بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

المطلوب عقلا وشرعا ، فكيف يكون تشريعا؟

وأمّا على المسلك الأوّل وهو قصد الوجوب والتقرّب بفعل كل منهما من حيث كونه واجبا في مرحلة الظاهر ؛ فلأنه لا يقصد بفعل كل منهما كونه واجبا في مرحلة الواقع والتقرب بامتثال أمره الواقعي حتى يكون مشرعا وإنّما يقصد به كونه واجبا في مرحلة الظاهر ويقصد التقرّب بامتثال أمره الظاهري المعلوم ، كما إذا شكّ في الوقت : أنه صلّى الظهر مثلا أم لا؟ فإنه يجب عليه فعلها فينوي الوجوب والقربة بحسب الأمر الظاهري المتوجّه إليه مع الشكّ المفروض وإن احتمل كونه لغوا في الواقع ؛ فإنه لا يكون مشرّعا قطعا ، هذا بحسب ما بنى عليه القائل من تأثير الأمر الظاهري في التقرّب بما تعلّق به ولو كان أمرا عقليّا إرشاديّا ، وكفاية قصد امتثاله من قصد التقرّب بالنسبة إلى الأمر الواقعي المصادف معه مما لا إشكال فيه أصلا.

إنّما الإشكال والكلام معه في صحّة المبنى وشرح المقام وتوضيحه في مواضع :

الأوّل : في الأمر المقدّمي العقلي الإرشادي ، وهو المتحقّق بالنسبة إلى المقدّمة العلمية وقد عرفت حكمه ، وأن إطاعته لا أثر لها في القرب أصلا ، وإن جاز قصد وجوبه العقلي ، إلاّ أن في كفاية قصد هذا الوجوب عن الوجوب الشرعي الواقعي العبادي ـ على القول باعتبار قصد الوجه ـ ما عرفت شرحه. وأمّا كفاية قصد امتثاله عن قصد امتثال الواقع والقرب المعتبر بالنسبة إليه فلا يتوهّمه أحد بعد البناء على عدم كون امتثاله موجبا للتقرّب.

٦٢١

هل ان إطاعة الأمر الغيري الشرعي الواقعي توجب التقرّب أم لا؟

الثاني : في الأمر الغيري الشرعي الواقعي المتحقّق بالنسبة إلى ما يتوقف عليه وجود الواجب واقعا سواء كان مستكشفا من حكم العقل الإدراكي بعد إحراز المقدّمية والتوقّف ، أو ورد الشرع به. وقد اختلفوا في كون إطاعته موجبة للتقرّب واستحقاق الثواب في بحث المقدّمة بعد اتفاقهم على كفايته بالنسبة إلى قصد الوجه فيما كان قصده معتبرا كما في الطّهارات ، بل عن غير واحد جعل ثمرة النزاع في بحث المقدّمة في استحقاق الثواب بفعلها وعدمه ، وعن بعضهم أخذ الثمرة بالنسبة إلى استحقاق العقاب على الترك أيضا والذي يقتضيه كلمات المحققين من المتأخرين في تلك المسألة : فساد الثمرة المذكورة ، وعدم تأثير إطاعة الأمر الغيري في استحقاق الثواب ، وهو الذي جزم به شيخنا ( دام ظلّه ) في تلك المسألة أشار إليه في « الكتاب » وهو الحقّ ، كما فصّلنا القول فيه في تلك المسألة.

نعم ، لا إشكال في استحقاق الثواب بفعل المقدّمة فيما لو كانت عبادة في نفسها وجعلها الشارع من مقدّمات الواجب كما في الطّهارة المائيّة من حيث رجحانها الذّاتي لا من حيث إطاعة الأمر لغيري المتعلّق بها. وأمّا الطهارة الترابيّة على القول بعدم كونها عبادة في نفسها بحيث يكون فعلها راجحا ومأمورا به من دون ملاحظة غاية من الغايات ، فيكون نقضا لما ذكرنا : من عدم تأثير امتثال الأمر

٦٢٢

الغيري في القرب واستحقاق الثواب ، فإن كونها من العبادات وعدم سقوط أمرها إلاّ بقصد التقرّب من المسلّمات عندهم ، مع عدم تعلّق أمر نفسيّ بها على هذا القول وانحصار أمرها في الأمر الغيري هذا.

