أخرى.

وقد أسمعناك غير مرّة في مطاوي كلماتنا سيّما في الجزء الأوّل في التعليقة عند الكلام في « مقدمات دليل الانسداد » : أن للعقل وحكمه طرقا متعدّدة في باب إطاعة المولى وامتثال أمره ، كالعلم التفصيلي ، والظّنّ المعتبر بالخصوص من

٤٢١

جانب المولى ، والأصول المعتبرة في الجملة ، والعلم الإجمالي الذي يعبّر عنه بالاحتياط الكلّي ، والاحتياط الجزئي بمراتبه ، والامتثال الظّنّي والشّكّيّ الحاصل بالأخذ بأحد الاحتمالين المتساويين ، والوهمي ، وأن هذه الطرق مترتّبة لا يجوز العدول عن السابق إلى اللاّحق إلاّ بعد تعذّره ، أو تجويز الشارع ، أو ترخيصه للأخذ باللاّحق كما هو المشاهد في الظّنّ المعتبر بالخصوص مطلقا ؛ حيث إنّ حكم العقل في باب ترتّب الطّرق ليس كحكمه في أصل مسألة وجوب الإطاعة وقبح المعصية على الوجه الكلّي والقضية المطلقة حتى لا يقبل ورود حكم الشرع عليه بحيث يرفع موضوعه ، بل إنّما هو في القضيّة المقيّدة القابلة لارتفاع موضوعه بترخيص الشارع.

نعم ، هنا كلام في الترتيب بين العلم التفصيلي والظنّ الخاص وبين العلم الإجمالي مطلقا ، أو في الجملة تقدّم شرح القول فيه في الجزء الأول وإن كان المختار ـ خلافا للأكثر ـ عدم الترتيب بينهما مطلقا. ومن هنا جوّزنا الأخذ بالاحتياط للعامي القادر على التقليد فراجع إليه حتى تقف على حقيقة الأمر.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا : الجواب عن السؤال المذكور ، وأنه لو لا ترخيص الشارع لترك بعض المحتملات كان الواجب في حكم العقل الاحتياط الكلّي الموجب للعلم بامتثال الواقع الأوّلي ، وأمّا بعد ترخيصه له فالواجب في حكمه الإتيان بغير المرخّص في تركه من المحتملات الباقية ، وإن لم يختلف الحكم الواقعي بحسب اختلاف الطرق ؛ فإن الاختلاف في طريق الإطاعة لا في أصل

٤٢٢

الحكم الصادر من الشارع إلاّ فيما يرجع إلى اختلاف الموضوع النفس الأمري كالمرض والصحّة ونحوهما من الحالات.

فإن أريد من بقاء التكليف بالواقع بقاؤه بحيث يعاقب على مخالفته مطلقا فيمنع منه ، وإن أريد منه بقاؤه في الجملة بحيث يعاقب على مخالفته إذا اتّفقت في ضمن غير ما رخّص في تركه فنسلّمه ، لكنّه لا ينتج ما أراده.

وهذا الذي ذكرنا هو المراد من التكليف المتوسّط البرزخ بين التكليف بالواقع بما هو هو وعدم التكليف رأسا ، لا ما ربّما يتوهّمه الغافل عما أراده من « الكتاب ».

كما انقدح ممّا فصّلنا لك في تحقيق المقام : استقامة ما أفاده تفريعيّا على ما ذكره في جواب السؤال بقوله : « وممّا ذكرنا تبين : أن مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة ... إلى آخر ما أفاده » (١).

مقتضى القاعدة عند الإنسداد

حيث إنّك قد عرفت : أن قضيّة تنجّز الخطاب بالعلم الإجمالي هو وجود احتمال الضرر في كلّ طرف في أطراف الشبهة وهذا الإحتمال ـ على ما عرفته مرارا ـ هي العلّة في حكم العقل بوجوب الاحتياط الكلّي وتحصيل العلم ، بل العلّة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٤٦.

