مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

والظاهر أنّ صورة التقصير مراد من أطلق جواز النقض مع المخالفة ، كالشيخ وابن حمزة وابني سعيد والفاضل في التحرير والإرشاد (١).

وأمّا بدون التقصير بحسب اجتهاده فلا ينقض حكمه ، لا من نفسه ولا من غيره ، وإن ظهر له بعد الاجتهاد دليل ظنّي يكون حجّة عنده حال الحكم من غير وجود ما يصلح لمعارضته ، لأنّ الأدلّة الظنّية ليست كاشفة عن الأحكام الواقعيّة ، وإنّما هي أمارات للأحكام الظاهريّة ، فإذا لم يقصّر في استفراغ وسعه وبذل جهده بقدر ما أدّى اجتهاده إلى كفايته من السعي يكون الحكم حكم الله في حقّه وحقّ من يحكم له وعليه ، فلا وجه للنقض.

وما ذكرنا هو الضابط في المقام ، بل هو مراد من تعرّض للمسألة من الأصحاب ، وإن اختلف عبارتهم في تأدية المرام.

المسألة السادسة : لا ينقض الحكم بتغيّر الاجتهاد‌ ، لأنّ الحكم كان ذلك في حقّهم قبل التغيّر ، إلاّ إذا كان التغيّر لأحد الأمرين المتقدّمين.

ولو تغيّر قبل تمام الحكم وجب بناؤه على الرأي الثاني.

المسألة السابعة : لو ادّعى المحكوم عليه عدم أهليّة الحاكم لعدم اجتهاده أو لفسقه‌ ـ وهذا إنّما يتصوّر إذا كان المحكوم عليه غائبا حين الحكم ، أو ادّعى ظهور عدم أهليّته حال الحكم بعده مع زعمه أولا أهلا ـ فالخصم في تلك الدعوى يكون هو المحكوم له ، وقد يكون الحاكم أيضا إذا كانت الدعوى ممّا يوجب ضمانا أو تعزيرا عليه.

ثمَّ هل تسمع تلك الدعوى على المحكوم له ، أم لا؟

__________________

(١) الشيخ في المبسوط ٨ : ١٠١ ، ١٠٢ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٢٠٩ ، وابن سعيد في الجامع للشرائع : ٥٢٩ ، والمحقق في الشرائع ٤ : ٧٥ ، التحرير ٢ : ١٨٤ ، الإرشاد ٢ : ١٤١.

٨١

استوجه في الشرائع والمسالك عدم السماع ، وعدم تسلّطه على حلفه (١).

وصرّح في الدروس بعدم سماع الدعوى على المحكوم له بفسق الحاكم على سبيل الإطلاق (٢).

وتردّد في التحرير في ذلك كذلك (٣).

واستشكل فيه في القواعد ، ولكن في صورة عدم البيّنة (٤).

وكذا في الكفاية ، إلاّ أنّه حكم بعدم السماع مع عدم البيّنة (٥).

وظاهر الأخيرين ـ بل الأولين أيضا ـ سماع الدعوى مع البيّنة.

وأظهر منهما عبارة الشهيد في غاية المراد ، قال : إذا ادّعى المنكر جرح الشهود أو الحاكم كلّف البيّنة ، فإن فقدها وادّعى علم المدّعي بذلك ، ففي توجّه اليمين على المدّعي وجهان. وصرّح بعض فضلائنا المعاصرين بأنّ النزاع في السماع وعدمه إنّما هو في صورة فقد البيّنة ، وأمّا معها فلا نزاع في السماع.

قال : فدعوى فسق الحاكم ممّا لا ينبغي النزاع في مسموعيّتها ، إنّما النزاع في صورة تكون دعوى المنكر علم المدّعي بالفسق حتى ينحصر دفع النزاع بالحلف على عدم العلم ، فإذا ادّعى المحكوم عليه بعد الحكم فسق الحاكم فيسمع ويطالب منه البيّنة ، فإن أقامها فيبطل الحكم وإن بقي أصل الدعوى ، وإن فقدت البيّنة فالقاعدة توجّه اليمين على المنكر.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٠٧ ، المسالك ٢ : ٣٨٧.

(٢) الدروس ٢ : ٨٥.

