بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

ومن هنا استدل في محكّي « الغنية » على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة ووجوب الاجتناب عنه بما دلّ على وجوب هجر النجاسات من الآية الشريفة (١) ؛ فإنه لو لا الملازمة المدعاة لم يكن معنى للاستدلال المذكور أصلا ، كما لا يخفى.

ثانيهما : ما في بعض الأخبار من استدلاله عليه‌السلام على حرمة الطعام الذي مات فيه الفأرة بأن الله تعالى حرّم الميتة من كلّ شيء ، حيث قال عليه‌السلام للرّاوي ـ بعد حكمه عليه‌السلام بوجوب الاجتناب عن السّمن والزّيت اللّذين مات فيهما الفأرة وقول السائل عقيبه : إنّ الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ـ : إنك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما إستخففت بدينك ، إن الله حرّم الميتة من كل شيء (٢).

ولو لا استلزام تحريم الشيء ووجوب الاجتناب عنه تحريم ما يلاقيه ووجوب الاجتناب عنه ، لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، فلم يكن معنى لقوله عليه‌السلام : « إن الله حرّم الميتة من كل شيء » فيدلّ الرواية على كون الكبرى والملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عمّا يلاقيه مفروغا عنه ومسلّما في الخارج ؛ إذ لو لا مسلّميّة الكبرى لم تصحّ الاستدلال

__________________

(١) المدّثر : ٥.

(٢) التهذيب : ج ١ / ٤٢٠ باب « تطهير البدن والثياب من النجاسات » ـ ح ٤٦ ، الاستبصار :

ج ١ / ٢٤ باب « حكم الفأرة والوزغة والحيّة والعقرب اذا وقع في الماء وخرج منه حيّا ... » ـ ح ٣ ، عنهما وسائل الشيعة ج ١ / ٢٠٦ باب « نجاسة المضاف بملاقاة النجاسة ... » ـ ح ٢.

٣٨١

بصغرى القياس كما هو ظاهر. فيستفاد من الرواية وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين من جهة وجوب الاجتناب عما لاقاه بالفرض ؛ نظرا إلى الملازمة المستفادة منها.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما عن العلامة قدس‌سره في « المنتهى » في الاستدلال على وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين ؛ من أن الشارع أعطاهما حكم النجس ؛ إذ لم يقل أحد : بأن كل واحد من المشتبهين في حكم النجس بالنسبة إلى جميع الآثار ، بل الغرض كونه في حكمه بالنسبة إلى خصوص وجوب الاجتناب عمّا يلاقيه ؛ نظرا إلى الملازمة المذكورة.

هذا حاصل ما قيل في وجه إثبات الملازمة.

ولكنك خبير بفساد كلا الوجهين :

أمّا الأوّل ؛ فلمنع ظهور دليل وجوب الاجتناب عن الشيء وتحريمه إلاّ في الاجتناب عن عينه في الأكل والشرب ونحوهما ممّا يتعلّق به من الأفعال المقصودة الظاهرة عند الإطلاق من دون أن يكون له ظهور في حكم ما يلاقيه نفيا وإثباتا أصلا ، ودعواه لا شاهد لها جزما ، بل الشاهد بملاحظة عرف الخطابات على خلافها كما لا يخفى على من راجعه.

وأمّا الثّاني ؛ فلأنه يتوجّه عليه : أوّلا : ضعف الرّواية سندا (١). وثانيا : بأن

__________________

(١) أقول : ضعف الرّواية من جهة عمرو بن شمر الضعيف عندهم وهو راوية لتراث جابر بن ـ يزيد الجعفي هذا هو المشهور.

٣٨٢

المراد من تحريم الميتة منها : إنّما هو من حيث نجاستها لا من الحيثيّة الأخرى الثابتة لها مع قطع النظر عن نجاستها ؛ فإنّ الملازمة المسلّمة الثابتة عند السائل المفروغ عنها في الخارج ، إنّما هي بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ، فلا يتم كلامه المسوق لبيان الإلزام إلاّ بحمله على ما ذكرنا هذا.

مضافا إلى أن حمل الرّواية على ما زعمه المستدلّ موجب لتخصيص الأكثر المستهجن جدّا ؛ ضرورة عدم الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه بالنسبة إلى غير النّجاسات من المحرّمات ، بل الثابت خلافها فإذن لا تنفع الرّواية للمستدل أصلا ؛ فإن مجرّد وجوب الاجتناب والتحريم لا يدلّ على النجاسة حتى يدلّ على نجاسة ملاقيه فيستدلّ بها للمقام.

