مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

البحث الثالث

في السكوت‌

فإن سكت المدّعى عليه بعد طلب الجواب عنه ، فإن كان لدهشة أزالها الحاكم بالرفق والإمهال.

وإن كان لغباوة وسوء فهم توسّل إلى إزالته بالتعريف والبيان.

وإن كان لآفة من صمم أو خرس توسّل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفهمة للمطلوب باليقين (١).

وإن كان لعدم فهم اللغة توسّل إلى إفهامه إلى مترجمين عدلين ، وكذا لو احتاج الحاكم إلى فهم جوابه. ولا يكفي واحد ، لأصالة عدم حجّية قوله ، فيقتصر في محلّ الحاجة إلى المجمع عليه.

وإن كان سكوته تعنّتا ولجاجا ألزمه الجواب أولا باللطف والرفق ، ثمَّ الغلظة والشدّة ، متدرجا من الأدنى إلى الأعلى ، على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن أجاب وإلاّ حبسه ( حتى يجيب ) (٢) إن سأله المدّعي إلى أن يجيب أو يعفو الخصم ، أو يموت ، عند المفيد والشيخ في النهاية والمختلف والديلمي وابن حمزة (٣) ، وكافّة المتأخّرين كما في المسالك والكفاية (٤).

__________________

(١) في « ق » : بالتعين ..

(٢) كذا ، والأنسب بالسياق حذفه.

(٣) المفيد في المقنعة : ٧٢٥ ، النهاية : ٣٤٢ ، المختلف : ٦٩١ ، الديلمي في المراسم : ٢٣١ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢١٧.

(٤) المسالك ٢ : ٣٧٠ ، الكفاية : ٢٦٩.

٢٨١

واستدلّ عليه تارة بما ذكره في الشرائع والتحرير من أنّ به رواية (١) ، وهي وإن كانت مرسلة إلاّ أنّها منجبرة بما ذكر.

واخرى : بحديث : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته » (٢) حيث إنّه واجد للجواب ويماطل فيه ، بناء على تفسيرهم العقوبة بالحبس خاصّة.

وثالثة : بما مرّ من حبس الأمير الغريم باللّي والمطل (٣).

وقيل : يجبر حتى يجيب بالضرب والإهانة (٤). ولعلّه لإطلاق العقوبة ، بناء على عدم ثبوت التفسير المذكور ، ولأنّه طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وعن المبسوط والسرائر (٥) وبعض المتأخّرين (٦) : أنّ الحاكم يقول له ثلاثا : إن أجبت وإلاّ جعلتك ناكلا ، وفي المبسوط : أنّه قضية المذهب.

واستدلّ له بأنّ السكوت إمّا هو النكول أو هو أقوى ، لأنّ الناكل منكر غير حالف ولا رادّ ، وهذا إمّا مقرّ أو منكر كذلك.

وأدلّة الكلّ مدخولة :

أمّا أدلّة الأول ، فلأنّ ضعف الرواية وإن انجبر بما مرّ إلاّ أنّ متنها ليس معلوما ، حتى في دلالته ينظر ، ومثل ذلك ليس عند الأصحاب بمعتبر. وتفسير العقوبة بخصوص الحبس غير ثابت. وحبس الأمير لا يفيد التخصيص ، مع أنّ كونه في مثل المورد غير معلوم ، وصدق الواجد على‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٨٦ ، التحرير ٢ : ١٨٧.

(٢) مجالس الشيخ : ٥٣٢ ، الوسائل ١٨ : ٣٣٣ أبواب الدين والقرض ب ٨ ح ٤ ، بتفاوت.

(٣) في ص : ١٧٦.

(٤) حكاه في كشف اللثام ٢ : ٣٣٨ وفيه : ولم نعرف القائل.

(٥) المبسوط ٨ : ١٦٠ ، السرائر ٢ : ١٦٣.

(٦) حكاه عنه في الرياض ٢ : ٤٠١.

٢٨٢

مثل ذلك غير ظاهر.

ومنه يظهر ضعف دليل الثاني أيضا.

وأمّا أدلّة الثالث فلمنع كونه نكولا ، مع أنّه ما ورد لفظ النكول في الروايات. ثمَّ منع كونه إمّا مقرّا أو منكرا ، فقد يكون أدّى الحقّ ولم يكن منكرا يلزمه اليمين ، ولا مقرّا يلزمه الحقّ ، فيسكت عن الإنكار لعدم صحّته ، وعن الإقرار لإلزامه بالمقرّ به مع عدم البيّنة على أدائه ، وعدم تقصيره في فقد البيّنة حتى يرد : أنّه أدخل الضرر على نفسه ، لإمكان موت الشهود. وإمكان التورية منه لا يفيد ، إذ قد لا يعلم شرعيّتها ، أو لا يهتدي إلى طريقها.

نعم ، يمكن أن يستدلّ للقول الأخير بما ذكره بعضهم من جريان أدلّة النكول فيه ، كقوله في رواية البصري ـ على طريق الفقيه ـ المتقدّمة : « فيمين المدّعى عليه ، فإن حلف فلا حقّ له » ، فإنّه لا شكّ في صدق المدّعى عليه عليه ، فيدلّ بالمفهوم على أنّه إن لم يحلف فللمدّعي حقّ عليه.

