مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

فإن كان منشأ النزاع المتحقّق أو الفرضي أحد الجهلين فلا مناص من الترافع ، أو ترك الحقّ ...

أمّا في الجهل الأول فلأنّ الطالب لا يعلم الحكم ، فلعلّه لم يكن بذي حقّ ، والأصل عدم ثبوته له.

وأمّا في الثاني فلأنّه لا يعلم ثبوت حقّ له ، ولا يثبت له حقّ إلاّ بالحلف أو النكول الذي يختصّ الحكم به بالحاكم.

وكذا إن كان المنشأ اختلاف العلماء ، فلا يجوز للطالب أخذ حقّ بدون الترافع وحكم الحاكم ، لأنّ ثبوت الحقّ له إمّا يكون بتقليد الطرفين لمن يقول بثبوته ـ والمفروض انتفاؤه ، وإلاّ لما كان بينهما نزاع ـ أو بحكم الحاكم.

وأمّا ثبوته بتقليد المدّعي خاصّة فلا ، لأنّ القدر المسلّم ثبوته أنّ رأي المجتهد حكم له ولمقلّده ما لم يزاحمهما حقّ شخص آخر لا يقلّده في ذلك الأمر ـ كما مرّ في أوائل الباب ـ ولم يثبت من أدلّة التقليد أزيد من ذلك.

وأمّا كونه حكما ثابتا له إذا زاحمه حقّ غيره الذي لا يقلّد ذلك المجتهد فلا دليل عليه أصلا ، فلا يصير السيف ـ مثلا ـ ملكا له بالحبوة بتقليد من يقول بدخوله في الحبوة ما لم يقلّده سائر الورثة أيضا ، فلا يجوز له التقاصّ بسببه.

وإن كان منشأ النزاع الفرضي أو الواقعي مجرّد إنكار المدّعى عليه بأحد وجوهه المذكورة ، أو عدم بقائه ، أو عدم كون الإبقاء بيده ـ كالقصاص ، أو الحقّ الذي على الصغير مثلا ، والمال بيد ذي الحقّ ـ فقد وقع الخلاف في توقّف استيفاء الحقّ في بعض موارده على الترافع وعدمه.

٤٤١

والمراد توقّفه عليه شرعا ، بمعنى : أنّه هل يجوز لطالب الحقّ الاستيفاء لو أمكن بدون الرفع ويحلّ له ما استوفاه شرعا؟ وإلاّ فلا كلام في التوقّف في صورة عدم إمكان الاستيفاء لجحود الخصم وتغلّبه ، بحيث لم يمكن الوصول إلى الحقّ ودفع تغلّب الخصم بدون التوصّل إلى الحاكم.

ثمَّ لبيان محلّ الخلاف وتحقيق الحقّ في المقام نقول : والمطلوب إمّا يكون عقوبة ، أو حقّا غير مالي ، أو مالا ، فهاهنا ثلاثة أبحاث‌ :

٤٤٢

البحث الأول

في العقوبات‌

وهي إمّا قصاص ، أو حدّ ، أو دية ، والأخير داخل في الدعاوي المالية.

أمّا الأول : ففيه قولان :

الأول : عدم الاحتياج إلى الحاكم ، وجواز استقلال الولي في القصاص ، اختاره في موضع من المبسوط والنافع (١) ، وظاهر الشرائع حيث جعل التوقيف أولى (٢) ، والفاضل في أحد قوليه (٣) ، وأكثر المتأخّرين ، بل عامّتهم ـ كما قيل (٤) ـ ونسبه في كتاب قصاص المسالك إلى الأكثر (٥).

والثاني : وجوب الرفع إلى الحاكم ، ذهب إليه في موضع آخر من المبسوط وفي الخلاف (٦) ، وعن المقنعة والمهذّب والكافي والقواعد والغنية وقضاء المسالك (٧) ، وفي الكفاية : لا أعرف فيه خلافا (٨). وعن الغنية : بلا خلاف (٩) ، وعن ظاهر الخلاف : الإجماع عليه (١٠).

__________________

(١) المبسوط ٧ : ٥٤ ، النافع : ٢٩٩.

(٢) الشرائع ٤ : ٢٢٨.

(٣) التحرير ٢ : ٢٥٥.

(٤) الرياض ٢ : ٥٢١.

(٥) المسالك ٢ : ٤٧٧.

(٦) المبسوط حكاه عنه في التنقيح ٤ : ٤٤٤ ، الخلاف ٢ : ٣٦٩.

(٧) المقنعة : ٧٦٠ ، المهذب ٢ : ٤٨٥ ، الكافي : ٣٨٣ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٠ ، المسالك ٢ : ٤٧٧.

