بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

على القول بكونها طبيعة ثالثة خارجة عن الفريقين ، هذا على تقدير تسليم العموم لآية الغضّ.

وأمّا على تقدير منعه (١) ؛ نظرا إلى أن القول بثبوته لحذف متعلّق الخطاب

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره معلّقا على قول المصنف [ بناء على عدم العموم في آية الغض للرجال ] :

« أقول : يوجد في بعض النسخ قوله : ( والنساء ) معطوفا على الرّجال وهو الأظهر.

لأن آية غضّ المؤمنين من أبصارهم وآية غضّ المؤمنات من أبصارهن متماثلتان في العموم وعدمه وكلتاهما محلّ للإستدلال للمدّعى من جواز نظر الرجال والنساء إلى الخنثى ووجه توهّم العموم في الآيتين من باب حذف المتعلّق وليس ببعيد.

ثم إنّ المصنّف غيّر الاسلوب في قوله : ( وعدم جواز التمسك بعموم آية حرمة ابداء الزينة على النساء ... إلى آخره ) ولم يقل : ( بناء على عدم العموم ) لأن العموم هنا ثابت بدليل استثناء ( إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ...) إلى آخره.

لكن يرد عليه :

أوّلا : انه علّل عدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة بكونه من باب اشتباه مصداق المخصّص وهو وارد في آية الغض أيضا كما لا يخفى.

وثانيا : ان آية إبداء الزينة أجنبيّة عمّا هو بصدده : من عدم حرمة نظر الرجال والنساء إلى الخنثى ، والعموم المستفاد منها إنّما هو باعتبار حرمة إبداء النساء زينتهنّ للرّجال والخناثى المستلزمة لحرمة نظر الرجال والخناثى إلى زينتهنّ ، ولا ربط لها بنظر النساء إلى الخناثى كما هو المدّعى.

٤٦١

يوجب وهنه بلزوم تخصيص الأكثر ، فلا بد من حمله على العهد فالأمر أوضح.

ودعوى : وجود الأصل الموضوعي على تقدير تسليم العموم لكلّ فريق ؛ نظرا إلى أن الخارج من العموم هو عنوان المماثل ، وكل فريق شاكّ في تحقّق المماثلة في حقّه فينفيه بالأصل ويترتّب عليه حكم العموم ، فاسدة.

فإن نفي المماثلة في معنى نفي الرجوليّة والأنوثيّة الغير المسبوقين بالعدم إلاّ في زمان عدم الموضوع ، فلا يقاس بنفي النسب بالأصل في باب الشّكّ في السيادة وغيره ؛ لوضوح الفرق بين المقامين بما لا يخفى.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه : وجه للقول بعدم الجواز في حقّهما ، مضافا إلى ما أفاده شيخنا في وجهه في الجزء الأوّل من « الكتاب » ، كما أنه قد ظهر منه حكم معاملة الخنثى مع الخنثى في غير التزويج ؛ فإنه لا يجوز قطعا.

وأمّا في مسألة النظر ونحوها فيمكن الحكم بالجواز ؛ لما عرفت في معاملة كل من الرجل والمرأة معها والمقام أشبه شيء بالنظر إلى شخص لا يعلم كونه رجلا أو امرأة مع إمكان العلم التفصيلي بحاله على تقدير الفحص وتبيّن أمره. هذا بعض الكلام في المسألة وقد أشبعناه في الجزء الأوّل من التعليقة (١).

__________________

اللهم إلاّ أن يكون مراده : أن النظر وما يشبهه مثل إبداء الزينة بالنسبة إلى الخنثى ليس حراما بناء على عدم العموم في آية الغض ... إلى آخره فتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢١.

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٦٤ ـ ٦٥.