وأظهر منه منطوق قوله : « فإن لم يحلف فعليه » في هذه الرواية على طريقي الكافي والتهذيب.

وللثاني : بقوله في آخرها على الطرق الثلاثة : « ولو كان حيّا لألزم باليمين ، أو الحقّ ، أو يردّ اليمين عليه » (١) ، حيث إنّه أمر بالإلزام بأحد الأمرين ، ولا يتحقّق الإلزام إلاّ بالأمر أولا ، ثمَّ الإيذاء ، ثمَّ الضرب وهكذا.

وللأول : بأنّ الإلزام ليس مطلقا ، بل مجمل ، فيقتصر فيه على المتيقّن ، وهو الحبس.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٨ ـ ١٢٨ ، بتفاوت يسير.

٢٨٣

ويمكن الجواب عن الاستدلالين الأخيرين بأخصّية الصدر عن الذيل ، لمكان قوله : « فإن لم يحلف » ، فيجب تخصيص الذيل به ، ويلزمه التخيير في مبدأ الأمر بين أحد الثلاثة ، فإذا لم يحلف ولم يرد ـ كما في المورد ـ يبقى الإلزام بالحقّ كما هو القول الأخير ، ولعلّه الأقوى ، فتأمّل.

٢٨٤

البحث الرابع

فيما إذا أجاب المدّعى عليه بقوله : لا أدري ، أو هذا ليس لي ،

أو لفلان ، ونحوه ، ليصرف الدعوى عن نفسه.

وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : إذا أجاب المدّعى عليه بنحو قوله : لا أدري‌ ، فقال صاحب الكفاية وقبله الأردبيلي : إنّ مقتضى ظاهر كلامهم أنّه لم يكف حلف المنكر على نفي العلم ، وأنّه لا يجوز حينئذ الحلف بنفي الاستحقاق لعدم علمه ، بل لا بدّ من ردّ اليمين ، وإن لم يردّ يقضى عليه بالنكول مطلقا ، أو بعد ردّ اليمين على المدّعي (١).

وقال بعض المعاصرين ـ بعد نقله عنهما ـ : ولم يحضرني ذكر ذلك في كلام غيرهما (٢).

أقول : التحقيق : أنّه إن ادّعى المدّعي العلم عليه علما أو ظنّا ـ بل أو احتمالا ـ فله حلفه على نفي العلم ، كما صرّح به بعض مشايخنا المعاصرين أيضا (٣) ، لأنّه دعوى صحيحة مستلزمة ـ بعد تحقّق المدّعى به بالنكول ـ ثبوت الحقّ له ، فيدخل في عموم اليمين على من أنكر. وبعد الحلف يسقط أصل الدعوى ، لا لما ذكره أيضا من تركّب الدعوى من أمرين ـ فإذا سقط جزؤه سقط الكلّ ، كما ذكروه في الحلف على نفي العلم‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٧٠.

(٢) غنائم الأيام : ٦٩٢.

(٣) انظر الرياض ٢ : ٤٠٤.

٢٨٥

بفعل المورّث ـ بل لأنّ بعد ثبوت انتفاء علمه بالحلف لا تسلّط له عليه بدون البيّنة ، كما يأتي.

نعم ، لو أقام بعد ذلك بيّنة تقبل ، لأنّ الحلف كان على نفي العلم ، ولازمه عدم سماع بيّنة العلم.

وإن لم يدّع عليه العلم ولا بيّنة له فلا تسلّط له عليه أصلا بمطالبة الحقّ ، للأصل الخالي عن المعارض بالمرّة. ولا بالحلف ، للأدلّة المصرّحة بأنّ الحلف على البتّ كما يأتي.

فلو لم تكن بيّنة له سقطت دعواه ، بمعنى : عدم ترتّب أثر عليها في حقّه ، إذ لم يثبت من الشارع في حقّ المدّعي سوى البيّنة أو التحليف ، وهما منفيّان في المقام قطعا ، والأصل عدم تحقّق مقتضى الدعوى ، فيحكم به.

وتدلّ عليه موثّقة سماعة : عن رجل تزوّج أمة أو تمتّع بها فحدّثه ثقة أو غير ثقة ، فقال : إنّ هذه امرأتي وليست لي بيّنة ، قال : « إن كان ثقة فلا يقربها ، وإن كان غير ثقة فلا يقبل [ منه ] » (١).

وحسنة عبد العزيز : إنّ أخي مات وتزوّجت امرأته ، فجاء عمّي فادّعى أنّه كان تزوّجها سرّا ، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشدّ الإنكار وقالت : ما كان بيني وبينه شي‌ء قطّ ، فقال : « يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها » (٢).

