بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

هنا خالفهم غير واحد من المحقّقين فحكموا بوجوب الاحتياط في المسألة كنظائرها والرجوع إلى البراءة. منهم المحقّق السبزواري في « الذخيرة » (١).

وأمّا الحكومة المحكيّة عن بعض المحقّقين (٢) في « الكتاب » بين قول المشهور وقول المحقّق السبزواري الراجعة إلى القول بالتفصيل ، فليست بمحصّلة المراد قولا ودليلا.

أمّا قولا ؛ فلأن ظاهر كلامه أوّلا كون البحث فيما لو علم المكلّف الشاكّ بعلمه في السّابق بكميّة الفائت منه ، فعرض له النسيان فشكّ لاحقا فيها.

كما أن الاستدراك بقوله : « نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجمالي ... الى آخره » (٣) يظهر منه كون المفروض فيه حصول العلم الإجمالي بالفوائت من دون علم له بسبق العلم التفصيلي بها وعروض نسيانها.

وظاهر قوله : « والحاصل أن المكلّف ... الى آخره » (٤) هو القول بوجوب الاحتياط في المسألة مطلقا فيما كان هنا علم إجمالي مطلقا من غير فرق بين الصورتين وتخصيص عدم وجوب الاحتياط بما لم يكن هناك علم إجماليّ أصلا ،

__________________

(١) ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد : ٣٨٤.

(٢) هو الوحيد البهبهاني قدس‌سره المتوفى سنة ١٢٠٥ ه‍ ، أنظر مصابيح الظلام : ج ٩ / ٤٤٧ ـ ٤٥٠.

(٣) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٧٢.

(٤) أنظر نفس المصدر : ج ٢ / ١٧٣ والكلمة للوحيد البهبهاني ، فما جاء في تحقيق الفرائد من انه بحر العلوم خطأ ولذا لم يعثر عليه في مصابيح السيّد.

٢٠١

بل لو علم تفصيلا بفوت صلاتين أو ثلاث مثلا معلومة العين ، وشكّ في فوت صلاة أخرى من غير أن يكون علم إجمالي ينحل إلى طرفين ، وهو كما ترى لا يجتمعان أصلا.

وأمّا دليلا ؛ فلأن أحدا لم يتوهّم كون النسيان رافعا للحكم الثابت بالأدلّة الاجتهاديّة من القطعيّة كالإجماع ، والظنيّة كالإطلاقات ، والأصول الفقاهيّة كالاستصحاب ، مع أنّه لا محصّل للاستصحاب في الفرض ؛ فإنه قبل النسيان لم يكن شاكّا ، وبعد النسيان وعروض الشكّ في الكميّة لم يتيقن التكليف بالأكثر حتى يستصحب ، وإلاّ لم يكن معنى للشكّ. فأين الاستصحاب حتّى يقبل أو ينكر؟

بل المدّعى : أنه مع عروض نسيان المقدار والشكّ لا تكليف ظاهرا بالمشكوك ؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في أصل التكليف. وأين هذا من رفع الحكم الواقعي الثابت بأحد الوجوه المذكورة في كلامه؟

ومنه يظهر أنه لا معنى للرجوع إلى قاعدة الاشتغال بعد إنكار الاستصحاب ؛ فإنا لا نعلم الاشتغال بالأكثر من أول الأمر ، وإنّما الحاصل من العلم الإجمالي بالفائتة المردّدة العلم بالتكليف بالأقلّ ليس إلاّ.

فتبيّن : أن التحكيم المذكور ـ مضافا إلى أنّه لا محصّل له في الظاهر ـ لا دليل يساعده أصلا ، كما تبيّن أنه بناء على إعمال قاعدة الشكّ بعد الوقت مع عدم الحاجة إليها ، لا معنى للتفصيل المذكور أيضا.