مضافا إلى أنه على تقدير الدلالة لا ينفع في المقام جدّا ؛ لما عرفت : من عدم توهّم أحد كون كل من المشتبهين بالنجس نجسا هذا حاصل ما يستفاد من إفادته في « الكتاب ».

وقد يناقش فيه : بأن هذا المعنى المسلّم يكفي المستدلّ أيضا بناء على كون الأحكام الوضعيّة حتى الطّهارة والنّجاسة ـ كما يظهر من الشهيد قدس‌سره ـ من الأمور الاعتبارية ؛ فإن مرجع نجاسة الميتة على هذا في حكم الشارع إلى جعل وجوب

٣٨٣

الاجتناب عنها ، فيرجع الأمر بالآخرة إلى الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء وما يلاقيه ، فيدل على حكم المقام أيضا.

ودعوى : ابتناء الرواية حينئذ على ثبوت الملازمة المختصّة بين الحكمين في خصوص النّجاسات لا مطلقا ، وإلاّ لزمه تخصيص الأكثر القبيح ، كما ترى.

نعم ، على القول بكون الأحكام الوضعيّة حتى الطهارة والنجاسة مجعولة ، أو أمورا واقعيّة كشف عنها الشارع ، لم تدل الرواية على حكم المقام على تقدير حملها على ثبوت الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ما يلاقيه كما لا يخفى. والمستظهر عند شيخنا قدس‌سره نفي الجعل بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة مطلقا كما يفصح عنه كلامه في الجزء الثالث من « الكتاب » (١) ، وإن لم يستبعد الوجه الأخير بالنسبة إلى بعضها كالملكيّة والزوجيّة وأضرابهما هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إن المقصود من الرّواية ليس بيان الملازمة أصلا ، وإنما الغرض منها كون الميتة من النجاسات ، وإلاّ فأصل الحكم وهو تنجّس ملاقي النجس تعبّدا كان معلوما للسائل ، فالغرض إرشاد السائل إلى نجاسته فتدبّر ، هذا كله.

مع أن في الجواب الأوّل وهو ضعف الرواية سندا غنى وكفاية ، وكون الحكم المذكور فيها مسلّما بينهم لا يدلّ على تمسّكهم فيه بالرواية مع وجود العموم

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ١٢٥.

٣٨٤

المسلّم عندهم ، بل ذكرها في كلماتهم ربّما لا يدلّ عليه أيضا ، فلعلّ الغرض تأييد العموم بها.

وهنا جوابان آخران عن الوجه الأول ، سبقا ببالي القاصر ينبغي التعرّض لهما :

الأوّل : أن الظهور المذكور مضافا إلى ما عرفت من تطرّق المنع إليه ، موهون بخروج غير النجاسات والمشتبهين بالنجس ؛ إذ لم يذهب أحد إلى وجوب الاجتناب كليّة عن ملاقي جميع المحرّمات حتى ملاقي أحد المشتبهين بالحرام إذا لم يكن نجسا كما هو المستظهر حتى [ عند ] الخصم ، فكيف يدّعي مع ذلك ظهور دليل وجوب الاجتناب عن الشيء على وجوب الاجتناب عمّا يلاقيه مع القطع بعدم إرادته في أكثر الاستعمالات ، بل كلّها إلاّ نادرا؟

الثاني : أنه على فرض ظهور ما دلّ على وجوب الاجتناب عن الشيء على وجوب الاجتناب عما يلاقيه وعدم وهنه بما ذكر فإنما هو بالنسبة إلى غير المقام ، وأمّا المقام فيعلم بقصر دلالة الدليل على وجوب الاجتناب عن نفس المشتبهين ليس إلاّ.

والوجه فيه : أنك قد عرفت : أن الدليل على وجوب الاجتناب والاحتياط في الشبهة المحصورة أمران :

أحدهما : حكم العقل بذلك بعد تنجّز الخطاب وثبوت الاشتغال بالواقع

٣٨٥

المردّد من جهة العلم الإجمالي على ما عرفت شرح القول فيه.

ثانيهما : حكم الشرع به من جهة الأخبار المتقدّمة.