ويمكن التفصّي عن الإشكال المذكور : بالتزام رجحان ومصلحة نفسيّة لها لا تبلغ حدّا يؤثّر في الأمر بها نفسا ، وإنّما هي بمقدار تؤثّر في المصلحة الملزمة بالنسبة إلى غاياتها وتوجب ارتباطها بها ، كما في الركوع على القول بعدم كونه عبادة في نفسه كالسجود فتأمل. وتمام الكلام في الفقه.

هل ان الأمر الظاهري الشرعي موجب لحصول القرب أم لا؟

الثالث : الأمر الظاهري المتعلّق بالعمل بالأمارات والأصول الشرعيّة كالاستصحاب ونحوه في الأحكام والموضوعات الخارجيّة. وظاهر ما أفاده شيخنا ( دام ظلّه ) في المقام بقوله المتقدّم ذكره : ( لكنه مبنيّ ... الى آخره ) (١) سيما بملاحظة قوله في تقريب ذلك : ( كما إذا شكّ في الوقت ... الى آخره ) (٢) وكلامه ظاهر في حصول التقرّب بامتثاله وإطاعته ، فيتحقق قصد التقرّب لأجله ، فيكفي قصده عن قصد التقرّب بالنسبة إلى الأمر الواقعي عند المصادفة ، بناء على ما

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٩٢.

(٢) نفس المصدر.

٦٢٣

عرفت برهانه في طيّ إثبات كفاية التقرّب من جهة عنوان الاحتياط عن الواقع عند المصادفة.

لكن قد عرفت الإشكال في ذلك على القول بالتخطئة ؛ حيث إن المفروض على هذا القول كون الملحوظ في جعلها الطريقيّة إلى الواقع وغلبة إيصالها إليه وكشفها عنه نوعا أو شخصا ولو كان الأمر بها في زمان التمكّن من تحصيل العلم بالواقع فضلا عن زمان الانسداد ؛ إذ غاية ما يلزم في الأوّل كون أمر الشارع بسلوكها مما يتدارك به ما يفوت لأجل العمل بها من مصلحة الواقع فلا تحدث فيما قام عليه على تقدير الخطأ مصلحة ورجحان أصلا. كيف! وقد عرفت تساوي نسبة الأمر المتعلق بالعمل بها بالنسبة إلى جميع مواردها ، فيلزم أن يكون عبادة ولا يلتزم به أحد.

ودعوى : الالتزام بذلك غاية ما هناك صيرورتها بالملاحظة المذكورة من العبادة بالمعنى الأعمّ ، فإذا قامت الأمارة على تعيين الواجب العبادي يحكم بلزوم قصد التقرّب في امتثال هذا الأمر الظاهري وعدم سقوطه عن المكلّف بدونه ، فاسدة ؛ من جهة أن الالتزام به مبنيّ على صيرورة الفعل راجحا من جهة قيام الأمارة ، وقد عرفت فساده على القول بالتخطئة فتدبّر.

مع أنّك قد عرفت : عدم اختصاص البحث بزمان الانفتاح ، وعدم لزوم ملاحظة المصلحة بالنسبة إلى زمان الانسداد جزما سيّما إذا كانت حجّيّتها من

٦٢٤

جهة حكم العقل بها ، فلا يجوز قصد التقرّب إلاّ بالنسبة إلى الأمر الواقعي المستكشف بالأمارة ، كما أوضحنا لك أمره سابقا وأثبتناه.

وممّا ذكرنا يظهر : حال العمل بالأصول الشرعيّة في الأحكام الموضوعات فإن الالتزام بوجود مصلحة في فعل الشارع وجعل الحكم الظاهري منه ـ ولو كانت تسهيل الأمر على المكلّفين ، كما هو المشاهد في جعل أصالة الطهارة ـ لا يوجب المصلحة في مورد الأصل.