٤٢٣

في حكمه في جميع موارد قاعدة الشغل ، وأن إذن الشارع في مخالفة مقتضى العلم الإجمالي في بعض أطراف الشبهة لا يقتضي إلاّ رفع وجوب الاحتياط بالنسبة إليه خاصّة من حيث استلزامه الأمن من الضّرر بالنسبة إليه ، فيجب الاحتياط عن غيره من المحتملات بمقتضى نفس العلم الإجمالي من غير فرق بين أن يكون هذا البعض المرخّص في تركه بعد العلم الإجمالي بعضا معيّنا أو غير معيّن على ما عرفت الكلام فيه.

وهذا أصل لا يجوز العدول عنه مطلقا من غير فرق بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة فيما كان العلم الإجمالي فيها مؤثّرا في تنجّز الخطاب بالواقع المجهول بالتفصيل ، ولازمه ـ كما ترى كون مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي والظّنّ الخاص بأغلب الأحكام المعلومة إجمالا وبطلان الرجوع إلى غير الاحتياط من الأصول ، وبطلان الرجوع إليه على الوجه الكلّي بحيث يحتاط في جميع موارد احتمال التكليف الإلزامي وجوبا أو تحريما ـ الأخذ بالاحتياط الكلّي بالنسبة إلى غير ما رخّص في ترك الاحتياط بالنسبة إليه من غير أن يلاحظ الشكّ في نفس الواقعة من دون انضمام إلى سائر الوقائع ويرجع إلى الأصل الجاري فيه.

مع أنّ المعهود ممّن تمسّك بدليل الانسداد خلاف ذلك ؛ حيث إنّهم يرجعون في موارد فقد الظّنّ بالتكليف إلى الأصل الجاري فيها من غير التفات إلى الاحتياط الناشئ من العلم الإجمالي الكلي ، وإن التزموا بالاحتياط فيما كان

٤٢٤

الشكّ في نفس الواقعة مقتضيا له كالشكّ في المكلّف به.

توضيح ذلك : أن أطراف العلم الإجمالي في الوقائع المشتبهة ـ بعد فرض انسداد باب العلم التفصيلي والظّنّ الخاص في غالب الأحكام بالنسبة إلى كل من الواجبات المعلومة بالإجمال والمحرّمات ـ خمسة : المظنون الوجوب بالظّنّ الاطمئناني ، ومظنونه بالظّنّ الغير الاطمئناني ، وموهوم الوجوب في مقابل الظنّ الأوّل ، وموهومه في مقابل الثّاني ، ومشكوكات الوجوب ، وهكذا بالنسبة إلى الوقائع المحتملة للتحريم مقتضى القاعدة التي عرفتها : هو وجوب الاحتياط في كلّ ما يحتمل الوجوب أو التحريم بأقسامهما الخمسة ، فإذا فرض لزوم العسر ، أو الاختلال : من الاحتياط الكلّي ، فلا بدّ من تجويز تركه بالنسبة إلى ما يندفع به الاختلال والحرج ويبقى الاحتياط على حاله بالنسبة إلى غيره من محتملات التكليف الإلزامي.

غاية ما هناك : أن العقل يحكم باختيار مخالفة الاحتياط الكلّي المجوزة في الجملة : من جهة لزوم الحرج منه في ضمن ما كان احتمال مخالفة الواقع فيه في كمال البعد وهو القسم الأول من موهوم الإلزام ، فإن كفى في دفع العسر فيقتصر عليه ويحتاط في باقي الأقسام الأربعة ، وإن لم يكف من جهة قلّته ، فيلحق به القسم الآخر منه فيحتاط في الأقسام الثلاثة الباقية فيأخذ في المشكوكات بالاحتياط الكلّي : من جهة رعاية العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي في جميع الوقائع المشتبهة كما يأخذ به لذلك في مظنونات التكليف مطلقا من غير فرق بين

٤٢٥

عنوان رعاية احتمال التكليف فيهما ، فلزوم الأخذ بمظنون الوجوب مثلا : من حيث كونه من أطراف العلم الإجمالي الكلّي بوجود الواجبات بين الوقائع المحتملة للوجوب ، كما أنّ لزوم الإتيان بمشكوك الوجوب من هذه الحيثيّة والجهة.