٤٦٢

* التنبيه الثامن :

التسوية بين كون الأصل في كل واحد

من المشتبهين هو الحلّ أو الحرمة

(١١٦) قوله : ( الثامن : أن ظاهر كل من الأصحاب التسوية (١) بين كون الأصل ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٢٥٤ )

__________________

(١) قال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« أقول : في توضيح ذلك : إنّ نزاع المجوّزين لارتكاب الشبهة المحصورة في الجملة أو بالجملة هل يختصّ بما لو كانت الحالة السابقة في ما قبل الإشتباه هو الحلّيّة والطهارة كما لو عرضت النجاسة المشتبهة أو الحرمة المشتبهة على معلومي الطهارة والحلّيّة ، أم يعمّ ما لو كانت الحالة السابقة في ما قبل الإشتباه هو الحرمة والنجاسة كما لو عرضت الطهارة والحلّيّة على أحد معلومي النجاسة والحرمة وما لم يعلم الحالة السابقة فيهما أصلا؟

وجهان ، وظاهر كلام الأصحاب وأدلّتهم هو تعميم جواز المجوّزين في المسألة وعدم اختصاص جوازهم بالأول ، كما لا يختصّ بالمحرّمات الماليّة ونحوها ، بل يعمّ ظاهرا الأنفس والأعراض والخمر ونحوها كما لا يخفى » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٩٩.

(٢) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

٤٦٣

__________________

« وكذا لو كانا مختلفين بأن كان الأصل في أحدهما الحلّ وفي الآخر الحرمة ، كأن كان أحد الإنائين مستصحب الطهارة والآخر مستصحب النجاسة.

لكن التحقيق : ان العلم الإجمالي لا أثر له فيما كان الأصل فيهما الحرمة ؛ لإن الإجتناب عنهما من باب جريان الأصلين لا من باب العلم الإجمالي المقتضي للإحتياط وإن كان حكم الأصلين موافقا للإحتياط ولا يمنع جريان الأصلين العلم الإجمالي بحلّيّة أحد المشتبهين ؛ لإن هذا العلم الإجمالي لا يؤثّر ولا يوجب تكليفا حتى يلزم من إعمال الأصلين طرح ذلك التكليف.

وأيضا التحقيق : ان العلم الإجمالي لا أثر له فيما كان الأصل في أحدهما الحلّ وفي الآخر الحرمة بل يجري الأصلان ولا ينافيهما العلم الإجمالي ؛ لأن هذا العلم بالنسبة إلى ما كان الأصل فيه الحرمة لا يفيد شيئا وهو واضح ، وبالنسبة إلى ما كان الأصل فيه الحلّ يرجع إلى الشبهة البدويّة.

وبعبارة أخرى : لم يوجب هذا العلم لنا تكليفا جديدا زائدا على ما ثبت علينا فيما كان الأصل فيه الحرمة.

نعم ، في الصورة الأولى وهو ما كان الأصل في المشتبهين الحلّ حكم الإحتياط على القول به مستند إلى العلم الإجمالي لسقوط الأصلين بالتعارض ، ولا فرق هنا في كون الأصلين من جنس واحد كما لو كان الإناءان مستصحبي الطهارة أو من جنسين كما لو كان أحد المشتبهين مجرى لاستصحاب الطهارة والآخر مجرى لقاعدة الطهارة.

ولا يقال : أن القاعدة حاكمة على الإستصحابين فلا يتحقّق التعارض بينهما. لأنّا نقول : تلك

٤٦٤

أقول : أمّا كون الحكم عند جلّ الأصحاب المانعين لجواز الارتكاب هو عدم جوازه فيما إذا اقتضى الأصل في المشتبهين الحرمة فممّا لا شبهة فيه أصلا.

وأمّا ما استظهره من كلماتهم : من أن ذلك من جهة الاحتياط وعدم جريان الأصل المقتضي للحرمة في المشتبهين فمحلّ تأمّل.

لم لا يكون من جهة العمل بالأصلين فيهما؟ نظرا إلى عدم لزوم محذور من العمل بهما أصلا ، لا المخالفة العمليّة القطعيّة ولا غيرها ، فلا تعارض بينهما حتى يرجع إلى الاحتياط.

والثمرة بين الحكم بوجوب الاحتياط من جهة إعمال الأصل والاحتياط لا يكاد أن يخفى ؛ فإنّه يترتّب على الأوّل جميع آثار الحرام الواقعي والنجس على المشتبهين ، فيحكم بتنجّس ملاقي أحدهما بخلاف الثاني هذا. ولعلّنا نتكلّم في ذلك زائدا على ما عرفت في الجزء الثالث من التعليقة إن شاء الله.