(٣) التحرير ٢ : ١٨٩.

(٤) القواعد ٢ : ٢٠٨.

(٥) الكفاية : ٢٧٤.

٨٢

ولكن لما كان الفسق فعل الحاكم ولا يصحّ الحلف على نفي فعل الغير ـ بل إنّما يصحّ حلف نفي العلم ، وهو موقوف على دعوى العلم ، بأن ادّعى المنكر علم المدّعي بالفسق ـ فهذا هو الذي استشكلوا فيه وصار معركة للنزاع (١). انتهى.

ولكن صريح المحقّق الأردبيلي تحقّق النزاع في صورة وجود البيّنة أيضا ، قال ما ملخّصه : ولو ادّعى المنكر بعد إقامة البيّنة فسق الشهود أو القاضي فيمكن أن يسمع ويطالب بالبيّنة ، فإن أثبته بالبيّنة فلا يثبت الحكم ، ويمكن أن لا يسمع.

وإن لم تكن بيّنة وادّعى علم المدّعي ، فإن أقرّ المدّعي به توقّف الحكم إن كان قبله وإن كان بعده أبطله ، وإن أنكر المدّعي فهل له تحليفه على عدم العلم بذلك ، أم لا؟ استشكله المصنّف وغيره انتهى.

وكيف كان ، فالحقّ سماع الدعوى في صورة وجود البيّنة وعدمها إن كانت الدعوى على المحكوم له ، لعمومات سماع الدعوى والقضاء وعدم المخصّص.

وهل المدّعي المكلّف على الإثبات : المحكوم له ، أو المحكوم عليه؟

قال بعض الفضلاء المعاصرين : إن كان القاضي معروفا بالعدالة فعلى القادح إثبات الجرح ، وإن كان خامل الذكر فعلى المعدّل إثباته (٢).

أقول : دعوى المحكوم عليه إمّا تكون عدم علمه بأهليّة الحاكم فلا ينفذ حكمه عليه ، أو علمه بعدم أهليّته وفسقه.

فإن كان الأول ، فلا ينبغي الريب في كون الإثبات على المحكوم له ،

__________________

(١) انظر جامع الشتات : ٦٧٧.

(٢) انظر جامع الشتات : ٦٧٧.

٨٣

ولو بالمعروفيّة والاستفاضة.

وإن لم يكن له دليل مثبت فله تحليف المحكوم عليه لو ادّعى علمه بالأهليّة.

ولو لم يدّع علمه لم يسلّط على تحليفه ، ويعمل فيه بالأصل ، وهو عدم نفوذ حكمه عليه.

وإن كان الثاني ، فمع عدم المعروفيّة لا ريب أيضا في كون الإثبات على المحكوم له ، فإن أثبت ، وإلاّ فله تحليف المحكوم عليه ، فإن حلف بطل الحكم ، وإن نكل ثبت ، وإن ردّ الحلف انعكس.

وأمّا مع المعروفيّة فالإثبات على المحكوم عليه ، فإن أثبته بالبيّنة فهو ، وإلاّ فإن ادّعى علم المحكوم له فله تحليفه وإيقاف الحكم أو إبطاله ، وإن لم يدّعه فتسقط دعواه.

احتجّ المحقّق الأردبيلي على عدم سماع البيّنة مطلقا بأنّه أمين الإمام ، وفتح هذا الباب موجب لعدم إجراء الأحكام والطعن في الحكّام ، فلا يقبلون القضاء.

وفيه : أنّ كونه أمينه في زمن الغيبة فرع أهليّته ، فإن ثبت الفسق فليس أمينا ، وإلاّ يمكن سدّ باب تفسيق سائر الحكّام بتعزير المدّعي ، حيث أهان العلماء ، مع أنّ العدول والحاكم الآخر أيضا أمناء الله ، فإن كان الحاكم الأول أمينا لا يقدحون فيه. ولا يضرّ القدح ، بل ذلك موجب لسعي القضاة في الاجتناب عن العيوب أو سترها ، وهو أيضا مصلحة تامّة.

واحتجّوا على عدم السماع بدون البيّنة بأمرين ، أحدهما : لزوم الفساد.

