مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

وصحيحة ابن سنان : في قول الله عزّ وجلّ ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) قال : « المعروف هو القوت ، وإنّما عنى الوصيّ أو القيّم في أموالهم وما يصلحهم » (٢).

وصحيحته الأخرى ، وفي آخرها : « فليأكل بالمعروف الوصيّ لهم والقيّم في أموالهم ما يصلحهم » (٣).

ولو علم عدم إتيان المدّعي بالحلف أو ظنّ ذلك ـ بل ولو احتمله ـ لا يجوز له إعطاء البعض ، لعدم تحقّق المصلحة.

ي : قيل : لو ادّعى وارث زيد على وارث عمرو بشغل ذمّة عمرو بحقّ زيد وأقام البيّنة ، فهل يكون تحت النصّ ، وحينئذ يحلف المدّعي على نفي العلم باستيفاء مورّثه أو الإبراء ، أو على البتّ ، إذ الاستيفاء والإبراء من المدّعي أيضا متصوّر ، لأنّه بعد مورّثه صاحب الحقّ؟

لم أجد فيه تصريحا ، والظاهر دخوله تحت الرواية ، لكون الدعوى على الميّت ، ووجود العلّة المنصوصة ، بل هي هنا أغلظ.

وفي كيفيّة الحلف هنا ظنّي أنّه لو قلنا بالحلف على نفي العلم ببراءة ذمّة عمرو من هذا الحقّ مطلقا لكان له وجه. انتهى.

قال والدي رحمه‌الله في المعتمد أيضا بضمّ يمين نفي العلم ، إلاّ مع اعتراف وارث الميّت بعدم علم المدّعي ، فيسقط اليمين حينئذ. انتهى.

أقول : ولا شكّ في دخول هذه الصورة أيضا تحت الرواية موضوعا‌

__________________

(١) النساء : ٦.

(٢) الكافي ٥ : ١٣٠ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٤٠ ـ ٩٥٠ ، الوسائل ١٧ : ٢٥٠ أبواب ما يكتسب به ب ٧٢ ح ١.

(٣) التهذيب ٩ : ٢٤٤ ـ ٩٤٩.

٢٦١

وتعليلا ، ولكن القول بيمين نفي العلم ليس له وجه أصلا ، لأنّها ليست من اليمين التي ذكرها في الرواية ، ولا يدلّ عليها دليل آخر ، وإنّما هي تثبت في كلّ موضع ادّعى أحد على غيره علما مثبتا لحقّ عليه ، أو نافيا لحقّ منه على غيره لو لا ذلك العلم لثبت ، فتشمله أدلّة ثبوت اليمين على المدّعى عليه. ولم يفرض هنا ادّعاء علم على وارث الطالب بالحقّ ، ولو فرض لم يكن علمه على نفيه مثبتا لحقّ عليه ، ولا نافيا من الغير له حقّا لو لا ذلك العلم لثبت ، إذ الكلام بعد في ذلك ، والنزاع في اشتراط العلم ببقاء الحقّ واليمين عليه ، لا عدم العلم بعدم البقاء.

والتحقيق : أنّه ـ كما ذكره هذا القائل ـ صار صاحب الحقّ وطالبه حينئذ وارث زيد ، فإن علم هو بالبقاء يحلف عليه على النحو المذكور في الرواية ويأخذ الحقّ ، وإلاّ فلا حقّ له ـ كما نصّ به في الرواية ـ كما كان مورّثه أيضا كذلك ، ولم يتحقّق سبب لصيرورة الوارث أقوى من المورّث.

ولا يتوهّم أنّ الأحكام مشروطة بالإمكان ، معلّقة عليه ، فإذا لم يمكن منهم (١) ينتفي الحكم ، ولمّا لم يمكن للوارث الحلف على البتّ فينفى عنه الحلف رأسا لا بالبتّ ولا بنفي العلم ، ويكون ذلك خارجا عن تحت الرواية مندرجا في أصل القاعدة.

لأنّ ذلك إنّما يتمّ في التكليفيّات دون الوضعيّات ، فلو كان إثبات الحلف في المورد من باب التكليف لكان ذلك ، ولكن هو وضع لإثبات الحقّ ، فهو سبب له ، فغايته أنّ حال عدم الإمكان لا يتحقّق المسبّب ، لا أن يخرج الموضوع عن تحت الرواية.

__________________

(١) ليست في « ق ».

٢٦٢

فإنّه إذا قال الشارع : كلّ من نجس ثوبه يجب عليه غسله ، يحكم بخروج من لا يتمكّن من غسله لعدم الماء عن تحت الموضع ، وليس هذا الحكم له ، لكونه تكليفيّا.

بخلاف ما لو قال : كلّ من نجس ثوبه فتطهيره إنّما هو بالغسل ، فإذا لم يغسل لم يطهر ، فإذا لم يمكن الغسل نقول بعدم تحقّق الطهارة ، لا أنّ عدم الإمكان يصير سببا لخروج غير المتمكّن عن تحت العموم وتطهر ثوبه بعدم إمكان الغسل.

ولذا لو كان زيد حيّا وطلب الحقّ بنفسه ولكن ادّعى ظنّ البقاء أو احتماله لا يثبت له الحقّ بدون الحلف ، لأجل عدم إمكان الحلف له.