وأين هذا من حجيّة الظّنّ المطلق ، بل من حجيّة الظنّ في الجملة أيضا؟ حتى ينتج الرجوع في المشكوكات إلى الأصول الجارية فيها بملاحظة الشكّ في أصل الواقعة من غير ملاحظة العلم الإجمالي الكلّي ؛ نظرا إلى خروج المشكوكات من جهة قيام الظن الثابت حجيّته على تعين المعلومات الإجمالية الموجب لخروج المشكوكات عن أطرافه ، كما يقول به المتمسّك بدليل الانسداد.

وممّا ذكرنا كله : يظهر المراد ممّا أفاده شيخنا في « الكتاب » بقوله : « أعني : موارد الظن مطلقا أو في الجملة إلى الاحتياط » (١).

فإن المراد منه الظنّ القائم على خلاف التكليف مطلقا أو خصوص الاطمئناني منه ، بل هو المراد مما ذكره بعده بقوله : « ووجوب العمل مطلقا أو في الجملة فتدبّر » (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٤٧.

(٢) نفس المصدر : ٢ / ٢٤٧.

٤٢٦

الإشكال الوارد على القائلين بحجيّة مطلق الظّن

نعم ، لم يظهر من القائلين بحجيّة الظنّ مطلقا في الأحكام الشرعيّة الالتزام برعاية هذا المسلك فيما اضطرّ إلى ارتكاب واحد غير معيّن في الشبهات الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجمالي ، بل لم يظهر الترتيب الذي ذكرنا : من تعيين اختيار موهوم التكليف في حكم العقل عند الحاجة إلى مخالفة العلم الإجمالي ، من شيخنا الأستاذ العلامة وغيره ممن سلك بمسلكه الذي عرفت في الشبهات الموضوعيّة ، فلعلّ الوجه عند القائلين بحجيّة مطلق الظنّ قيام الدليل عندهم على بطلان سلوك الاحتياط رأسا ومطلقا في الشبهات الحكميّة دون الموضوعيّة كما ستقف عليه ، وأمّا كلام شيخنا ومن تبعه فليس في مقام الإطلاق من الجهة المذكورة بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة فتدبّر.

هذا حاصل ما يورد من الإشكال على القائلين بحجيّة مطلق الظّن والرجوع في المشكوكات إلى الأصول ومرجعه كما ترى ، إلى كون نتيجة الدليل التبعيض في الاحتياط لا الحجيّة.

ويتفصّى عنه بأحد أمور :

أحدها : المنع من اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الاحتياط والموافقة القطعية ؛ إذ مبناه على حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل وهو في حيّز المنع

٤٢٧

ولم يرد به شرع أيضا ، غاية ما هناك : تسلّم حكم العقل والشرع بلزوم دفع الضرر المظنون ، وهو الذي يظهر من المحقق القميّ قدس‌سره في « القوانين » ويلوح من كلام من تقدّم عليه وتأخّر عنه (١).

وهذا كما ترى ، مضافا إلى مخالفته لصريح العقل ـ ضرورة استقلاله في الحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل الأخروي وهو مبنى وجوب المعرفة والنظر في معجزة مدّعي النّبوة ـ والنقل : من الآيات الدّالة على وجوب تحصيل العلم والتفقّه في الدين والأخبار الكثيرة الواردة في ذلك خلاف ما قضت به كلمة المستدلّين بدليل الانسداد ؛ فإن ظاهرهم ، بل صريحهم على الاتفاق على كون مقتضى القاعدة ـ بعد العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزاميّة في الوقائع المشتبهة ـ : هو لزوم الأخذ بالاحتياط الكلّي ، وأن الاكتفاء بالظنّ من باب الترخيص من جهة لزوم الجرح من الاحتياط الكلّي ، بانضمام قاعدة قبح ترجيح اعتبار مخالفة الاحتياط في مظنونات التكليف من حيث قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فيستنتج من هاتين المقدّمتين جواز العمل بالظنّ والاقتصار عليه في مقابل الاحتياط الكلّي ، وأين هذا من عدم وجوب الاحتياط من أوّل الأمر من جهة عدم الدليل عليه؟

ثانيها : عدم اندفاع العسر والحرج بمخالفة الاحتياط في موهومات التكليف مطلقا ، فلا بدّ من ضمّ المشكوكات إليها فلا يجب فيها الاحتياط أيضا ،

__________________

(١) كأصحاب الهداية ، والفصول والمعالم والزبدة.

