مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

وما يتوهّم فيه افتراقهما من دعوى المديون الردّ ، حيث إنّه يدّعي خلاف الأصل ولا يترك لو ترك.

فاسد ، لأنّه أيضا لو ترك هذه الدعوى يترك من هذه الحيثيّة ، ويعمل بمقتضى الحالة السابقة ، وهي وجوب الردّ عليه.

وكذا الكلام في دعوى المتصرّف في مال الغير ـ بنحو من الأنحاء ـ الردّ ، فإنّ عدم ترك مدّعي الإيفاء والردّ بعد الإقرار ومؤاخذته بهما إنّما هو مقتضى الحالة السابقة المستصحبة ورجوع إليها.

وقد يتوهّم الافتراق في مثل دعواه عدم كون بائع مال زيد وكيلا عنه مع إقرار زيد بالتوكيل ليردّ العين أو يستردّ الثمن أو لا يطالب به.

وهو أيضا فاسد ، لأنّه ليس مدّعيا في تلك الدعوى ، بل هو المدّعي للوكالة بعد الإقرار بملكيّة الغير ، لأنّه لو ترك يترك على ما تقتضيه الحالة السابقة شرعا من الردّ والاسترداد.

نعم ، لو ادّعى المشتري استحقاق الردّ أو الاسترداد مطلقا فيكون مدّعيا من تلك الجهة ، فهاهنا دعويان ، إحداهما : فساد البيع من غير تعرّض للتوكيل وعدمه ، فالمشتري مدّع بالمعنيين. والأخرى : فساده من جهة انتفاء التوكيل ، وهو مدّعى عليه من هذه الجهة. وهكذا في أمثاله.

وممّا ذكرنا ظهر أيضا اتّحاد المعنى الخامس مع الأولين أيضا.

وأمّا تفسيره بمعنى من يدّعي خلاف الظاهر فهو قد يفارق الأولين ، كما في مثال إسلام الزوجين الذي ذكروه ، إذا ادّعى أحدهما التقارن والآخر التعاقب ، حيث إنّ الأصل التعاقب ، لأصالة تأخّر إسلام كلّ منهما إلى آخر ما يمكن التأخير إليه. وخلاف الظاهر العلم بالتقارن.

ويفارقهما أيضا في دعوى زيد مالا على عمرو ، فإنّه مدّع على‌

١٤١

الأولين دون التفسير بدعوى خلاف الظاهر.

وكيف كان ، فالظاهر من المعاني المذكورة هو أحد الثلاثة ، أو جميعها ، من جهة أنّها تتّحد مواردها للعرف ، الذي هو الحاكم في أمثال المقام ، فإنّه المتبادر عرفا.

ولا يعارضه وضع لغوي ، لعدم ثبوت وضع لغوي ـ مخالف لذلك ـ لمبدإ اشتقاق المدّعي ، الذي هو : الدعوى أو الادّعاء. ولا يضرّ ثبوته لمثل الدعاء والدعوة ، لاختلاف اللفظين ولو من جهة الهيئة الاشتقاقيّة.

ويدلّ عليه أيضا استقراء موارد استعمال هذه الألفاظ في الأخبار ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وأمّا التفسير بدعوى خلاف الظاهر ، فهو ممّا لا دليل عليه ، ولا شاهد له من العرف أو اللغة ، ويخالف ما يطلق عليه المدّعي في بعض الموارد قطعا كما أشرنا إليه.

ومع ذلك يخدشه : أنّ الظهور والخفاء قد يحصل بأمارات جزئيّة مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص ـ كالعدالة والأمانة وسائر القرائن ـ فيلزم أن يكون شخص واحد في دعوى واحدة مدّعيا عند حاكم يعرف ديانة المدّعي عليه ، ومنكرا عند آخر لا يعرفها ، ويستبعد وضع لفظ المدّعي والمنكر لمثل ذلك.

ولذلك قد يقال : بأنّ المراد بالظاهر في ذلك التفسير هو الظاهر شرعا ، أي لو لا دليل على خلافه ثبت أخذه شرعا ما لم يثبت خلافه ، ويرجع حينئذ إلى المعنى الأول ، بالمعنى الذي ذكرنا للأصل.

وقد يفسّر الظاهر بمقابل الخفي ، والأصل بأصل العدم والاستصحاب ،

١٤٢

ويحمل الترديد في التعريف ـ كما في النافع والشرائع (١) وغيرهما (٢) ـ على الاختلاف في تقديم الأصل أو الظاهر عند تعارضهما.

[ ففي ] (٣) كلّ موضع يقدّم الأصل يجعل المدّعي من يدّعي خلافه.

وفي كلّ موضع يقدّم الظاهر يجعل من يدّعي خلاف الظاهر.

وفي كلّ موضع تساويا في الظهور والخفاء ومخالفة الأصل وموافقته ـ كما لو ادّعى كلّ منهما عينا في يدهما جميعا ـ يرجع إلى التداعي ، لكون كلّ منهما مدّع من جهة ، ومدّعى عليه من اخرى.

ولا يخفى أنّ هذا أيضا يرجع إلى التفسير الأول ، لأن الظاهر الثابت تقديمه شرعا على الأصل هو الأصل بالمعنى الذي ذكرناه ، ومع ذلك لا يلائم تعريفه بمن يدّعي خلاف الظاهر خاصّة.

وقد يقوى تعريفه بمدّعي خلاف الظاهر بتعلّق اليمين في بعض الموارد على من معه الظاهر ، فمقابله يكون مدّعيا.