٢٠٢

أصالة التخيير

٢٠٣
٢٠٤

المطلب الثالث : دوران الأمر بين المحذورين

وفيه مسائل :

* المسألة الأولى : الدوران من جهة فقدان النص

* المسألة الثانية : الدوران من جهة إجمال النص

* المسألة الثالثة : الدوران من جهة تعارض النصّين

* المسألة الرابعة : الدوران من جهة اشتباه الموضوع

٢٠٥
٢٠٦

المسألة الأولى (١) :

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

( محلّ الكلام ما اذا لم يكن أحد الإحتمالين موافقا لأصل معتبر دون الآخر ، كما لو كان أحد الإحتمالين موافقا للإستصحاب مثلا ، وكذا إن كان هناك أصل حاكم على أحد الطرفين المعلوم بالإجمال ، كما لو أمر الوالد مثلا بفعل يحتمل التحريم فيه ؛ فإن الأمر دائر بين كون الفعل مباحا ذاتيا فيكون واجبا بوجوب إطاعة الوالدين وحراما فلا يجب فيه الإطاعة ، لكن أصالة الإباحة الذاتية يرفع الشك ويتعيّن من إجرائها الوجوب ؛ لأنّ الشك في الوجوب ناش عن الشك في الحرمة الذاتيّة فبنفي الحرمة بالأصل يترتب الوجوب ) إنتهى.

انظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٢٤.

* وقال المحقق الأصولي النّحرير الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« إعلم ان المحكي عنهم في المسألة أقوال :

١ ـ الإباحة الظاهريّة.

٢ ـ والتوقّف بالنسبة إلى الواقع والظّاهر فيترتّب عليه عدم الحرج في الفعل والترك بحكم العقل للزوم الترجيح من غير مرجّح.

٣ ـ ووجوب الأخذ بأحدهما لا بعينه ، وهذا هو التخيير الشرعي المقابل للإباحة ، والتخيير العقلي المترتّب على التوقف وتعيّن أحدهما لترجيحه.

ومن الغريب ما صنعه الأستاذ قدس‌سره حيث جعل وجوب الأخذ بأحدهما لا بعينه قسيما للتخيير ، ولعلّه غلط في النسخة.

٢٠٧

__________________

ومثله في الغرابة : احتمال كون الحرمة تعبّديّا ؛ فإنّ اعتبار التعبديّة في الترك لا ينفك عن وجوبه كالصوم ؛ فإنّه على ما حقّقناه هو التوطين.

وأمّا صرف أن لا يفعل فلا يعقل ان يكون خضوعا إلاّ باعتبار قصد الإمتثال.

وهو عنوان حادث بالحكم متأخّر عنه فكل حرام تركه عبادة بالمعنى الأعم.

وأمّا التعبّديّة فلا تتحقّق إلاّ في الوجودي ؛ ضرورة أن المأمور به في التعبّدي هو التعبّد بالعمل والعدم لا يعقل أن يكون معنونا بعنوان العطف والإقبال والخضوع.

وأمّا الإباحة : فاستدلّ لها بما دلّ عليها للجاهل كقوله عليه‌السلام : ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي أو أمر ).

وفيه : انّ الورود معلوم إلاّ انّ الوارد غير معروف وليس فيما دلّ على اعذار الجاهل شيء يوهم كون فقد التصوّر عذرا وإنّما الأدلّة الشرعيّة كالدليل العقلي تدلّ على أن فقد التصديق عذر فيعذر العلم بصدور حكم إلزامي من الشارع لا يعقل الإعذار ، غاية الأمر أنّ العجز عن الإمتثال القطعي عذر في مرحلة الموافقة القطعيّة.

وتوهّم : انه جاهل تشمله الأدلّة ناش عن الجهل بالمراد منه في الأدلّة.

ومن الغريب توهّم : حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ منهما حيث انّ الجهل بأصل الوجوب علّة تامّة عقلا لقبح العقاب على الترك من غير مدخليّة لانتفاء الحرمة وكذا الجهل بأصل الحرمة وليس العلم بجنس التكليف المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد حتّى يقال : ان التكليف في المقام معلوم إجمالا.