ورواية يونس : عن رجل تزوّج امرأة في بلد من البلدان ، فسألها :

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٤٦١ ـ ١٨٤٥ ، الوسائل ٢٠ : ٣٠٠ أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب ٢٣ ح ٢ ، وفيهما : عن رجل تزوّج جارية .. فحدّثه رجل ثقة .. ، وما بين المعقوفين ليس في « ح » و « ق » ، أثبتناه من المصدرين.

(٢) الكافي ٥ : ٥٦٣ ـ ٢٧ ، الفقيه ٣ : ٣٠٣ ـ ١٤٥٢ ، الوسائل ٢٠ : ٢٩٩ أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب ٢٣ ح ١.

٢٨٦

ألك زوج؟ فقالت : لا ، فتزوّجها ، ثمَّ إنّ رجلا أتاه فقال : هي امرأتي ، فأنكرت المرأة ذلك ، ما يلزم الزوج؟ فقال : « هي امرأته ، إلاّ أن يقيم البيّنة » (١).

دلّت هذه الروايات على عدم قبول مدّعي الزوجيّة في سقوط حقّ الزوج الثاني ، مع أنّ الثاني غير عالم به ، كما يدلّ عليه الفرق بين الثقة وغيره في الاولى ، وسؤاله عن حالها في الثانيتين ، وأنّه لا حلف عليه.

وأمّا قوله في الاولى : « إن كان ثقة فلا يقربها » فلكونها جملة محتملة للإخباريّة لا يفيد أزيد من الكراهة ، ولذا خصّه بالمقاربة دون سائر الأمور ، ولم يحكم بزوجيّة الأول بمجرّده.

واختصاص الروايات بدعوى الزوجيّة غير ضائر ، لعدم القول بالفصل بين الحقوق.

وما نقل عن بعضهم في هذه المسألة ـ من أنّه يحلف على نفي العلم (٢) ، واحتمله الأردبيلي ونفى عنه البعد في الكفاية (٣) ـ فمرجعه إلى ما ذكرنا ، إذ ظاهر أنّ هذا الحلف إنّما هو إذا جوّز المدّعي علمه حتى تتحقّق دعواه ولو احتمالا. أمّا لو اعترف بعدم علمه فلا معنى ليمين نفي العلم.

وأمّا ما قيل من احتمال أن يقال بردّ الحاكم أو المدّعى عليه الحلف إلى المدّعي (٤) فلا وجه له ، لأنّه أمر مخالف للأصل ، محتاج إلى التوقيف ، ولا توقيف.

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٤٦٨ ـ ١٨٧٤ ، الوسائل ٢٠ : ٣٠٠ أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب ٢٣ ح ٣.

(٢) حكاه عنه في الرياض ٢ : ٤٠٤.

(٣) الكفاية : ٢٧٠.

(٤) انظر الرياض ٢ : ٤٠٤.

٢٨٧

ولا يتوهّم عموم بعض روايات اليمين ، مثل قولهم : « أحكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنّة ماضية » (١) وقولهم : « اقض بينهم بالبيّنات ، وأضفهم إلى اسمي » (٢) ، لأنّها بين مجملة ومعيّنة لكون اليمين على المدّعى عليه ، والمبيّن حاكم على المجمل ، سيّما مع التصريح في صحيحتي العجلي وأبي بصير وروايته ، المتقدّمة جميعا في مقدّمة المقام الثاني من البحث الثاني (٣).

وكذا لا يتوهّم دلالة إطلاقات ردّ اليمين ، لأنّ الردّ إنّما يكون مع تعلّق اليمين بالمدّعى عليه ، فإذا لم يتعلّق لا يكون ردّ ، مع أنّه لا إطلاق فيها يشمل المورد.

والقول ـ بأنّه لولاه [ للزم ] (٤) عدم سماع دعوى مسموعة بلا جهة ـ واه جدّا ، لأنّ طلب الجواب من المدّعى عليه ثمَّ طلب البيّنة من المدّعي وتحليفه على نفي العلم لو ادّعاه عين سماعها.

نعم ، يلزم عدم ثبوت تسلّط للمدّعي في بعض الصور ـ وما الضرر فيه؟! ـ كما في مورد الروايات الثلاث ، الذي لا خلاف فيه أيضا ظاهرا ، وكما فيما إذا كان المدّعى عليه وارثا ، بل هو من أفراد موضوع المسألة ، غاية الأمر صيرورة دعواه لاغية ، فليكن كذلك ، وما الضرر فيه بعد كونها مخالفة للأصل؟!

والقول بأنّ الأصل عدم انقطاع الدعوى المسموعة بلا بيّنة ولا يمين : مردود بأنّ الأصل أيضا عدم توجّه اليمين على المدّعي ، مع أنّ أصالة‌

__________________

(١) راجع ص : ١٩٩.

(٢) راجع ص : ١٩٩.

(٣) راجع ص : ٢٠٠.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في « ح » و « ق » : لزم ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٨٨

عدم الاشتغال وعدم وجود دليل شرعي على الحكم به دليل على الانقطاع ، مزيل للأصل.