٤٢٨

ويتعيّن فيها الرجوع إلى الأصل الجاري في نفس المسألة من غير ملاحظة كونها من أطراف العلم الإجمالي الكلّي.

وهذا الوجه كما ترى ، مبني على دعوى قلّة الموهومات في الوقائع المشتبهة ، وأنت خبير بفسادها ؛ لوجود الأمارات في أكثر المسائل ، وقلّة ما لا يوجد فيه أمارة أصلا كما يظهر بالمراجعة إلى الفقه.

ثالثها : قيام الإجماع على عدم إرادة الشارع للامتثال الاحتياطي في الأحكام المشتبه بالعلم الإجمالي الكلّي رأسا لا بعنوان الكلّي ولا بعنوان التبعيض والجزئي بمعنى عدم إيجابه لذلك على العباد ، ويكشف عن ذلك عدم التزامهم بالاحتياط في مسألة من المسائل من جهة كونها من أطراف العلم الإجمالي الكلّي ، بل استدلالهم في مسألة حجيّة خبر الواحد بالحاجة ، وأنّه لولاها لزم سدّ باب الأحكام في قبال الرجوع إلى البراءة ، ينادي بأعلى صوته : بعدم تعلّق الإرادة الحتميّة من الشارع بالأخذ بالاحتياط ؛ فإنّه على تقدير لزوم الاحتياط في الشرعيّات لا يلزم سدّ باب الأحكام من ترك العمل بالخبر ، وإنّما يلزم ذلك من الرجوع إلى البراءة ، أو نمنع بطلانه على تقدير لزومه فإن الأخذ بالطريق من حيث مراعاة الواقع ، والمفروض تحصيل الواقع بالاحتياط على تقدير ترك العمل بالخبر ، فلو لا كون بطلان الاحتياط رأسا أمرا مفروغا عندهم بحيث لا يحتاج إلى البيان لم يحسن لهم الاستدلال المذكور جدّا.

وهذا كما ترى ، وإن كان أحسن من الوجهين الأوّلين ، إلاّ أنه يتوجّه عليه مع

٤٢٩

ذلك ـ مضافا إلى رجوع دعوى الإجماع على بطلان الاحتياط رأسا في الشرعيّات إلى دعوى الإجماع على وجود الحجّة الكافية كما هو ظاهر ـ :

أنه إن كان المراد من الإجماع عليه : اتفاق الكل حتى من القائلين بانفتاح باب العلم وحجيّة الظنون الخاصّة.

ففيه : أن اتفاق هؤلاء على ذلك لا يجدي بعد وجود الطرق الكافية عندهم لتعيين المعلومات الإجمالية سيّما على القول بانفتاح باب العلم في أغلب الأحكام ؛ فإن ارتفاع العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي في غالب الأحكام قهريّ وجداني لا يحتاج إلى البرهان أصلا كما لا يخفى. اللهمّ إلاّ أن يكون المراد : الإجماع التقديري ؛ فإن في كلماتهم حتّى السيّد علم الهدى قدس‌سره دلالة على قيام الظنّ مقام العلم عند الحاجة ، فلو كان الاحتياط عندهم طريقا إلزاميّا لما حكموا بذلك ، فتأمل.

وإن كان المراد : اتفاق القائلين بحجيّة مطلق الظنّ فهو لا يجدي نفعا مع قلّتهم وعدم تحقق الإجماع باتفاقهم مضافا إلى كونه مبنيّا على زعم غير مرضي عندنا وكون الكلام معهم فيما سلكوا.

وممّا ذكرنا كله يظهر : المراد من قوله قدس‌سره ـ في بيان الإشكال ـ : « أعني : موارد الظن مطلقا أو في الجملة » (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٤٧.