وجه الغرابة : ان التخيير خاصّيّة العلم ولا دخل للمعلوم في ذلك ولا معنى لاختلاف الأثر

٢٠٨

__________________

باختلاف كون المعلوم جنسا أو نوعا فحيث ارتفع الجهل وتبدّل بالعلم زال العذر ، وهو السرّ في وجوب الإحتياط في الشبهة المحصورة ، وكون المعلوم جنسا لا يزيل أثر العلم ، هذا حكم العلم في مرحلة العمل فتحرم المخالفة القطعيّة.

وأمّا في مرحلة الفتوى فلا يجوز الإفتاء بالإباحة ، لأنه بدعة بل تكذيب للشارع لعلمه بأن الواقعة في دين الله حكمها غير الإباحة وأن الشارع ألزم إمّا بالفعل وإمّا بالترك وحيث خلط بعضهم بين المقام وبين تعارض النّصّين أوجب الإلتزام بأحد الحكمين على وجه التخيير وزعم أن التديّن باحدهما واجب وظهر بما حققناه ضعفه.

وحيث خفي هذا المعنى على الأستاذ اضطربت كلماته في مبحث القطع وفي المقام.

قال قدس‌سره : ( اما دعوى وجوب الإلتزام بحكم الله تعالى لعموم دليل وجوب الإنقياد ... إلى قوله قدس‌سره ( لا من حيث التديّن به ) فرائد : ج ٢ / ١٨٠.

وفيه : ان المراد ليس شيء ممّا زعمه فإنّ الإلتزام في الخبرين ليس إلاّ الأخذ من باب التسليم الذي أمروا به ، وهذا المتوهّم إنّما توهّم اشتراك القسمين في الحكم غفلة عن ان التخيير إنّما هو في المسألة الأصوليّة بذلك المعنى ومرجعه إلى رجوع أمر تعيين الحجّة إلى الشخص في مقام الحيرة كما في تقلييد المتساويين.

وما زعمه : من انّ الإباحة ليست معلومة المخالفة إلاّ من حيث الإلتزام ، فهو من عجائب الأوهام فإن المخالفة القطعيّة اللاّزمة لجواز كلّ من الفعل والترك ابتداء مخالفة عمليّة بالضّرورة مع أنّ الإفتاء بها تكذيب للشارع وأيّ عمل أعظم من التعمّد في الحكم بما علم أنّ الشارع لم يحكم به بل حكم بخلافه.

٢٠٩

دوران الأمر بين المحذورين من جهة فقدان النص

(٤٦) قوله قدس‌سره : ( ولا ينبغي الإشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة ). ( ج ٢ / ١٧٨ )

حال الأصول الثلاثة وبيان مجاريها في صور الدوران والشك

أقول : الغرض مما أفاده : الإشارة إلى أن الكلام المقصود في المقام هو

__________________

ثم قال قدس‌سره : ( ومنه يظهر اندفاع ما يقال : ان الإلتزام ... إلى قوله قدس‌سره : وهذا مما لا يدل على وجوبه أصلا ).

وفيه : ان التديّن في الفروع غير واجب وإنّما اللازم هو التديّن بأصول الدين وهذا هو الفارق بين الأصل والفرع ؛ فإن الأصل ما يطلب فيه الإعتقاد أي : الإلتزام وعقد القلب بخلاف الفرع ؛ فإن المطلوب فيه العمل بالمعنى الأخص القسيم للإعتقاد ، وفيما لا يعلم بانه من الدين لا يجوز ذلك فانه بدعة ؛ لأنه إدخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين والإتيان به بقصد انه من الدين فهو بهذا المعنى قام الدليل على حرمته.

ثم قال قدس‌سره : ( ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه ... إلى قوله قدس‌سره : الواردة في تعارض الخبرين ) [ ج ٢ / ١٨١ ] وفيه : ان القياس باطل لكن لا لما زعمه بل لما حقّقناه من ان الأخذ من باب التسليم لا يجري إلاّ في الخبر ، والإلتزام بالحكم أمر آخر » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٢٩.