ثمَّ على ما ذكرنا لو تعدّد الوارث يحلف كلّ على بقاء قدر حصّته ، ولو حلف بعضهم دون بعض ثبت سهم الأول وسقط سهم الثاني ، ولو كان فيهم صغير أو مجنون أو غائب يظهر حكمه في الفرع الآتي.

يا : لو كان المدّعي على الميّت وليّا أو وصيّا تكفيه البيّنة ، ولا يتوقّف الثبوت على اليمين ، للقاعدة المتقدّمة ، وعدم اندراجه تحت موضوع الرواية ، لاختصاصه بمدّعي حقّ نفسه ، لقوله : « وأنّ حقّه » وقوله : « فلا حقّ له ».

ولا يفيد عموم العلّة هنا ، لأنّها تعليل لقوله : « فعلى المدّعي » إلى آخره ، لا لقوله : « فلا حقّ له » خاصّة ، بقرينة قوله : « فمن ثمَّ صارت عليه اليمين » فيكون المعنى : وإن كان المطلوب ميّتا فقبول بيّنة الطالب معلّق على اليمين ، للعلّة المذكورة.

ولمّا لم يكن التعليق فيما إذا كان المدّعي وليّا أو وصيّا فيحتمل أمران ، أحدهما : انتفاء التعليق ، والآخر : انتفاء المعلّق عليه ، فلا يمكن تعيين‌

٢٦٣

أحدهما ويجي‌ء الإجمال (١) ، فيرجع إلى القاعدة ، لعدم ثبوت المخرج عنها.

ولا يرد مثل ذلك في الوارث ، لأنّه داخل في موضوع الرواية ، ولأجله يثبت الحكم له لو لا العلّة أيضا ، بخلاف ما هو خارج عنه ، فإنّ ثبوت الحكم فيه إنّما هو لأجل عموم العلّة ، والعلّة لمّا كانت للتعليق فلا يعلم أنّ مع عدم إمكان المعلّق هل ينتفي الحكم أو التعليق.

ولنوضّح ذلك بمثال : إذا قال الشارع : جواز شراء جلد الميتة مشروط بالدباغة ، فإن دبغ وإلاّ فلا يجوز. وعلّة اشتراطه بالدباغة أنّه نجس ، فيحكم في كلّ جلد ميتة بعدم الجواز بدون الدبغ وإن كان ممّا لا يمكن دبغه ، لعموم قوله : وإلاّ فلا يجوز. ولكن لا يمكن إثبات الحكم بعموم التعليل للدبس النجس ، فإنّه غير قابل لذلك الاشتراط ، فيمكن أن يكون الحكم فيه عدم الجواز أيضا ، وأن يكون عدم الاشتراط. ولو كان يقول : وعلّة عدم جواز البيع أنّه نجس ، لعمّ الدبس أيضا.

بل يظهر ممّا ذكرنا أنّه يمكن منع عموم العلّة بالنسبة إلى مثل الوليّ أيضا ، لأنّ بعد كون التعليل للاشتراط باليمين ـ كما هو في الرواية ـ يكون معنى التعليل هكذا : ثبوت الحقّ مشروط باليمين ، لأنّا لا ندري لعلّه أوفاه ببيّنة ، وكلّ ما لا ندري فيه ذلك يشترط ثبوت الحقّ فيه باليمين.

والمتبادر الظاهر من هذا الكلام أنّ كلّ ما يمكن فيه اليمين مشروط بذلك لا مطلقا ، كما إذا علّل اشتراط دباغة الجلد بأنّه نجس ، فإنّه في قوّة : أنّ كلّ ما نجس يشترط جواز شرائه بالدباغة ، فإنّه يفهم كلّ أحد فيه اختصاصه بما يقبل الدبغ.

بخلاف ما لو علّل عدم جواز الشراء مطلقا بالنجاسة ، بل صرّح الفاضل في‌

__________________

(١) في « ح » : الاحتمال ..

٢٦٤

التحرير ـ في بحث الحكم على الغائب ، حيث جعله كالميّت ، وأوجب اليمين فيه أيضا ـ بأنّه : لو ادّعى وكيل شخص على الغائب فلا يمين ويسلّم الحقّ (١).

والظاهر أنّ مراده : ما إذا لم يكن الموكّل حاضرا يمكن إحلافه.

فإن قيل : صحيحة الصفّار (٢) مطلقة شاملة للمورد أيضا.

قلنا : نعم ، ولكن دلالتها ـ على عدم قبول شهادة الوصيّ مع شاهد آخر بدون اليمين ـ إنّما هي بمفهوم لم تثبت حجّيته.

وإنّما أطنبنا الكلام في المقام لأنّ الفرع من الفروع المهمّة ، ولم أعثر على من تعرّض له بنفي أو إثبات إلاّ ما نقلناه عن التحرير.

المسألة الثانية : وممّا استثني أيضا من القاعدة : ما إذا كان للمدّعي شاهد واحد‌ ، فإنّه يحلف لأجل الشاهد الآخر ، فيحكم له.