وفيه : أنّه كلّ ما كان كذلك فإنّما هو في موضع يكون الظاهر حجّة شرعا ، فيكون أصلا ولو سلّم عدم حجيّته في بعض المواضع ، فيكون تعلّق اليمين ثابتا بدليل خارج ، كما في اليمين المردودة وجزء البيّنة والاستظهاريّة. وليس في مطلق تعلّق اليمين دلالة على كون مخالفه مدّعيا.

وقد يقوى أيضا بأنّ جعل البيّنة على المدّعي قرينة على أنّه الطرف الأضعف ، والمنكر هو الطرف الأقوى ، ولذا جعلت عليه اليمين ، ومن معه‌

__________________

(١) المختصر النافع : ٢٨٤ ، الشرائع ٤ : ١٠٦.

(٢) كالمسالك ٢ : ٣٨٧ ، الرياض ٢ : ٤١٠.

(٣) في « ح » و « ق » : في ، والأنسب ما أثبتناه.

١٤٣

الظاهر يقوى طرفه بالظهور ، فيكون مخالفه مدّعيا.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه علّة مستنبطة لا حجّية فيه ، مع أنّ الظهور إن كان بدون لزوم أخذه شرعا تمنع تقويته ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل بالمعنى الذي ذكرناه.

ثمَّ لا يخفى أنّ توجّه اليمين في بعض الموارد على المدّعي لا يوجب نقضا في تعريفه أصلا ، إذ ليس عدم توجّه اليمين جزء من حقيقته ولا مأخوذا في تعريفه ، وإنّما هو حكم شرعيّ ثابت له بالعمومات أو المطلقات القابلة للتخصيص والتقييد ، فكلّما توجّه يمين على المدّعي العرفي فهو من ذلك الباب ، مع أنّ في ما مثّلوا به للنقض من الودعيّ المدّعي للردّ كلاما مرّت الإشارة إليه.

ولا يخفى أيضا أنّه يمكن أن يكون شخص واحد مدّعيا ومدّعى عليه باعتبارين ، وكلّ من المتداعيين مدّعيا ومنكرا كذلك ، كما مرّ بعض أمثلته في مسألة تقديم من يختاره المدّعي من الحاكمين ، ومنه ما إذا ادّعى البائع بيع عبده وادّعى المدّعي شراء أمة البائع ، إلى غير ذلك.

المسألة الثانية : يشترط في المدّعي أن يكون بالغا عاقلا‌ ، فلا تسمع دعوى الصغير ولا المجنون ، بلا خلاف يوجد ، كما صرّح به طائفة (١) ، بل بالإجماع كما في المعتمد ، بل بالإجماع المحقّق.

قيل : وللأصل ، أي أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى من وجوب سماعها وقبول بيّنة المدّعي وسقوط دعواه بالحلف وثبوتها بالنكول ونحوها عليها ، لاختصاص ما دلّ على سماع الدعوى وأحكامها ـ بحكم التبادر ـ

__________________

(١) منهم المحقّق في المختصر النافع : ٢٨٤ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٠٨ ، السبزواري في الكفاية : ٢٧٤ ، صاحب الرياض ٢ : ٤١٠.

١٤٤

بما إذا صدرت ممّن اجتمعت فيه الشرائط ، التي منها التكليف ، مضافا إلى تضمّن الدعوى أمورا تتوقّف على التكليف ، كإقامة البيّنة ونحوها (١).

ولا يخلوعن نظر ، لمنع التبادر المذكور من مثل قوله ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ) (٢) وقوله ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (٣) ونحوهما (٤) ، بل مثل قوله عليه‌السلام : « البيّنة على المدّعي » (٥) ، لأنّ ذلك حكم وضعيّ لا تكليفي. ومنع توقّف ما ذكر على التكليف ، ولو سلّم فينتقل الكلام في دعوى لا تتوقّف على ذلك ، فالمناط : الإجماع.

مضافا إلى تضمّن الدعوى كثيرا تصرّفات ماليّة ـ كإحلاف أو إقرار ـ لا تجوز منهما ، إلاّ أنّ مقتضاهما الاقتصار في عدم السماع بما يثبت فيه الإجماع ، أو ما أوجب تصرّفا ماليّا منه.

فلو جاء يتيم لا وليّ له إلى حاكم وادّعى : أنّ فلانا فقأ عيني أو قتل أبي أو نزع ثوبي ويريد الفرار ولي بذلك شهود فاسمع شهودي وخذ بحقّي ، ولا يمكن الأخذ بعد فراره ، فليس فيه تصرّف ماليّ له ، وتحقّق الإجماع على عدم السماع فيه غير معلوم.

نعم ، يمكن القول بعدم جواز إحلافه ولا قبول حلفه لو ردّ إليه حينئذ ، بل الحاكم يحلّف المنكر من جهة ولايته لو ظنّ صدق الصغير ، فتأمّل.

وزاد المحقّق الأردبيليّ رحمه‌الله ووالدي العلاّمة ـ طاب ثراه ـ وبعض‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤١٠.

(٢) النساء : ١٣٥.

(٣) سورة ص : ٢٦.

(٤) المائدة : ٨ ، ٤٢.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣.

١٤٥

آخر (١) : الرشد أيضا ، وادّعى في المعتمد الإجماع عليه صريحا.