وأمّا المجوّزون للارتكاب فيلزمهم الفرق بين القسمين (١) والحكم بعدم

__________________

الحكومة إنّما هي فيما كان موردها متّحدا لا في موردين كما فيما نحن فيه » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٢.

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« كما يمكن الفرق بناء على أن يكون سقوط الأصل من الطرفين بسبب مراعاة التكليف المنجّز في البين لا لعدم المقتضي من عموم الدليل الدالّ على اعتباره ؛ فانه لا مانع حينئذ من أصالة الحرمة والنّجاسة ؛ حيث إنّ اجراءهما في الطرفين لا ينافي في هذه الصورة

٤٦٥

الجواز فيما إذا اقتضاه الأصل الجاري في المشتبهين ؛ لأن مبنى حكمهم بالجواز ـ فيما إذا اقتضاه الأصل ـ هو عدم تأثير العلم الإجمالي في رفع الأصل الجاري في المسألة ، فيصير الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي كالشبهة المجرّدة ، من غير فرق بينهما في الحكم أصلا.

ولازمه كما ترى ، عدم الفرق بين القسمين ، فعليه يخرج ما اقتضى الأصل فيه الحرمة عن محل البحث على ما حرّرناه على القول بالمنع ، لا على ما حرّره شيخنا قدس‌سره. اللهم إلاّ أن يكون مراده من خروجه عن محلّ البحث خروجه عنه غير ملاحظ فيه عنوان الحكم بوجوب الاجتناب.

وأما استظهار التعميم من استدلالهم في المسألة بالأخبار (١) الدالّة على

__________________

مراعاة التكليف بينهما بخلاف أصالتي الحلّ والطهارة ، بل لا مجال حينئذ لحكم العقل بوجوب الإجتناب.

عن كلّ منهما من باب المقدّمة العلميّة فإنّ كلاّ منهما محكوم بالنّجاسة أو الحرمة شرعا ، وتظهر الثمرة حينئذ في الحكم بالنجاسة في ملاقي أحدهما وعدم الحكم بها فيما اذا كان الأصل فيهما الطهارة فلا تغفل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٤٦.

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : هذا الإستدلال لا ينافي الإلتزام بالفرق المزبور ؛ إذ المقصود بالأصل هو القاعدة المقرّرة التي يرجع اليها الشاك لو لا علمه الإجمالي بمخالفتها للواقع ، والأصل في الأموال وإن كان حرمة التصرّف وعدم وصوله إليه بناقل شرعي ولكن قاعدة اليد فيما يجده المكلّف

٤٦٦

حليّة المال المختلط بالحرام كما في « الكتاب » فهو مبني على كون مقتضى الأصل في الشبهة المجرّدة في المسألة الحرمة. وأمّا على القول بكون مقتضى الأصل فيها الحلّيّة والجواز على ما هو أحد الوجهين المذكورين في « الكتاب » سابقا فلا وجه للاستظهار المذكور أصلا كما لا يخفى.

ثمّ إن القول بكون محل كلام المجوّزين في غير الأنفس والأعراض المشتبهة بالشبهة المحصورة ـ كما استظهره منهم المحقّق المحشّي في آخر بحث « مقدّمة الواجب » (١) من حيث كون المنع في اشتباههما ضروريّا ـ محلّ نظر ؛ لأن الضرورة قضت بحرمة نفس العنوانات المشتبهة فيهما بل في كثير من غيرهم ، وأمّا المنع عند الاشتباه فليس بضروريّ مطلقا.

نعم ، بناء على ما استظهرناه : من خروج ما اقتضى الأصل فيه الحرمة عن محل كلامهم لزم الحكم بالمنع فيما ذكره ، لكن ما ذكرنا لا يختصّ بما خصّه به ، بل ربّما يجري في النجس المشتبه كما إذا كان المشتبهان مسبوقي النجاسة.

__________________

تحت يده أو وصل اليه من غير طيب نفسه حاكمة على أصالة الحرمة ، فالقائل بجواز الإرتكاب فيما عدا مقدار الحرام على تقدير إلتزامه بالتفصيل المزبور أيضا له أن يقول في مورد الرواية أيضا ـ مع قطع النظر عن الرّواية ـ بجواز ارتكاب ما عدا المقدار الذي علم بحرمته إجمالا تعويلا على قاعدة اليد بمقتضى أصله فلاحظ وتدبّر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٢٢٢.