٢١٠

البحث عن حال الأصول الثلاثة في هذا المقصد وبيان مجاريها في صور الدوران والشكّ.

وأمّا أصل العدم الراجع إلى الاستصحاب عندنا فهو وإن كان أصلا في كلّ حادث ولو مع العلم بالحدوث ، والشكّ في تعيين الحادث فيما ترتّب هناك أثر شرعيّ على مجرى الأصل المذكور ـ بشرط عدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة من الرجوع إليه ، وإن استلزم المخالفة الالتزاميّة للعلم الإجمالي بل للعلم التفصيلي ، بل المخالفة العمليّة له في ظاهر النظر ـ على وجه تقدّم في أوّل « الكتاب » التفصّي عنه بالوجوه المذكورة هناك ـ حيث إن العقل يستقلّ بقبح المخالفة العمليّة مطلقا فلا بدّ من توجيه ما يقتضي بظاهره خلافه ، وإن أوهمت عبارة « الكتاب » غير ما ذكرنا في ابتداء النظر ، لكنه يرجع إليه ؛ نظرا إلى قوله : « على وجه تقدّم ... الى آخره » (١) ـ إلاّ أنّه ليس مقصودا بالبيان وإنّما يقع الكلام فيه في باب الإستصحاب.

ثمّ إن تحرير الكلام وتحقيقه من شيخنا قدس‌سره في المقام يخالف ما أفاده في أوّل « الكتاب » (٢) ولا بدّ من بسط القول فيه ، والإشارة في طيّ الكلام إلى مخالفة كلاميه في الموضعين ، وبيان ما يقتضيه النظر القاصر في الترجيح والحق منهما ، فنقول :

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٧٨.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٩١ ـ ٩٢.

٢١١

الأقسام الواقعيّة من حيث تعبّديّة الحكمين الإلزاميّين وتوصّليّتهما ، وتعبّديّة أحدهما معيّنا وتوصّليّة الآخر ، لا يخلو من أربعة إلاّ أنه قد يضيف إليها قسم خامس ليس مقابلا لها بحسب الواقع ، وهو تعبّديّة أحدهما لا على التعيين وتوصّليّة الآخر.

ومحل البحث والوجوه التي سيمرّ عليك أو الأقوال هو القسم الثاني ، وهو : ما لو كانا توصّليّين ، أو القسم الأخير الذي أضيف إلى الأقسام باعتبار جهل المكلّف بحال الحكم معيّنا ، مع علمه إجمالا بكون أحدهما تعبّديّا.

وأما لو لم يعلم بالحال أصلا واحتمل كلاّ من التعبّديّة والتوصّليّة في كلّ منهما ، أو في أحدهما المعيّن ، فهو ليس قسما آخر في قبال الأقسام أصلا ؛ فإنه لا بد أن يرجع مع الشّكّ المفروض إلى الأصول والقواعد ، فإن كان مقتضاها في زعم الشاكّ التوصّليّة فيبني على توصّليّة المشكوك ، وإن كان مقتضاها التعبّديّة فيبني على تعبّديّته فيلحقه الحكم.

ثمّ إن تخصيص محلّ البحث بالقسمين مبنيّ على ما يقتضيه التحقيق وعليه المشهور : من عدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة مع المخالفة القطعيّة العمليّة. ولك أن تجعل محلّ الكلام دوران الأمر بين الحكمين الإلزاميّين ، ثم تفصّل في الحكم بين الأقسام المذكورة ؛ إذ لا يترتّب على تحرير البحث بأحد الوجهين ثمرة.

٢١٢

وكيف كان : لا إشكال في عدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وكذا التوقّف وعدم الالتزام بحكم أصلا في مرحلة الظاهر في غير القسمين.