ومن المعلوم عدم دلالة شيء منهما على وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه.

أمّا العقل فظاهر ؛ من حيث أن حكمه بوجوب الاجتناب عن كل مشتبه من جهة كونه من أطراف الشبهة ومن محتملات المعلوم بالإجمال ولا يتحقّق هذا المناط في الملاقي ـ بالكسر ـ قطعا.

وأمّا الشرع : فلما عرفت : من أن مفاد الدال من الأخبار على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة هو مفاد حكم العقل بذلك من دون زيادة ونقيصة ، فهي مؤكّدة لحكم العقل بذلك حقيقة. ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام في المرسلة ـ : أتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس ـ؟

نعم ، لو كان مفاده إثبات الحكم الشرعي الظاهري لوجوب الاجتناب عن كل مشتبه بحيث لم يكن ناظرا إلى حكم العقل أصلا ـ على ما ذهب إلى بعض الأوهام ـ كان الاستدلال به على حكم المقام مستقيما ـ على تقدير الإغماض عما عرفت ـ ودون إثباته خرط القتاد.

فإن قلت : كيف يمنع حكم العقل بوجوب الاحتياط بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ مع أن مناط حكمه بوجوب الاحتياط عن المشتبهين متحقق بالنسبة

٣٨٦

إليه أيضا من حيث إن محلّ الكلام والبحث في ملاقي أحد المشتبهين إنما هو فيما تأثر بالملاقاة ؛ إذ لم يقل أحد بوجوب الاجتناب فيما لم يتأثر قطعا حتى في ملاقي النجس ، فضلا عن ملاقي المشتبه. ومن المعلوم أن الأثر القائم بالملاقي ـ بالكسر ـ هو عين ما حكم به العقل والشرع بوجوب الاجتناب عنه عند قيامه بالملاقى ـ بالفتح ـ وتحصّله فيه. ومن المعلوم ضرورة عدم تأثير تعدّد المحل واختلافه وتغيّره وتبدّله في حكم الحالّ ، فإذا حكم بوجوب الاجتناب عن الأثر القائم بالملاقي ـ بالكسر ـ من حيث كونه عين ما كان قائما بالملاقى ، بل من أجزائه حقيقة فيجب الحكم بوجوب الاجتناب عن محلّه أيضا ؛ لعدم تغاير حكم الحال والمحلّ في الشرع. ومقتضاه كما ترى ، هو ثبوت الملازمة بين المتلاقيين في الحكم كما لا يخفى.

قلت : مجرّد اختصاص النزاع ومحلّ الكلام بصورة التأثّر لا يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر ؛ ضرورة اختصاص النزاع أيضا بما إذا لم يكن في الملاقي ـ بالكسر ـ ما يصدق عليه عنوان الملاقى ـ بالفتح ـ وإلاّ فلا إشكال ولا خلاف في الحكم بوجوب الاجتناب عنه سواء في المقام ، أو في ملاقي النجس ، أو المتنجّس.

ومجرّد التأثّر لا يوجب صدق العنوان على الأثر القائم بالمتأثّر ؛ ضرورة ارتفاع الصدق كثيرا بتلاقي الأجزاء وافتراقها وانعدام العنوان الصادق عليها عند الاجتماع من جهة دخل الهيئة الاجتماعيّة في صدق العنوان. ومن هنا يختلف

٣٨٧

حكم الأجزاء عند الافتراق مع حكمها عند الاجتماع كثيرا كاختلاف الآثار الحسيّة.

ومن هنا حكموا : بأن بقاء الأجزاء الصغار من الغاية في محلّها في التطهير بالاستجمار ، لا ينافي تحقق الطهارة. وإن بقاء اللون في المصبوغ بالمتنجّس بل النجس ، لا ينافي حصول الطهارة له بالتطهير.

مع أن المحقّق عند محقّقي الحكماء : استحالة بقاء اللون مع انعدام العين القائم به رأسا من حيث استلزامه عندهم وجود العرض لا في موضوع ؛ من بقاء اللون فقط ، وهو محال. وأن تفريق المال المغصوب وتجزيته يوجب انتقال العهدة والضمان إلى القيمة في كثير من موارده إلى غير ذلك مما تسالموا عليه وقالوا به ، هذا ما يقال في الجواب عن السؤال في النظر الأوّل.

ولكن الذي يقتضيه النظر الثاني : ضعف كل من السؤال والجواب.