والثاني : أنّه ليس حقّا لازما يثبت بالنكول ولا بيمين الردّ.

ويضعّف الأول بالمنع أولا ، فإنّه أيّ فساد في دعوى ذلك؟! وقد‌

٨٤

يدّعى على الحاكم نفسه بدعاوي ، وهي غالبا متضمّنة لتفسيقه من الكذب أو الخيانة.

وثانيا بالمعارضة ، فإنّ عدم سماعها قد يستلزم ضياع حقّ خطير سهل الإثبات ، أو إتلاف دم ، أو تحليل بضع محرّم ، أو تحريم محلّل ، ويستلزم جريان حكم شخص مجهول الحال أو معلوم الفسق لأحد عليه بدون لزوم شرعي.

نعم ، لهذا الكلام وجه في القضاة المنصوبة من الإمام حال الحضور ، وكأنّه ذكره العامّة وأخذه بعض أصحابنا وأجروه مطلقا ، وإلاّ فكيف يرضى أحد بأن يقول : إنّه إذا ورد أحد ـ مع مال خطير أو جارية جميلة ـ قرية أو بلدة وادّعى عليه شخص مجهول أنّ المال ماله والجارية جاريته ، وحكم شخص في زيّ العلماء له بذلك ، وأنّه يجب على ذلك الشخص تسليم المال والجارية وإن لم يعرف ذلك الشخص أو عرف فسقه ودنوّ مرتبة علمه ، ولم يسمع منه عذر ولا إرجاء (١) ، سيّما في مثل تلك الأزمنة التي تصدّى فيها كلّ متغلّب في كلّ قرية أو بلدة للحكم؟!

ويضعّف الثاني : بالمنع ، ولم ليس حقّا لازما ولا غير ثابت بالنكول وردّ اليمين إذا ادّعى على المحكوم له أنّ ما أخذه لم يكن بالاستحقاق لعدم أهليّة الحاكم واقعا أو عنده؟! هذا إذا كان التّداعي مع المحكوم له.

ولو ادّعى ما يوجب ضمانا أو تعزيرا على الحاكم فهو خصمه وعليه الإثبات ، لادّعائه أمرا مخالفا للأصل ، ولأنّه الذي لو ترك ترك ، وعدم ثبوت‌

__________________

(١) في « س » : ادعاء.

٨٥

دخوله تحت إطلاقات نفوذ حكمه بعد.

فإن أثبت فهو ، وإلاّ فيحلف المحكوم عليه إمّا على عدم الأهليّة إن أنكرها ، أو على عدم علمه بالأهليّة إن اكتفى بعدم العلم ، الذي هو أيضا موجب لعدم نفوذ حكمه عليه بدون ثبوت الأهليّة.

فإن حلف بطل الحكم وضمن الحاكم ، وإلاّ سقط حقّه ، وإن ردّ الحلف فيحلف خصمه ويسقط عنه الضمان.

ولو ادّعى المحكوم عليه خطأ الحاكم بما لا يعذر فيه ، أو تقصيره ، أو جوره في الحكم ، أو حكمه بشهادة الفاسقين عنده ، ونحوه ، فالخصم أيضا إمّا المحكوم له أو الحاكم كما مرّ ، ويجب إحضار المدّعى عليه ، وفاقا للشيخ والمحقّق والمسالك ، بل نسبه فيه إلى الأكثر (١) ، وكذا في شرح الإرشاد للأردبيلي في دعوى الحكم بشهادة الفاسقين ، للعمومات المشار إليها.

إلاّ أنّ الإثبات حينئذ على المحكوم عليه ، وهو المدّعي ، لأنّ مقتضى إطلاقات نفوذ حكم الحاكم قبول حكمه مطلقا ، إلاّ إذا ثبت خلافه ، فإن لم يثبت فعلى المدّعى عليه اليمين.

ثمَّ في جميع الدعاوي المذكورة إن كان هناك حاكم يقبله الخصمان يتحاكمان إليه ، وإلاّ فيكون كسائر الدعاوي التي لا حاكم فيها ، فلا تسلّط لمن عليه الإثبات على خصمه ، بل يعمل بالأصل حتى يظهر الأمر.