ولا أرى له دليلا ، سيّما فيما لا يتضمّن دعوى ماليّة ، كادّعاء القذف والضرب والجرح ونكاح الولي في حال الصغر ونحوها. والإجماع مطلقا غير ثابت.

نعم ، لا تسمع دعواه المتضمّنة للتصرّفات الماليّة ، لعدم جوازها من السفيه ، أو تسمع إلاّ إذا انتهى إلى تصرّف مالي.

وأن يدّعي لنفسه أو لمن له الولاية عليه أبوّة أو حكومة أو قيمومة أو وصاية أو وكالة ، بالإجماع مطلقا إثباتا ، وفي الجملة نفيا.

وقد يزاد دليلا للنفي : أنّ المدّعي من يطالب بحقّ ماليّ أو غيره ، ولا حقّ لغير من ذكر ، وحقّ الغير ليس له مطالبته.

وفي كون المدّعي من ذكر مطلقا وعدم جواز مطالبة حقّ الغير كذلك ولو بمجرّد إثباته نظر.

وقد يزاد أيضا الأصل ، فإنّ الأصل عدم وجوب السماع ، وعدم جواز إجبار الغريم على الجواب ، وعدم ترتّب سائر آثار الحكم.

وفيه : أنّه حسن لو لا عمومات الحكم ، نحو قوله سبحانه ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (٢).

و ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) (٣).

و ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (٤).

__________________

(١) كالمحقق القمي في رسالة القضاء ( غنائم الأيام ) : ٦٧٧.

(٢) المائدة : ٤٩.

(٣) النساء : ١٠٥.

(٤) سورة ص : ٢٦.

١٤٦

وقد أنزل سبحانه وأراه أنّ البيّنة على المدّعي (١) ، والأصل عدم نزول غيره من ردّ الدعوى وعدم سماعها.

ومقتضى الأمر بالمحاكمة بينهم هو التحاكم ورفع النزاع مطلقا ، فالمناط في جانب النفي هو الإجماع ، فيقتصر فيه على الثابت فيه الإجماع ، وهو المدّعي عن الغير بلا ولاية ولا وكالة ولا إذن صريح أو بالفحوى أو شاهد الحال ، فلو ادّعى بأحد هذه الوجوه تسمع الدعوى ، ويحكم بما تقتضيه الشريعة.

وأمّا ما على الحاكم بعد السماع وما يجوز للمدّعي بعد الدعوى فهو أمر آخر ، إذ تختلف آثار الدعوى في الموارد ، فإنّه ليس على الوكيل والوصيّ الحلف ولا ردّ اليمين بدون التوكيل فيه للوكيل أو المصلحة للولي ، ولا ينفذ إقرار الوكيل ، ولا يجوز له الأخذ بدون التوكيل فيه.

والحاصل : أنّ المراد هنا بيان شرائط صحّة الدعوى وسماعها ، وأمّا لوازمها وآثارها فيذكر كلّ منهما في موضعه.

ثمَّ بما ذكرنا ـ من الاقتصار في النفي بموضع الإجماع ـ يعلم عدم توقّف سماع دعوى الوكيل على ثبوت وكالته ، كما هو ظاهر التحرير في بحث جواب المدّعى عليه أنّ ما في يده ليس له وأنّه لغائب ، قال : ولو أقام ذو اليد البيّنة للغائب لم يقض بها للغائب ، ولو ادّعى وكالة الغائب كان له إقامة البيّنة عن الغائب (٢).

وظاهر المحقّق الأردبيليّ وبعض الفضلاء المعاصرين التوقّف ، حيث قيّدا السماع بالثبوت (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٣.

(٢) التحرير ٢ : ١٩٠.

(٣) غنائم الأيام : ٦٧٧.

١٤٧

وبما ذكرنا ـ من الاكتفاء بشاهد الحال ـ يصحّ سماع دعوى الأمين الذي بيده مال الغير ولا يمكنه إثبات وكالته في الدعوى ، مع إيجاب تأخيرها ضياع حقّ مالكه ، مع أنّ في مثله حقّا للأمين أيضا ، وهو أنّه لو لا الادّعاء للزم التفريط المستلزم للضمان ، بل له حقّ الأخذ منه.

وكذا يصحّ سماع دعوى مثل الجار الذي ادّعى لجاره الغير الحاضر على شخص بأنّه سرق مال جاره ويريد الفرار.

ودعوى ردّ صديقه الغائب الدين الذي يدّعيه الدائن عند الحاكم ليأخذ من ماله.

أو إيفاء الميّت ـ الذي له صغار ـ دينا يدّعيه عليه غيره ، ويعلمه شخص آخر ، ويعلم شهوده عليه.

هذا إذا كانت الدعوى بشاهد الحال بقصد كونه من جانب المالك ، وإلاّ فقد يدخل في باب الشهادة.

المسألة الثالثة : يشترط في سماع الدعوى صحّتها وإمكان ما يدّعيه‌ ـ فلا عبرة بدعوى محال عقلا أو عادة أو شرعا ـ ولزومه ، فلو ادّعى هبة أو وقفا لم تسمع إلاّ مع دعوى الإقباض ، وكذا الرهن عند مشترط الإقباض فيه ، فإنّ الإنكار فيما لا يلزم رجوع ، ولأنّه مع الإثبات لا يجوز الإجبار على التسليم ، كذا ذكروا.