ومنه يظهر : أن تقريب المقام بالاستصحاب فيما شكّ في الوقت : أنه صلى الظهر أم لا؟ ليس على ما ينبغي ، مع أن التقريب المذكور لا بدّ أن يبتني على مذهب القائل بجريان الاستصحاب الحكمي ، أو الموضوعي في الشكّ المذكور ، وإلاّ فالتحقيق عندنا وعند شيخنا ( دام ظلّه ) ـ على ما يصرّح به في الجواب عن السّؤال الآتي في كلامه ـ : هو جريان قاعدة الاشتغال المبنيّة على لزوم دفع الضّرر المحتمل في الشكّ المفروض دون الاستصحاب ، فهو عين حكم العقل بلزوم الاحتياط في المقام المبني على الإرشاد.

والقول : بأن معنى جعل الأمارة في حكم الشارع ترتيب جميع آثار الواقع على موردها التي منها قصد التقرب فيما كان من العبادات قد عرفت فساده ، وأن التنزيل الشرعي إنّما يؤثّر بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة القابلة للجعل ، وإمكان قصد التقرّب بإطاعة الأمر الواقعي على تقدير العلم به من الآثار العقليّة للأمر العبادي المعلوم ، فكيف يمكن ترتيبه على الأمر الطريقي التوصّليّ الإرشادي؟

٦٢٥

هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام ولعلّنا نتكلّم فيه بعد ذلك أيضا حسبما يساعدنا التوفيق.

(١٤٢) قوله « دام ظلّه » : ( قلت : أمّا المحتمل المأتي به أوّلا فليس واجبا ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٩٣ )

أقول : حاصل ما أفاده في الجواب عن السؤال المتوهم بتوضيح لنا : هو أن إجماعهم على وجوب الإتيان ببعض المحتملات وحرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ، إنّما هو من جهة حكم العقل به على ما أسمعناك : من أن حكم العقل بوجوب الموافقة الاحتماليّة وحرمة المخالفة القطعيّة من جهة الإرشاد إلى دفع الضرر المقطوع بعد تنجّز الخطاب ، فلا يكشف عن حكم شرعيّ ، ولو كشف فإنما يكشف عن حكم إرشاديّ على طبق العقل نظير أخبار الاحتياط ، على ما عرفت : من كون مدلولها الإرشاد.

نعم ، لو كشف عن إيجاب الشارع لبعض المحتملات في مرحلة الظاهر من غير ابتنائه على الجهة العقليّة نظير أخبار الاحتياط على ما توهّمه غير واحد من الأخباريّين في دلالتها على ما عرفت الإشارة إليه. وقلنا بكون الامتثال الحكم الظاهري الشرعي كامتثال حكمه الواقعي مما يوجب التقرّب ، وقلنا بكون مصادفته للواقع يكفي عن قصد التقرب بالنسبة إليه كان الإجماع المذكور مفيدا في المقام ، فهو تقدير في تقدير لم يثبت شيء منها.

٦٢٦

في تقرير الاستصحاب المتوهّم على وجوه والذبّ عنها

وأمّا الإتيان بباقي المحتملات بعد الإتيان بما أتى به فقد توهّم : إثبات وجوبه الشرعي الظاهري من جهة الاستصحاب ، وقرّر في ظاهر السؤال بوجوه :

منها : استصحاب الاشتغال ، ومنها : استصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي الراجع إلى الاستصحاب الحكمي ، وهذه الاستصحابات كما ترى ، متعاضدة من حيث وجوب الإتيان بباقي المحتملات في ظاهر الشرع.

وأنت خبير بما فيها بعد تسليم كون امتثال الحكم الظاهري مقرّبا وكافيا عن التقرّب بامتثال الأمر الواقعي.

أمّا استصحاب الاشتغال ؛ فلأن المراد بالمستصحب : إمّا حكم العقل بوجوب الإتيان بجميع المحتملات المتحقّق قبل الإتيان بشيء منها ، وإمّا الأمر المنتزع منه الثابت في الذمّة التي هي أمر اعتباري لا وجود لها في الخارج ، عومل معها مع ذلك في العرفيّات والشرعيّات معاملة الموجود الخارجي المتأصّل في الوجود. وإمّا الاعتباري المنتزع من إيجاب الشارع.