ولا يتوهّم أنّه يمكن إلزام المدّعي عليه بلا يمين مردودة أيضا لعدم المعارض لقول المدّعي ، لأنّ الأصل من أقوى المعارضات ، ومن أين ثبتت حجّية قول المدّعي الجالب للنفع لدفع الأصل الثابت من الشرع؟! فإن قيل : بوجوب حمل أفعال المسلم وأقواله على الصحّة والصدق.

قلنا : من أين ثبت ذلك؟! سيّما إذا كان قوله مخالفا للأصل مثبتا للحقّ على الغير ، ولم نعثر إلى الآن على دليل تامّ على ذلك ، كما بيّناه في كتابي عوائد الأيّام ومناهج الأحكام.

سلّمنا ، فغاية ما نسلّمه أنّه لا يكذب في ادّعاء علمه ، ولكن من أين تثبت حجّية علمه علينا؟! فإن قيل : ورد في رواية البصري المتقدّمة : « ولو كان حيّا لألزم اليمين ، أو الحقّ ، أو يردّ اليمين عليه » (١) دلّت على أنّه لو كان حيّا لتعلّق به أحد الثلاثة ، ولمّا لم يكن اليمين أو ردّه هنا فتعيّن الإلزام بالحقّ.

قلنا : يجب إمّا تخصيص الحيّ بالعالم ، أو تخصيص الإلزام والردّ به ، ولا مرجّح ، فيحصل الإجمال المسقط للاستدلال. والله الموفّق في كلّ حال.

وأمّا ما احتمله في الكفاية من كون عدم العلم بثبوت الحقّ كافيا في الحلف على عدم الاستحقاق ، لأنّ وجوب إيفاء حقّه إنّما يكون عند العلم به (٢).

__________________

(١) راجع ص : ٢٣١.

(٢) الكفاية : ٢٧٠.

٢٨٩

ففاسد ، لأنّ المدّعي أمّا يحتمل علمه أو لا ، فإن احتمله فله حلفه على نفيه ، وإن لم يحتمله فهو على ما ذكره معترف بعدم الاستحقاق أيضا ، فكيف يحلّفه؟!

ثمَّ بما اخترناه صرّح به بعض معاصرينا ، حيث قال ما ملخّصه : إنّه إن ادّعى المدّعى عليه العلم فلا إشكال في جواز الحلف على نفي العلم ، وبه تسقط الدعوى ، وإن لم يدّع عليه العلم فمقتضى الأصل والأخبار أنّه لا يتوجّه عليه شي‌ء أصلا ، إذ الأصل براءة ذمّته ، ولم ينكر شيئا ممّا يدّعيه المدّعي حتى يصدق عليه المنكر ، مع أنّها غير ممكنة حينئذ ، فلا يكفي صدق المدّعى عليه عليه أيضا ، ولا يجب عليه ردّ اليمين ، بل الظاهر أنّ الحاكم أيضا لا يردّه ، إذ لا معنى لردّ اليمين إلاّ بعد ثبوته على المدّعى عليه ، ولا يثبت شي‌ء باليمين على المدّعى عليه حينئذ ، فلا يجوز للمدّعي أيضا الحلف حينئذ ، ولا يثبت به شي‌ء لو حلف (١). انتهى.

هذا إذا كانت الدعوى على الدين وما في الذمّة.

وأمّا إذا تعلّقت بالأعيان الخارجيّة فهو على قسمين :

أحدهما : أن تكون العين في يد المدّعى عليه‌ ، لأجل انتقالها إليه من متصرّف لها غير ثابت اعترافه بما ينافي الملكيّة بأحد أنحاء الانتقال ، كالإرث ، أو الشراء ، أو نحوهما ، ولا خلاف حينئذ في أنّه إذا لم تكن للمدّعي بيّنة ليس له على المدّعى عليه تسلّط ، سوى اليمين على نفي العلم إن ادّعاه عليه ، كما يأتي.

وثانيهما : أن تكون العين بيده من غير ادّعائه الملكيّة لها‌ ، بل يعترف بأنّه لا يعرف صاحبها ، لأجل نسيانه أو غيره ، فله أقسام :

__________________

(١) انظر غنائم الأيام : ٦٩٢.

٢٩٠

الأول : أن يجيب المتصرّف بأنّي لا أدري هل هو منّي ، أو من المدّعي. فإن ادّعى عليه المدّعي الدراية علما أو ظنّا أو احتمالا فله إحلافه على نفي العلم ، فإن نكل أو ردّ فيما يجوز فيه الردّ وحلف المدّعي يحكم به له ويأخذه ، لا لكون النكول أو الردّ إقرارا ، لمنعه ، بل للأخبار النافية للحقّ عن الناكل والرادّ مع حلف المردود إليه ، فينحصر الحقّ في المدّعي.

وإن حلف ، أو لم يدّع المدّعي العلم عليه ، فالظاهر القرعة بينهما ، لأنّها لكلّ أمر مجهول.

الثاني : أن يجيب بأنّي لا أدري أنّه هل هو منّي ، أو منك ، أو من ثالث حاضر يمكن الترافع معه.