(٨) الكفاية : ٢٧٥.

(٩) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٠.

(١٠) الخلاف ٢ : ٣٦٩.

٤٤٣

والأقوى هو الأول ، لقوله سبحانه ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (١) ، وعموم أخبار جواز اقتصاص الولي من الجاني (٢) ، وهي كثيرة جدّا ، والأصل عدم التوقّف على شي‌ء.

ودليل الثاني : الإجماع المنقول.

واحتياج إثبات القصاص واستيفائه إلى الاجتهاد ، للاختلاف.

والقياس على الحدود بالطريق الأولى.

ومفهوم رواية محمّد : « من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له في قتل ولا جراحة » (٣).

وبعض اعتبارات أخر ضعيفة.

ويردّ الأول : بعدم الحجيّة ، سيّما مع مخالفته للشهرة المطلقة والمقيّدة المحكيّة.

والثاني : بخروج موضع الاختلاف عن محلّ الخلاف ، إذ هو تيقّن الولي بثبوت القصاص ، وهو غير متوقّف على إذن الحاكم في كثير من الموارد ، ومنها : ما إذا كان الولي من أهل الاجتهاد والنظر ، أو عالما بمواقع الإجماع أو الضرورة ، أو بفتوى المجتهد ، ونحو ذلك.

والثالث : ببطلان القياس ، وبمنع الأولويّة ، لعدم مقطوعيّة العلّة.

والرابع : ـ مع كون مفهومه مفهوم وصف لا حجّية فيه ـ بأنّه لو اعتبر لكان مقتضاه ثبوت الدية على الولي القاتل إذا لم يكن بإذن الإمام ، والقائلون بالتوقّف لا يقولون به.

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

(٢) الوسائل ٢٩ : ١٢٦ أبواب القصاص في النفس ب ٦٢.

(٣) التهذيب ١٠ : ٢٧٩ ـ ١٠٩١ ، الوسائل ٢٩ : ١٨٣ أبواب قصاص الطرف ب ٢١ ح ١.

٤٤٤

مضافا إلى أنّه لا يدلّ على اعتبار إذنه بالخصوص ، فإنّ كلّ قصاص شرعي إنّما هو بأمر الإمام.

ثمَّ على القول الأخير ، لو بادر الولي إلى القصاص لم يكن عليه قود ولا دية بلا خلاف ، للأصل ، واختصاص أدلّتهما بغير ذلك. وفي استحقاقه التعزير وعدمه قولان.

وهل قصاص الطرف كقصاص النفس ـ لأنّه قصاص ، وللأصل ، والعمومات ـ أو يجب فيه الرفع ، لأنّه بمثابة الحدّ؟ الأقرب : الأول ، لما ذكر.

وأمّا الثاني : فلا تجوز المبادرة إليه بدون إذن الحاكم ، لظاهر الإجماع ، ورواية حفص بن غياث : من يقيم الحدود : السلطان أو القاضي؟ فقال : « إقامة الحدود إلى من إليه الحكم » (١). والله العالم.

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٥١ ـ ١٧٩ ، التهذيب ٦ : ٣١٤ ـ ٨٧١ وج ١٠ : ١٥٥ ـ ٦٢١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٩ أبواب كيفية الحكم ب ٣١ ح ١ وج ٢٨ : ٤٩ أبواب مقدمات الحدود ب ٢٨ ح ١.

٤٤٥

البحث الثاني

في الحقوق الغير الماليّة ، كالزوجيّة ،

والوصاية ، والطلاق ، وحقّ الشفعة ، والخيارات ، ونحوها.

والظاهر : الإجماع على عدم وجوب المرافعة وإذن الحاكم فيها ، واستقلال ذي الحقّ في استيفائه مع الإمكان وعلمه بحقّه ـ اجتهادا ، أو تقليدا ، أو ضرورة وإجماعا ـ لظاهر الإجماع ، والأصل الخالي عن المعارض بالمرّة.

مضافا إلى رجوع بعض الحقوق إلى المال الثابت جواز أخذه بلا رفع ، كما في الحقّ الثابت بخيار الفسخ ، ونحوه ، فتأمّل.

٤٤٦

البحث الثالث

فيما إذا كان المطلوب مالا ، عينا أو دينا‌

وفي كلّ منهما : إمّا يكون المطلوب منه مقرّا به باذلا غير مماطل ولا معتذرا ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأول فلا كلام فيه ، ولا دعوى ، ولا يجوز الأخذ بدون إذن الغريم حينئذ ، لأنّ الغريم مخيّر في جهة القضاء ، فلا يتعيّن إلاّ بتعيينه.