وقد يستشكل في سماع هذه الدعاوي أيضا بإيجابه إهانة الحكّام وتزهّدهم في الحكم.

وإيجابه للعسر والحرج.

__________________

(١) الشيخ في المبسوط ٨ : ١٠٣ ، والمحقق في الشرائع ٤ : ٨٣ ، ١٠٧. المسالك ٢ : ٣٦٠.

٨٦

وإفضائه إلى التسلسل.

ويجاب عن الأول : بمعارضته بإيجاب عدم السماع لإبطال حقوق الناس ، مع أنّه إن ثبت ما يدّعيه فلا بأس بالإهانة ، بل ينبغي أن يستهان ، وإلاّ فلا إهانة ، بل ربّما يوجب العزّة.

والثاني : بمعارضته أيضا بإيجاب العسر والحرج على الناس في تضييع حقوقهم لو لم تسمع.

والثالث : بمنع الإفضاء.

ولو ادّعى المحكوم عليه حكم الحاكم بالفاسقين (١) ـ مع عدم علمه بفسقهما وخطئه في التعديل من غير تقصير منه ـ فلا يسمع ، لأنّ المناط في الحكم : العدالة عند الحاكم دون غيره.

نعم ، لو أراد تبيين فسقهما عند الحاكم نفسه بعد حكمه فظاهرهم سماعه ونقض حكمه لو ثبت عنده. ويجي‌ء تحقيقه.

ولو ادّعى على الحاكم ـ القاضي بعلمه بالواقعة أو بعدالة الشهود أو نحوهما ـ كذبه لم يسمع منه ، لأنّ قوله حجّة.

المسألة الثامنة : لو تبيّن خطإ القاضي في دم أو قطع عضو أو مال‌ ، فإن لم يجر الحكم بعد في الأولين يمنع من إجرائه ، أو كانت العين باقية في الثالث ولو عند المحكوم له فتستردّ.

وإن كان بعد جريان الحكم وتلف العين ، فإن ثبت جور القاضي عمدا أو تقصيره في الاجتهاد ضمن ، والوجه واضح.

وإن كان مع ذلك خصومة المحكوم له عدوانا ، فإن كان هو مباشرا‌

__________________

(١) يعني بشهادة الفاسقين.

٨٧

للقطع أو القتل أو الإتلاف فهو الضامن ، لتقديم المباشر على السبب ، وإن لم يكن مباشرا ـ كما إذا حكم القاضي بعد دعواه فقتل أو قطع وكيل المحكوم له ـ فيحتمل جواز رجوع المحكوم عليه إلى كلّ من القاضي والخصم.

وإن كانت خصومته جهلا بالمسألة فالظاهر أنّ الضمان على القاضي.

وإن كان الحكم من القاضي بعد بذل جهده فلا ضمان عليه أصلا ، للأصل وعدم الدليل. بل على بيت المال إن كان في دم أو قطع ، لرواية الأصبغ بن نباتة : « ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فعلى بيت مال المسلمين » (١).

وإن كان في مال ، فمع بقاء عينه يستردّ ، وإن كانت تالفة فالمصرّح به في كلام جماعة أنّه أيضا على بيت المال ، فإن ثبت إجماع مركّب فيه ، وإلاّ فالحكم به مشكل ، لاختصاص النص بالدم والقطع.

ولا يبعد كونه على المحكوم له إن كانت خصومته عدوانا ، وعدم ضمان أحد إن كان جهلا.

وكذا فيما على بيت المال إذا لم يكن هناك بيت مال ، للأصل ، وعدم دليل على تضمين شخص.

نعم ، في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي سأل ربيعة الرأي ، فأجابه ، فلمّا سكت [ قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت ] (٢) ربيعة ولم يردّ عليه شيئا ، فأعاد المسألة عليه ، فأجابه بمثل ذلك ، فقال‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٥ ـ ١٦ ، التهذيب ٦ : ٣١٥ ـ ٨٧٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٦ أبواب آداب القاضي ب ١٠ ح ١.

(٢) أثبتناه من المصدر.

٨٨

الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « هو في عنقه » قال : « أو لم يقل ، وكلّ مفت ضامن » (١).