والحكم بالشاهد الواحد واليمين في الجملة ممّا لا خلاف فيه بين أصحابنا وأكثر العامّة ، كما في الكفاية (٣) ، ونقل عليه الإجماع جماعة (٤) ، بل هو إجماع محقّق ، فهو الدليل عليه ، مضافا إلى المستفيضة من الصحاح وغيرها :

كصحيحة منصور : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ » (٥) ، ونحوها موثّقة البصري (٦).

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٨٧.

(٢) المتقدّمة في ص : ٢٥١ و ٢٥٣.

(٣) الكفاية : ٢٧٢.

(٤) منهم الحلّي في السرائر ٢ : ١٤٠ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٧٥ ، صاحب الرياض ٢ : ٤٠٦.

(٥) الكافي ٧ : ٣٨٥ ـ ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ ـ ٧٤١ ، الاستبصار ٣ : ٣٣ ـ ١١٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٢.

(٦) التهذيب ٦ : ٢٧٣ ـ ٧٤٣ ، الاستبصار ٣ : ٣٣ ـ ١١٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٨.

٢٦٥

وصحيحة حمّاد بن عيسى : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بشاهد ويمين » (١).

ومرسلة الفقيه : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة شاهد ويمين المدّعي ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نزل عليّ جبرئيل بشهادة شاهد ويمين صاحب الحقّ » وحكم به أمير المؤمنين عليه‌السلام بالعراق (٢).

وصحيحة البجلي : دخل الحكم بين عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه‌السلام ، فسألاه عن شاهد ويمين ، فقال : قضي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقضى به عليّ عليه‌السلام عندكم بالكوفة » (٣).

وصحيحة محمّد : « لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس ، فأمّا ما كان من حقوق الله ورؤية الهلال فلا » (٤).

وصحيحة حمّاد بن عثمان : « كان عليّ عليه‌السلام يجيز في الدّين شهادة رجل ويمين المدّعي » (٥).

وصحيحة أخرى لمحمّد : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجيز في الدين‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٥ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٧٥ ـ ٧٤٨ ، الاستبصار ٣ : ٣٣ ـ ١١٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٤.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٣ ـ ١٠٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١٤ ، وفيه : بتفاوت يسير.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٥ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ ـ ٧٤٧ ، الاستبصار ٣ : ٣٤ ـ ١١٧ وفيه : دخل الحكم بن عيينة ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٦.

(٤) الفقيه ٣ : ٣٣ ـ ١٠٤ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ ـ ٧٤٦ ، الاستبصار ٣ : ٣٣ ـ ١١٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١٢ ، بتفاوت.

(٥) الكافي ٧ : ٣٨٥ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٧٥ ـ ٧٤٩ ، الاستبصار ٣ : ٣٣ ـ ١١١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٣.

٢٦٦

شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدّين ، ولم يكن يجيز في الهلال إلاّ شاهدي عدل » (١).

وموثّقة أبي بصير : عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ وله شاهد واحد ، قال : فقال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحقّ ، وذلك في الدين » (٢).

ورواية القاسم بن سليمان : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده » (٣).

ورواية داود بن الحصين ، وهي طويلة ، وفي آخرها : « ولا يجيز في الطلاق إلاّ شاهدين عدلين » قلت : [ فأنّى ] ذكر الله تعالى قوله ( فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (٤)؟ قال : « ذلك في الدين ، إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان ، ورجل واحد ويمين المدّعي إذا لم تكن امرأتان ، قضى بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام [ بعده ] عندكم » (٥).

وصحيحة الحلبي : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاز شهادة النساء مع يمين‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٦ ـ ٨ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ ـ ٧٤٠ ، الاستبصار ٣ : ٣٢ ـ ١٠٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١ ، بتفاوت يسير.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٥ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ ـ ٧٤٢ ، الاستبصار ٣ : ٣٢ ـ ١٠٩ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٥.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٧٣ ـ ٧٤٥ ، الاستبصار ٣ : ٣٢ ـ ١١٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ١٠.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٨١ ـ ٧٧٤ ، الاستبصار ٣ : ٢٦ ـ ٨١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٠ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٣٥ ، وفي « ح » و « ق » : قلت : فان ... وأمير المؤمنين عليهم‌السلام عندكم ، وما أثبتناه من المصادر.

٢٦٧

الطالب في الدين ، يحلف بالله أنّ حقّه لحقّ » (١) وقريبة منها مرسلته (٢).

وموثّقة منصور : « إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان ويمينه فهو جائز » (٣) ، وغير ذلك من الأخبار (٤).

ثمَّ مقتضى الأصل الثابت بالقاعدة المذكورة ـ واختصاص النصوص كلّها بما يختصّ بحقوق الناس ، لأنّها إمّا متضمّنة للفظ : « صاحب الحقّ » أو : « الدين » أو ما يخلوعن مثله ، كصحيحتي حمّاد بن عيسى والبجلي ، فوارد بلفظ : « قضى » وهو غير مفيد لعموم أو إطلاق ، لأنّه قضية في واقعة ـ اختصاص الثبوت بها بحقوق الناس دون حقوق الله ، كما عليه الإجماع انعقد أيضا.

وتدلّ عليه صريحا صحيحة محمّد المتقدّمة ، فلا ريب في ذلك الاختصاص أصلا.