(١) هداية المسترشدين : ج / ٢٢١ ط ق.

٤٦٧

* التنبيه التاسع :

(١١٧) قوله : ( التاسع : أن المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمها ؛ لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة وهو ظاهر ) (١). ( ج ٢ / ٢٥٦ )

__________________

(١) قال سيّد العروة المحقق اليزدي قدس‌سره :

« قد يكون ذلك بصيرورة المشتبه الجديد أيضا طرفا للعلم في عرض المشتبهين السابقين بأن يتبدّل العلم بين الإثنين إلى العلم بين الثلاثة وهذا من الشبهة المحصورة السابقة.

وقد يكون ذلك باشتباه المشتبه الجديد بأحدهما المعيّن ويكون العلم الإجمالي بين احد هذين والطرف الآخر وهذا هو الذي ذكره انه من باب مقدّمة المقدّمة ، هذا.

بقي شيء : ينبغي ان يجعل عاشر التنبيهات :

وهو انه لو قامت بيّنة على نجاسة أحد الإناءين لم يجب الإجتناب عن الآخر ؛ لانه ينطبق المعلوم بالإجمال عليه كما لو علمنا تفصيلا بنجاسة أحد الإناءين فإن العلم الإجمالي يصير مفصّلا به.

وأمّا لو قامت البيّنة على طهارة أحدهما المعيّن لم يزل حكم الشبهة المحصورة عن الآخر بان يحكم بنجاسته شرعا ويترتب عليه جميع أحكام النجاسات ومنها الحكم بنجاسة ملاقيه بل يحكم بطهارة ملاقيه على ما هو حكم الشبهة المحصورة على القول به.

والوجه في ذلك : انه لا يثبت بالبيّنة سوى نفس ما أخبر به البيّنة ولوازمه العرفيّة البيّنة التي يمكن ان يسند اليها بأن يقال : إن أخبر كما أنه الخبر بالملزوم أخبر باللازم أيضا ، وكذا يثبت

٤٦٨

أقول : لا سترة فيما أفاده ، ومن هنا ادّعى وضوحه ؛ لأن توقّف شيء على غيره يستلزم توقّفه على ما يتوقّف عليه ذلك الغير ؛ ضرورة امتناع وجود الغير بدون ما يتوقّف عليه ، وإلاّ لزم الخلف فيمتنع وجود ما يتوقّف على الغير أيضا ؛ لفرض توقّفه عليه ، فمقدّمة مقدّمة الشيء مقدّمة لنفس ذلك الشيء ، فالعلم الذي يتوقّف تحصيله على الاجتناب عن المشتبهين يتوقّف لا محالة على ما يتوقّف عليه تحصيل العلم باجتناب أحد المشتبهين ، فيجب الاجتناب عنه أيضا.

__________________

بها لوازم المخبر به الشرعيّة لا غيرهما فنقول فيما نحن فيه :

إنّ البيّنة لم تشهد إلاّ على طهارة ذلك الإناء المعيّن وليس نجاسة الإناء الآخر لازما عرفيا للمشهور به قطعا.

إذ قد يكون الشاهد جاهلا بحال الإناء الآخر وبحال علم من علم إجمالا بنجاسة أحدهما ويقول : إني لا أعلم سوى أن هذا الإناء طاهر.

نعم يلزم من طهارة ما شهدت البيّنة بطهارته واقعا بضميمة العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما كون الآخر نجسا ولا وجه لحجّيّة هذا اللازم فيلتزم بالتفكيك بينهما ظاهرا كما يقال بالتفكيك بين اللازم والملزوم في مجاري الأصول بناء على القول بعدم حجّيّة الأصول المثبتة كما هو كذلك عند المشهور والمصنف.

نعم ، تثبت اللوازم الشرعيّة الثابتة للمشهود به كما يحكم في مثل ما نحن فيه بجواز الوضوء والغسل والشرب ونحوها من الإناء المشهود بطهارته لتحقق موضوع هذه الأحكام شرعا فتدبر » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٣.