أمّا البراءة فأمرها ظاهر ؛ حيث إنّ تجويز الشارع البناء على الإباحة فيه تجويز للمخالفة القطعيّة العمليّة حتى فيما لو كان أحدهما المعين تعبّديّا كما هو ظاهر ، وإن لم يستلزم الإباحة الظاهريّة المخالفة القطعيّة العمليّة في الصورة المفروضة ، كما يستلزمها فيما لو كانا تعبّديين ؛ حيث إنه بعد البناء على الإباحة الظاهريّة لا يتمكّن من قصد القربة على تقدير اختيار كل من الفعل والترك فيقطع بالمخالفة من حيث العمل باختيار كلّ منهما ، وهذا بخلاف ما لو كان أحدهما المعيّن تعبّديّا فإنه إذا اختار الطرف الآخر لا يقطع بالمخالفة العمليّة كما هو ظاهر ، إلاّ أنّ تجويز الشارع موجب لاختيار ما يكون تعبّديّا ، فيقع في المخالفة العمليّة.

وبمثل ما عرفت ينبغي تحرير الوجه لا بمثل ما في « الكتاب » ؛ فإنه يوهم كون البناء على الإباحة مطلقا مستلزما للمخالفة القطعيّة العمليّة ، بل التحقيق : كون البناء على الإباحة لا يوجب المخالفة القطعيّة العمليّة في التعبّديين أيضا ، فإن البناء على الإباحة الظاهريّة لا يمنع من كون الفعل أو الترك بداعي احتمال الوجوب ، أو التحريم بحسب الواقع ، إلاّ أنّه مستلزم لتجويز اختيار كلّ منهما بعنوان الإباحة الظاهريّة ، فيكون إذنا في المعصية والمخالفة فافهم.

٢١٣

وأمّا التوقّف وعدم الالتزام بحكم ظاهريّ شرعيّ (١) ؛ فلأنّه لا ينفكّ عن

__________________

(١) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« بمعنى عدم الحكم بأنّ الله قد أباح كلاّ من الفعل والترك ظاهرا أو واقعا ، بل نقول : إنه تعالى لم يبح شيئا في الظاهر وحكمه الواقعي أحد الأمرين من الوجوب أو الحرمة لكن العقل لمّا لاحظ انّه لا بدّ للمكلّف من أخذ الفعل أو الترك وانّه لا يمكنه الجمع بينهما وتركهما جميعا فلا يتمكّن من الإحتياط فحكم بانه لا حرج عليه لا في الفعل ولا في الترك وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح.

وبالجملة : فالعقل مستقلّ هنا بقبح المؤاخذة على شيء من الفعل والترك فيستكشف منه الغاءه بكلا الإحتمالين بمعنى عدم تنجيزه شيئا منهما على المكلّف لو كان هو الحكم المعلوم بالإجمال ، ومناط حكم العقل على هذا إنّما هو عجز المكلّف من الإحتياط وعدم تمكّنه منه مع بطلان الترجيح بلا مرجّح ، كما انّ مناط حكمه بالبراءة الأصليّة في الشبهات البدويّة إنّما هو صرف الجهل بالواقعيّة من دون النظر إلى عدم التمكّن من الإحتياط ، وكما ان مناط حكمه بالأخذ بأحد الإحتمالين لا بعينه في المقام على القول به إنّما هو التحيّر فهو مخيّر في أوّل الأمر بين الأخذ بأيّهما شاء اذا لم يكن أحدهما راجحا على الآخر وبعد الأخذ يلزمه ما أخذه ولا يجوز مخالفته إذ يصير هو حينئذ على تقديره منجّزا على المكلف وهذا هو الفرق بين التخيير والإباحة.