ولكنّ الظاهر منها أنّ المراد بالضمان : كون إثمه وأجره في عنقه ، وإلاّ فمجرّد الإفتاء لا يوجب الضمان ، أو المراد : الضمان مع التقصير والخطأ ، إذ لا ضمان بدونهما إجماعا ، فتأمّل.

المسألة التاسعة : لو ترافعا عند مجتهد وتمَّ قضاؤه لا يجوز لهما الترافع عنده أو عند غيره ثانيا في هذه الواقعة بخصوصها‌ ، ولو ترافعا لا يجوز للحاكم سماع الدعوى فيه إلاّ إذا ادّعي خطأ ونحوه ، وهي دعوى اخرى.

ولو لم يتمّ القضاء يجوز الترافع عند الغير ، ولا يجب عليهما الإتمام عند الأول ، فلو أقام مدّع شهوده عند مجتهد لم يعرفهم وطلب التزكية يجوز للمدّعي ترك المرافعة عنده والترافع عند حاكم آخر يعرفهم ، للأصل ، وعدم دليل على التعيين بالشروع في المرافعة أصلا.

المسألة العاشرة : إذا كان الحاكم عالما بالحقّ‌ ، فإن كان إمام الأصل فيقضي بعلمه مطلقا إجماعا ، وإن كان غيره فكذلك على الحقّ المشهور كما صرّح به جماعة ، بل عن الانتصار والغنية والخلاف ونهج الحق وظاهر السرائر : الإجماع عليه (٢).

لأدلّة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والقول باختصاصها بما إذا كانت الدعوى عدوانا وظلما ، فلا تجري‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٩ ـ ١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٠ أبواب آداب القضاء ب ٧ ح ٢.

(٢) الانتصار : ٢٣٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤ ، الخلاف ٢ : ٦٠٢ ، نهج الحق : ٥٦٣ ، السرائر ٢ : ١٧٩.

٨٩

فيما إذا جهل المدّعي أو المنكر الحقّ.

غير صحيح ، لأنّ الاختصاص إنّما هو في النهي عن المنكر ، وأمّا الأمر بالمعروف فجار في جميع الصور.

ولعموم أدلّة الحكم مع وجود الوصف المعلّق عليه ، كقوله تعالى : ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ ) (١) و ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي ) (٢).

وقوله تعالى ( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) (٣).

وأدلة إعانة الضعيف وإغاثة الملهوف ودفع الظلم عن المظلوم ، فإنّ كلّ ذلك يدلّ على المطلوب.

ويدلّ عليه أيضا قوله سبحانه ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) ـ ( فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) ـ ( فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٤) ، فإنّ العالم بالحقّ إن سكت فيكون ممّن لم يحكم بما أنزل الله ، وإن حكم بغير ما يعلم فكذلك بزيادة الحكم بغير ما أنزل الله.

وقوله تعالى ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (٥).

وظاهر أنّ كلاّ من السكوت والحكم بغير ما يعلم حقّا ترك للحكم بالعدل الذي هو المأمور به.

وقوله عزّ وجلّ ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ) (٦).

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) النور : ٢.

(٣) النور : ٤.

(٤) المائدة : ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٧.

(٥) النساء : ٥٨.

(٦) النساء : ١٣٥.

٩٠

وقوله عزّ وجلّ ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ ) (١).

فإنّ جميع ما ذكر يدلّ على وجوب الحكم بما يعلم أنّه حقّ ، وأنه معروف ، وأنّه ما أنزل الله ، على كلّ أحد. إلاّ أنّ نفوذه منه ووجوب اتّباعه وإمضائه يحتاج إلى الدليل ، حيث إنّه خلاف الأصل ، والدليل في أهل الحكم موجود ، فيجب عليه الحكم ، ويجب على الناس اتّباعه.

ويدلّ عليه أيضا قوله في مرفوعة البرقي المتقدّمة : « رجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (٢) ، دلّت على جواز الحكم للعالم ، ودلّت أدلّة نفوذ حكم الحاكم على وجوب اتّباعه.

ويمكن أن يستدلّ له أيضا برواية أبي ضمرة : « أحكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى » (٣) ، فإنّ سنّتهم كانت قضاءهم بما يعلمون كما دلّت عليه الأخبار.