٤٦٩
٤٧٠

الشبهة غير المحصورة

المقام الثاني (١)

في الشبهة غير المحصورة

(١١٨) قوله المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة والمعروف فيها عدم وجوب الاجتناب ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٢٥٧ )

أقول : الكلام في المقام كالكلام في المقام الأوّل يقع في مقامين :

أحدهما : وجوب الاحتياط وعدمه وبعبارة أخرى : وجوب تحصيل

__________________

(١) وقد مرّ المقام الأوّل : في الشبهة المحصورة.

(٢) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« ظاهرهم عدم الفرق بين ما كان الأصل في جميع الأطراف الحلّ كما اذا اشتبه الخمر بالماء بالشبهة غير المحصورة وبين ما كان الأصل فيها الحرمة كما إذا اشتبه الميتة بالمذكّى بالشبهة غير المحصورة ولازم ذلك كون أمر الشبهة غير المحصورة أخفّ وأسهل من الشبهة البدويّة » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٤.

٤٧١

الموافقة القطعيّة وعدمه.

ثانيهما : في جواز المخالفة القطعيّة على تقدير القول بعدم وجوب الاحتياط وعدمه.

وقد قدّم الكلام في المقام الأول حسبما يفصح عنه كلامه.

ما يستدل به على عدم وجوب الإحتياط

ويدلّ على عدم وجوب الاحتياط في المقام على خلاف الشبهة المحصورة وجوه :

في تقرير الإجماع على عدم وجوب الموافقة

القطعيّة في الشبهة غير المحصورة

الأوّل : الإجماع القطعي عليه بحيث لا يرتاب فيه بعد الرجوع إلى كلماتهم (١) ، بل لو لم يكن في المسألة إلاّ الإجماعات المنقولة في كلمات جمع من

__________________

(١) قال السيّد عبد الله الشيرازي قدس‌سره :

« لا يخفى عدم إمكان الإستناد الى حصول الإجماع المدّعى في المقام وإن كانت الدعوى من مثل الأساطين بعد الإحتمال أو الظن ، بل القطع بأن كثيرا من المتّفقين في المسألة أو بعضهم أفتوا من جهة إنطباق القواعد والعناوين على المسألة بالخروج عن محلّ الإبتلاء أو لزوم العسر والحرج أو من جهة بعض الأخبار » إنتهى. أنظر عمدة الوسائل : ج ٢ / ١٦٦.

٤٧٢

الأساطين قولا وعملا ، فضلا عن دعوى نفي الرّيب عنه ، بل الضرورة عليه في كلام بعض ، وعدم الخلاف المشاهد عنهم ، لكفى في حصول القطع بالإجماع في المسألة ، بل الشاكّ في تحققه في المسألة لا أرى أن يحصل له القطع بالإجماع في مسألة من المسائل.

قال الفريد المولى البهبهاني قدس‌سره في « الفوائد » ـ بعد جملة كلام له في بيان الفرق بين المحصور وغيره ـ ما هذا لفظه : « مع أن عدم وجوب الاجتناب عن غير المحصور مجمع عليه بين الكل ، ولا ريب فيه ومدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان على ذلك ، وقد حقّقناه في مواضع أخر ، وكثيرا ما يعاضده أصالة الصحّة في تصرّفات المسلمين » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، صريح في دعوى الإجماع قولا وعملا ، بل في نفي الريب عنه. ومع ذلك كلام شيخنا العلاّمة ( دام ظله العالي ) ظاهر لو لم يكن صريحا في عدم جزمه بتحقّق الإجماع وإن جزم بكفاية نقله في المسألة من حيث كونه مستفيضا معتضدا بغيره ، وكون المسألة فقهيّة وإن دوّنها جماعة في الأصول (٢)

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٢٤٧.

(٢) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لا يقال : إن المسألة أصوليّة لا يدخل فيها الإجماع.

لأنّا نقول : نمنع ذلك ؛ فإن الحكم بجواز إرتكاب أطراف الشبهة وحلّيّتها مسألة فرعيّة

٤٧٣

خلافا لكثير لا أصولية حتى يمنع من العمل فيها بالظن الخاصّ فضلا عن الظن المطلق ، وإن كانت هذه المضايقة فاسدة عندنا لما أسمعناك في الجزء الأوّل من التعليقة : من عدم الفرق فيما دلّ على حجّيّة الأمارات من حيث الخصوص ، أو من باب الظّن المطلق ، بين كون موردها المسألة الفرعيّة ، أو الأصوليّة العمليّة.