أمّا السؤال فلابتنائه على الغفلة عما هو محلّ النزاع والبحث ؛ فإن الكلام إنما هو في حكم الملاقي من حيث ملاقاته لما يجب الاجتناب عنه ، وأما الأثر القائم فيما اتفق فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه ما دام موجودا ، لكن لا يجب إزالته بالطرق الشرعيّة المقرّرة في تطهير النجاسات حتى يقال : إنه عين الالتزام بوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ بل يكفي مجرّد زواله ولو بفعل غير المكلّف كالريح والشمس ، أو بنفسه في رفع الوجوب كما إذا فرض الملاقى المشتبه ماء مثلا لاقاه ثوب المكلف أو بدنه ، فيبسا. فالحكم بوجوب الاجتناب

٣٨٨

عن الأثر القائم بالملاقي ـ بالكسر ـ ما دام موجودا لا دخل له بوجوب الاجتناب عن نفس الملاقي كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا في بيان محلّ الكلام ليس مختصّا بالمقام ، بل يجري في ملاقي النجس المعلوم أيضا ؛ فإن البحث في دلالة ما دل على وجوب الاجتناب عن النجس وهجره على وجوب الاجتناب عن ملاقيه إنّما هو في الملاقي من حيث هو لا في الأثر القائم عليه فيما فرض قيامه به ، وهذا الذي ذكرنا من غاية ظهوره لا يعتريه شبهة أصلا لمن كان له أدنى تأمل في كلماتهم.

فإن قلت : لو كان الأمر كما ذكر لزم الحكم بطهارة أحد الإناءين إذا جفّ ماؤه المشتبه مثلا أو أهريق مع أنّ ظاهرهم عدم الالتزام بذلك.

قلت : لا إشكال في لزوم الالتزام به فيما لم يوجد له طرف آخر يصيران موردين للعلم الإجمالي تنجّس أحدهما فإنه من جزئيّات محلّ البحث وأفراده ، واستظهار عدم التزامهم بذلك في غير محلّه ؛ إذ لا شاهد له أصلا ، بل قضيّة إطلاق كلامهم وعمومه شموله للفرض كما لا يخفى.

وأمّا الجواب ؛ فلأنه يتوجّه عليه :

أولا : ما توجّه على السؤال ؛ فإن ظاهره بل صريحه تسليم كون النزاع في الحال والمحلّ جميعا ، مع أنك قد عرفت فساده.

وثانيا : بأنّ حديث ارتفاع الصدق والعنوان والتسمية بتفرّق الأجزاء أجنبيّ

٣٨٩

عن المقام وإن كان صحيحا في الجملة ومسلّما عند كل أحد ؛ لأن حكم العقل بوجوب الاحتياط عن كلّ واحد من المشتبهين ليس من حيث كونه ماء أو دبسا أو زبيبا أو سمنا مثلا حتى يقال بعدم صدق هذه العنوانات عند تشتت الأجزاء وتفرّقها ، بل من حيث كونه مشتبها وطرفا للعلم الإجمالي.

ومن المعلوم بقاء هذا العنوان وصدقه على الأجزاء المتفرقة الصغار هذا.

مضافا إلى أن ارتفاع الصدق في الجملة على تقدير كون الحكم العقلي للعنوانات الخاصّة لا يجدي بالنسبة إلى ما يكون عنوانه صادقا مع التفرق أيضا كما هو ظاهر. والقول بتتميم المدّعى بعدم القول بالفصل كما ترى.

وأمّا الأمثلة المذكورة لارتفاع الحكم الشرعي بارتفاع العنوان المعلّق عليه الحكم بتفرّق الأجزاء ؛ فإن كان المقصود منها إثبات ذلك في الجملة فقد عرفت : أنه لا خفاء فيه وليس محلاّ لإنكار أحد ، لكنّه لا ينفع في المقام أصلا. وإن كان المقصود منها إثبات الكليّة ، فتطرّق المنع إليه جليّ هذا.