وفيه نظر ، لأنّ أصل الملك شي‌ء ، ولزومه أمر آخر ، ولكلّ منهما فوائد ، فيمكن دعوى أحدهما بدون الآخر ، وإذا ثبت أحدهما يبقى الآخر ، فإن سلّم المدّعى عليه ذلك ، وإلاّ لا بدّ من إثبات ذلك الأمر إن أراد اللزوم ، فيمكن أن يثبت أو يحلف كما في سائر الدعاوي ، ولولاه لزم عدم دعوى شراء حيوان إلاّ مع ضمّ مضيّ زمان سقوط خيار الثلاثة وتفرّق المجالس.

١٤٨

والظاهر عدم القائل بذلك ، ولذا تأمّل في أصل الاشتراط المحقّق الأردبيلي ، معلّلا بما ذكرنا ، فلا يبعد سماع الدعوى ، ومع ثبوتها العمل بمقتضاها ولوازمها ، إن متزلزلا فمتزلزلا ، وإن لازما فلازما.

ولو قلنا : بأنّه إن ذكر فائدة للدعوى أو كانت الفائدة موافقة للأصل تسمع وإلاّ فلا ، كان أقرب ، بل هو الأظهر ، كما سيظهر وجهه.

المسألة الرابعة : يشترط أن يكون المدّعى به ممّا يصحّ تملّكه‌ ، فلا تسمع دعوى ما لا يملك ، كحشرات الأرض ـ إلاّ مع التصرّف فيه لمنفعة مقصودة للعقلاء كدواء ـ وكالخمر والخنزير إذا كان المدّعي مسلما ولو على ذميّ ، والوجه ظاهر.

المسألة الخامسة : ذهب المحقّق (١) وجماعة (٢) إلى أنّه يشترط في الدعوى كونها بصيغة الجزم‌ ، فلو قال : أظنّ ، أو : أتوهّم أنّ لي أو لأبي عليك دينارا ، أو أنّك سرقت مالي ، لم تسمع دعواه ، حتى ادّعى اليقين فيما ادّعاه ، وهو المحكيّ عن ابن زهرة والكيدري والتنقيح (٣) ، ونسبه في الكفاية إلى المشهور (٤) ، وفي المعتمد إلى الأكثر.

وحكي عن الشيخ نجيب الدين بن نما وفخر المحقّقين والشهيدين في النكت والمسالك عدم الاشتراط (٥) ، وهو ظاهر المحقّق الأردبيلي ،

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٨٢.

(٢) كالشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٦٦ ، السبزواري في الكفاية : ٢٦٦ ، صاحب الرياض ٢ : ٤١٠.

(٣) الغنية : ٦٢٥ ، حكاه عن الكيدري في الرياض ٢ : ٤١٠ ، التنقيح الرائع ٤ : ٢٦٧.

(٤) الكفاية : ٢٦٦.

(٥) حكاه عن ابن نما في الشرائع ٤ : ٨٢ بقرينة ما في الإيضاح ٤ : ٣٢٧ ـ ٣٢٨ والتنقيح ٤ : ٢٦٧ و .. ، وفخر المحققين في الإيضاح ٤ : ٣٢٧ ، وحكاه عن نكت الإرشاد في الرياض ٢ : ٤١٠ ، المسالك ٢ : ٣٦٦.

١٤٩

واختاره بعض فضلائنا المعاصرين (١).

ولكن المنقول عن الأول عدم الاشتراط في التهمة (٢) ، وعن المحقّق الثاني عدم الاشتراط فيما يخفى عادة ويعسر الاطّلاع عليه ـ كالقتل والسرقة ونحوهما ـ والاشتراط في نحو المعاملات (٣) ، وهو ظاهر الدروس والروضة (٤).

وقيل : لعلّهم أرادوا بذلك ما ذكره ابن نما ، فيتحدان ، وهو ظاهر بعض مشايخنا المعاصرين ، حيث نفي الخلاف في الاشتراط فيما لا يخفى ، قال : وأمّا في غيره ـ كالتهمة ـ فقولان ، ونسب القول بعدم الاشتراط إلى الذين ذكرناهم (٥).

ونقل في شرح المفاتيح عن الشهيد الثاني وابن نما القول بعدم الاشتراط مطلقا ، ثمَّ قال : وقوّى المحقّق الشيخ عليّ عدم الاشتراط فيما يخفى عادة. وظاهره تغاير القولين.

ولعلّ من حكم بالاتّحاد فهم من التهمة ما يخفى ، ومن حكم بالتغاير حمل التهمة على مجرّد التوهّم ، الذي هو أعمّ من الظنّ.

وتردّد الفاضل في القواعد والإرشاد والتحرير (٦) ، وهو ظاهر الصيمري والمفاتيح وشرحه والكفاية (٧) ، وإن كان كلام الأخير إلى عدم‌

__________________

(١) المحقّق القمي في رسالة القضاء ( غنائم الأيام ) : ٦٧٨.

(٢) انظر الشرائع ٤ : ٨٢.

(٣) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١٠ : ٦٩.

(٤) الدروس ٢ : ٨٤ ، الروضة ٣ : ٨٠ ـ ٨١.

(٥) انظر الرياض ٢ : ٤١٠.

(٦) القواعد ٢ : ٢٠٨ ، الإرشاد ٢ : ١٤٤ ، التحرير ٢ : ١٨٦.

(٧) المفاتيح ٣ : ٢٥٩ ، الكفاية : ٢٦٦.

١٥٠

الاشتراط أميل.