وهل يختصّ من حقوق الناس بالأموال ، كالقرض والغصب ، وما يقصد منه المال ، كعقود المعاوضات والقراض والوصيّة والجنايات الموجبة للديات ونحوها؟

قال في الكفاية : المعروف من مذهب الأصحاب أنّه لا يثبت بهما غير الأموال من حقوق الناس ، فلا يثبت الطلاق والنسب والوكالة والوصيّة‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٦ ـ ٧ ، الفقيه ٣ : ٣٣ ـ ١٠٦ ، التهذيب ٦ : ٢٧٢ ـ ٧٣٩ ، الاستبصار ٣ : ٣٢ ـ ١٠٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٥ ح ٣.

(٢) الكافي ٧ : ٣٩٠ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦٩ ـ ٧٢٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٩ ـ ٩٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٤ ح ٢.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٣ ـ ١٠٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٥ ح ١.

(٤) انظر الوسائل ٢٧ : ٣٦٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ، وص ٢٧١ ب ١٥ ، وص ٣٥٠ أبواب الشهادات ب ٢٤.

٢٦٨

إليه وعيوب النساء (١). انتهى.

وقيل : ولا يقضى بهما في غير المال وما يقصد منه المال بلا خلاف. وقيل أيضا : ظاهر الأصحاب الإطباق على تقييده بالمال (٢). انتهى.

ويظهر من الكفاية التردّد في ذلك التخصيص ، حيث قال : فإن لم يثبت إجماع على التخصيص كان القول بالعموم غير بعيد (٣). انتهى.

وذهب الشيخ في النهاية والحلبي وابن زهرة إلى التخصيص من بين الأموال أيضا بالدين (٤) ، وعن الأخير الإجماع عليه.

أقول : دليل التخصيص الأخير هو موثّقة أبي بصير ، ورواية القاسم بن سليمان ، ورواية داود بن الحصين ، المؤيّدة بصحاح حمّاد بن عثمان ومحمّد والحلبي.

والإيراد عليها بأنّه لا دلالة فيها إلاّ على أنّ قضاءه بذلك كان في الدين ، ولم يقض به في غيره ، وهو أعمّ من عدم جواز القضاء به فيه ، فقد يجوز ولكن لم يتّفق له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ضعيف جدّا ، لأنّ المتبادر من قوله في الموثّقة : « كان يقضي بذلك وذلك في الدين » وكذا قوله في الرواية : « وحده » أنّ تجويزه القضاء به كان مختصّا به ، مع أنّ رواية داود لم تتضمّن القضاء أولا ، بل هي صريحة في التخصيص.

__________________

(١) الكفاية : ٢٧٢.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

(٣) الكفاية : ٢٧٢.

(٤) النهاية : ٣٣٤ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٨ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

٢٦٩

وأمّا التخصيص الوسط فلا أرى في الأدلّة منه عينا ولا أثرا.

وقد يستدلّ له بأخبار الاختصاص بالدين منضمّة مع تتمّة صحيحة البجلي المتقدّم صدرها ، المتضمّنة لادّعاء أمير المؤمنين عليه‌السلام على عبد الله بن قفل التميمي عند شريح درع طلحة ، حيث وجدها بيده ، وقال : « إنّها أخذت غلولا » (١) فطلب شريح البيّنة ، فشهد الحسن عليه‌السلام ، فقال شريح : هذا شاهد ، ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر ، وساق الكلام إلى أن قال : « فغضب عليّ عليه‌السلام وقال : خذوها » أي الدرع « فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات » ثمَّ أخذ في عدّ تلك الثلاث ، إلى أن قال : « ثمَّ أتيتك بالحسن فشهد ، فقلت : هذا واحد ، ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة واحد ويمين » الحديث (٢).

فإنّ الدرع كانت عينا موجودة لا دينا ، فيعلم أنّ القضاء بذلك لا يختصّ بالدين المعهود ، بل المراد من الدين مطلق المال ، كما قد يحمل عليه كلام النهاية (٣) ، ويشعر كلام بعض اللغويين إلى أنّه مطلق الحقوق (٤).

وفيه : أنّه يمكن أن تكون تخطئته في قوله : « ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر » حيث أتى بالنفي للماهيّة الدالّ على العموم ، بل هو الظاهر ، حيث ذكر عليه‌السلام في مقام تعداد الخطأ ذلك القول لا عدم حكمه في الواقعة بالشهادة واليمين.

ويدلّ عليه أيضا استشهاده بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقا من غير بيان‌

__________________

(١) غلولا : أي سرقة من الغنيمة قبل القسمة ـ مجمع البحرين ٥ : ٤٣٦.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٥ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ ـ ٧٤٧ ، الاستبصار ٣ : ٣٤ ـ ١١٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٦.

(٣) حمله عليه في المختلف : ٧٢٥.

(٤) مجمع البحرين ٦ : ٢٥٣.

٢٧٠

موضع قضائه.

ثمَّ لو سلّم ذلك ، فمقتضى الجمع التخصيص بالدين والعين ، وأمّا التعدّي إلى غيرهما من الحقوق المتعلّقة بالأموال ـ كالرهن والمساقاة والإجارات ونحوها ـ فلا يكون عليه دليل.

والتمسّك بعدم القول بالفصل في المقام ضعيف.

وأمّا حمل الدين على مطلق المال فهو ممّا تأباه اللغة والعرف وكلام الأصحاب طرّا ، حيث يقابلون الدين مع العين أو مع المال.