مع ما عرفت : من عدم لحوق الحكم في المقام للعنوانات الخاصّة ، مضافا إلى تطرّق المناقشة إلى بعض الأمثلة المذكورة كما في مثال الاستجمار ؛ فإن حكم الشارع والأصحاب قاطبة بطهارة المحلّ مع بقاء [ ال ] أجزاء الصغار فيه ليس من حيث ارتفاع التسمية والعنوان ، وإلاّ لزم الحكم بطهارته والحال هذه إن كان

٣٩٠

تطهيره بالماء أيضا ، مع أنه خلاف قضيّة كلماتهم واتّفاقهم على بقاء النجاسة مع بقائها في المحلّ ، بل من جهة صدق عنوان النّقاء عليه عرفا الذي تعلّق به الحكم بالطهارة في الاستجمار دون التطهير بالماء ولو مثل (١) بماء الاستنجاء من حيث حكمهم بطهارته مع اجتماع الشرائط فيه فيما لو وجد فيه [ ال ] أجزاء الصغار من الغاية ما لم يبلغ حدّ التغيّر كان أولى ، فتأمل.

وثالثا : بأن ملاقاة شيء لأحد المشتبهين ليس ملازما لاستصحاب بعض أجزائه ، كما أن محلّ الخلاف ليس مختصّا به ، بل الكلام فيه من حيث الملاقاة. كما أن الكلام في ملاقي النّجس من حيث الملاقاة أيضا على ما عرفت الإشارة إليه.

فتلخّص مما ذكرنا كله : فساد الملازمة المدّعاة في كلام الجماعة بين وجوب الاجتناب عن شيء ووجوب الاجتناب عما يلاقيه. نعم ، قد يستفاد منه بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة كما في ملاقي البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء ، فإنه استفيد من أمر الشارع بالطهارة عقيبه كونه من جهة تقديم ظهور نجاسته من جهة الغلبة على الأصل ، فالأمر بالطهارة من حيث الحكم الظاهري بكونه نجسا فيحكم بترتيب جميع الآثار عليه التي منها نجاسة ما يلاقيه ، فلم يدلّ مجرّد الأمر بالاجتناب عنه أو الطهارة عقيبه على وجوب الاجتناب عما يلاقيه

__________________

(١) كذا والصحيح : ولو تمثّل.

٣٩١

فلا تعلّق له بالملازمة المذكورة أصلا.

وممّا ذكرنا في بيان حال ملاقي البلل يندفع تعجّب صاحب « الحدائق » قدس‌سره من حكم الأصحاب بنجاسة ما يلاقيه وطهارة ملاقي أحد المشتبهين ، مع أنه لم يحكم الشارع في البلل والملاقى ـ بالفتح ـ إلا ببعض أحكام النجاسة وهو وجوب الاجتناب في الملاقي ووجوب الوضوء عقيب البلل (١) هذا. وظاهر عبارة « الكتاب » كون كلام صاحب « الحدائق » في نفس البلل لا فيما يلاقيه.

هذا بعض الكلام في المسلك المعروف لإثبات وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين.

في ذكر المسلكين الآخرين لوجوب الإجتناب عن الملاقي

وهنا مسلكان آخران تعرّض لأحدهما شيخنا الأستاذ العلاّمة في « الكتاب » من دون ابتنائهما على المسلك المعروف لا بدّ من التعرّض لهما.

الأوّل : أن الملاقي ـ بالكسر ـ مورد للعلم الإجمالي بالنجاسة كالملاقى ـ بالفتح ـ غاية ما هناك كونهما معا طرفا وصاحب الملاقى طرفا آخر ، فهو نظير ما لو قسّم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ في إناء فإنه لا ريب في وجوب

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ج ١ / ٥١٤.

٣٩٢

الاجتناب عنهما معا ولا خلاف فيه أيضا فيلزم أن يحكم به في المقام أيضا.

وهذا الوجه هو الذي أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « فإن قلت : وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وحاصله : كون الملاقي كالملاقى طرفا ، فإما أن يحكم بعدم جريان الأصل فيه كما في الملاقى وصاحبه لمكان العلم الإجمالي ، أو يتعارض الأصل فيه مع الأصل في صاحب الملاقى على الوجهين في الرجوع إلى أصالة الاحتياط كما عرفت الكلام فيهما ، غاية ما هناك : كون الأصل في صاحب الملاقى في الفرض معارضا بأصلين معاضدين ، لكنّه لا يجدي بعد البناء على عدم الترجيح في تعارض الأصول ، بل قد يقال : بكون المقام أولى بالحكم بوجوب الاجتناب فيه عن ملاقي النجس المعلوم مع الإغماض عن سببيّة الملاقاة فيه لنجاسته بحكم الشارع هذا.