وقال والدي المحقّق رحمه‌الله : والتحقيق عندي سماع الدعوى أولا ، مع احتمال إقرار الخصم ، أو شهادة بيّنة لها ، أو ادّعاء المدّعي سماع أحدهما ، حذرا من تأدّي عدمه إلى الإضاعة المنهيّ عنها. فإن تحقّق أحدهما حكم بمقتضاه ، وإلاّ سقطت الدعوى كسقوطها أولا إن قطع بعدم احتمال شي‌ء منها.

إلى أن قال : فالظاهر أنّ المشترط للجزم لا ينفي إصغاء الحاكم إلى الظانّ أولا مع تطرّق الاحتمالات المذكورة ، وإنّما لم يتعرّض لذلك مسامحة ، أو إحالة إلى الظهور. انتهى.

والأقوى : عدم الاشتراط مطلقا ، سواء كانت في المخفيّات وغيرها ، كما صرّح به الفاضل المعاصر (١) ، لأصالة عدم الاشتراط. مع صدق الدعوى على غير المجزومة أيضا ، فيقال : دعوى ظنّية ، أو احتماليّة ، ويدلّ عليه عدم صحّة السلب عرفا ، فتشملها إطلاقات أحكام الدعوى والمدّعي.

ولعموم أدلّة الحكم ، كقوله سبحانه ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (٢).

وقوله جلّ شأنه ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (٣).

وقوله عزّ جاره ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (٤) ، وغير ذلك (٥).

__________________

(١) المحقق القمّي في رسالة القضاء ( غنائم الأيام ) : ٦٧٨.

(٢) المائدة : ٤٩.

(٣) النساء : ٦٥.

(٤) سورة ص : ٢٦.

(٥) النساء : ١٣٥.

١٥١

قيل : في دلالة عموم أدلّة الحكم نظر ، إذ لعلّ الحكم وما أنزل الله عدم السماع (١).

وفيه : أنّه يتمّ لو لا مثل قوله : « البيّنة على المدّعي » فإنّه الحقّ وممّا أنزل الله ، والأصل عدم إنزال غيره.

وللروايات المذكورة في باب ضمان الصائغ والأجير وغير ذلك الباب (٢).

وكرواية بكر بن حبيب : « لا يضمن القصّار إلاّ ما جنت يداه ، وإن اتّهمته أحلفته » (٣).

والأخرى : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه ، قال : « إن اتّهمته فاستحلفه ، وإن لم تتّهمه فليس عليه شي‌ء » (٤).

وصحيحة أبي بصير : عن قصّار دفعت إليه ثوبا فزعم أنّه سرق من بين متاعه ، فقال : « عليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه وليس عليه شي‌ء » (٥).

والأخرى : « لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك ، إلاّ أن يكونوا متّهمين فيجيئون بالبيّنة ، ويستحلف لعلّه يستخرج منه شي‌ء » (٦).

__________________

(١) الرياض ٢ : ٤١١.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٤١ و ١٤٨ أبواب أحكام الإجارة ب ٢٩ و ٣٠.

(٣) التهذيب ٧ : ٢٢١ ـ ٩٦٧ ، الاستبصار ٣ : ١٣٣ ـ ٤٨١ ، الوسائل ١٩ : ١٤٦ أبواب أحكام الإجارة ب ٢٩ ح ١٧.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٢١ ـ ٩٦٦ ، الوسائل ١٩ : ١٤٦ أبواب أحكام الإجارة ب ٢٩ ح ١٦.

(٥) الكافي ٥ : ٢٤٢ ـ ٤ ، الفقيه ٣ : ١٦٢ ـ ٧١٢ ، التهذيب ٧ : ١٢٨ ـ ٩٥٣ ، الوسائل ١٩ : ١٤٢ أبواب أحكام الإجارة ب ٢٩ ح ٥.

(٦) التهذيب ٧ : ٢١٨ ـ ٩٥١ ، الفقيه ٣ : ١٦٣ ـ ٧١٥ ، الوسائل ١٩ : ١٤٤ أبواب أحكام الإجارة ب ٢٩ ح ١١.

١٥٢

وتوهّم اختصاص تلك الروايات بالتهمة ـ فلا تنهض دليلا على العموم ـ فاسد ، لأنّ التهمة تعمّ جميع المواضع التي ينكر فيها المدّعى عليه ، فإنّها لا تختصّ بمثل القتل والسرقة ، بل تشمل الكذب في الإنكار وجلب النفع ودفع الضرر أيضا. ولا ينفكّ المدّعى عليه المنكر عن اتّهامه بأحد هذه الأمور.

ولا يضرّ الاختصاص بالأشخاص المذكورين فيها ، لأنّ الظاهر عدم الفرق ، مع أنّ العلّة المذكورة في الأخيرة لعلّها عامّة.

وتؤيّد المطلوب أيضا روايتا أبي بصير (١) والأصبغ (٢) الواردتين في قضية الشابّ الذي ذهب [ أبوه ] (٣) مع جمع إلى سفر ولم يرجع ، حيث قضى شريح فيها بالحلف ، ثمَّ فرّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بين الشهود. فإنّ الظاهر كون دعوى الشابّ احتماليّة أو ظنّية.

ويؤيّد المطلوب أيضا سماع دعوى الورثة وحلفهم بنفي العلم ببراءة المديون.

احتجّ المشترطون بأنّ المتبادر من الدعوى ما كان بالجزم.

وبأنّ الدعوى توجب التسلّط على الغير بالالتزام بالإقرار ، أو بالإنكار ، أو التغريم ، وهو ضرر عليه.