فإن نفاه الثالث عن نفسه ينحصر بين المدّعي والمتصرّف ، ويرجع إلى الأول.

وإن ادّعاه لنفسه فلكلّ منهما إحلاف المتصرّف على نفي العلم مع ادّعائه عليه ، فإن نكل عنهما أوعن أحدهما يسقط حقّه وينحصر بين المتداعيين ، ويرجع إلى مسألة تنازع اثنين في عين في يد ثالث لم يصدق أحدهما إن لم يصدّق أحدهما ، وإلى مسألة تنازعهما في يد ثالث صدّق أحدهما إن رجع إلى تصديقه ، وستأتي المسألتان.

وإن حلف المتصرّف لهما فالظاهر الإقراع بين الثلاثة.

وإن قال الثالث أيضا : لا أدري ، ومنع عن أخذ المدّعي ، فله إحلافهما على نفي العلم إن ادّعاه عليهما ، وإحلاف من يدّعيه عليه خاصّة ، فمع نكولهما أو أحدهما يسقط حقّ الناكل ، ومع حلفهما يقرع بين الثلاثة.

وإن أقرّ المتصرّف للمدّعي بعد الترديد يقبل منه ، لأنّ قوله أولا بعدم العلم ليس إقرارا على أحد.

٢٩١

نعم ، للثالث إحلافه لو ادّعى علمه ، وتغريمه لو نكل أو ردّ.

الثالث : أن يكون الثالث من لا يمكن الترافع معه‌ ـ كالفقراء ، أو غائب مفقود الخبر ، أو صغير ، أو مجنون ـ فمع ادّعائه العلم عليه يحلّفه ، فإن لم يحلف يسقط حقّ نفسه ويقرع بين الباقين ، وإن حلف يقرع بين الثلاثة. ويقبل قوله إن أقرّ بعد ذلك قبل الإقراع للمدّعي ، لعدم تحقّق شي‌ء مقبول شرعا ينافيه.

نعم ، للصغير أو المجنون بعد الكمال تغريمه لو ادّعى عليه العلم ونكل عن يمينه.

الرابع : أن يكون الثالث مسافرا‌ ، وحكمه أيضا يظهر ممّا ذكرنا في الأقسام السابقة.

الخامس : أن يجيب بأنّي لا أدري أنّه منّي ، أو من المدّعي ، أو من غيرنا ، من غير تعيين‌ ، فمع عدم ادّعاء العلم على المتصرّف يقرع بين الثلاثة أيضا ، فإن خرجت القرعة لأحدهما يردّ إليه ، وإن خرجت للغير يدخل في مجهول المالك. وكذا مع ادّعاء العلم عليه وحلفه.

ومع نكوله أو ردّ اليمين وحلف المدّعي يسقط حقّ المتصرّف ، ويقرع بين المدّعي والغير ، فإن خرجت للمدّعي يعطى العين ، وإن خرجت للغير فللمدّعي إغرام المتصرّف ، لتضييعه حقّه.

السادس : أن يجيب بأنّي لا أدري أنّه من المدّعي ، أو الغير المعيّن ، أو غير المعيّن ، مع اعترافه بأنّه ليس من نفسه ، فهو يخرج عن تلك المسألة ، ويدخل في المسألة الآتية إن شاء الله ، ( وإن كان له جهة مناسبة مع تلك المسألة لأجل قوله : لا أدري أنّه منك ، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى ) (١).

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ح ».

٢٩٢

المسألة الثانية : لو كان جواب المدّعى عليه : إنّه ليس لي‌ ، ليصرف الدعوى عن نفسه ، وهو إنّما يكون إذا كانت الدعوى على عين في يد المدّعى عليه ، وهو على أربعة أقسام :

أحدها : أن يقول : ليس لي ، مقتصرا عليه. أو يضمّ معه قوله : هو لرجل لا أعرّفه ـ من باب التفعيل ـ أي لا أسمّيه. أو يضمّ معهما أو مع أحدهما : وليس لك ، أو : لرجل غيره وغيرك.

والوجه فيه ـ وفاقا للشرائع والقواعد والمسالك (١) وغيرها (٢) ـ أنّه لا ينزع من يد المتصرّف ، لأنّ انتفاء ملكيّته لا يفسد يده ، لإمكان كونها بالإجارة ، أو الوكالة ، أو العارية ، أو اللقطة ، أو غيرها ، ولا ترتفع الخصومة عنه ، بل يخاصم بمطالبته البيان ، توصّلا للمدّعي بحقّ ترافعه ، فإنّ للمدّعي على من عيّنه حقّا إمّا الأخذ إن أقرّ ، أو الحلف إن أنكر.

ولو كذب المقرّ ثبت لصاحب ما يجهل مالكه عليه الحقّ ، فيكون تركه البيان تفويتا لحقّ الغير ، وهو منكر يجب صرفه عنه على طريقة النهي عن المنكر ، وأيضا يخاصم بمطالبة الحلف على نفي علمه بحقّية المدّعي ، ويقبل إن أقرّ بعد ذلك ، لما سيأتي في بحث التنازع في الأعيان من أنّ إقرار ذي اليد مطلقا يجعل المقرّ له ذا اليد ، المقتضي للملكيّة له.