وبصحيحة زرارة : في قوله تعالى ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٤) « فالعدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام من بعده يحكم به فهو ذو عدل ، فإذا علمت ما حكم به رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام فحسبك ولا تسأل عنه » (٥).

وتدلّ عليه أيضا رواية الحسين بن خالد : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى الرجل يزني أو يشرب خمرا أن يقيم عليه الحدّ ، ولا يحتاج إلى‌

__________________

(١) المائدة : ٨.

(٢) في ص ٨ و ٩.

(٣) الكافي ٧ : ٤٣٢ ـ ٢٠ ، التهذيب ٦ : ٢٨٧ ـ ٧٩٦ ، الخصال : ١٥٥ ـ ١٩٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣١ أبواب كيفية الحكم ب ١ ح ٦.

(٤) المائدة : ٩٥.

(٥) التهذيب ٦ : ٣١٤ ـ ٨٦٧ ، الوسائل ٢٧ : ٧٠ أبواب صفات القاضي ب ٧ ح ٢٦.

٩١

بيّنة مع نظره ، لأنّه أمين الله في خلقه » (١) الحديث.

ولا يضرّ احتمال إرادة إمام الأصل ، لعموم العلّة ، فإنّ العالم أيضا أمين الله ، كما في رواية إسماعيل بن جابر : « العلماء أمناء » (٢).

وفي رواية السكوني : « الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا » (٣) الحديث.

والمرويّ في تحف العقول ، وفيه : « مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه » (٤).

ويدلّ عليه أيضا ما ذكره السيّد من إطباق الإماميّة على إنكارهم على أبي بكر في توقّفه على الحكم لفاطمة ، مع علمه بعصمتها وطهارتها وأنّها لا تدّعي إلاّ حقا (٥).

وقد يستدلّ أيضا بوجوه أخر غير تامّة ، كالإجماع المنقول.

وكون العلم أقوى من البيّنة.

واستلزام عدمه إمّا إيقاف الأحكام أو فسق الحكّام ، لأنّهم إن حكموا بخلاف معلومهم يلزم الفسق ، وإلاّ الإيقاف.

فإنّ في الأول : عدم الحجّية.

وفي الثاني : عدم معلوميّة العلّة في البيّنة حتى يقاس عليها العلم.

وفي الثالث : منع الفسق إذا لم يدلّ دليل على جواز حكمه بعلمه.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٦٢ ـ ١٥ ، التهذيب ١٠ : ٤٤ ـ ١٥٧ ، الاستبصار ٤ : ٢١٦ ـ ٨٠٩ ، الوسائل ٢٨ : ٥٧ أبواب مقدمات الحدود ب ٣٢ ح ٣.

(٢) الكافي ١ : ٣٣ ـ ٥.

(٣) الكافي ١ : ٤٦ ـ ٥.

(٤) تحف العقول : ١٦٩.

(٥) الانتصار : ٢٣٨.

٩٢

خلافا لما حكاه السيّد وجماعة عن الإسكافي ، فلم يجوّز عمل غير الإمام بعلمه مطلقا (١) ، بل ربّما ينسب إليه عدم تجويزه عمل الإمام أيضا.

ونسب في شرح المفاتيح القول بعدم جواز عمل غير الإمام إلى السيّد. وهو غريب ، فإنّه ادّعى إطباق الإماميّة على الجواز ، وغلّط الإسكافي أشدّ التغليط وخطّأه.

وللمحكيّ عن ابن حمزة ، فخصّ الجواز بحقوق الناس (٢) ، وحكي ذلك عن الحلّي أيضا (٣) ، وكلامه في قضاء السرائر عامّ (٤).

وللمحكيّ عن الإسكافي في المختصر الأحمدي ، فخصّه بحقوق الله (٥).

ولا مستند لشي‌ء من هذه الأقوال ، إلاّ اعتبارات ضعيفة أو وجوه مرجوحة ، لا تصلح لمعارضة ما مرّ.

كما أنّه يستدلّ للأول : بأنّه موضع التهمة وموجب لتزكية النفس.

وللثاني : بالنبويّ في قضية الملاعنة : « لو كنت راجما بغير بيّنة لرجمتها » (٦).