نعم ، للحاكم أيضا تعيينه لو كان الغريم غائبا ، لعموم النص المصرح بالقضاء عن الغائب.

وإن كان الثاني ، فالظاهر الإجماع على عدم وجوب الرفع ، وجواز مقاصّة الطالب عن مال المطلوب منه بنفسه في الجملة ، وإنّما الخلاف في بعض موارده.

ولنذكر أولا طائفة من الآيات والأخبار المجوّزة للمقاصّة ، ثمَّ نتبعها بما يستنبط منها.

أمّا الآيات : فقوله سبحانه ( فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (١).

وقوله ( فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) (٢).

وأمّا الأخبار : فمنها صحيحة الحضرمي : رجل كان له على رجل مال ، فجحده إيّاه ، وذهب به ، ثمَّ صار إليه بعد ذلك للرجل الذي ذهب‌

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

(٢) النحل : ١٢٦.

٤٤٧

بماله مال قبله ، أيأخذه مكان ماله الذي ذهب به ذلك الرجل؟ قال : « نعم ، لكن لهذا كلام يقول : اللهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي ، وإنّي لا آخذ ما أخذته خيانة ولا ظلما » (١).

والأخرى ، وهي أيضا قريبة من سابقتها (٢).

وزاد في خبر آخر : « إن استحلفه على ما أخذ منه فجائز أن يحلف إذا قال هذه الكلمة » (٣).

والأخرى : رجل لي عليه دراهم ، فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ فقال : « نعم ، ولكن لهذا كلام » قلت : وما هو؟ قال : « تقول : اللهمّ لم آخذه ظلما ولا خيانة ، وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي ، لم أزدد شيئا عليه » (٤).

ورواية ابن وضّاح : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة ، فخانني بألف درهم ، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت بأنّه حلف يمينا فاجرة ، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت أن أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده فأحلف عليها ، فكتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام ، فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف ، وقد وقع له عندي مال ، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت؟ فكتب : « لا تأخذ منه شيئا ، إن كان ظلمك فلا تظلمه ، ولو لا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٩٨ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ١٩٧ ـ ٤٣٩ ، الاستبصار ٣ : ٥٢ ـ ١٦٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٥ ، بتفاوت يسير.

(٢) الفقيه ٣ : ١١٤ ـ ٤٨٥ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٥.

(٣) الفقيه ٣ : ١١٤ ـ ٤٨٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٦.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٨ ـ ٩٨٢ ، الاستبصار ٣ : ٥٢ ـ ١٦٨ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٣ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٤.

٤٤٨

لأمرتك أن تأخذها من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه ، لقد مضت اليمين بما فيها » (١).

وصحيحة داود بن زربي : إنّي أخالط السلطان ، فتكون عندي الجارية فيأخذونها ، أو الدابّة الفارهة فيأخذونها ، ثمَّ يقع لهم عندي مال ، فلي أن آخذه؟ فقال : « خذ مثل ذلك ، ولا تزد عليه » (٢) ، وقريبة منها الأخرى (٣).

وصحيحة البقباق : إنّ شهابا ماراه في رجل ذهب له ألف درهم ، واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العبّاس : قلت له : خذها مكان الألف الذي أخذ منك ، فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فذكر له ذلك ، فقال : « أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ وتحلف » (٤).

ورواية الأرمني ، كان لي على رجل دراهم ، فجحدني ، فوقعت له عندي دراهم ، فأقبض من تحت يدي مالي عليه؟ وإن استحلفني حلفت أنّ ليس له عليّ شي‌ء؟ قال : « نعم ، فاقبض من تحت يدك ، وإن استحلفك فاحلف له ، إنّه ليس له عليك شي‌ء » (٥).

ورواية إسحاق بن إبراهيم : إنّ موسى بن عبد الملك كتب إلى أبي جعفر عليه‌السلام يسأله عن رجل دفع إليه مالا ليصرفه في بعض وجوه البرّ ، فلم‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٣٠ ـ ١٤ ، التهذيب ٦ : ٢٨٩ ـ ٨٠٢ ، الاستبصار ٣ : ٥٣ ـ ١٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٦ أبواب كيفية الحكم ب ١٠ ح ٢ ، بتفاوت.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٣٨ ـ ٩٣٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ١ ، بتفاوت يسير. وفيهما : عن داود بن رزين.

(٣) الفقيه ٣ : ١١٥ ـ ٤٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ١.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٧ ـ ٩٧٩ ، الاستبصار ٣ : ٥٣ ـ ١٧٤ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٢.