ثم إنّ هذا الذي ذكرنا في معنى التخيير لا يفرّق فيه بين العقلي والشرعي ؛ إذ على الثاني إذا قال الشارع : أنت مخيّر بين الأخذ بأي الإحتمالين ، معناه : انه بعد الأخذ يتعيّن عليك ما أخذت به بمعنى انه على تقدير عليك ولست معذورا في مخالفته على تقديره ، فيكون قوله

٢١٤

التجويز العقلي لاختيار كل من الفعل والترك وإن لم يكن معنونا بعنوان الحكم ، وإلاّ كان إلزاما بالنسبة إلى أحدهما وهو خروج عن التوقّف ، وهذا التجويز المطلق لا يجامع تعبديّة أحدهما فضلا عن كليهما ، اللهمّ إلاّ أن يلتزم مع التوقّف بإيقاع كل من الفعل والترك بعنوان الاحتمال وهو نحو من الالتزام فتأمل.

وكيف ما كان : فمحلّ الوجوه بحيث يجري فيه جميعها ما ذكرنا من القسمين ، أمّا التوصّليّان فأمرهما ظاهر ؛ من حيث إن البناء على الإباحة فيهما لا يوجب المخالفة القطعيّة العمليّة في واقعة واحدة. وأمّا إذا كان أحدهما لا على التعيين توصّليّا ؛ فلأنه إذا اختار كلاّ من الفعل والترك يحتمل كونه متعلّقا للخطاب التوصّلي فلا علم بالمخالفة من حيث العمل ، بل لا يمكن في حقّه تحقق المخالفة القطعيّة العمليّة ، والمخالفة الاحتماليّة ممّا لا بدّ منها على كل وجه وتقدير ؛ إذ المفروض عدم إمكان الاحتياط ودوران الأمر بين المحذورين.

وكيف ما كان : قد يقال فيهما : بالإباحة الظاهريّة والبراءة عن كلّ من الوجوب والتحريم كما هو الحكم في دوران الأمر بين التحريم وغير الوجوب ، أو الوجوب وغير التحريم.

__________________

ذلك إنشاء لحكم ظاهري بالنسبة إلى الإحتمالين ، الذي قد أخذ به فإن كان هو الحرمة فيكون الفعل حراما عليه في الظاهر وإن كان الوجوب فيكون واجبا كذلك » إنتهى. أنظر تقريرات السيّد المجدّد : ج ٤ / ١٤١.

٢١٥

وقد يقال فيهما : بوجوب الالتزام بأحد الحكمين وهو المشهور بينهم ظاهرا.

وقد يقال بالتوقّف بالمعنى الذي عرفت بمعنى عدم حكم ظاهريّ للواقعة أصلا لا عدم علمنا به وتردّدنا فيه كعدم علمنا بالحكم الواقعي مع ثبوته ، ويوجّه الأوّل : بجريان دليل البراءة عقلا ونقلا في الجملة في المقام ، كما في غيره من موارد الشك في نوع التكليف الإلزامي ؛ حيث إنّ عدم العلم بالتحريم علّة في حكم العقل بقبح المؤاخذة عليه ، كما أن عدم العلم بالوجوب علّة تامّة في حكمه بذلك من غير فرق بين دوران حكم الواقعة بينهما وغيره في حكم الشارع بالنظر إلى عمومات أخبار البراءة والحلّيّة سيّما المرسلة بناء على رواية جعل الغاية العلم بورود النهي والأمر على تقدير كون المراد ورود كل منهما بخصوصه ، فيدخل الفرض في المغيّا والمفروض أنه لا يلزم من الرجوع إلى البراءة ما يمنع عنه من محذور المخالفة القطعيّة والالتزاميّة.

أما الأول ؛ فظاهر حيث إنه بعد البناء على البراءة لا يخلو من الفعل الموافق لاحتمال الوجوب والترك الموافق لاحتمال التحريم لكونهما توصّليين.

وأما الثاني ؛ فلأن الالتزام بالبراءة والإباحة في مرحلة الظاهر لا ينافي الالتزام بكون حكم الواقعة بحسب الواقع أحد الحكمين الإلزاميّين ؛ فإنّما يجب الالتزام والتديّن بحكم الشارع على نحو ثبوته إجمالا أو تفصيلا واقعيّا أو ظاهريّا ؛

٢١٦

ضرورة عدم الفرق في وجوب تصديق الشارع بين حكمه الواقعي والظاهريّ.