أمّا الوجه الأول : فلا ريب في فساد توهّم جريان الاستصحاب بالنسبة إليه لعدم تطرّق الشكّ بالنسبة إليه على ما هو الشأن في جميع موارد حكمه كما أسمعناك في غير موضع ؛ ضرورة أن حكم العقل بوجوب الاحتياط والجمع بين

٦٢٧

المحتملات من جهة لزوم دفع الضّرر المحتمل لا يحتمل ارتفاعه بفعل بعضها الذي كان إطاعة للعقل حقيقة ، وإلاّ لم يحكم بالوجوب من أول الأمر وهو خلف ، والملازمة ظاهرة كبطلان التالي هذا.

مع أن استصحاب هذا الحكم العقلي الإرشادي على تقدير تسليمه والإغماض عما ذكرنا لا يعقل أن يكون مفيدا في المقام ؛ ضرورة عدم وجود مزيّة لوجوده الاستصحابي على وجوده العلمي المتحقّق كما هو ظاهر لا سترة فيه أصلا.

وأمّا اشتغال الذمة بالواجب الواقعي المنتزع من حكم العقل بوجوب الاحتياط فيتبع حدوثا وبقاء الحكم العقل فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه ، وكذا اشتغال الذمّة المنتزع من إيجاب الشارع ، فلو جرى استصحابه لم يكن معنى لإجراء الاستصحاب بالنسبة إليه ، وكذا إذا لم يجر استصحابه وستقف على تحقيق أمره.

مع أن بقاء الاشتغال بالنسبة إلى الواجب الواقعي المردّد بحكم الاستصحاب لا يجدي في الحكم بوجوب الإتيان بباقي المحتملات ، إلاّ على القول بالأصل المثبت كما ستقف عليه في استصحاب الحكم الشرعي وموضوعه ؛ إذ على القول بنفيه يحتاج إلى ضم حكم العقل والتشبّث به ، ومعه يكون إجراؤه كالأكل من القفا ؛ لاستقلال العقل بدونه بوجوب الإتيان بالباقي كما حكم به أوّلا ، فليس هنا وجوب شرعيّ متعلّق بالباقي على كل تقدير كما هو ظاهر.

٦٢٨

وأمّا استصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي فلا يجدي شيئا أيضا إلاّ بانضمام حكم العقل ، ومعه لا معنى لإجرائه على ما عرفت ، أو التشبّث بذيل الأصل المثبت ؛ ليثبت به كون الواجب هو الباقي في مرحلة الظاهر ويترتب عليه حكم العقل بوجوب إتيانه ، كما إذا علم بكونه واجبا في الشرع ؛ إذ الموضوع في حكم العقل بوجوب إطاعة حكم الشارع الحكم بالمعنى الأعمّ من الواقعي والظاهري ، وكذا يقال : بالنسبة إلى استصحاب بقاء وجوب الواجب الواقعي ؛ فإنه بنفسه لا يترتب عليه أثر في المقام من دون انضمام أحد أمرين إليه ؛ ضرورة أن نفس بقاء وجوب الواجب المردّد في حكم الشارع لا يقتضي الإتيان بالباقي ، إلاّ بعد إثبات كونه الواجب الشرعي حتى يترتب عليه حكم العقل بوجوب الإطاعة ؛ نظرا إلى ما أسمعناك : من كون الموضوع في حكم العقل المعنى الأعم من الحكم الظاهري والواقعي.

ومن هنا يحكم بوجوب الإطاعة فيما كان المستصحب نفس الحكم الشرعي كما في مسألة الشكّ في النسخ ، أو موضوعه المعيّن ، كما في مسألة الشكّ في الإتيان بالواجب المعيّن في وقته ؛ فإنه لا يحتاج إلى انضمام شيء على تقدير القول بجريان الاستصحاب فيه عدم المنع عنه ؛ من حيث كون الحكم بوجوب الإتيان في الشكّ في الوقت من أحكام نفس الشك والاحتمال لا من أحكام المشكوك.

نعم ، لو فرض هناك أثر آخر مترتب شرعا على نفس بقاء الموقّت واقعا

٦٢٩

يترتّب على استصحابه ، كما أنّه يحكم بترتّب هذا النحو من الأثر في مفروض البحث لو فرض وجوده.