وبالجملة : إن كانت دلالة الموثّقة والروايتين على الاختصاص بالدين تامّة ـ كما هو كذلك ـ يجب القول بالتخصيص الأخير ، لأخصّيتهما من سائر الأخبار ، وإلاّ فالتخصيص الأول ، وهو الاختصاص بحقوق الناس ، لما عرفت.

وأمّا الوسط فلا وجه له أصلا.

نعم ، ظاهر الحلّي والفاضل في المختلف دعوى الإجماع على كفاية الشاهد واليمين في الأموال (١) ، ونفي جماعة ـ على ما قيل (٢) ـ الخلاف فيه.

ولكن قد عرفت مرارا عدم حجّية الإجماع المنقول وحكاية نفي الخلاف ، سيّما أنّ كلام الحلّي ليس صريحا في الإجماع ، فإنّه قال : ويحكم بالشاهد واليمين في الأموال عندنا. ومثل ذلك ليس دعوى للإجماع ، ومع ذلك مختصّ بالأموال ، وشموله ـ لما يكون المقصود منه المال مطلقا ، كالنكاح والرهن وقتل الخطاء ونحوهما ممّا ذكروه ـ ليس بظاهر.

وكذا كلام المختلف ، فإنّه ذكر الدين والعين مع عدم صراحته أيضا‌

__________________

(١) الحلّي في السرائر ٢ : ١١٦ ، المختلف : ٧١٦.

(٢) الكفاية : ٢٨٥ ، الرياض ٢ : ٤٠٦.

٢٧١

في دعواه ، لأنّه قال : المال سواء كان دينا ـ كالقرض ـ أو عينا يثبت بشاهد وامرأتين إجماعا ، وكذا بشاهد ويمين ، فإنّ قوله : « وكذا » يمكن أن يكون إشارة إلى نفس الثبوت لا الثبوت مع الإجماع.

هذا ، مع معارضتهما بدعوى إجماع ابن زهرة على الاختصاص بالدين (١) ، وظهور مخالفة طائفة من فحول القدماء (٢).

ومع ذلك كيف تسمع دعوى نفي الخلاف؟! ومع أنّ أكثر ما ذكروه من دعوى نفي الخلاف أو المعروفيّة من مذهب الأصحاب ونحوهما إنّما هو على عدم ثبوت غير الأموال بالشاهد واليمين ، كما مرّ من عبارة الكفاية (٣).

وقد يستدلّ لتخصيص الوسط برواية عاميّة رواها ابن عبّاس : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « استشرت جبرئيل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار بذلك في الأموال لا تعدو ذلك ».

وهي رواية ضعيفة لا تصلح للاستناد وإن قلنا بموافقتها للشهرة ، لأنّها لا تجبر الروايات العاميّة ، مع أنّها عامّة يجب تخصيصها بما يدلّ على الاختصاص بالدين ، وهو أولى من جعل الحصر في روايات الدين إضافيّا قطعا.

هذا ، مع ما في التخصيص الوسط من الإجمال والاختلاف في بيان المطلوب الذي لا يكاد يبين بيانا مستندا إلى دليل ، فإنّ منهم من عبر بالأموال (٤) ، ومنهم من قال : العين والدين (٥) ، وقال القاضي : المال وما كان‌

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٢) كالطوسي في النهاية : ٣٣٤.

(٣) الكفاية : ٢٧٢.

(٤) كالشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٧٦.

(٥) كالحلّي في السرائر ٢ : ١١٦.

٢٧٢

وصلة إليه (١) ، وقال الحلّي (٢) وأكثر المتأخّرين (٣) : المال ، أو ما يقصد منه المال.

ثمَّ اختلفوا في المراد ممّا يقصد منه المال أو يكون وصلة إليه ، أنّه هل ما كان كذلك بأصل الشرع ، أو كان الغرض من الدعوى ذلك ، أو كان يستتبع المال ، أو كان الغرض من فعله المال؟

وذكروا أمثلة لا ينطبق بعضها على بعض ، فذكروا منها : الجنايات الخطائيّة ، مع أنّه ليس المقصود من فعله أو الغرض من وضعه مال ، بل قد لا يكون الغرض من الدعوى أيضا ذلك ، بل يتصوّر المدّعي جواز القصاص.

وذكروا لما ليس ممّا يقصد منه المال : الوكالة والوصاية والنسب ، مع أنّ دعوى الوكالة كثيرا ما تكون بقصد المال ، كأخذ حقّ الوكالة ، أو تصحيح عمل الوكيل في المال ليأخذه ، أو إفساده ، كالبيع.

ودعوى الوصاية قد (٤) تكون لأخذ حقّ السعي ، وقد تكون لتصحيح بيع الوصي.

ودعوى النسب قد تكون لأخذ الميراث أو النفقة وغير ذلك.

ولأجل ما ذكرنا من إجمال المراد واختلافهم في تأديته قد وقعت للقائلين بهذا القول من فقهائنا الأطياب ـ من المتقدّمين والمتأخّرين في أبواب الاختلاف في دعوى العقود والإيقاعات من الوقف والنكاح والطلاق‌

__________________

(١) المهذّب ٢ : ٥٦٢.