فإن شئت قلت : إن دليل وجوب التديّن والتصديق بما جاء من الشارع على ما جاء به إنّما يثبت كبرى القياس ، كما هو الشأن في جميع القضايا الشرعيّة.

وأخذ النتيجة بالنسبة إلى وجوب الالتزام بحكم خاصّ يتوقّف على ثبوت كونه حكم الشارع للواقعة ، فلا يمكن إثبات وجوب الالتزام بالنسبة إليه إلا بعد ضمّ الصغرى المعلومة إليها من غير فرق بين إرادة إثبات وجوب الالتزام بالنسبة إلى حكم معيّن ، أو أحد الحكمين بحسب الواقع على وجه الترديد ، أو التخيير الواقعي ، أو الظاهري ، فنفس دليل وجوب الالتزام لا يقتضي في المقام الأخذ بأحد الحكمين تخييرا لعدم قيام دليل على كون حكم الواقعة بحسب الظاهر التخيير بينهما في المقام ، كما قام عليه في الخبرين المتعارضين ، والأخذ بأحدهما من جهة الاحتياط والمقدميّة ؛ نظرا إلى العلم بثبوت أحد الحكمين في مرحلة الواقع مما لا يعقل له معنى أصلا ، فإنه يعلم بعدم مطابقته للواقع بل هو تشريع محرّم بالأدلة الأربعة. ومن هنا قال قدس‌سره : ( وليس حكما شرعيّا ثابتا في الواقع ؛ حتى يجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيلي ) (١)(٢) ، فحديث المقدّميّة أجنبيّ عن المقام.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٨١.

(٢) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

٢١٧

__________________

« وفيه : ما عرفت من ان عقد القلب إنّما يجب في الأصول ، فلا يجب في الفروع حتى مع العلم التفصيلي » إنتهى. محجة العلماء : ج ٢ / ٢٩.

* وقال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« يعني ليس هذا النحو من الحكم الشرعي لا انه ليس حكما شرعيّا أصلا كما قد يتوهّم.

والحاصل : ان الحكم الشرعي قد يكون مما يمكن تطرّق الجهل إليه بمعنى كونه ثابتا في الواقع في حال الجهل وقد يكون مما لا يمكن فيه ذلك بمعنى أن تحققه الواقعي لا يكون إلاّ بعد العلم الإجمالي بمتعلّقه تفصيلا وما نحن فيه من قبيل الثاني.

وبعبارة أخرى : لا يوجد الحكم بعد تحقّق موضوعه ولمّا كان موضوعه فيما نحن فيه مأخوذا فيه العلم التفصيلي فلا تحقّق له واقعا في صورة الجهل أصلا » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدّد : ج ٤ / ١٤٤.

* وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« يعني ليس من هذا النحو من الحكم الشرعي أي : ما كان ثابتا في الواقع ولو مع الجهل بمتعلّقة بل من قبيل ما يؤخذ في موضوعه العلم بحيث لو لم يعلم به كان ثابتا في الواقع ، لا انّه ليس بحكم شرعي رأسا ، كيف! والمفروض انه حكم شرعي.

والحاصل : ان وجوب مراعاته ولو مع الجهل التفصيلي لا يكاد يتمّ إلاّ بأمور ثلاثة كلّها في محلّ المنع:

الأوّل : كون وجوب الإلتزام شرعيّا ، وكونه كوجوب الإطاعة إرشاديّا بمكان من الإمكان.