وبمثل قوله في الروايات المستفيضة : « لا يرجم الزاني حتى يقرّ أربع مرّات بالزنا إذا لم يكن شهود » (٧).

__________________

(١) كما في الانتصار : ٢٣٧ ، وحكاه أيضا الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٢٤٢.

(٢) الوسيلة : ٢١٨.

(٣) حكاه فخر المحققين في الإيضاح ٤ : ٣١٣ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦٣.

(٤) السرائر ٢ : ١٧٩.

(٥) كما في المسالك ٢ : ٣٥٥.

(٦) سنن ابن ماجه ٢ : ٨٥٥ ـ ٢٥٦٠ ، مسند أحمد ١ : ٣٣٦.

(٧) الوسائل ٢٨ : ١٠٣ أبواب حد الزنا ب ١٦.

٩٣

وقوله : « لا يرجم الرجل والمرأة حتى يشهد عليه أربعة شهود » (١).

وللثالث : بمثل رواية البصري : خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ ، فلا تكون له بيّنة بماله ، قال : « فيمين المدّعى عليه » (٢) ، حيث ترك الاستفصال فيها.

ومرسلة يونس : « استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، فإن لم يكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي ، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه » (٣) الحديث.

وبالأخبار القائلة بأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر (٤).

وفي الأول : منع الكلّية.

وفي الثاني : عدم ثبوت الرواية.

وفي البواقي : أنّها معارضة لما مرّ ، وما مرّ راجح بموافقة الكتاب وعمل الأصحاب وأصل الجواز. وبه يجاب أيضا عن دليل اتقاء موضع التهمة فيما كان محلاّ للتهمة ، إلاّ أن يوجب عسرا وحرجا أو ضررا ، فيمكن حينئذ نفي الوجوب.

هذا ، مع إمكان منع اختصاص البيّنة في عرفهم بالشاهد وعدم صدقه على علم الحاكم.

__________________

(١) الكافي ٧ : ١٨٤ ـ ٤ ، التهذيب ١٠ : ٢ ـ ١ ، الاستبصار ٤ : ٢١٧ ـ ٨١٢ ، الوسائل ٢٨ : ٩٥ أبواب حد الزنا ب ١٢ ح ٤.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٥ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ ـ ٥٥٥ ، الفقيه ٣ : ٣٨ ـ ١٢٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٦ أبواب كيفية الحكم ب ٤ ح ١.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٦ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ ـ ٥٦٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم ب ٧ ح ٤.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم ب ٣.

٩٤

وإمكان اختصاص الاستخراج بما يحتاج إليه ، والمعلوم للحاكم لا يحتاج إلى استخراج.

مع أنّ مدلول أخبار البيّنة واليمين أنّ كلّ بيّنة فهي على المدّعي ، لا أنّ كلّ مدّع تجب عليه البيّنة.

مع أنّ الظاهر منها أنّها في صورة الجهل بالواقعة ، فالبيّنة شأنها التبيين ولا تبيين في المبيّن.

هذا ، ثمَّ إنّ المانع من القضاء بالعلم استثنى صورا :

منها : تزكية الشهود وجرحهم.

ومنها : الإقرار في مجلس القضاء وإن لم يسمعه غيره.

ومنها : إقرار الخصم مطلقا.

ومنها : العلم بخطإ الشهود وكذبهم يقينا.

ومنها : تعزير من أساء أدبه في مجلسه وإن لم يعلم غيره.

ومنها : أن يشهد معه آخر ، فإنّه لا يقصر عن شاهد ، والله العالم.

المسألة الحادية عشرة : لو جنّ الفقيه أو أغمي عليه أو فسق ثمَّ عاد إلى الحالة الأولى ، تعود نيابته وولايته من غير نزاع على الظاهر ، كما قاله المحقّق الأردبيلي ، لدخوله بعد العود تحت العمومات والإطلاقات.

وأمّا ما ترى في كتب الأصحاب ـ من الخلاف في ذلك ، وفتوى الأكثر بعدم العود ـ فإنّما هو في القاضي المنصوب من قبل الإمام الثابت قضاؤه بالتخصيص دون التعميم.