وبأنّ الدعوى في معرض أن يتعقّبها يمين المدّعي ، أو القضاء بالنكول ، وهما غير ممكنين ، لاستحالة الحلف بدون الجزم ، وامتناع ثمرة‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٧١ ـ ٨ ، التهذيب ٦ : ٣١٦ ـ ٨٧٥ ، الفقيه ٣ : ١٥ ـ ٤٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧٩ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٢٠ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٧٣ ـ ٩ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٨ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٢٠ ح ١.

(٣) ما بين المعقوفين ليس في النسخ ، أضفناه من المصادر.

١٥٣

النكول ، إذ لا يستحلّ للغريم أن يأخذ بمجرّد إنكار المدّعى عليه ونكوله ، لاحتمال كونه للتعظيم أو غيره.

وبالأخبار المصرّحة : بأنّه إذا ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له ، كصحيحتي محمّد (١) وجميل (٢) ، ومرسلتي أبان (٣) ويونس (٤) ، وأخبار البصري (٥) والبقباق (٦) ويونس (٧).

والجواب عن الأول : منع التبادر كما مرّ ، ولا يثبته حكم الإمام [ عليه‌السلام ] في بعض الأخبار (٨) بردّ اليمين على المدّعي بالإطلاق ، لأنّ غايته أنّه عامّ خصّ.

وعن الثاني : منع كون الإنكار والحلف ضررا ، ولو سلّم فتخصيص عمومات نفي الضرر بالأدلّة الشرعيّة ليس بعزيز ، مع أنّه قد يعارض بضرر المدّعي أيضا في عدم سماعه ، كما إذا قطع بأنّ أحد هذين أخذ ماله ولم‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٦ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٣٠ ـ ٥٥٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٧ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٧ ـ ١٢٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٢ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٧ ح ٦.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٦ ـ ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٣٠ ـ ٥٦١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٢ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٧ ح ٥.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٦ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ ـ ٥٦٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٧ ح ٤.

(٥) الكافي ٧ : ٤١٥ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ ـ ٥٥٥ ، الفقيه ٣ : ٣٨ ـ ١٢٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٦ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٤ ح ١.

(٦) الكافي ٧ : ٤١٧ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ ـ ٥٦٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٣ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٨ ح ٢.

(٧) لم نعثر عليه.

(٨) الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٧.

١٥٤

يعلم التعيين ، فتكون دعواه على كلّ منهما غير مجزومة ، وتخصيص السماع بمثل ذلك لعلّه فصل بلا قائل.

وعن الثالث : منع امتناع ثمرة النكول ، ومنع عدم الحلّية بمجرّد النكول ، فإنّ الشارع قد أحلّ المال للغريم في نظائره كثيرا ، كما في صحيحة الحلبي : في الغسّال والصبّاغ : « ما سرق منهما من شي‌ء فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق وكلّ قليل له أو كثير فهو ضامن ، فإن فعل فليس عليه شي‌ء ، وإن لم يفعل ولم يقم البيّنة وزعم أنّه قد ذهب الذي قد ادّعى عليه فقد ضمنه إن لم تكن له بيّنة على قوله » (١).

وصحيحته الأخرى : عن رجل جمّال استكري منه إبل ، وبعث معه بزيت إلى أرض ، فزعم أنّ بعض الزقاق انخرق فأهراق ما فيه ، فقال : « إنّه إن شاء أخذ الزيت » وقال : « إنّه انخرق ، ولكنّه لا يصدّق إلاّ ببيّنة عادلة » (٢).

والثالثة : في حمّال يحمل معه الزيت ، فيقول : قد ذهب ، أو أهرق ، أو قطع عليه الطريق : « فإن جاء ببيّنة عادلة أنّه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شي‌ء ، وإلاّ ضمن » (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار المتكثّرة (٤).

وإذا استحلّ في هذه الموارد أخذ المال من الغريم إذا لم تكن له بيّنة مع احتمال صدقه وعدم علم المدّعي بكذبه ، فلم لا يستحلّ فيما نحن فيه‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٤٢ ـ ٢ ، التهذيب ٧ : ٢١٨ ـ ٩٥٢ ، الفقيه ٣ : ١٦١ ـ ٧٠٨ ، الوسائل ١٩ : ١٤١ أبواب أحكام الإجارة ب ٢٩ ح ٢ ، بتفاوت.

(٢) الكافي ٥ : ٢٤٣ ـ ١ ، التهذيب ٧ : ٢١٧ ـ ٩٥٠ ، الفقيه ٣ : ١٦٢ ـ ٧١٠ ، الوسائل ١٩ : ١٤٨ أبواب أحكام الإجارة ب ٣٠ ح ١ ، بتفاوت يسير.

(٣) الفقيه ٣ : ١٦١ ـ ٧٠٧ ، الوسائل ١٩ : ١٥٣ أبواب أحكام الإجارة ب ٣٠ ح ١٦.

(٤) الوسائل ١٣ : ٢٧٦ أبواب أحكام الإجارة ب ٣٠.

١٥٥

بالنكول؟! وهل كان المدّعي عالما باشتغال ذمّته؟!

بل هذه الأخبار أيضا أدلّة لنا ، إذ ليس للمدّعي فيها أيضا إلاّ دعوى الخيانة أو التفريط احتمالا ، فحكم الإمام بالسماع وطلب البيّنة من المدّعى عليه والضمان بدونه.