ولكنّك خبير بفساد هذا المسلك ابتنائه على المغالطة الواضحة ؛ حيث إنّه عند التأمّل مبنيّ على ما أوضحنا لك فساده غاية الإيضاح ؛ من كون النزاع فيما كان من أجزاء الملاقى موجودا في الملاقي ـ بالكسر ـ وإنه من باب مجرّد تبدّل

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٤٢.

٣٩٣

المحلّ والاجتماع والافتراق. ومن هنا توهّم كون الملاقي ـ بالكسر ـ طرفا للعلم الإجمالي.

وإذ قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه تبيّن لك فساد دعوى كون الملاقي طرفا كالملاقى ، فظهر منه فساد جريان الوجهين للرجوع إلى قاعدة الشغل والاحتياط في المشتبهين بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ.

أمّا عدم جريان حصول الغاية للطهارة والحلّيّة في المشتبهين في المقام من حيث كون الغاية فيهما الأعمّ من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي فلا يجري الأصل ؛ فلأنه إنّما يعتبر بالنسبة إلى محتملات هذا المعلوم بالإجمال والملاقي ليس من محتملاته قطعا.

وأمّا التعارض والتساقط ؛ فلأن الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ ليس في مرتبة الأصل الجاري في المشتبهين ؛ لكون الشّكّ فيه مسبّبا عن الشبهة القائمة بالمشتبهين والشك المحقق بالنسبة إليهما ، فلا معنى لجريانه مع جريان الأصل فيهما حتى يعارضه الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ ويعارض الأصل في صاحبه على ما هو الشأن في كل أصل كان الشك المأخوذ فيه مسبّبا عن الشكّ في مجرى غيره من

الأصول ؛ فإنه لا يحكم بجريانهما معا في زمان واحد سواء كانا متخالفين ومتنافيين بحسب المفاد ، أو معاضدين كما ستقف على شرح القول فيه

٣٩٤

في الجزء الثالث (١).

فجريان الأصل في الشكّ المسبّبي مشروط بعدم جريان الأصل في الشك السببي في زمان جريانه سواء لم يجر أصلا ، أو جرى وحكم بعدم الالتفات إليه من جهة معارضة ما هو في مرتبته من الأصول بناء على كون الحكم في تعارض الأصول هو التساقط ، كما هو الحق المحقّق في محله كما ستقف عليه والمفروض في المقام ، فإذا حكم بتعارض الأصلين في المشتبهين وتساقطهما فيجري الأصل في الملاقي سليما لعدم أصل في المشتبهين بعد التساقط بالفرض.

وهذا ما قرع سمعك : من أنّ الأصل في الشكّ السببي حاكم على الأصل في الشكّ المسبب وبمنزلة الدليل بالنسبة إليه مطلقا سواء كانا متنافيين ، أو متوافقين ، من جنسين ، أو من جنس واحد ؛ حيث إن الحكومة بل الورود أيضا لا يختصّ بموارد وجود الدليل والأصل في المسألة ، بل قد يتحقّقان في موارد وجود الأدلّة الاجتهاديّة ، أو الأصول غاية ما هناك : عدم تحقّق التعارض بين الدليل والأصل أصلا ورأسا وتحقّقه بين الأدلة والأصول في الجملة ، على ما ستقف على تفصيل القول فيه في الجزء الثالث والرابع من « الكتاب » (٢) والتعليقة (٣).

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٣ / ٢٢٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٩٤.

(٣) بحر الفوائد : ج ٣ / ٢٢٣.

٣٩٥

فما دام يكون الأصل في المشتبهين جاريا لم يجر الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ فإذا حكم بعدم جريانه فيهما ، أو جريانه فيهما مع تعارضهما وتساقطهما على أضعف الوجهين جرى الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ وهذا مطّرد في جميع ما يكون الشكّ في مجرى أحد الأصلين مسبّبا عن الشكّ في مجرى الآخر إلاّ في الأصل الموضوعي والحكمي فيما إذا كان الشك في الحكم مسبّبا عن الشك في بقاء الموضوع ؛ حيث إنه لا يجري الأصل الحكمي مطلقا سواء جرى الأصل الموضوعي أو لا.