وبالجملة : كون الأثر عقليّا لا يمنع من جريان استصحاب نفس الحكم ، أو ما يرجع إليه بعد فرض تعلّقه بالموضوع الأعمّ ، وهذا معنى عدم الفرق في الأثر بين كونه شرعيّا أو عقليّا فيما كان المستصحب الحكم الشرعي ـ كما ستقف على شرح القول فيه في باب الاستصحاب ـ لا ما قد سبق إلى بعض الأوهام.

فالفرق بين المقام وبين مسألة الشكّ في إتيان الواجب المعين في الموقت : أن جريان الاستصحاب في المقام ليس في نفس ما يراد إثباته بالاستصحاب ، بل فيما يلازمه عقلا نظير إثبات الفرد الخصوصيّة باستصحاب الكلي المشترك بينه وبين ما هو زائل على تقدير وجود الكلّي في ضمنه فلا بد من أن يبتني على القول باعتبار الأصول المثبتة.

وهذا بخلاف استصحاب التكليف في الوقت ، أو استصحاب عدم الإتيان بالموقّت فيه في الفرض المذكور ؛ فإن المستصحب نفس ما يراد إثباته بالاستصحاب فلا ضير فيه من هذه الجهة وهذا هو المقصود بالفرق بينهما ، وإلاّ فقد عرفت المنع من جريان استصحابه من حيث إن الحكم بوجوب إتيانه مترتب على مجرّد احتمال بقائه لا على بقائه الواقعي حتى يكون مورد الاستصحاب.

وعلى ما ذكرنا لا بد من أن يحمل ما أفاده شيخنا ( دام ظلّه ) من الفرق بين الاستصحابين في « الكتاب » وإن كان خلاف ظاهره في باديء النظر ، كما أن

٦٣٠

الجمع بين الاستصحابين ، أعني : الموضوعي والحكمي في الموضعين مما لا معنى له جدّا كما هو ظاهر.

ومع ذلك كله لا بدّ من أن يبتني ما أفاده على تسليم تأثير الحكم الظاهري الشرعي في التقرّب بامتثاله ، وإلاّ فلا يجدي جريان الاستصحاب في التقرّب بفعل الباقي أصلا على القول بالأصل المثبت المنفيّ عندنا ، وعلى كون الواجب مرددا بين أمرين كما هو الغالب في الشبهة الحكميّة ، وإلاّ فلا توجّه للسؤال المذكور أصلا حتّى يجاب عنه بما عرفت ؛ ضرورة عدم إمكان إثبات وجوب المتعدد بالاستصحاب بأي نحو كان ، كما لا يخفى.

ومع ذلك ينبغي تحرير المقام بما عرفت ، لا بما حرره ( دام ظلّه ) في « الكتاب » ؛ فإنه لا يخلو عن بعض المناقشات ؛ فإن ظاهر قوله أوّلا عند المناقشة في الاستصحاب : ( وما ذكر من الاستصحاب فيه بعد منع جريان الاستصحاب ... إلى آخره ) (١)(٢) إرادة الوجه الأول مما عرفت من الوجوه من

__________________

(١) قال شيخ الكفاية قدس‌سره :

« لا يخفى ان هذا الإستصحاب لو كان في نفسه جاريا فلا مجال للمنع عنه من جهة حكم العقل بوجوب الجميع من أوّل الأمر ، بل معه لا مجال لحكمه هذا لزوال موضوعه به وملاكه به ؛ فإنّ حكمه بوجوب الجميع انّما كان من باب المقدّمة العلميّة لتحصيل ما هو المفرغ للذمّة والمخرج عن العهدة ، وقد انسدّ هذا الباب بالإستصحاب ؛ فإن وجوب الإتيان بالثاني حينئذ

٦٣١

استصحاب نفس الحكم العقلي ، مع أن قوله : ( إن مقتضى الاستصحاب ... إلى آخره ) (٣) الذي هو بمنزلة الجواب الآخر لا يجامع معه قطعا ، بل لا بد من أن يراد منه وجه آخر من الوجوه المذكورة ؛ إذ مع تسليم جريان الاستصحاب في نفس الحكم العقلي إغماضا لا يحتاج إلى ضمّ شيء كما هو ظاهر إلى غير ذلك من المناقشات.