الثاني : كون متعلّق الإلتزام العناوين الخاصّة كعنوان الوجوب والحرمة وغيرها ولم يقم عليه

٢١٨

والقول : باستفادة حكم التخيير الظاهري في مفروض البحث ممّا ورد في الخبرين المتعارضين بتنقيح المناط ـ من حيث إن حكم الشارع بالتخيير بين الخبرين من جهة توافقهما على نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة المعتبرة ، والمفروض في المقام العلم بعدم الثالث ، فلا بدّ من الحكم بمراعاته ، بل المقام أولى بالملاحظة من مورد التعارض كما هو الظاهر ، ومن هنا قال في أول « الكتاب » : إنه يمكن استفادة المطلب من فحوى أخبار التخيير الواردة في المتعارضين ـ فاسد.

إذ من المحتمل قويّا كون مبناه على التعبّد الظاهري ، لا مراعاة ما ذكر من الدّلالة الالتزاميّة للخبرين على نفي الثالث ؛ فإن ذلك لا يقتضي الحكم بالتخيير

__________________

دليل ، بل غاية ما ينهض عليه هو لزوم الإلتزام بأحكامه تعالى على ما هي بحسب الواقع ولو لم يحرز عناوينها الخاصة.

الثالث : عدم تقييد موضوعه بالعلم ، وهو أيضا ممنوع كما منعه قدس‌سره مع سابقه على ما يظهر من التأمل في كلامه.

وذلك أي : عدم تماميّة وجوب المراعات إلاّ بهذه الأمور الثلاثة ؛ لأن العقل لا يلزم بالإلتزام إلاّ بما هو حكم الله تعالى لو كان اللزوم بإرشاده كما أنّ الإلتزام حاصل لو كان متعلّقه الواقع على ما هو عليه ، ولو كان اللزوم شرعيّا ، ولا لزوم في محلّ الفرض لو كان الموضوع مقيّدا بالعلم كما هو واضح.

وأمّا وجوب المراعات مع ثبوت هذه الأمور ؛ فإنّ إطاعة الأمر بالالتزام بالموافقة القطعيّة وإن كان في محلّ الفرض ممتنعة ، إلاّ انّها بالموافقة الإحتماليّة وعدم المخالفة القطعيّة بأن يلتزم بالوجوب أو الحرمة ممكنة ، فتدبّر » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٣١.

٢١٩

مطلقا ، بل مقتضاه الحكم بالتساقط بالنسبة إلى مورد التعارض والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما إن كان ، وإلاّ فالتخيير هذا.

مع احتمال كون مبناه على رعاية الحكم الشرعي الأصولي المتعلّق بكلّ من المتعارضين من حيث استجماعهما لشرائط الحجيّة ، ولمّا عجز المكلّف عن تصديقهما معا لمكان التعارض ، فأوجب الشارع تصديق أحدهما كما هو قضيّة العقل أيضا لو لا حكم الشارع به من حيث رجوع الأمر في الحقيقة على هذا التقدير إلى تزاحم الواجبين ، بناء على حجية الأخبار من باب السببيّة لا الطريقيّة ، والقول به وإن كان ضعيفا عندنا على ما ستقف عليه في باب التعارض ، إلاّ أنّ احتماله مانع عن تنقيح المناط واستفادة حكم المقام ممّا اتفقوا عليه في باب اختلاف المجتهدين في الرأي مع تساويهما من تخيير العامي في الأخذ بهما ؛ حيث إن فتوى المجتهد للعامي بمنزلة الخبر للمجتهد فيكون حكم الشارع بالتخيير من جهة رعاية أدلّة وجوب الأخذ بالفتوى لا الحكم الفرعي الواقعي فتدبّر.

لا يقال : ما ذكر في حكم المسألة وإن كان موافقا لعمومات أدلّة البراءة ، إلاّ أن اتفاقهم فيما إذا اختلفت الأمّة على قولين ـ بحيث علم دخول الإمام عليه‌السلام في إحدى الطائفتين ـ على عدم جواز إحداث القول الثالث مطلقا معلّلا بإيجابه لطرح قول الإمام عليه‌السلام مع أنه ليس طرحا له بحسب العمل بقول مطلق يكشف عن عدم جواز القول بالإباحة فيما إذا اختلفت الأمّة بين الوجوب والتحريم.

٢٢٠