والوجه الآخر : أنّه ينزع الحاكم المال من يد المتصرّف ، ويحفظه إلى أن يظهر مالكه ، وترتفع الخصومة منه ، وعلّله في الإيضاح بأنّ بنفي المتصرّف عن نفسه وعدم البيان لمالكه صار مجهول المستحقّ (٣).

وفيه : أنّ جهل الحاكم أو المدّعي بالمقرّ له لا يدخله في عنوان‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١١٢ ، القواعد ٢ : ٢٣١ ، المسالك ٢ : ٣٩٢.

(٢) انظر كشف اللثام ٢ : ٣٦٤.

(٣) إيضاح الفوائد ٤ : ٤٠٢.

٢٩٣

مجهول المالك ، ثمَّ إنّ كلّ ذلك إذا لم تكن للمدّعي بيّنة ، وإلاّ فيأخذه.

وقيل : تجري في ذلك القسم الأقوال الثلاثة المتقدّمة في السكوت ، من الحبس ، والإجبار على البيان ، والإلزام بالحقّ.

والأولان هما مثل المطالبة بالبيان ، وأمّا الأخير فبعد نفيه عن نفسه لا وجه له.

والقول ـ بأنّ هذا الإقرار لا يثبت مال الغير ـ ممنوع ، ولعلّ وجهه : أنّه يحتمل تفسيره بما لا يقبل ، كأن يقول : إنّه للتهمة.

وفيه : أنّ عدم قبول كونه للتهمة لا يوجب عدم قبول نفيه عن نفسه.

وكذا ما ذكره في المسالك ، من أنّ الظاهر أنّ ما في يده ملكه ، وما صدر عنه ليس بمزيل (١).

فإنّه إن أراد أنّه ليس بمزيل لمطلق اليد فهو مسلّم ، ولكنّه غير مفيد.

وإن أراد أنّه ليس بمزيل لليد المقتضية (٢) للملكيّة فهو ممنوع.

وإن أريد أنّه ليس بمزيل لأصل الملكيّة المتحقّقة أولا بظاهر اليد فقد عرفت ما فيه ، فإنّ إقراره على نفسه مزيل له.

وثانيها : أن يقول : ليس لي ولا أعرف مالكه‌ ـ من باب المعرفة ـ أي لا أدري من هو. ولم يحضرني من صرّح بحكمه.

والوجه فيه : أنّه يخرج عن ملكيّة المتصرّف ، وترتفع عنه خصومة المدّعي ، إلاّ إذا ادّعى عليه العلم بحقّيّته فيحلّفه ، فإن نكل أو ردّ وحلف المدّعي يأخذ الغرامة منه ، لتضييعه حقّه باعترافه بأنّه مجهول المالك ، الذي هوأمّا مال الإمام ، أو الفقراء ، أو لمن يعرفه بعد تعريف السنة ، أو غير‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٩٢.

(٢) في « ق » : المتضمّنة ..

٢٩٤

ذلك من أقسام مجهول المالك ، وليس المدّعي أحدها.

وإن حلف ترتفع خصومة المدّعي عنه.

وعلى التقديرين ليس لأحد ـ حتى الحاكم ـ أخذه منه ، للأصل ، حيث (١) يحتمل أن يكون ممّا يبقى في يده للتعريف.

نعم ، لو عيّن وجه الجهل يعمل بمقتضاه.

الثالث : أن يضيفه إلى من تمتنع مخاصمته‌ ، كالفقراء ـ بالوقف أو غيره ـ والوقف لمسجد ( أو مشهد ) (٢) أو مدرسة أو نحوها. [ ولا تنصرف ] (٣) الخصومة عنه إلاّ بيمين نفي العلم وحلفه ، فإن لم يحلف يغرّم ، وإن حلف ولا بيّنة للمدّعي يرتفع تسلّطه ، ولا ينتزع من يد المتصرّف ، لجواز توليته.

ومن هذا القسم : ما لو أقرّ به لطفله ، أو لطفل الغير ، أو مجنون ، أو غائب ، أو مفقود الخبر. ولا تسلّط للمدّعي حينئذ على الوليّ بدون البيّنة إذا كان غير المتصرّف ، وله عليه يمين نفي العلم إن كان هو المتصرّف وادّعى علمه ، لفائدة الغرامة.

ومن هذا الباب : ما لو نقله المتصرّف إلى غيره ـ من طفل أو غيره ـ ممّن لا يدّعي المدّعي علمه قبل تمام الترافع ، فإنّه لا تسلّط للمدّعي حينئذ سوى إحلاف المتصرّف إن ادّعى علمه ، وإغرامه إن نكل أو ردّ.

الرابع : أن يضيفه إلى معيّن لا تمتنع مخاصمته‌ ، وهو على قسمين ، لأنّه إمّا يقول : هي لزيد البالغ الحاضر ، أو يقول : هي لزيد البالغ المسافر ، أو الحاضر في بلدة بعيدة ، ليوقف الدعوى ويؤخّرها ، مع صرفها عن‌

__________________

(١) في « ح » : حتى ..