(٥) التهذيب ٨ : ٢٩٣ ـ ١٠٨٣ ، الوسائل ٢٣ : ٢٨٥ أبواب الأيمان ب ٤٧ ح ١ ، بتفاوت.

٤٤٩

يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمره به ، وقد كان له عليه مال بقدر هذا المال ، فسأل هل يجوز لي أن أقبض مالي ، أو أردّه عليه وأقتضيه؟ فكتب : « اقبض مالك ممّا في يدك » (١).

ورواية عليّ بن سليمان : رجل غصب رجلا مالا أو جارية ، ثمَّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه ، أيحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : « نعم ، يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه ، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ، ويسلّم الباقي إليه إن شاء الله » (٢).

ورواية جميل : عن الرجل يكون له على الرجل الدين ، فيجحده ، فيظفر من ماله بقدر الذي جحده ، أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال : « نعم » (٣).

ثمَّ نقول : إنّ تحقيق المقال في هذا المجال بذكر مسائل :

المسألة الأولى : المال المطلوب إن كان عينا‌ ، فإن كان المالك قادرا على أخذه من دون فتنة أو مشقّة ، ولا ارتكاب أمر غير مشروع ـ كدخول دار الغاصب بغير إذنه ، أو ثقب (٤) جداره ، أو نحو ذلك ـ جاز له الأخذ من غير رفع إجماعا ، للاستصحاب ، وتسليط الناس على أموالهم ، وللأصل.

ولا يجوز له الأخذ من مال الغاصب بقدره حينئذ ، للأصل ، وظاهر‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٤٨ ـ ٩٨٤ ، الاستبصار ٣ : ٥٢ ـ ١٧٠ الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٨ ، بتفاوت.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤٩ ـ ٩٨٥ ، الاستبصار ٣ : ٥٣ ـ ١٧٣ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٩ وفيه : رجل غصب مالا ..

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤٩ ـ ٩٨٦ ، الاستبصار ٣ : ٥١ ـ ١٦٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ١٠.

(٤) في خ لـ « ح » : نقب ..

٤٥٠

الإجماع.

وأمّا إطلاق صحيحة داود الاولى وروايتي ابن وضّاح وعليّ بن سليمان فشموله لمثل تلك الصورة غير معلوم ، ولا ظاهر.

وإن توقّف أخذه على أمر غير مشروع ـ كتصرّف في داره ، أو فتح بابه ـ من غير إضرار بالغاصب ، ولم يمكن بغير ذلك جاز الأخذ أيضا ، ويحلّ له ما لا يحلّ لغرض آخر ، لنفي الضرر والضرار المعارض لحرمة التصرّف في مال الغير مثلا ، فتبقى الإباحة الأصليّة بحالها.

وكذا لو تضمّن ضررا لم يكن أزيد من ضرر المالك ، لقوله سبحانه : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) ، وقوله ( فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ).

ولو نوى ضمان ضرره حينئذ صار جواز الأخذ أظهر ، لعدم صدق الضرر.

ولو أمكن الأخذ حينئذ بالرجوع إلى الحاكم ، فهل يتعيّن ـ تحرّزا عن ضرر الغاصب أو ارتكاب ما لا يحلّ ـ أو يجوز الأخذ ، للآيتين؟

فيه احتمالان ، والأحوط الرفع.

ولو أمكن المقاصّة من مال آخر له جازت المقاصّة مع إمكان أحد الأمرين المتقدّمين ـ من أخذ العين بالتصرّف في ماله أو إضراره ، ومن الرفع ـ أو كليهما ، لإطلاق الصحيح والروايتين. ويجوز الرفع أيضا بلا ريب. ومقتضى الآيتين جواز الأمر الأول أيضا.

والظاهر أنّ تأخير الغاصب في الردّ تأخيرا موجبا للضرر كنفس الغصب وعدم إرادة الردّ أيضا.

ثمَّ لو اقتصّ المالك من مال الغاصب ، ثمَّ ردّ الغاصب العين ، فللمالك الأخذ ، للاستصحاب ، وعليه ردّ المال المقاص ـ لعدم ثبوت جواز‌

٤٥١

التصرّف فيه ـ إليه حينئذ أيضا. وكذا لو ظفر المالك بعينه.

هذا إذا كانت العين المقاصّة باقية ، ولو تلفت فلا يجب على المالك العوض من ماله ، للأصل.