٤٣٠

حيث إن المراد بالظّن القائم بعدم التكليف ، والترديد بين الإجمال والإطلاق باعتبار عدم اندفاع الحرج بمخالفة الاحتياط في ضمن خصوص الظنون الاطمئنانيّة القائمة على عدم التكليف واندفاعه بذلك ، كما أنّه المراد من الإطلاق والإجمال من قوله : « ووجوب العمل بالظن مطلقا أو في الجملة على الخلاف بينهم ) (١).

كما أنه ظهر ممّا ذكرنا : المراد من اعتبار الظّن في قوله : « في غير موارد الظنّ المعتبر إلى الأصول » (٢).

حيث إن المراد منه اعتبار الظن بالمقدّمات التي ذكروها لاعتباره لا من جهة قيام دليل عليه بالخصوص كظهور المراد من قوله في الاستدراك « نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط ... إلى آخره » (٣).

حيث إن المراد من بطلان وجوب الاحتياط هو بطلانه في الجملة على ما هو قضيّة ما أقاموه على بطلانه بزعم شيخنا لا بزعمهم ، وإلاّ لم يكن هناك إشكال في الرجوع إلى الأصل في المشكوكات أيضا كظهور المراد من قوله : « وعدم جواز ترجيح المرجوح » وغيره من العبارة.

__________________

(١) نفس المصدر بالذات.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٤٣١

ثمّ إن ما أفاده من الفرق والثمرة بين التبعيض في الاحتياط وحجيّة الظن مبني على ما تقدّم منه في الجزء الأول من « الكتاب » عند الكلام في « حجيّة الظنّ المطلق » (١) : من أن لازم حجيّة الظنّ ـ مع قيامه في غالب الوقائع المشتبهة على التكاليف نفيا وإثباتا ـ الرجوع إلى الأصول الجارية في المشكوكات من غير التفات إلى العلم الإجمالي الكلّي من حيث خروجها عن أطراف العلم الإجمالي لقيام الظنّ المعتبر في كثير من المسائل الموجب لارتفاع العلم الإجمالي بحكم الشارع كارتفاعه بالعلم التفصيلي بحكم الوجدان ، فيرجع الشكّ في غير ما كان هناك علم إجمالي خاصّ إلى الشكّ في أصل التكليف ، فيحكم بمقتضى الأصل الجاري فيه سواء كان نافيا للتكليف أو مثبتا له حسب اختلاف الشكوك والموارد.

وأمّا بناء على ما بنى عليه الأمر في هذا الجزء من « الكتاب » من الإشكال في اللازم المذكور ، بل ترجيح عدمه حتى بالنسبة إلى الظنون الخاصّة عند التكلّم في الشبهة التحريميّة الحكميّة إلاّ فيما قام الظنّ المعتبر على تعيين المعلوم بالإجمال بحيث يرجع مفاده إلى الإثبات والنفي عن الغير ، أو علم من دليل اعتباره كون نصبه لذلك ، وإلاّ فلا ينفع الظنّ القائم على جملة من أطراف الشبهة في رفع أثر العلم الإجمالي بالنسبة إلى ما لم يقم عليه ؛ ضرورة عدم منافاته ذاتا للعلم الإجمالي على ما هو شأن العلم التفصيلي بجملة من المحرّمات المعلومة

__________________

(١) المصدر السابق : ج ١ / ٤٢٢.

٤٣٢

إجمالا مع احتمال انحصار المعلوم الإجمالي فيه ، وعدم دلالة دليل اعتباره إلاّ على ترتيب آثار الواقع عليه ومعذوريّة العامل عند مخالفة الظن للواقع كما هو المفروض ، فلا فائدة في حجّيّة الظنّ المطلق للرجوع إلى الأصول في المشكوكات.

فيحتاج إثباته إلى دعوى لزوم الحرج من الاحتياط في المشكوكات منضمّا إلى العمل بالظنّ في مظنونات التكليف الممنوعة بما عرفت ، أو التشبّث بذيل الإجماع من القائلين بحجيّة الظنّ الخاص والمطلق ؛ فإن إجماعهم على الرجوع في المشكوكات ، إلى الأصول على هذا البناء يكشف عن عدم تعيّن الرجوع إلى الاحتياط في الوقائع المشتبهة عند الشارع ولولاه لما اتفقوا على الرجوع إلى الأصول في المشكوكات ، اللهمّ إلاّ أن يمنع من كشف الاتّفاق المذكور من حيث ابتنائه على الملازمة بين حجيّة الظنّ ورفع العلم الإجمالي الفاسدة في زعمنا فتأمل.