__________________

ليس من هذا الباب ، بل لأنه المفرغ على تقدير بقاء الإشتغال ، كما هو مقتضى الإستصحاب فالحاكم بوجوب الثاني حينئذ وإن كان هو العقل أيضا إلاّ انه لأجل ملاك آخر غير ما هو ملاكه على تقدير عدم جريان الأصل حينئذ.

ومن هنا انقدح انّ استقلال العقل حينئذ بوجوب إتيانه من باب لزوم تحصيل اليقين بالفراغ عن الإشتغال المعلوم بالإستصحاب ليس من الإحتياط ؛ فإنّه لا يتقوّم بدون الشك ، ولا شك هاهنا لا في الاشتغال ولا فيما يحصل به الفراغ ، فلا يرجع الأمر إليه فافهم » إنتهى.

انظر درر الفوائد : ٢٥٠.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٩٣.

(٣) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٩٣.

٦٣٢

* المسألة الثانية :

اشتباه الواجب بغيره من جهة إجمال النص

(١٤٣) قوله : ( بل هنا أولى ؛ لأن الخطاب هنا تفصيلا متوجّه إلى المكلفين فتأمل ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٩٥ )

أقول : ما أفاده « دام ظلّه » : من أولوية هذه المسألة بوجوب الاحتياط فيها من تلك المسألة مبني على ما زعمه بعض : من الفرق بينهما من جهة وصول الخطاب التفصيلي إلى المكلف في المسألة ، فيحكم العقل بوجوب الاحتياط فيها من جهة تبيّن الخطاب والعلم به تفصيلا ، وهذا بخلاف المسألة السابقة ؛ فإن الحاصل فيها العلم بتعلّق التكليف بأحد الموضوعين فلا علم تفصيلا بالخطاب والتكليف ، فيمكن المنع عن وجوب الاحتياط فيها بهذه الملاحظة.

لكنك خبير بضعف هذا الفرق والتوهّم ، بل فساده ؛ لأن العلم التفصيلي

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« وجه التأمّل : ان توجه الخطاب وتعلّق التكليف معلوم في كلتي المسألتين والمكلّف به مردّد فيهما بين الشيئين ، غاية الأمر : طريق العلم بالخطاب هنا هو النص وهناك غيره وهو غير فارق فيما كان العلم طريقا صرفا » إنتهى. انظر درر الفوائد : ٢٥٠.

٦٣٣

بالخطاب مع إجماله وعدم تبيّن معناه لا يجدي في حكم العقل بوجوب الاحتياط ـ على تقدير اعتبار العلم التفصيلي بالحكم في حكم العقل بوجوب الاحتياط ـ لأن الحاصل من هذا الخطاب المجمل ليس إلاّ العلم بوجوب أحد الفعلين كالسبب الموجب للعلم بوجوب أحدهما في المسألة الأولى.

فإن قلنا بكفاية العلم الإجمالي بوجوب أحد الفعلين المتنافيين في إلزام العقل بوجوب الاحتياط كما هو الحق وعليه المحقّقون ، فلا يعقل الفرق بين المسألتين ؛ لأن اختلاف سبب العلم لا يكون فارقا في نظر العقل قطعا.

وإن لم نقل بكفايته فلا يعقل الفرق بينهما أيضا ، فالفرق فاسد على كل تقدير.

فإن شئت قلت : إن بيانية اللفظ إنّما هو باعتبار تبيّن مدلوله وكشفه عن المراد ودلالته عليه لا باعتبار ذاته ، فإذا فرض إجماله وعدم دلالته إلاّ على وجوب أحد الفعلين فلا يعقل الفرق بينه وبين غيره مما يكشف عن وجوبه ، وهذا مع وضوحه قد وقع التصريح به في مواضع من كلمات شيخنا ( دام ظلّه ) ومن هنا أمر بالتأمّل (١) في الفرق المذكور.

__________________

(١) قال في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٥١٣ ) :

« أقول : لعله إشارة :

٦٣٤

(١٤٤) قوله : ( ودعوى : قبح توجيهه على العاجز عن استعلامه ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٩٦ )

في جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة عند إقتضاء المصلحة

أقول : لمّا كان ما أفاده بقوله : ( وخروج الجاهل لا دليل عليه ... الى آخره ) (١) المبني على منع قبح تأخير البيان عن وقت الخطاب خارجا عن محل الكلام التجأ إلى منع قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما كان المكلّف قادرا على الفعل ولو بالاحتياط إذا اقتضته المصلحة ، وهذا وإن كان خلاف ما يقتضيه كلمات الأكثر في ظاهر النظر إلاّ أنه مما لا اعتبار عليه أصلا ؛ لاستقلال العقل

__________________

أوّلا : إلى أن الخطاب مختصّ بالمشافهين فلا يشمل المعدومين والغائبين وحينئذ فحال مجمل النص كمال عدم النص فلا أولويّة.