وهل يجوز له أخذ عين ماله من الغاصب ـ للاستصحاب ـ أو لا يجوز ، لاستلزامه الجمع بين العوض والمعوّض؟

فيه إشكال ، وإن كان الأول أقرب ، لما مرّ ، ومنع كونه ما أخذ عوضا عن ماله أولا ، بل هو أمر جوّزه الشارع عقوبة ، ومنع عدم جواز الجمع بين العوض والمعوّض ثانيا.

المسألة الثانية : وإن كان المطلوب دينا ، والغريم جاحدا ، وليست له بيّنة‌ ، أو كانت ولم يمكن التوصّل إلى الحاكم ، أو أمكن ولم يكن حكمه نافذا عليه ، أو احتاج الإثبات عند الحاكم إلى مدّة ، أو تعب يوجب الضرر ، أو كان مماطلا ولم يمكن الانتزاع بالحاكم ، جازت المقاصّة من مال الغريم بلا خلاف يعرف ، كما صرّح به في الكفاية أيضا (١) ، وتدلّ عليه الآيتان ، والأخبار المتقدّمة جميعا مع الجحود ، وطائفة منها مع المماطلة.

ولو أمكن الوصول إلى الحقّ بالرفع إلى الحاكم من غير تأخير وضرر ، كان مقرّا مماطلا أو جاحدا ، ففي جواز التقاصّ حينئذ وعدمه قولان :

الأول : للأكثر ـ كما في المسالك والكفاية (٢) وعن الصيمري ـ ومنهم : الشيخ والشرائع والمسالك والدروس والخلاف (٣) ، بل قيل : عامّة المتأخّرين (٤).

__________________

(١) الكفاية : ٢٧٥.

(٢) المسالك ٢ : ٣٨٨ ، الكفاية : ٢٧٥.

(٣) الشيخ في المبسوط ٨ : ٣١١ ، الشرائع ٤ : ١٠٩ ، المسالك ٢ : ٣٨٩ ، الدروس ٢ : ٨٥ ، الخلاف ٢ : ٦٤٦.

(٤) انظر الرياض ٢ : ٤١١.

٤٥٢

للعمومات المتقدّمة ، بل صريح بعضها ، وهو رواية إسحاق ، حيث قال فيها : أو أردّه عليه وأقتضيه. فإن الاقتضاء صريح في إمكان التوصّل.

والثاني : للنافع (١) ، للأصل ، وبعض الاعتبارات اللاّزم رفع اليد عنها بما مرّ.

وهل يحلّ التقاصّ مطلقا؟ كما هو مذهب المعظم.

أو يجب ذكر الكلام المذكور في الأخبار الأربعة الأولى؟ كما عن الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب (٢).

الأظهر : الأول ، للأصل ، وعدم دلالة غير الثالثة على تعيين ذكره والتوقّف عليه ، بل غايته الاستحباب ، كما عليه أكثر الأصحاب.

وأمّا الثالثة ، فهي وإن دلّت بالمفهوم على اعتباره في الجواز إلاّ أنّ مقتضاها اعتباره في جواز الحلف خاصّة ، وهو ممّا لم يقل به أحد.

ويشترط جواز المقاصّة بعدم الترافع والتحالف ، فإنّه لا يجوز التقاصّ بعده ، كما مرّ.

ولا يشترط فيها إذن الحاكم ، للأصل.

نعم ، تشترط فتواه في محلّ الاختلاف.

المسألة الثالثة : مقتضى عموم أكثر الأخبار المتقدّمة وخصوص صحيحتي داود ورواية عليّ بن سليمان : جواز المقاصّة من جنس الحقّ ومن غيره ، كما هو ظاهر الفتاوى ، وصريح جماعة أيضا (٣).

فما يظهر من بعضهم ـ من التأمّل في جواز الأخذ من غير جنس‌

__________________

(١) النافع : ٢٨٤.

(٢) الفقيه ٣ : ١١٥ ، التهذيب ٦ : ٣٤٩.

(٣) النافع : ٢٨٤ ، الكفاية : ٢٧٥ ، الرياض ٢ : ٤١٢.

٤٥٣

الحقّ ـ لا وجه له أصلا.

وهل يتوقّف الأخذ من غير الجنس على تعذّر الأخذ من الجنس أم لا؟

عن جماعة ـ منهم الشهيدان (١) ـ : الأول ، والأقرب ـ الموافق لظاهر جمع آخر (٢) ـ : الثاني ، للعمومات ، وعدم دليل على تعيين الجنس حين إمكانه.

فإن قيل : الأخذ من غير الجنس يتوقّف على تقويم وتفويض ، بقبول أو بيع ، وكلّ ذلك مخالف للأصل ، لا يصار إليه إلاّ مع التوقّف ، ولا توقّف مع إمكان الأخذ من الجنس.