نعم ، هنا كلام في تأثير الظنّ المعتبر القائم على القدر المتيقّن من المعلومات الإجمالية في الوقائع في رفع أثر العلم الإجمالي عن المشكوكات من غير ابتنائه على كون لسان الظنّ التعيين ، أو لسان دليل اعتباره ذلك قد فصّلناه عند الكلام في الشبهة التحريميّة من أراده راجعه.

كما أن هنا كلاما في حلّ كلام الفريقين من القائلين بحجيّة الظنون الخاصّة والقائلين بحجيّة الظنون المطلقة ؛ من جهة الحاجة إلى العمل بالظن على لزوم

٤٣٣

وجود الطريق إلى الأحكام عندهم في كل زمان مقدّمة لبقاء الدين لا العمل حتى يقال : إنّ الاحتياط أيضا طريق إلى العمل ، فمفروغيّة بطلان الاحتياط عندهم بالملاحظة المذكورة لا تعلّق لها بمسألة نفي الحرج حتى يتوجّه عليه ما عرفت.

وقد فصّلنا القول في هذا الموضع في الجزء الأول من التعليقة وإنّما تعرّضنا لإجماله في المقام تبعا لشيخنا الأستاذ العلامة « أدام الله ظله العالي ».

* * *

٤٣٤

* التنبيه السادس :

لو كانت المشتبهات ممّا توجد تدريجا

(١١٥) قوله : ( التحقيق أن يقال : إنه لا فرق بين الموجودات ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٤٨ )

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« بل التحقيق أن يقال : إن كان أصل التكليف مشروطا بوقته المتأخّر عن زمان الخطاب كما لا يبعد أن يكون مثال وجوب الإعتزال عن النساء في المحيض من هذا القبيل فلا يجب الإحتياط إذ يكون الشك في كل زمان من أوّل الشهر إلى آخره في أصل التكليف لمكان الشك في تحقّق شرطه فينفي بالأصل وإن كان التكليف مطلقا وكان معلّقا على زمان الفعل كما لا يبعد أن يكون مثال التاجر من قبيله فحكمه حكم الشبهة المحصورة ؛ إذ لا فرق بينه وبين ما يوجد المشتبهان دفعة من حيث تنجّز التكليف بالحرام الموجود بين المشتبهين في زمانه. وهذا المطلب في كلا الشقّين من الواضحات وإن كان قد يناقش في الأمثلة المذكورة في المتن أنّها من قبيل الشقّ الأوّل أو الثاني.

والمصنّف رحمه‌الله لما أنكر الواجب المشروط مطلقا في أصوله بدعوى : عدم معقوليّته ، وجعل مطلق التكاليف قبل حضور وقتها من قبيل المعلّق فرّق بين الأمثلة بالإبتلاء وعدم الإبتلاء ، وقد سبق منّا عدم الفرق بين محلّ الإبتلاء وعدمه إلاّ إذا عدّ غير محلّ الإبتلاء من غير المقدور عرفا » إنتهى. حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣١١.

٤٣٥

لا فرق في الحكم المذكور بين ارتكاب

الأطراف دفعة أو تدريجا

أقول : لا إشكال فيما أفاده قدس‌سره : من عدم الفرق بين الموجودات التدريجيّة والدفعيّة في الحكم بوجوب الاحتياط عن الأطراف على تقدير تحقّق الابتلاء دفعة بالنسبة إلى جميعها ؛ ضرورة عدم الفرق بينهما في حكم العقل والشرع على التقدير المذكور ، إنّما الكلام في تحقّق الشرط المذكور بالنسبة إلى الموجودات التدريجيّة.