لا يقال : كون المسألة من المسائل الفرعيّة ـ كالبحث في حكم الشبهة الموضوعيّة في جميع مسائل الباب ـ وإن كان أمرا واضحا لا سترة فيه أصلا ـ وإن قيل بكون البحث عن البراءة والاشتغال في الشبهات الحكمية من مسائله بحثا عن المسألة الأصوليّة ـ لكن قد تقدم منه ( دام ظلّه ) في الجزء الأوّل من « الكتاب » عند البحث عن « حجيّة نقل الإجماع » : المنع عن كونه من الظنون المخصوصة على تقدير القول بحجيّة الخبر الواحد من حيث الخصوص في الجملة (١).

لأنّا نقول : ما تقدّم منه ( دام ظلّه ) كان مقصورا على ما لا يكون المنقول منه حسّا على تقدير تحقّقه لنا ملازما عادة لقول الإمام عليه‌السلام أو تقريره أو فعله. وأمّا ما كان كذلك ولو بضميمة ما حصّله المنقول إليه من الأقوال والقرائن ، فقد صرّح

__________________

يدخلها الإجماع ولا ينافي ذلك أن تكون المسألة ببعض الإعتبارات داخلة في المسائل الأصوليّة أيضا كأن يتكلّم في أن العلم الإجمالي الكذائي منجّز للتكليف أم لا.

نعم ، يمكن الخدشة في هذا الدليل بأن القدر المتيقّن من الإجماع والضرورة هو فيما لم يكن جميع الاطراف محلاّ للإبتلاء ، فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٢٤.

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ١٧٩ ، وكذا انظر : ٢١٢ ـ ٢١٣.

٤٧٤

بحجيّة نقله فيكون مستقلاّ في الحجيّة إذا كان سببا تامّا على تقدير تحقّقه ، إمّا من حيث نقل السبب ، أو المسبّب إذا رجع الناقل في تحصيله إلى الحسّ ، أو كان محتاجا إلى ضمّ جزء آخر من الأقوال ، أو القرائن إذا لم يكن سببا تامّا.

والمنقول في المسألة من القسم الثاني جدّا ؛ نظرا إلى استفاضة نقله واعتضاده بعدم الخلاف في المسألة ، ودعوى الضرورة والشهرة المحقّقة وغير ذلك من القرائن والأمارات هذا.

ولكن قد يناقش في ذلك : بأن ما أفاده ثمّة من حجيّة نقل الإجماع في الجملة وفاقا لبعض المحقّقين كان مبنيّا على تسليم دلالة « آية النبأ » على حجيّة خبر العادل في الحسّيّات ، أو ما يرجع إليه على ما عرفت هناك : من حيث اختصاص غير الآية من الأدلة المتقدّمة بالرّوايات المصطلحة ، وقد سبق منه ( دام ظلّه ) المنع من دلالة الآية على حجيّة خبر العادل.

نعم ، نقل الإجماع على طريقة القدماء يدخل في الرواية ، لكن نعلم أن الناقل لم يطّلع عليه عن حسّ ، فكيف يجوز الاعتماد على نقله؟

هذا بعض الكلام في المقام وإن أردت شرحه فارجع إلى ما حرّرنا في الجزء الأوّل. فالأولى التشبّث بذيل الإجماع المحقّق في المسألة كما عرفته منا فإنك قد عرفت عدم الارتياب فيه.

٤٧٥

(١١٩) قوله : ( الثاني : ما استدلّ به جماعة من لزوم المشقة في الاجتناب ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٥٧ )

تقرير دليل لزوم الحرج من الإحتياط (١)

أقول : هذا الوجه مما تمسّك به في المقام أكثر الأصحاب ، بل لم أر من لم يتمسّك به ممن تعرّض لحكم المسألة ، بل ربّما يجعلون الضّابط لغير المحصور ـ على ما ستقف عليه ـ ما يكون الحرج في الاجتناب عنه ، وقد تلقّوه بالقبول ولم يستشكل فيه إلاّ بعض أفاضل المتأخّرين (٢).