قلنا : التقويم لا مخالفة للأصل فيه ، والتفويض يتحقّق في الجنس أيضا ، مع أنّه لو سلّم يجوز ارتكابه مع الدليل ، وهو هنا موجود ، لأنّ ما يدلّ بعمومه على أخذ غير الجنس يدلّ على ذلك أيضا ، للتوقّف.

ثمَّ إن كان المأخوذ منه من جنس الحقّ ، فإن كان ما ظفر به بقدر الحقّ أو كان زائدا عليه وأمكن أخذ القدر بدون التصرّف في الزائد فلا كلام.

وكذا إن وقع القدر والزائد في يده بإذن الغريم بقرض أو وديعة ـ على القول بجواز التقاصّ منها ـ فيأخذ القدر ، ويردّ الزائد.

وإن لم يكن بيده وتوقّف أخذ القدر بالتصرّف في الزائد أيضا ـ كما لو كان المجحود ألف درهم ، وظفر بكيس أو صندوق فيه ألفان ،

__________________

(١) الشهيد الأول في الدروس ٢ : ٨٥ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٨٩.

(٢) منهم المحقّق في الشرائع ٤ : ١٠٩ ، والعلاّمة في التحرير ٢ : ١٨٨ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٧٥.

٤٥٤

ولم يمكن أخذ الألف إلاّ بنقله إلى مكان آخر وفتحه ـ فهل يجوز هذا التصرّف في الزائد أم لا؟

الظاهر : نعم ، لأدلّة نفي الضرر المعارضة مع أدلّة النهي عن تصرّف مال الغير ، ولأنّه لو لم يجز التصرّف في الزائد لما جاز التصرّف في قدر الحقّ حينئذ أيضا ، لأنّ سبب الحرام حرام ، مع أنّه جائز لإطلاق الآيتين ، وبعض العمومات المتقدّمة.

ومن ذلك ظهر جواز التصرّف في الزائد من غير الجنس أيضا ، ويكون الزائد في الصورتين أمانة في يده ، ولا ضمان عليه لو تلفت بدون تقصيره وتفريطه ـ كما صرّح به في التحرير (١) ـ إذا لم يمكن الأخذ بدون الزيادة ، للأصل.

ولو أخذ الجنس الذي لم يكن بيده وتلف كان من ماله ، لأنّه إن أخذه بقصد التقاصّ صار ماله ، وإن أخذه متردّدا بين التقاصّ وعدمه كان تصرّفا غير جائز ، فيضمن.

ولو كان المأخوذ من غير الجنس ، فظاهر الكفاية الإجماع على تخييره بين أخذه بالقيمة وبين بيعه وقبض ثمنه لحقّه ، وحيث قال : ويتخيّر عند الأصحاب (٢).

وظاهر الدروس الخلاف فيه ، حيث قال : والأقرب تخيّره بين تملّكه بالبيع وبالقيمة (٣).

وكيف كان ، فالظاهر التخيير ، لتجويز الاعتداء ، وأخذ الحقّ منه‌

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٨٨.

(٢) الكفاية : ٢٧٥.

(٣) الدروس ٢ : ٨٥.

٤٥٥

وقبضه ، وأخذ مثل المال منه على سبيل الإطلاق في العمومات ، وهو يحصل بكلّ من الوجهين ، والأصل عدم تعيّن نوع خاصّ منه.

وليس له الانتفاع بما أخذ قبل القبول أو البيع ، وعليه المبادرة إلى أحدهما ، فلو أخّر مع الإمكان فنقصت الثمن ضمن النقصان ، ولا يضمن ما نقص قبل التقصير ، كذا قال في التحرير (١).

ولا أدري دليلا تامّا على تضمين نقصان الثمن بالتأخير ، مع كون أصل التصرّف جائزا ، والأصل عدم الضمان ، سيّما إذا كان التأخير لطلب زيادة في القيمة ، أو مصلحة أخرى للمالك أو نفسه.

وأولى بعدم الضمان ما إذا لم يحصل لأجله ضرر على المالك ، كما إذا كان المال ممّا لم يرد مالكه بيعه.

ولو تلف المساوي للحقّ من غير الجنس قبل القبول أو البيع من غير تقصير منه ، فقال الشيخ : الأليق بالمذهب عدم الضمان (٢). وهو كذلك ، للأصل.

واحتمل الفاضلان الضمان ، لأنّه قبض بدون إذن المالك (٣).

وفيه : أنّ إذن الشارع أعظم من إذن المالك.