نعم ، يتمّ ما ذكر بالنسبة إلى مثل قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) الآية بناء على الإجمال في الإستطاعة لنا ومبيّنا للحاضرين.

وثانيا : ـ بعد التسليم ـ إلى ان الأولويّة بالعكس ؛ لأنّ فرض الكلام هناك في الخطاب الذي عرض له الإجمال بخلاف المقام » إنتهى.

* وقال السيّد اللاّري قدس‌سره :

إشارة إلى ما سيذكره آنفا : من أنّ توجّه الخطاب إلى المكلّفين مبني على حضورهم مجلس الخطاب أو شمول الخطاب للغائبين ، والأوّل خلاف المفروض ، والثاني خلاف المشهور ».

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٩٥.

٦٣٥

بجوازه وفقد دليل من الشارع على منعه.

ويمكن أن يقال : إن حكمهم بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما هو من حيث إيجابه لتفويت المطلوب عن المخاطب ونقض الغرض من تشريع الأحكام ، وهو غير لازم في المقام لفرض قدرة المخاطب على إتيان المكلّف به بالاحتياط ، فلا ينافي ما ذكرنا لما ذكروه : من قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

والقول : بأن الاحتياط موجب لقاء معرفة الوجه وتميز الواجب عن غيره وهو معتبر في صحة العمل مع التمكّن ، قد عرفت فساده في مطاوي كلماتنا السابقة ، كالقول بمنافاته لاعتبار قصد الوجه مع ما عرفت مرارا وستعرف من إمكان قصد الوجه في موارد الاحتياط كقصد القربة فيما يؤتى به احتياطا هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إن ما ذكر وإن كان حقا لا محيص عنه ، إلا أنّ من يقول باعتبار قصد الوجه لا يلتزم بكفاية القصد الإجمالي هذا. مع أن تأخير البيان موجب لاختفاء الأحكام الواقعيّة المؤدّي إلى اندراسها ، وهو مناف لما دلّ على وجوب صونها حفظها وإن لم يوجب مخالفتها من حيث العمل مع إمكان الاحتياط كما هو المفروض فتأمل.

٦٣٦

(١٤٥) قوله : ( ولكن التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهوره ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٩٦ )

__________________

(١) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« التأمل فيما نقله من كلامه وكلام المحقق القمي في هذه المسألة والمسألة السابقة يعطي أنّهما ليسا ممن خالف في إحدى المسألتين ، بل كلّ منهما قائل بوجوب الإحتياط فيما هو المفروض فيهما وهو ما اذا علم المكلّف بتوجّه الخطاب اليه بمعيّن واقعا وتعلّق التكليف به وتردّد بين أمرين أو أمور وإنّما صار إلى عدم وجوب الإحتياط حيث صارا لمنعهما العلم بتوجّه الخطاب فيه بمعيّن مع تردّده ، بل المسلّم عندهما هو العلم بتوجّهه بأحدهما ، فالنّزاع معهما إن كان ، فهو في الصغرى لا في الكبرى كما لا يخفى فتدبّر » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٥١.

* وقال صاحب قلائد الفرائد في قلائده ( ج ١ / ٥١٣ ) :

« أقول : إن كلامه ذو احتمال آخر وهو :

أن يكون معناه : لو ثبت التكليف بالمجمل من الخارج بنصّ أو إجمال فلا يبعد القول بوجوبه.

وهو ما أفاده المحقّق القمّي رحمه‌الله في كلامه [ القوانين ٢ : ٣٧ ] وردّه : بانّه لا معنى حينئذ لقوله : « ولا يبعد ... ».

وعلى هذا التوجيه أيضا لا يكون مختاره موافقا لمختار المصنّف رحمه‌الله » إنتهى.