(٢) ليست في « ح ».

(٣) بدل ما بين المعقوفين في « ح » و « ق » : وتنصرف ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٩٥

نفسه.

أمّا الأول ، فقال في الكفاية في ذيل مسألة سكوت المدّعى عليه : وإذا قال المدّعى عليه : هذا لفلان ، صرفت الدعوى عنه.

وإن ادّعى المدّعي العلم على المدّعى عليه بأنّ هذا له صحّت الدعوى.

فإن أقرّ به بعد الإنكار ، قال بعضهم : إنّه يسلّم من غير حاجة إلى الإثبات ، لأنّه مؤاخذ بإقراره ، والمال في يده ، وهو قادر على دفعه إلى أهله ، وتلزمه الغرامة للمقرّ له أولا.

وفيه : أنّه مؤاخذ بإقراره الأول ، فلا يصحّ إقراره الثاني المخالف للأول ، فالظاهر أنّه تلزمه الغرامة للمدّعي.

وإن أصرّ على الإنكار يلزمه الحلف على عدم علمه بذلك ، فإن حلف أو نكل يترتّب على كلّ واحد حكمه ، ويجوز له الردّ ، لجواز علم المدّعي بعدم علم المنكر ، فيستحبّ فيه حكم الحلف والردّ والنكول على ما مرّ (١). انتهى.

أقول : ما ذكره في ردّ قول البعض صحيح ، ولكن إطلاقه لزوم الغرامة للمدّعي غير صحيح ، بل لا يلائم قوله : صرفت الدعوى عنه ، بإطلاقه ، إذ لو تمكّن من الادّعاء على المقرّ له وإثبات دعواه بإقراره أو بالبيّنة فلا وجه لتغريم المدّعى عليه ، بل لا وجه له قبل المرافعة مع المقرّ له مطلقا ، إذ لعلّه يقرّ أو يردّ الحلف أو ينكل ، فيأخذ المدّعي العين ، فلا وجه لتغريمه ، لأنّه لم يتلف العين عليه.

ومنه يعلم عدم تسلّط يمين نفي العلم على المدّعى عليه أيضا قبل الترافع مع المقرّ له ، بل الصحيح أن يقال : صرفت الدعوى عنه إلى المقرّ له‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٦٩.

٢٩٦

إن أمكن ، فيرافع معه.

فإن رجعت العين إليه بإقرار أو بيّنة أو نكول أو ردّ حلف تمّت الدعوى ولا شي‌ء على المدّعى عليه.

وإن لم ترجع وحكم بها للمقرّ له ، أو كان ممّن لم يتمكّن المدّعي من الترافع معه ، فيرجع إلى المدّعى عليه.

فإن لم يدّع العلم بصحّة دعواه ـ ولو ظنّا أو احتمالا ـ فلا تسلّط له عليه.

وإن ادّعاه ، فإن أقرّ يغرّم ، وإن أصرّ فله إحلافه على نفي العلم ، فإن حلف تمّت الدعوى أيضا.

وإن لم يحلف ـ بل ردّ الحلف إن أمكن ، بأن تكون دعواه جزما ، وحلف المدّعي أو نكل ـ فعليه الغرامة للمدّعي ، لإتلافه ما كان يعلم أنّه ماله.

هذا إذا لم تكن للمدّعي بيّنة على إقرار المدّعى عليه له سابقا على إقراره للمقرّ له ، وإن كانت له وأثبته فيأخذ العين عن المقرّ له مع الإمكان ، وهو يرجع إلى المدّعي إن شاء ، ويستغرم منه ، لاعترافه بالإقرار الثاني تضييعه حقّه بالإقرار الأول ، ومع عدم الإمكان يأخذ الغرامة من المدّعى عليه.

هذا كلّه إذا صدّق زيد الحاضر المقرّ له المقرّ في إقراره له ، ولو كذّبه ففي المسالك : إنّ فيه أوجها :

أحدها : أنّه ينزع الحاكم منه ، ويحفظه إلى أن يظهر مالكه ، لخروجه عن ملك المتصرّف بإقراره ، وعدم دخوله في ملك المقرّ له بإنكاره ، وعدم ثبوت ملك المدّعي ، وأصالة عدمه.

٢٩٧

والثاني : أنّه يترك في يد المدّعى عليه ، إذ لا منازع له ، ولعلّه يرجع ويدّعيه.

والثالث : أنّه يسلّم للمدّعي ، لعدم المنازع له فيه (١).

واحتمله في القواعد أيضا (٢).

أقول : يرد على الأخير : إنّ عدم المنازع لا يكفي في دفع الأصل وحصول التسلّط له على المتصرّف ، وعدم شمول أدلّة ما يسلّم للمدّعي لما لا يد عليه للمورد ، ولذا تنظّر فيه في الإيضاح (٣) بأنّه لا دليل عليه.