(٢) السرائر ٢ : ١٤٠.

(٣) كالمحقّق في الشرائع ٤ : ٩٢ ، والعلاّمة في المختلف : ٧١٦ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٤٢.

(٤) في « ح » زيادة : لا.

٢٧٣

والخلع والعتق والتدبير والمكاتبة والسرقة وغيرها ـ اختلافات شديدة بينهم ، بل بين كتب فقيه واحد ، بل بين مباحث كتاب واحد ، بحيث لا يكاد ينضبط ولا يرتفع ، وليس ذلك إلاّ لعدم استناد تعيين الموضوع إلى مستند شرعيّ مضبوط.

فهذا القول ممّا لا ينبغي الركون إليه والسكون لديه ، بل إمّا يعمّم الثبوت ـ كما في حقوق الناس ، كما يميل إليه في الكفاية (١) ، إن لم تتمّ أدلّة التخصيص بالدين ، إمّا سندا أو دلالة ـ أو يخصّص بالدين إن قلنا بتماميّة أدلّتها ، كما هو كذلك ، لأنّها من الروايات المعتبرة ، مع أنّ واحدة منها موثّقة ، وهي في نفسها عندهم حجّة ، وبأخبار صحيحة أخرى معتضدة ، ودلالتها واضحة جدّا.

فالحقّ : اختصاص الثبوت بالشاهد الواحد ويمين المدّعي بالدين لا غير.

فروع :

أ : المراد بالدين الذي يثبت بشاهد ويمين : كلّ حقّ ماليّ للغير ، متعلّق بذمّة الآخر ، بأيّ سبب تعلّق بالذمّة ، فيشمل ما استقرضه ، وثمن المبيع ، ومال الإجارة ، والمهر ، ودية الجنايات ، والمغصوب ، والمسروق ، والنفقة ، والموصى به ، والمضمون له ، والمحوّل إليه ، وغير ذلك.

والمراد بكون الدعوى دينا : أن يكون هو المقصود من الدعوى ، ويكون مأخوذا فيه ، ويكون هو المدّعى به بالذات والمطلوب من الخصم‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٧٢.

٢٧٤

وإن تعلّقت الدعوى أو الإنكار بالسبب ، فلو تلفت منه مائة دينار لأجل شراء ملكه وهو أنكر الشراء يكون دعوى الدين ، وكذا لو ادّعى مائة دينار لأجل الجناية أو السرقة أو الإجارة ونحوها ، لصدق دعوى الدين في الكلّ.

بخلاف ما لو ادّعى نفس السبب من دون مطالبة ما يترتّب عليه ، فإنّه لا تصدق عليه دعوى الدين.

ولذا لو ادّعت امرأة على رجل مائة دينار من جهة الصداق ، فبذل المائة ، يسقط تسلّطها عليه.

بخلاف ما لو ادّعي النكاح الذي جعل الصداق فيه مائة ، إلاّ إذا كان أثر السبب ( والمطلوب ) (١) منه منحصرا في ذلك الدين ، فإنّه لو ادّعى أحد وصيّة مائة دينار يكون دعوى الدين ، إذ لا يقصد من دعواها إلاّ المائة دينار ، أي لا يتبادر من دعواها إلاّ طلب ذلك.

ب : قالوا : يشترط شهادة الشاهد أولا وثبوت عدالته ثمَّ اليمين ، ولو بدأ باليمين وقعت لاغية ، وافتقر إلى إعادتها بعد الإقامة ، ولم يظهر في ذلك مخالف ، بل نسبه في المفاتيح إلينا (٢) ، ونفى عنه الخلاف في شرحه ، واستدلّ له بتعليل ضعيف غايته.

وقد يستدلّ أيضا بأنّ هذا حكم مخالف للأصل ، فيقتصر في ثبوت الحقّ به على موضع اليقين ، وهو ما إذا تأخّر اليمين.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ لو لا إطلاقات طائفة من النصوص بالثبوت بذلك ، فإنّ أكثرها وإن كان خاليا عن الإطلاق ـ لتضمّنه الإخبار عن حكم النبيّ والولي ، فهو إخبار عن واقعة ، ومثله لا إطلاق فيه ـ إلاّ أنّ صحيحة‌

__________________

(١) في « ق » : فيه المطلوب.

(٢) المفاتيح ٣ : ٢٦٤.

٢٧٥

محمّد الاولى وصحيحة منصور الأخيرة ورواية داود (١) مطلقة. ونفي إطلاقها ـ لكونها واردة في بيان حكم آخر غير ما نحن فيه ، ولأنّ المتبادر منها تقديم اليمين ـ ضعيف ، لعدم منافاة الورود مورد حكم آخر للإطلاق ، ولظهور منع التبادر ، ولذا تأمّل طائفة في ذلك الحكم ، كصاحبي الكفاية والمفاتيح (٢).

واختار شارح المفاتيح عدم اشتراط الترتيب ، وهو الأقوى.

ج : لا تثبت دعوى جماعة مع شاهد إلاّ مع حلف كلّ منهم ، فلو حلف بعضهم دون بعض ثبت نصيب الحالف فقط ، للأصل ، فإنّ الأصل عدم ثبوت نصيب الغير ، ولم تكن للممتنع معه شركة فيما يثبت ، لأنّ الحلف جزء سبب الاستحقاق ، وهو يختصّ بأحدهما ، فيمكن إبراء شريكه أو استيفاؤه.