المسألة الرابعة : في جواز المقاصّة من الوديعة وعدمه قولان :

الأول : للتهذيبين والسرائر والشرائع والنافع والمختلف والإرشاد والتحرير وشرح الشرائع للصيمري والتنقيح والنكت والمسالك (٤) ، وفيه‌

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٨٨.

(٢) المبسوط ٨ : ٣١١.

(٣) المحقّق في الشرائع ٤ : ١٠٩ ، العلاّمة في التحرير ٢ : ١٨٨.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٤٩ ، الاستبصار ٣ : ٥٣ ، السرائر ٢ : ٣٦ ، الشرائع ٤ : ١٠٩ ،

٤٥٦

وفي الكفاية : أنّ عليه أكثر المتأخّرين (١) ، وقيل : بل لعلّه عليه عامّتهم (٢).

وهو الأقوى ، لعموم الآية ، وإطلاق أكثر الأخبار المتقدّمة ، بل عمومها الناشئ عن ترك الاستفصال ، وخصوص رواية إسحاق بن إبراهيم السابقة ، وأظهر منها صحيحة البقباق ، ورواية عليّ بن سليمان.

ودلالة الصحيحة على الرجحان ـ المخالف لظاهر الاتّفاق كما قيل (٣). حيث إنّهم حكموا بالكراهة ـ غير قادح في الحجّية ، لاحتمال خصوصيّة في واقعة شهاب ـ من جهته ، أو من جهة الرجل ، أو من جهة ماله ـ أوجبت ذلك الرجحان.

والقول بأصالة عدم الخصوصيّة واه جدا ، إذ قد تكون جهات الرجحان موافقة للأصل أو مساوية مع خلافها بالنسبة إلى الأصل.

والثاني : للصدوق في أكثر كتبه والتقيّ الحلبي والكيدري والطبرسي وابن زهرة (٤) مدّعيا عليه إجماع الإماميّة ، ونسب إلى بعض متأخّري المتأخّرين ، ولعلّه صاحب الوافي (٥) ، ونسبه في التحرير إلى الشيخ أيضا (٦).

للإجماع المنقول ، وللكتاب ، والسنّة المستفيضة الآمرة بردّ الوديعة (٧).

__________________

النافع : ٢٨٤ ، المختلف : ٤١٢ ، التحرير ٢ : ١٨٨ ، التنقيح ٤ : ٢٦٨ ، المسالك ٢ : ٣٨٩.

(١) المسالك ٢ : ٣٨٩ ، الكفاية : ٢٧٥.

(٢) الرياض ٢ : ٤١٢.

(٣) الرياض ٢ : ٤١٢.

(٤) الصدوق في الفقيه ٣ : ١٨٥ ، التقي في الكافي في الفقه : ٣٣١ ، الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٢٨٨ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٩٢.

(٥) انظر الرياض ٢ : ٤١٢ ، الوافي ١٨ : ٨١٥.

(٦) التحرير ٢ : ١٨٨.

(٧) الوسائل ١٩ : ٧١ أبواب أحكام الوديعة ب ٢.

٤٥٧

وخصوص صحيحة ابن عمّار : الرجل يكون لي عليه الحقّ ، فيجحدنيه ، ثمَّ يستودعني مالا ، ألي أن آخذ مالي عنده؟ فقال : « لا ، هذه خيانة » (١).

ورواية ابن أخي الفضيل الصحيحة عن ابن أبي عمير : إنّ ابني مات وترك مالا في يد أخي ، فأتلفه ، ثمَّ أفاد مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرته بذلك ، فقال : « لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك » (٢).

والأول ليس بحجّة ، سيّما مع مخالفة أجلاّء الطائفة والشهرة العظيمة المتأخّرة.

والثاني بالمعارضة بالمثل من الكتاب والسنّة المجوّزة للتقاص (٣) ، الراجحة على ما ذكروه بالشهرة ، وباتّفاقهم على رجحانها على عمومات حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، مع أنّ ما ذكروه ليس بأقوى من تلك العمومات.

والروايتان محمولتان على الكراهة بقرينة الأخبار المجوّزة للتقاصّ عن الوديعة ، مع كونهما أعمّ من اجتماع شروط المقاصّة من إمكان الأخذ منه ، وعدم الإحلاف سابقا ، وغير ذلك. واحتمال كون الإتلاف في الأخيرة ممّا لا يوجب الضمان المجوّزة للتقاص.