* وقال السيّد عبد الحسين اللاّري قدس‌سره :

« يعني في الموافقة الكلّيّة في لزوم الإحتياط مطلقا من جهتي الإجمال الأصلي والطاريء معا ، وأمّا موافقته في الإحتياط من جهة الإجمال الأصلي الذاتي فقط فلعدم استلزامها الموافقة في الإحتياط من الجهة الأخرى لم يعدها من الموافقة المطلقة » إنتهى.

أنظر التعليقة على فرائد الأصول : ج ٢ / ٤١٤.

٦٣٧

أقول : قد يناقش فيما أفاده من الاستدراك : بأن الموضوع لنفي الاستبعاد ـ من وجوب الاحتياط في كلامه ـ يقين المكلف بأمر لا يقين المخاطب به ، وهو أعمّ من المخاطب فيشمل مفروض البحث. مع أن موضوع البحث في المسألة ـ على ما يصرّح به ـ إذا كان إجمال الخطاب لمن خوطب به ، فالتحقيق موافق للمختار ، غاية الأمر عدم تحقّق المسألة في حقّنا على القول بعدم شمول الخطاب للمعدومين هذا.

مع ما قيل : من أن الالتزام بوجوب الاحتياط على المخاطبين بالخطاب المجمل يوجب الالتزام بوجوبه على غيرهم وإن لم يشملهم الخطاب ؛ من حيث إن خصوصيّة المخاطبة لا مدخل لها من حيث إيجابها العلم بتعلّق التكليف بالواقع المجهول على المكلّف ، والمفروض حصوله لغير المخاطبين أيضا. والقول بمدخليّة المخاطبة في هذا الحكم من حيث هي عدم ، لما اتّفقوا عليه من الاشتراك في التكليف.

اللهمّ إلا أن يقال : إن مدخليّة المخاطبة في نظر المحقّق (١) إنّما هي من جهة دلالتها على تعلّق التكليف بالواقع الموجب لسقوط قصد التعيين في الإطاعة ، وهذا المناط غير موجود في حق غير المخاطب في زعمه وإن كان متحققا بالنسبة إلى جميع التكاليف ؛ من حيث امتناع أخذ العلم مطلقا فيها بحسب وجودها النفس

__________________

(١) أي : المحقق الخوانساري في مشارق الشموس : ٧٧.

٦٣٨

الأمري ، وتحقق العلم الإجمالي الموجب لتنجّزها عند العقل في الفرض أو ما دل على اشتراك التكليف بين الكل لا ينافي القول باعتبار قصد التعيين في الإطاعة مطلقا إلاّ فيما دلّ الدليل على سقوطه ، وإن كان القول به فاسدا من جهة أخرى.

فإن شئت قلت : إن اشتراك التكليف بقسميه من الواقعي والظاهري بين الكل لا ينافي الالتزام بوجوب الاحتياط على من خوطب بالمجمل مع الالتزام بعدم وجوبه على غيره ، مع الالتزام بمدخليّة خصوص المخاطبة في ذلك ؛ من حيث إيجابها لدفع اعتبار قصد التعيين في صحة العبادة.

* * *

٦٣٩

المسألة الثالثة :

ما اذا اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النّصين

(١٤٦) قوله : ( فالمشهور فيه التخيير ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٩٨ )

إشارة إلى الأخبار الدالّة على التخيير

في المتعارضين

أقول : ما دلّ على التخيير في تعارض الخبرين على أقسام :

أحدها : ما دلّ على التخيير مطلقا كما هو مدلول أكثرها.

ثانيها : ما دلّ على التخيير بعد فقد جملة من المرجّحات.

ثالثها : ما دلّ على التخيير بعد فقد كثير من المرجّحات وعدم موافقة أحدهما للاحتياط كالمرفوعة.

كما أن ما دلّ على الاحتياط أيضا على أقسام :

أحدها : ما دلّ على مطلوبية الاحتياط في مطلق الشبهة الشامل لصورة التعارض.

ثانيها : ما دلّ عليه في خصوص المتعارضين بعد فقد أكثر المرجّحات كالمقبولة بناء على إرادة لزوم الاحتياط من الأمر بالإرجاء ، ولو بترك الفتوى

٦٤٠