__________________

(١) هذا هو الوجه الثاني الذي استدلوا به على عدم وجوب الإحتياط.

(٢) قال المحقّق النائيني قدس‌سره :

« وأمّا التمسّك بأدلة نفي الحرج من جهة أن الإجتناب من أطراف الشبهة مع عدم الحصر غالبا يوجب الحرج على أفراد المكلّفين نوعا.

فلا يستقيم بناء على المختار من أنّ الحرج والضّرر المنفيّين في الشريعة إنّما أخذا موضوعين في مقام الجعل فيدور إنتفاء الحكم مدار تحقّقها خارجا على ما هو الحال في كلّ حكم بالقياس إلى موضوعه فلا موجب لعدم وجوب الإحتياط فيما إذا لم يلزم منه حرج وعسر.

نعم ، لو كان الحرج أو الضّرر من قبيل الحكمة لجعل الحكم على موضوعه كجعل الطهارة للحديد من جهة أن الحكم بالإجتناب كان موجبا للعسر على الأمّة على ما يستفاد من بعض

٤٧٦

ولمّا كانت الكبرى وهو عدم جعل الحكم الحرجي في الشرع ـ بمقتضى عمومات الآيات والأخبار ـ من الأمور المسلّمة بينهم ، كورود ما دلّ عليه على قاعدة الاحتياط ـ كوضوح فساد دعوى اطراد الصغرى بالنسبة إلى جميع جزئيّات الشبهة الغير المحصورة ـ فلا بد من توجيه الاستدلال بالوجه المذكور على وجه يتم به صورة القياس والبرهان ، ومن هنا ذكر شيخنا في « الكتاب » في تقريب الاستدلال : ( ولعلّ المراد به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلفين فيشمله عموم قوله تعالى ... إلى آخر ما أفاده ) (١).

والغرض : أن الكبرى بمقتضى ما دل على نفي الحرج الحرج الغالبي بالنسبة إلى جزئيّات الفعل والمكلّف معا بمعنى : أن كل فعل كان حرجيّا بالنسبة إلى غالب جزئيّاته في حق غالب المكلّفين ، فحكمه مرفوع عن جميع جزئيّاته ، حتى الجزئي الذي لا حرج فيه أصلا في حقّ جميع المكلّفين ، حتى عن المكلّف الذي لا يكون الفعل في حقّه حرجيّا أصلا.

ولمّا كان هذا المعنى خلاف ما يظهر من الكتاب السنّة الواردين في هذا

__________________

الرّوايات وكالحكم بخيار الشفعة لحكمة عدم تضرّر الشريك لكان الحكم ثابتا في مورد عدم تحقّقهما أيضا ؛ ضرورة أن الميزان في فعليّة الحكم هو وجود موضوعه لا حكمة تشريعه » إنتهى. أنظر أجود التقريرات : ج ٣ / ٤٧٤.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٥٨.

٤٧٧

الباب في ظاهر النظر أثبت إرادته بقوله : ( إلاّ أنه يتعيّن الحمل عليه ... إلى آخر ما أفاده ) (١) هذا.

ولكنّ المحكيّ عن غير واحد ظهور أدلّة نفي الحرج بأنفسها في ذلك من غير احتياجها إلى الضميمة ، فتقريب دلالتها على المدعى من وجهين.

وقد يناقش في هذا الوجه :

أولا : بأن الكبرى المستفادة منها هو نفي الحرج الشخصي لا الغالبي بالمعنى الذي سبق ذكره ؛ حيث إن الخطاب فيما دلّ من [ ال ] كتاب العزيز على ذلك متعلّق بكلّ مكلّف على ما يقتضيه ظاهر خطاب الجمع ، فلا بد أن يكون المنفيّ حرجيّا في حقّ كلّ مكلّف.

نعم ، لو لم يكن الحرج علة لرفع الحكم في مورد ودليلا عليه ، بل كان دليل رفعه ما ورد في عنوانه ، واستفيد من الخارج : أن الحكمة في رفعه لزوم الحرج على تقدير تشريع الحكم ، لم يلزم اطّراده من الوجهين ، كما قيل في باب الحديد من جهة بعض الأخبار ، وورد في بعض المستحبّات كما في السواك.