ولأجل ما ذكر حكمنا تبعا للمحقّقين عند تتميمم الماء النجس كرّا بطاهر : بأن مقتضى القاعدة بعد الحكم بتعارض الاستصحابين في المتمّم والمتمّم بناء على عدم جعل الملاقاة مقتضيا والكرّية عاصمة بعد قيام الإجماع على اتحاد حكم ماء الواحد هو الحكم بتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الطهارة الجارية في الماء ، أو جميع الأشياء ، ولا يجعل معاضد الاستصحاب الطهارة ولا معارضا لاستصحاب النجاسة وإن قلنا بالترجيح في تعارض الأصول أيضا كالأدلّة على خلاف التحقيق الذي تقف عليه في محلّه ؛ من حيث إن الترجيح بين المتعارضين فيما كانت المزيّة في مرتبتهما ، ومن هنا : لا نقول بترجيح الأدلّة بموافقة الأصول.

نعم ، على القول بعدم التنويع وكون الكريّة عاصمة يمكن الحكم بالنجاسة في الفرض من غير أن يحكم بجريان الأصلين بناء على استفادة اعتبار سبق

٣٩٦

الكريّة على الملاقاة في الاعتصام من قوله عليه‌السلام : ( إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء ) (١) ، ( أو لم يحمل خبثا ) (٢) ، كما في بعض الروايات ، وإن كانت الاستفادة نظريّة وإلاّ حكم بتعارضهما والرجوع إلى القاعدة من حيث إن المقتضي المقارن لوجود المانع لا يعلم تأثيره ، كما أنه لا يعلم تأثير المانع أيضا فيتعارض الأصل من الجانبين فتأمل. وكذا حكم غير واحد في غسل محل النجس بماءين مشتبهين بعد الحكم بتساقط أصالتي عدم سبق كل من الظاهر والنجس وتقدّم الغسل به إلى قاعدة الطهارة لعدم كونها في مرتبة الأصلين.

وإن كان هناك قولان آخران ؛

أحدهما : الحكم بنجاسته من حيث جريان استصحاب النجاسة ولو بالنسبة إلى الكلي الغير المعلوم الزوال وإن علم بارتفاع بعض خصوصياته.

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٢ باب « الماء الذي لم ينجسه شيء » ـ ح ١ ، والفقيه : ج ١ / ٩ باب « الوضوء عن سؤر الدواب » ـ ح ١٢ ، والاستبصار : ج ١ / ٦ باب « مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء » ـ ح ١ ، والتهذيب : ج ١ / ٣٩ باب « آداب الأحداث الموجبة للطهارة » ـ ح ٤٦ ، عنها وسائل الشيعة : ج ١ / ١٥٨ باب « عدم نجاسة الكر ... » ـ ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام : ج ١ / ٢١٨ باب « المياة وأحكامها ... » في ذيل ـ ح ٩ ، وعوالي اللئالي : ج ١ / ٧٦ الفصل الرابع : فيما رواه بطرقه المذكورة محذوفة الاسناد ـ ح ١٥٦ ، عنه مستدرك الوسائل : ج ١ / ١٩٨ باب « عدم نجاسة الكر من الماء ... » ـ ح ٧.

٣٩٧

ثانيهما : الحكم بطهارته من حيث جريان استصحاب الطهارة الحاصلة عقيب زوال النجاسة الأوليّة قطعا ، وهذا معنى الأخذ بضدّ الحالة السّابقة في أمثال المقام كما هو أحد الأقوال في المسألة ، وإن كان الأوجه في المسألة : الحكم بالاجتناب عن المحلّ ، كما أن الأوجه عند التوضّي ، أو الغسل بهما ـ غفلة ـ الحكم بعدم الاقتصار عليهما والتيمّم معهما عند انحصار الماء فيهما وتحصيل الطهارة المتيقّنة للمحلّ وإعادتهما عند التمكّن من الماء الطاهر اليقيني.

ثمّ إن هذا الذي ذكرنا من حكومة الأصل في الشكّ السببي على الأصل في الشك المسبّب وعدم تعارضهما وعدم جريان الثاني ما دام الأوّل جاريا وجريانه فيما لا يجري فعلا ولو من جهة التعارض والتساقط إلاّ في الأصل الموضوعي والحكمي فيما عرفت من الفرض ، وإن كان أمرا واضحا في نفسه ستقف على شرح القول فيه في محلّه مع وضوحه ، إلاّ أنه مع ذلك قد خالف فيه المحقّق القمّي في بعض كلماته وإن وافقه في بعضها الآخر ، وبعض أفاضل من تأخّر.