وذلك بخلاف ما إذا ادّعى أحد الشريكين بسبب مشترك فأقرّ الغريم ، فإنّ ما أقرّ به للمدّعي يشترك فيه الآخر أيضا ، لأنّ نسبة الإقرار إليهما على السواء ، وكذا البيّنة ، فما يأخذه أحد الجماعة من نصيبه بسبب الحلف لا يشترك معه غيره ممّن لم يحلف ، وما يأخذه بسبب الإقرار أو البيّنة يشترك معه فيه الباقون ، كذا قالوا.

أقول : ما ذكروه من اختصاص ما أخذه الحالف به وعدم اشتراك غيره معه إنّما هو فيما إذا كان المدّعى به دينا أو عينا وأخذ ما أخذ منها مشاعا ، أي اشترك مع الغريم فيها بالإشاعة بقدر نصيبه.

أمّا لو كان المدّعى به عينا وأخذ نصيبه منها مفروزا فلا بدّ من القول‌

__________________

(١) المتقدّمة جميعا في ص : ٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٢) الكفاية : ٢٧٢ ، المفاتيح ٣ : ٢٦٤.

٢٧٦

بكونه مشتركا بينه وبين باقي الشركاء.

مثلا : إذا ادّعى أخوان على زيد حنطة معيّنة مشاهدة بأنّها من مال مورثنا ، وأقاما شاهدا واحدا ، وحلف أحدهما دون الآخر ، وأخذ الحالف نصف تلك الحنطة ، يجب أن يكون مشتركا بين الأخوين.

وكذا إذا ادّعيا أرضا معيّنة وأخذ الحالف نصفها المعيّن بأن يقسّم مع الغريم ، فلا بدّ من الشركة.

لا لأجل الحلف ، حتى يرد أنّه لا يثبت بالحلف مال الغير.

بل لأجل اعترافه بأنّه مال المورث ، وهو مأخوذ به ، كيف ولو ادّعاه لنفسه وأخذه بالشاهد واليمين أو اليمين المردودة ، ثمَّ أقرّ بأنّه مال عمرو ، يتسلّط عمرو على أخذه منه ، فأثر الحلف رفع مانع تصرّفه ، وحكم ظاهر الشرع باستحقاقه القبض والشركة أثر الإقرار.

ولعلّ مراد القوم من نفي الاشتراك أيضا في غير تلك الصورة.

فإن قيل : يلزم مثل ذلك في نصيبه من الدين المأخوذ بالحلف والعين المأخوذة بالإشاعة كذلك أيضا ، لما ذكر.

قلنا : لا يلزم ذلك أصلا ، لأنّ المقرّ به في الدين ليس إلاّ اشتغال ذمّة الغريم بحصّته وبحصّة الشركاء ، ولا يثبت بذلك شي‌ء أصلا ، ويثبت بالشاهد واليمين اشتغال ذمّته بحصّة الحالف ، أي بأمر كلّي يساوي حصّته من الدين ، وهذا الكلّي ليس جزءا من الكلّي الأول ، لعدم تعيينه ، بل يساوي بعضه ، وتعيّن ذلك الكلّي المحكوم عليه له بإقباض الغريم وقبض الحالف ، ولا اعتراف من الحالف على شركة الشريك فيه ، وإنّما اعترافه في أمر كلّي ثابت في الذمّة ، ولم يقصد الغريم أنّه يعطيه من باب ذلك الكلّي ، لعدم اعترافه بثبوته عليه ، ولو قصد أيضا لم يفد ، فهذا الشخص الخارجيّ‌

٢٧٧

لا دليل على شركة الشركاء فيه أصلا ، وأين الاعتراف باستحقاق الشريك شيئا في ذمة الغريم عن الاعتراف بشركته في ذلك الشي‌ء المعيّن؟!

فإن قيل : فعلى هذا يلزم عدم شركة الشريك فيما يقبضه الآخر من الدين المشترك الذي يقرّ به الغريم ، أو يثبت بالبيّنة أيضا ـ كما حكي عن الحلّي في باب الشركة من السرائر (١) ، وإن وافق القوم في باب الدين والصلح (٢) ـ لأنّ شركة الشريك في أمر انتزاعيّ كلّي ثابت في الذمّة ، ولا يلزم من ذلك شركته فيما أعطاه الغريم لأحدهما ويقصده ، وهو أيضا قبضه لنفسه.

نعم ، لو أقبضه الغريم لهما معا تمّت شركتهما ، حيث إنّ التعيين بيد الغريم.

والقول بأنّ قصد الغريم إنّما يعتبر ويؤثّر في تعيين قدر الدين من ماله وإفرازه عن سائر ما بيده ، لا في تعيين الشركاء في الدين ، وإنّما هو بيد الشريك ، فيما عيّنه الغريم يصير للدين بقصده ، ويكون مراعى في حقّ الديّان حتى يعيّنوا المستحقّ.

فاسد جدّا ، لأنّه إن أريد أنّ التعيين بيد جميع الشركاء من القابض وغيره فهم لا يقولون به ، بل يقولون بشركة الشريك الآخر ولو لم يرض القابض.