المسألة الخامسة : لو اقتصّ حقّه ، ثمَّ أتى الغريم بالمال المجحود أو‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٩٨ ـ ٢ ، الفقيه ٣ : ١١٤ ـ ٤٨٣ ، التهذيب ٦ : ١٩٧ ـ ٤٣٨ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٥ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ١١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٤٨ ـ ٩٨١ ، الاستبصار ٣ : ٥٢ ـ ١٧٢ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٣ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٣.

(٣) راجع ص : ٤٤٧ و ٤٤٨.

٤٥٨

المماطل فيه ، فإن كانت عين ما اقتصّه باقية جاز لمن اقتصّ أخذ حقّه ، وردّ المقتصّ ، لأصالة عدم اللزوم. وكذا لو تمكّن من انتزاع حقّه بعد التقاصّ بالبيّنة والإثبات والأخذ ، وردّ المقتصّ مع بقاء عينه ، لما ذكر.

وهل يجب عليه ذلك ، أم لا؟

الظاهر : الثاني ، للأصل ، والاستصحاب.

ويمكن أن يقال : إنّ الثابت من أدلّة التقاصّ ليس أزيد من جواز أخذه والتصرّف فيه ما دام غريمه جاحدا أو مماطلا ، وأمّا بعد الإقرار والبذل فيستصحب عدم جواز التصرّف ، فإنّه قبل التقاصّ لم يكن جائز التصرّف ، وبعده لم يثبت الزائد عن الجواز ما لم يبذل ، فيستصحب العدم بعد البذل ، إلاّ أنّه يتعارض الاستصحابان حينئذ ، ويرجع إلى التخيير أيضا.

وكذا الحكم لو كانت العين تالفة ، إلاّ أنّ عدم الوجوب حينئذ أظهر ، لأصالة عدم لزوم التغريم من ماله ، واستصحاب الأول.

وهل يجوز له مع عدم ردّ المقتصّ به قبول ما بذل له الغريم أيضا؟

الظاهر : لا ، لسقوط حقّه بعد التقاصّ في نفس الأمر ، وإن لم يعلمه الغريم وكان غاصبا بحسب علمه.

المسألة السادسة : هل يختصّ التقاصّ بما إذا علم حقّه على الغريم واقعا‌ ، أو يجوز مع العلم الشرعيّ الحاصل بالأصول الشرعيّة أيضا؟

الظاهر : الثاني ، لقيام مقتضى الأصول الشرعيّة مقام الواقع ، فلو جوّز كون جحود الغريم لأجل علمه بحقّ له عليه أو على مورّثه ، ولكن لم يعلمه ، يجوز التقاص.

وكذا لو علم حقّ لمورّثه على زيد ، وادّعى هو الإيفاء ، ولكن لم يعلم به ذلك الوارث ، فلا يجب عليه الترافع ، والأخذ بعد يمين نفي‌

٤٥٩

العلم ، بل يجوز له التقاص ، لأصالة عدم الحقّ في الأول ، وعدم الإيفاء في الثاني.

المسألة السابعة : يجوز التقاصّ من مال الغريم المشترك بينه وبين غيره‌ ، وعليه أداء مال الغير وإيصاله إليه ، للعمومات ، وأدلّة نفي الضرر ، ولأنّ حرمة مال الشريك ليس بأزيد من حرمة الزائد على الحقّ من مال الغريم.

المسألة الثامنة : لو كان الغريم غائبا ، ولم يعلم جحوده أو عدم بذله‌ ، يجوز التقاصّ من ماله الحاضر ، للعمومات ، ولإطلاق صحيحة البقباق ، ورواية إسحاق ، بل صحيحة زربي (١) ، وعدم ثبوت الإجماع الثابت في الحاضر المقرّ الباذل في ذلك.

المسألة التاسعة : لو كان حقّه مظنونا لا يجوز له التقاص‌ ، لعدم علمه بحقّ ثابت ، وعدم شمول العمومات له.

وتسلّطه على إحلاف الغريم ، أو أخذ الحقّ بعد نكوله على سماع الدعوى الظنيّة لا يدلّ على ثبوت الحقّ له.

نعم ، لو نكل وحكم الحاكم به تجوز له المقاصّة حينئذ لو لم يبذل.

المسألة العاشرة : لو كان له على شخص حقّ ، ولم يعلم به الغريم أو نسيه يجوز له التقاص ، من غير وجوب الإعلام والمطالبة ، للعمومات.

وكذا لو كان حقّ عليه ، ولم يعلم تذكّره وعدمه وإقراره.

وكذا لو كان له حقّ ، ومنعه الحياء أو الخوف أو مصلحة أخرى عن المطالبة.

__________________

(١) المتقدّمة جميعا في ص : ٤٤٩.

٤٦٠