وقد يوجد ما يمكن فيه طلب البيّنة من المدّعى عليه في غير الدعوى المجزومة أيضا ، كما إذا ادّعى عليه : إنّي أظنّ ، أو أتوهّم عدم ردّك ما استقرضت منّي وبقاءه عليك.

وعن الرابع : بأنّه مخصوص بما أمكن فيه الردّ قطعا ، وهو هنا غير ممكن ، لنهي الشارع عن الحلف بدون العلم.

وبأنّ الظاهر من قوله : « فلم يحلف » أنّه نكل عن الحلف ، لا أنّ الشارع لم يجوّز له ذلك ، بل نقول : إنّه صرّح في روايتي أبي بصير (١) ويونس (٢) أنّه : « لا يستحلف الرجل إلاّ على علمه » فتدلاّن على عدم جواز الردّ في المورد ، والأخبار المتقدّمة مخصوصة بما يجوز فيه الردّ قطعا بل في بعضها : إنّ المدّعى عليه يستحلف المدّعي ، وفي آخر : إنّ الحلف واجب على المدّعي بعد الردّ إليه ، فلا يشمل المورد قطعا ، بل وكذا كلّ ما يتضمّن ردّ المدّعى عليه ، فإنّه يدلّ على جوازه له.

فإن قيل : فتح باب ذلك قد يوجب الضرر ببسط يد المتغلّبة ، فإنّ كثيرا منهم يقطعون بعدم حلف الأشراف وذوي الشؤون للشي‌ء اليسير ،

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٤٥ ـ ٢ ، التهذيب ٨ : ٢٨٠ ـ ١٠٢١ ، الوسائل ٢٣ : ٢٤٧ أبواب الأيمان ب ٢٢ ح ٢.

(٢) الكافي ٧ : ٤٤٥ ـ ٤ ، التهذيب ٨ : ٢٨٠ ـ ١٠٢٢ ، الوسائل ٢٣ : ٢٤٧ أبواب الأيمان ب ٢٢ ح ٤.

١٥٦

فيدّعون على هذا دينارا وعلى ذلك كذا ، وهكذا.

قلنا أولا : بالمعارضة بالمثل في الضرر ـ كما مرّ ـ لمن قطع بالأخذ وتردّد في الأخذ بين شخصين أو أكثر.

وثانيا : أنّه إن ظن المدّعى عليه أو احتمل كذب المدّعي في ادّعاء الظنّ أو الاحتمال فله أيضا حلفه على أنّه ظانّ أو مجوّز ، وإلاّ فلا يكون تغلّب وفتح لباب التغلّب.

ثمَّ إنّ مقتضى الأدلّة التي ذكرنا : عموم سماع الدعوى الغير المجزومة ، سواء كانت ظنّية أو احتماليّة ، بل وهميّة ، كما يظهر من كلام جمع شمول محلّ النزاع له ، كالشرائع والمفاتيح (١) وغيرهما (٢) ، حيث عنونوا محلّ النزاع بقولهم : أظنّ ، أو : أتوهّم. بل ظاهر كلّ من قال بعدم الجزم في التهمة التعميم ، إذ لا اختصاص للتهمة بالظنّ.

وقال في الدروس : وأمّا الجزم فالإطلاق محمول عليه ، فلو صرّح بالظنّ أو الوهم فثالث الأوجه السماع فيما يعسر الاطّلاع عليه (٣).

وهو صريح في شمول النزاع للوهم أيضا.

واختصاص بعضهم بذكر الدعوى الظنّية في مورد الخلاف لا وجه له.

ومن ذلك يظهر جواز تحليف كلّ من الجماعة التي يعلم عدم خروج الحقّ من بينهم.

فرع : لو أنكر المنكر في هذه الدعوى ظنّ المدّعي عليه أو تجويزه فلا يخلوأمّا يدّعي علمه بعدم المدّعى به ، أو علمه بتحقّقه من جهة اشتباه‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٨٢ ، المفاتيح ٣ : ٢٥٩.

(٢) الروضة ٣ : ٨٠ ، مفتاح الكرامة ١٠ : ٦٩.

(٣) الدروس ٢ : ٨٤.

١٥٧

عليه وادّعى الظنّ لعدم التسلّط على ردّ الحلف.

وله تحليفه على عدم العلم في الصورة الأولى ، لعموم الأدلّة ، فيندفع تسلّط المدّعي إن نكل أو ردّ الحلف على مدّعي العلم ، ويتسلّط على إحلاف المدّعى عليه ظنّا إن حلف على انتفاء العلم.

وأمّا على الثانية ، فليس له حلف المدّعي على انتفاء العلم ، لأنّ غايته أنّه يقول : إنّي لا أحلف ولا أريد ادّعاء العلم ، وردّ الحلف إنّما هو في صورة التشبّث بالعلم لا غيره ، وبمجرّد النكول عليه لا يثبت تحقّقه وانتفاء الظنّ حتى تلغى الدعوى الظنّية ، فتكون دعواه الظنّية باقية.

نعم ، له أن يحلّف المدّعى عليه على انتفاء المدّعى به ، فتتمّ الدعوى ، وعلى انتفاء الظنّ تماما تسقط الدعوى أيضا إن لم يدّع بعده العلم. وله يمين المنكر ، وللمنكر الردّ إن ادّعى العلم بعده.

وأمّا تسلّط المنكر على المدّعي بحلفه على أنّه ظانّ في أصل الدعوى الظنّية ـ كما ذكره بعض معاصرينا ـ فلا أرى له وجها.