وعلى ما قبله : بمنع أنّه لا منازع له ، بل على الحاكم منازعته ، حيث إنّه يتصرّف في ملك ليس له ينفيه عن نفسه ، ولا لغير المقرّ له حتى يحتمل جواز تصرّفه فيه لأجله ، لإقراره بأنّه له ، ولا للمقرّ له ، لتكذيبه. فلا يبقى وجه لتصرّفه. ورجوعه بعد نفيه عن نفسه غير مفيد ، لعدم ثبوت اقتضاء اليد الكذائيّة لأصالة الملكيّة.

فأوجه الأوجه هو : الأول ، كما قطع به في الشرائع (٤) واختاره في القواعد (٥).

وأمّا الثاني ـ وهو أن يقول : إنّه لغائب معيّن ـ قال في المسالك ما ملخّصه : أنّه تنصرف الخصومة عنه إلى الغائب ، فإن كانت للمدّعي بيّنة قضي على الغائب بشرطه ، وإلاّ أقرّ في يد المدّعى عليه. ولو طلب المدّعي إحلافه على نفي العلم بأنّ العين له فالأظهر أنّه له ، فإن أقرّ أو نكل يغرّم القيمة ، فإن‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٩٢.

(٢) القواعد ٢ : ٢٣٢.

(٣) إيضاح الفوائد ٤ : ٤٠٢.

(٤) الشرائع ٤ : ١١٢.

(٥) القواعد ٢ : ٢٣٢.

٢٩٨

سلّمت العين للمدّعي بعد حضور الغائب بالبيّنة أو إقراره يردّ القيمة (١). انتهى.

أقول : كلّ ما ذكره صحيح لا خدشة فيه ، إلاّ حكمه بإغرام القيمة معجّلا للمدّعي مع الإقرار أو النكول ، فإنّ قبل حضور المقرّ له والترافع له لم يعلم تضييع حقّ له غرامة للمدّعي ، إذ لعلّ المقرّ له يقرّ له أو ينكل ، فلو قيل بتأخير الإغرام إلى طيّ الدعوى مع الغائب فلعلّه كان أظهر.

ثمَّ لو حضر الغائب وكذّب المقرّ فحكمه كما إذا كذّبه الحاضر ، وقد مرّ.

فروع :

أ : قال في المسالك : لو أقام المقرّ له البيّنة على ملكه لم يكن للمدّعي تحليف المقرّ ليغرّمه (٢).

أقول : والفرق بينه وبين استقرار الملك للمقرّ له بالحلف : أنّ حلفه مسبّب عن صيرورته ذا اليد الحاصلة بإقرار المدّعي ، فهو السبب للحيلولة بينه وبين العين ، بخلاف البيّنة. ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ على قبول بيّنة الداخل ، والله العالم.

ب : قال في التحرير في صورة الإقرار للغائب : لو أقام ذو اليد بيّنة تشهد أنّها للغائب ، سمعها الحاكم ، ولم يقض بها للغائب ، لأنّه لم يدّع هو ولا وكيله ، وإنّما الفائدة : سقوط اليمين عن المقرّ إذا ادّعي عليه العلم.

ولو ادّعى وكالة الغائب كان له إقامة البيّنة عن الغائب.

ولو ادّعى رهن الغائب أو إجارته فالأقرب سماع البيّنة على الغائب بالملك ، لتعلّق المقرّ بحقّ (٣). انتهى.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٩٣.

(٢) المسالك ٢ : ٣٩٣.

(٣) التحرير ٢ : ١٩٠.

٢٩٩

أقول : الكلّ كذلك ، أمّا سماع بيّنته للغائب فلأنّ بإقراره خرج عن كونه داخلا ، وبادّعائه ملكيّة الغير الصارفة للدعوى عنه ، فمن جهة حقّ صرف الدعوى عنه يصير مدّعيا لنفسه هذا الحقّ فتسمع بيّنته فيما يتعلّق بنفسه ، ومنه يظهر وجه سقوط اليمين عن المقرّ.

وأمّا إقامة البيّنة عن الغائب مع دعوى الوكالة ، فلما سبق من كفاية الوكالة الادّعائيّة في سماع الدعوى والحكم.

وأمّا قبول البيّنة بملك الغائب عند دعوى الرهن أو الإجارة ، فلأنّ دعواه في الرهن والإجارة الصحيحين ، وصحّتهما موقوفة على ملكيّة الغائب ، فدعوى ملكيّة الغائب أيضا جزء من الدعوى لنفسه ، كما إذا ادّعى على الغائب بيع ملكه له حال بلوغه ، فبيّنة البلوغ حقيقة بيّنة لحقّ المدّعي.

ثمَّ إنّ في صورة إقامة المقرّ البيّنة ـ لا بدعوى الوكالة ، بل لإسقاط اليمين ، أو تصحيح الرهن أو الإجارة ، وحضر الغائب وطلب الحكم ـ افتقر إلى دعوى مجدّدة ، فيحكم بمقتضاها ، فإن أقام المدّعي بيّنة قضي بدون بيّنة الغائب ، لأنّه الداخل.

٣٠٠