وصريح شيخنا في « الكتاب » : الفرق بين الموارد والأمثلة في تحقّق الابتلاء دفعة والعدم ، وربّما يقال : بعدم تحقّق الشرط المذكور بالنسبة إلى التدريجيّات مطلقا من غير فرق بين الأمثلة والموارد ؛ نظرا إلى عدم تحقّق الابتلاء باللاّحق في زمان وجود السابق وعدم تحقّق الابتلاء بالسّابق المعدوم في زمان وجود اللاّحق ؛ لأن المفروض انعدام كلّ منهما في زمان وجود الآخر واستحالة تعلّق القدرة بإعادة المعدوم السابق وإيجاد ما يوجد في المستقبل في الحال ، وإلاّ لزم الخلف ، فكيف يعقل مع هذا البرهان الفرق بين الموارد والأمثلة؟

فالخطاب التنجيزي بالحرام المردّد بين الموجود في الحال والمستقبل لا

٤٣٦

يصحّ مطلقا ، وإنّما يصحّ على تقدير الاشتراط والتعليق ، فيرجع الشكّ دائما إلى الشكّ في أصل التكليف التنجيزي من غير فرق بين الزّمان السابق واللاّحق ، فيرجع إلى الأصول والقواعد كسائر ما لا يتحقّق الابتلاء فيها إلاّ بالنسبة إلى بعض أطراف الشبهة.

نعم ، قد لا يأبى العرف عن الحكم بتحقّق الابتلاء الدفعي بالنسبة إلى ما يتدرّج بحسب الوجود في الزمانين المتصلين على تقدير كفاية العرف في المقام ؛ من حيث إن الحاكم بتقييد الخطابات بالابتلاء وكون متعلّقها واقعة للمكلّف هو العرف فتأمل.

فلعلّ ما أفاده شيخنا ( دام ظلّه ) من التفصيل في المقام بحسب الأمثلة والموارد مبنيّ على ذلك هذا.

ويمكن أن يقال بالفرق بين مثال النّذر وغيره من وجهين :

أحدهما : أن المفروض في الأوّل انعقاد النّذر وكون متعلّقه معلوما بالتفصيل ، وإنّما طرأ الاشتباه لعارض وقضيّة انعقاده لزوم الاحتياط فيه تحصيلا للعلم بالوفاء ، وهذا بخلاف غيره من الأمثلة.

ثانيهما : وجود الخطاب المطلق بالنسبة إلى الزمان اللاّحق في مثال النّذر من حيث كون الزمان فيه ظرفا بخلاف غيره ؛ فإنه قيد وشرط.

ولكنّك خبير بما في الوجهين :

٤٣٧

أمّا الأوّل ؛ فلأن وجوب الوفاء بالنّذر المفروض إنّما هو من جهة ما دلّ عموما على الوفاء به ، ولا فرق بينه وبين ما دلّ على إثبات الحكم لسائر الموضوعات الواقعيّة ، فكما يمنع من شموله لما لا يكون واقعة للمكلّف فعلا على وجه التنجيز عند العلم التفصيلي ، كذلك يمنع من شمول خطاب الوفاء على الوجه المذكور ومجرّد كون الاشتباه والتردّد عارضيّا لا يؤثّر في الفرق جدّا.

إذ قد عرفت : منع توجّه الخطاب المتنجّز بالمتأخّر عند العلم التفصيلي ، مع أن عروض الاشتباه من جهة النسيان قد يعرض بالنسبة إلى غير النّذر أيضا ، مضافا إلى عدم الفرق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الاشتباه عارضيّا مسبوقا بالعلم التفصيلي بالحرام وبين غيره ، وإن توهّمه بعض بتوهّم جريان استصحاب وجوب الاجتناب في الأول دون الثاني ، مع وضوح فساده ؛ نظرا إلى شمول الخطابات الواقعيّة للمعلوم بالإجمال قطعا فلا شكّ حتى يتمسّك بالاستصحاب ، وعلى تقدير اختصاص مواردها بالمعلوم بالتفصيل فلا يجري الاستصحاب أيضا ؛ ضرورة ارتفاع موضوعه وعلى تقدير الشكّ في متعلق الخطابات من الوجهين يشكّ في بقاء الموضوع ، فالاستصحاب ساقط على كلّ تقدير.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه مبني على ما زعمه بعض أفاضل مقاربي عصرنا (١) في بحث « مقدّمة الواجب » : من الفرق بين الواجب المعلّق وكونه من أقسام الواجب

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٨٠.