المسألة السادسة : هل يشترط في سماع الدعوى كون المدّعى به معلوما معيّنا بالوصف في المثلي ، والقيمة في القيمي ، والجنس ، والنوع ، والقدر ، أم تكفي معلوميّته في الجملة ، كثوب ، أو فرس ، أو مال أو شي‌ء؟

الحقّ : الثاني ، وفاقا للنافع والإرشاد والقواعد والإيضاح والمسالك والروضة (١) ووالدي العلاّمة في المعتمد وأكثر متأخّري المتأخّرين (٢) ، بل‌

__________________

(١) المختصر النافع : ٢٨٤ ، الإرشاد ٢ : ١٤٣ ، القواعد ٢ : ٢٠٨ الإيضاح ٤ : ٣٢٨ ، المسالك ٢ : ٣٦٧ ، الروضة ٣ : ٧٩.

(٢) كالسبزواري في الكفاية : ٢٦٦ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٣٥ ، صاحب الرياض ١ : ٤١٣.

١٥٨

الأكثر مطلقا كما في شرح المفاتيح ، لعمومات الدعوى والمدّعي والحكم ، ولأنّ عدم سماعه قد يوجب الضرر المعلوم المنفي شرعا ، لأنّه ربّما يعلم حقّه بوجه ما خاصّة ويمكنه إثباته ، ولا يعلم شخصه أو صفته ، فلو لم تسمع دعواه لبطل حقّه.

ويؤيّده سماع دعوى الوصيّة بالمجهول والإقرار به.

خلافا للمحكيّ عن المبسوط والسرائر والدروس (١) ، ونسب إلى التحرير أيضا (٢) ، وليس كذلك ، لأنّه نقله عن الشيخ وتنظّر فيه (٣).

واستدلّ على العدم بعدم فائدتها ، وهو حكم الحاكم لو أقرّ به المدّعى عليه أو ثبت بالبيّنة.

ويضعّف : بمنع عدم الفائدة ، لأنّه يلزم حينئذ ببيان الحقّ المقرّ به أو المثبت ، ويقبل تفسيره بمسمّى الدعوى ، ويحلف على نفي الزائد ، أو العلم به إن ادّعى عليه أحدهما كما يأتي. كذا قالوا.

وهو حسن لو فسّره الخصم ، أمّا لو لم يفسّر ـ إمّا لادّعائه الجهل أيضا ، أو لإصراره على العدم الواقعي وإن ألزم به ظاهرا ـ فإن كان الجهل في القدر فيلزم بالقدر المشترك ، وهو أقلّ قدر ثبت ، وإن كان الجهل في النوع أو الوصف فالظاهر الرجوع إلى القيمة ، لأنّ بعد ثبوت العين عليه وعدم إمكان استخلاصها يجوز للمدّعي أخذ القيمة من باب التقاصّ ، كما بيّن في مسألة المقاصّة. وعلى هذا ، فيرجع الجهل أيضا إلى القدر ، فيؤخذ بأقلّ ما يمكن من الثمن.

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٥٦ ، السرائر ٢ : ١٧٧ ، الدروس ٢ : ٨٤.

(٢) كما نسبه إليه في الرياض ٢ : ٤١٣.

(٣) التحرير ٢ : ١٨٦.

١٥٩

المسألة السابعة : لا يشترط عند كافّة أصحابنا ـ على ما صرّح به بعضهم (١) ـ ذكر سبب استحقاق المدّعي‌ ، ولا كشف ما يلزمها ويتعلّق بها من الحقوق واللوازم ، بل يكفي فيها الإطلاق مجرّدا عن ذكر السبب وغيره ، لأصالة عدم الاشتراط ، وللعمومات المشار إليها ، مع أنّ أسباب الاستحقاق كثيرة ، وضبط جميعها وذكر مقدارها ممّا يؤدّي إلى الحرج.

نعم ، يشترط في دعوى القتل من ذكر سبب دعواه وكيفيّة قتله ـ بأنّه قتله بنفسه أو بأمره ، عمدا أو شبه عمد ، أو خطأ ـ للخلاف الواقع في أحكام القتل باختلاف أسبابه وكيفيّاته.

ومن مخالفينا من اشترط في صحّة الدعوى ذكر السبب وتفصيل وجه لزومه في ذمّة الخصم ، إلاّ أنّه خصّ ذلك بالدعاوي المتعلّقة بالعقود ، فاعتبر في دعوى البيع مثلا ذكر المبيع ووقوعه منه أو من وكيله ، وتعيين ثمنه حالا أو مؤجّلا ، وغير ذلك من المشخّصات ، ( وفي دعوى الزوجيّة ادّعاء العقد بخصوصيّاته ، وتعيين المهر ، ومطالبة النفقة ، وسائر حقوقها » (٢) (٣).

ومنهم من اشترط ذلك في دعوى النكاح خاصّة (٤).

المسألة الثامنة : يشترط في وجوب سماع الدعوى والحكم عليها أن تكون متضمّنة لوقوع التخاصم والتنازع‌ ، أو الإنكار ، أو نحوه ، صريحا أو ظاهرا ، فلو قال أحد : إنّ لي عشرة دراهم على زيد ، وهو معترف بها ويؤدّيها ، ولكن أريد منك طلبه وسماع الإقرار منه والحكم بمقتضاه ، أو‌

__________________

(١) كالفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٣٥.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ق ».

(٣) المغني والشرح الكبير ١١ : ٤٤٩.

(٤) حكاه عنهم في كشف اللثام ٢ : ٣٣٥.

١٦٠