بل قد يظهر المخالفة عن بعض المتقدمين من الأصحاب ( رضوان الله عليهم ) كما يظهر مما أفاده المحقق قدس‌سره في باب الاستصحاب (١) ، فإنه عارض استصحاب الطهارة فيما ستقف على كلامه باستصحاب اشتغال ذمّة المصلّي

__________________

(١) انظر مبحث الاستصحاب : ج ٣ / ٤٠١ من فرائد الأصول والمعتبر : ج ١ / ٣٢.

٣٩٨

بالصلاة وغيره فيما يتلو عليك في باب « الاستصحاب » إن شاء الله تعالى.

الثّاني : ما لم يتعرّض له شيخنا الأستاذ العلامة في « الكتاب » وإن أشار إليه في مجلس البحث ؛ من أن الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ ليس من جهة المدّعاة في كلام من تقدم حتى يمنع على ما سمعته ولا من جهة كونه من أطراف العلم الإجمالي المتحقق في الشبهة المحصورة على ما عرفت لكي يجاب عنه مما عرفت ، بل من جهة علم إجمالي آخر هو من أطرافه قطعا وهو العلم بتنجّسه ، أو نجاسة صاحب الملاقى ـ بالفتح ـ ووجود هذا العلم الإجمالي ممّا لا يقبل الإنكار جدّا ، وقد أسمعناك مرارا في مطاوي كلماتنا تبعا لشيخنا : أنّه لا فرق في تأثير العلم الإجمالي في تنجّز الخطاب بالمعلوم ووجوب الاحتياط عن أطرافه بين تعلّقه بخطاب مفصل وتعلّقه بخطاب مردّد بين الخطابين كما في المقام ؛ حيث إنه يعلم بتوجّه أحد الخطابين إليه : إمّا الخطاب بالاجتناب عن النجس ، أو الخطاب بالاجتناب عن المتنجّس.

وقد رأيت بعض أفاضل أهل العصر (١) يجعل لزوم هذا المحذور من القول بالتعميم الذي ذكرنا دليلا على بطلانه بعد مسلّميّة عدم وجوب الاحتياط عن ملاقي بعض أطراف الشبهة في زعمه هذا.

__________________

(١) لم نعثر عليه عجالة.

٣٩٩

ولكنّك خبير بضعف هذا الوجه أيضا كالوجه السابق ، بل كونه أضعف منه بمراتب عند التّأمّل بعد البناء على التعميم المذكور كما عليه مبنى هذا الوجه حيث إن المعلوم بالإجمال خطاب مفصّل لا تردّد فيه أصلا ، وإن تردّد متعلّقه بين المشتبهين أو المشتبهات بالشبهة المحصورة ، فإنا نعلم بتوجّه الخطاب بالاجتناب عن النّجس إلى المكلّف العالم بالإجمال جزما ولا تردّد في تحقّقه وتنجّزه ، غاية ما هناك : أنه يحتمل بالشك البدوي الغير المقرون بالعلم الإجمالي أصلا توجّه خطاب آخر إليه بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ من حيث احتمال كون متعلّق الخطاب المعلوم بالإجمال الملاقى ـ بالفتح ـ من المشتبهين ، ومجرّد ضم هذا المحتمل إلى صاحب الملاقى وملاحظتهما معا والغض وقطع النظر عن الملاقى ـ بالفتح ـ لا يوجب تغيّر الواقع قطعا.

فإن أراد المستدلّ وجود علمين ومعلومين أحدهما تعلّق بالخطاب المفصّل ، والآخر بالخطاب المردّد ، فالحوالة على الوجدان. وإن أراد وجود علم واحد تعلّق بالخطاب المردّد بحيث يكون بعض أطرافه المشتبهين وبعض أطرافه الملاقي ـ بالكسر ـ فيقول : أعلم إجمالا بنجاستهما ، أو تنجّس الملاقي فهو أشد ضعفا ؛ لما عرفت مرارا : من أن تنجّسه من لوازم كون النجس الملاقى ـ بالفتح ـ ، فهذا احتمال حدث من العلم بخطاب مفصّل تعلّق بأحد المشتبهين ، لا أنه طرف له بحيث يكون المعلوم مردّدا بين الخطابين وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، وإن

٤٠٠