وبالجملة : الفرق بين رفع الحكم الثابت بدليله بما دل على نفي الحرج ودفع اقتضاء ما يقتضي جعل الحكم بما دل عليه بملاحظة حكمة الحرج ظاهر لا سترة فيه ، وقد نبّهنا عليه في الجزء الأوّل من التعليقة.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢ / ٢٥٨.

٤٧٨

ويؤيّد ما ذكرنا بل يدل عليه في وجه ـ مضافا إلى ما عرفت من كونه قضيّة ظاهر أدلّة نفي الحرج ـ : أنه لا شبهة في كون ما ورد في ذلك مسوقا للإمتنان على العباد كما يكشف عن ذلك حديث « رفع التسعة » لو كان ما فيه الحرج مرادا مما لا يطاق (١) الحديث.

حيث إن جعل التكليف مع الحرج على العباد ولو كان أجر إطاعته أكثر يوجب غالبا عصيان الشارع بالنسبة إلى غير التكليف الحرجي فضلا عن الحرجي ، بل ربّما يوجب مع كثرته رفع اليد عن الدين في حق الغالب. وبهذه الملاحظة كان مبنى تبليغ الرسل على بيان الأحكام تدريجا ، فإذا فوّت الشارع مصلحة التكليف في حق المكلّف فيتداركها بالتسهيل.

ومن المعلوم عدم اقتضاء ذلك رفع الحكم عن فعل لا حرج فيه أصلا بالنسبة إلى بعض جزئيّاته في حق تمام المكلّفين ، أو عن فعل لا حرج فيه أصلا ومطلقا بالنسبة إلى مكلّف خاصّ ، وإن كان حرجيّا في حقّ غيره بالنسبة إلى تمام جزئيّاته ومصاديقه ؛ فإن تفويت شخص المصلحة عن نوع المكلفين ، وتفويت نوع المصلحة الملزمة عن مكلّف مع عدم التدارك بالتسهيل خلاف سوقه للامتنان على العباد. مضافا إلى ما قيل من كونه خلاف مقتضى الحكمة والعقل ؛ إذ كما لا يجوز

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٣ « بيانه في مشيئة الله تعالى وإرادته » ـ ح ٢٤ ، والخصال : ٤١٧ « النهى عن تسعة أشياء » ـ ح ٩ ، عنها وسائل الشيعة : ج ١٥ / ٣٦٩ باب « جملة مما عفي عنه » ـ ح ١.

٤٧٩

جعل التكليف بلا جهة كذلك لا يجوز رفعه مع وجود الجهة بلا تدارك.

لا يقال : تعميم رفع الحكم من دون مصلحة توجبه وإن كان قبيحا كرفعه رأسا من دون تدارك أصلا ، إلاّ أن نفس اطّراد الحكم عندهم مصلحة صالحة لتدارك ما يفوت عن المكلّف ، فلا يحتاج إلى مصلحة أخرى ، ومن هنا ذكروا : أن الحكمة لا يلزم اطّرادها مع اطراد الحكم بالفرض.

لأنّا نقول : ما ذكر فاسد جدّا ؛ ضرورة أن الاطّراد بنفسه ليس شيئا قابلا لتدارك ما يفوت عن المكلّف. نعم ، قد يكون هناك مصلحة في اطّراد الحكم من الشارع مع عدم وجود المصلحة الشخصيّة في الفعل الذي تعلّق به الحكم ، ومن هذا الباب قولهم بعدم لزوم الإطّراد في حكمة الحكم.

المنفي بأدلة الحرج هل هو الحرج الشخصي أم النوعي؟

فإن شئت قلت : فرق بين جعل التكليف لمصلحة في نوع الفعل وإن تخلّف عن بعض أشخاصه ورفع التكليف عن نوع الفعل بما دلّ على نفي الحكم الحرجي مع وجود المصلحة الملزمة في بعض أشخاص الفعل من دون أن يكون فيه حرج. وقد نبّهنا على ذلك عن قريب وسننبّه عليه أيضا في طيّ ما سيتلى عليك.

وأمّا الاستعانة بالرواية في إثبات دلالتها على المعنى المذكور فهي موقوفة على تماميّتها سندا ودلالة حتى تصلح لصرف ما عرفت عن ظاهره وهي في محل المنع.

٤٨٠