وإن أريد أنّ التعيين بيد غير القابض فهو أيضا ليس كذلك.

وإن أريد أنّ للجميع التعيين بقدر الحّصة فهو أمر لا دليل عليه ولا سبيل ، وأيضا يلزم أنّه لو كانت عليه ديونا متعدّدة لديّان عديدة من غير‌

__________________

(١) السرائر ٢ : ٤٠٢.

(٢) السرائر ٢ : ٤٥ ، ٦٨.

٢٧٨

شركة يشترك الباقون فيما قبضه أحد الديّان لنفسه بقصده وقصد الغريم أيضا ، وهو ممّا لا يقول به أحد.

وأيّ فرق بين الديون المتعدّدة لديّان متعدّدة وبين دين واحد لديّان؟! فإنّ التفرقة إنّما هي قبل التعلّق بالذمّة ، وأمّا بعده فالمتعلّق بالذمّة أمر كلّي متخصّص بحصص متعدّدة في الصورتين.

وبالجملة : جعل الدين في إحدى الصورتين كلّيّا واحدا مشتركا وفي الأخرى كلّيات متعدّدة غير مشتركة ليس إلاّ محض التصوير والاعتبار ، وإلاّ فالدين وما في الذمّة فيهما مائة درهم ـ مثلا ـ لشخصين ، وليس إناطة تعيين المستحقّ بيد الشريك في بعض الصور مستندا إلى دليل فقهيّ شرعيّ.

قلنا : نعم ، يلزم ما ذكر ، وهو الموافق للأصل ، إلاّ أنّ الدليل الشرعيّ أوجب الشركة في الدين المشترك ، وهو المستفيضة من الأخبار المعتبرة ، كصحيحة سليمان بن خالد (١) ، وموثّقة غياث بن إبراهيم (٢) ، وروايتي ابن سنان (٣) وابن حمزة (٤) ، وغيرها (٥) ، المؤيّدة بالشهرة العظيمة ، ولولاها لكنّا نقول في الدين المشترك الثابت بالإقرار أو البيّنة أيضا باختصاص القابض بما قبضه ، ولكنّ الدليل أوجب القول بالتشريك ، بمعنى : أنّ الشريك الآخر له المطالبة وإن كانت له الإجازة في الاختصاص أيضا ، ولذلك يقتصر فيه على موضع الدليل.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٣ ـ ٦٠ ، التهذيب ٦ : ٢٠٧ ـ ٤٧٧ ، الوسائل ١٨ : ٣٧٠ أبواب الدين والقرض ب ٢٩ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٥٥ ـ ١٩٠ ، التهذيب ٦ : ١٩٥ ـ ٤٣٠ ، الوسائل ١٨ : ٤٣٥ أبواب أحكام الضمان ب ١٣ ح ١.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٦ ـ ٨٢١ ، الوسائل ١٩ : ١٢ أبواب أحكام الشركة ب ٦ ح ٢.

(٤) التهذيب ٧ : ١٨٥ ـ ٨١٨ ، الوسائل ١٩ : ١٢ أبواب أحكام الشركة ب ٦ ح ١.

(٥) انظر الوسائل ١٩ : ١٢ أبواب أحكام الشركة ب ٦.

٢٧٩

وبذلك تندفع بعض الإيرادات الواردة في المسألة والإشكالات الموردة فيها.

ولتحقيق هذه المسألة موضع آخر تذكر فيه.

د : لو ادّعى قيّم المولّى عليه من الطفل والمجنون والغائب ، وأقام شاهدا واحدا ، لا يحلف المدّعي ، لاختصاص اليمين بصاحب الحقّ ، بل توقف الدعوى ـ مع عدم مصلحة في طيّها بيمين الغريم أو الصلح أو غيرهما ـ إلى رفع الحجر عن صاحب الحقّ ، فإن حلف أخذ ، وإلاّ سقط.

ولو كان المدّعي وصيّا على الثلث ـ مثلا ـ لا يحلف ، بل تسقط دعواه ، لأصالة عدم ثبوتها. ولو حلف سائر الورثة كلاّ أو بعضا يأخذون نصيبهم ولا يخرج منه الثلث ، لأنّ الحلف أثبت حصّته خاصّة.

هـ : لو أقام المدّعي شاهدا واحدا ، ثمَّ رضى بيمين المنكر ، كان له ذلك ، للأصل. ويستحلفه ، فإن حلف قبل عوده سقطت الدعوى ، وإن عاد قبل حلفه وأراد بذل الحلف قال في التحرير : احتمل إجابته إلى ذلك وعدمها (١).

أقول : بل تتعيّن الإجابة ، للأصل ، وعدم مشروعيّة اليمين بدون طلب المدّعي ، وقياسها على اليمين المردودة ـ كما ذكره الشيخ (٢) ـ غير صحيح ، للفارق.

وقال في التحرير : لا تقبل في الأموال شهادة امرأتين ويمين المدّعي (٣).

أقول : صحيحتا الحلبي ومنصور (٤) تدلاّن على القبول.

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٩٤.

(٢) المبسوط ٨ : ١٩٠.

(٣) التحرير ٢ : ١٩٣.

(٤) المتقدمتان في ص : ٢٦٧ و ٢٦٨.

٢٨٠