٤٣٨

المطلق وبين الواجب المشروط ، وقد فصّلنا القول فيما يتوجّه عليه تبعا لشيخنا في ذلك المبحث ، مضافا إلى عدم الفرق بناء عليه أيضا بين النّذر وغيره ؛ إذ لم يدل دليل على جعل الزمان ظرفا بالنسبة إلى النذر وقيدا بالنسبة إلى غيره ، فنسبته إليهما نسبة واحدة.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه مبنيّ على القول باشتراط تحقّق الابتلاء دفعة بالنسبة إلى جميع أطراف الشبهة في الحكم بوجوب الاحتياط عقلا وشرعا مطلقا ، وأمّا لو منع من إطلاق اشتراط ذلك ؛ نظرا إلى أن المسلّم منه ما لو لم يعلم المكلّف بوجود الطرف الآخر قهرا وصيرورته واقعة للمكلّف لا باختياره ، وإلاّ فيحكم العقل بوجوب الاحتياط وإن لم يعلم بتوجّه الخطاب الفعلي إليه ، بالنسبة إلى بعض الأطراف على تقدير تحقّق الحرام في ضمنه.

نظير ما التزم به غير واحد في بحث « مقدّمة الواجب » : من اتصاف المقدّمة الوجودية للواجب المشروط بالوجوب المطلق مع عدم تحقّق شرط وجوبه بحكم العقل الحاكم في المسألة لكن لا مطلقا ، فإن ذلك ثابت لها بالوجوب المشروط الثابت لذيها ، بل فيما علم المكلّف بتحقق شرط الوجوب قهرا كالزمان.

ومن هنا أفتى جماعة بوجوب حفظ الماء للطهارة فيما لو علم المكلّف بعدم القدرة عليه بعد دخول الوقت ، وبوجوب غسل الجنابة ونحوه على المكلّف في ليلة رمضان ، بل هو محلّ الاتفاق بينهم كنظائره وإن زعم بعض أفاضل مقاربي عصرنا كون ما حكموا بوجوبه قبل تحقّق الوقت من مقدّمات الواجب المطلق ؛

٤٣٩

نظرا إلى كون الواجب مطلقا بالنسبة إلى وقته ، وإن كان مطلقا لا مشروطا على ما عرفت الإشارة إليه.

وشرح القول في ذلك يطلب ممّا كتبناه في ذلك المبحث ، فلا فرق في الحكم بوجوب الاحتياط بين القسمين في المسألة كما أنه لا معنى للفرق بناء على المنع المذكور بين الأمثلة أيضا كما هو ظاهر.

تنبيه : اعلم أن ما ذكرنا من الكلام كلّه إنّما هو بالنسبة إلى المتدرّجين بحسب الوجود ، وأمّا الموجودان في الحال مع عدم إمكان ارتكابهما دفعة فلا تعلّق لهما بالمقام أصلا ؛ فإنه لا إشكال في الحكم بوجوب الاجتناب والاحتياط عنهما للعلم بتوجّه الخطاب التنجيزي إلى المكلّف والحال هذه.

وهذه المسألة في كمال المشابهة لمسألة الاضطرار إلى واحد غير معيّن من أطراف الشبهة التي قد عرفت تحقّق الخطاب التنجيزي بالنسبة إليها ، بل هي أولى منها ؛ نظرا إلى ما عرفت من الشبهة فيها وإن كانت مندفعة عندنا بما عرفته في تلك المسألة.

ثمّ إنه على القول بعدم وجوب الاحتياط في الموجودين تدريجا مطلقا أو في الجملة ، فلا إشكال في جواز المخالفة القطعيّة فيما إذا اقتضى الأصل في المسألة ذلك ؛ لأن المانع عن الحكم بجوازها العلم بتنجّز الخطاب المفروض عدمه.

وبعبارة أخرى : الممنوع عقلا : المخالفة القطعيّة للخطاب المنجّز لا مطلقا ،

٤٤٠