المسألة الثانية عشرة : إذا كان تنازع المتخاصمين عند حاكم في أمر لاختلاف المجتهدين فيه :

كأن يتنازع الولد الأكبر مع غيره في أخذ الحبوة مجّانا أو بحساب‌

٩٥

إرثه ، أو فيما يحبى به.

أو ادّعى أحد الشركاء الثلاثة الشفعة وأنكرها الآخران.

أو تنازع المتبايعان في نجاسة المبيع وعدمها.

أو تنازعت البكر ووليها في الاستقلال في العقد وعدمه.

أو تنازعا في دية جناية اختلف العلماء في مقدارها. إلى غير ذلك.

يجب على الحاكم المترافع إليه الحكم في الواقعة بمقتضى رأيه وفتواه إجماعا ، لأنّه حكم الله عنده وفي حقّ كلّ من يقلّده أو يترافع إليه.

ولا يفيد تقليد أحدهما مجتهدا آخر يخالف رأيه رأي ذلك المجتهد ، أو كونه مجتهدا مخالفا لذلك المجتهد ، إذ لم يثبت ـ من أدلّة وجوب عمل المجتهد باجتهاده أو المقلّد باجتهاد مجتهده ـ الوجوب في ترتّب الأثر ، حتى في موضع مزاحمة حقّ غيره ، لو بنى ذلك الغير على اجتهاد مخالف لاجتهاده.

والحاصل : أنّ الثابت ليس أزيد من ترتّب آثار اجتهاده أو تقليده فيما هو حقّ نفسه ممّا ليس له مزاحم من حقوق الغير ، وإلاّ فلا دليل.

ثمَّ المراد برأيه وفتواه ليس ما هو فتواه في جميع أجزاء الواقعة المتنازع فيها ، فإنّه قد تكون فتواه فيها وجوب البناء على فتوى غيره في جزء منها فيجب اتّباعها ، فإنّ فتوى كلّ مجتهد صحّة عمل مجتهد آخر أو مقلّده إذا بناه على رأي ذلك المجتهد الآخر وعمل به فيه ، فيجب الحكم بمقتضاه لو كان كذلك.

فإذا كانت الواقعة بحيث لم يتحقّق من أحد المتنازعين فيها بناء على أمر بتقليد مجتهد ، فيجب فيها الحكم في أصل الواقعة بمقتضى فتوى الحاكم ورأيه فيها.

٩٦

وإن تحقّق فيها بناء على أمر بتقليد غيره ، فيجب الحكم بمقتضى ذلك البناء ، لأنّ فتوى الحاكم أيضا على صحّة ذلك الأمر حينئذ وترتّب الأثر عليه.

فإذا تنازع شخصان في أخذ الحبوة مجّانا أو بإزاء إرثه ابتداء قبل بنائهما فيها على تقليد مجتهد ، يجب على الحاكم المفتي بالأخذ مجّانا الحكم به.

ولو كان المتنازعان مقلّدين لمجتهد يعطيها بإزاء الإرث فعملا بها في الواقعة ، وأخذ الكبير بإزاء إرثه بتقليد مجتهده وأعطاه سائر الورثة بإزائه أيضا بتقليده ، ثمَّ تنازعا فيها بعد ذلك عند الحاكم المذكور ، يجب عليه الحكم بكونها بإزاء الإرث ، لا لأجل أنّه فتواه مطلقا ، بل لأجل أنّهما قلّدا المجتهد الآخر وعملا به ، وانتقل المحبوّ بإزاء الإرث إلى المحبوّ له ، وما بإزائه إلى سائر الورثة ، وفتوى الحاكم أيضا على الانتقال المذكور بالتقليد المذكور ، وتوقّف رفع حكم الانتقال إلى ناقل آخر ، فيحكم بمقتضى هذه الفتوى بأنّها بإزاء الإرث.

وكذا لو كان المتنازعان في الشفعة مقلّدين لمن يرى الشفعة في الشركاء الثلاثة ، فلو تنازعا قبل بنائهما على أخذ الشفيع المشفوع بتقليد مجتهده ، وترافعا عند من لا يرى ثبوت الشفعة حينئذ ، يحكم ذلك بسقوط الشفعة.

ولو بنيا الأمر على تقليد الأول ، وأخذ الشفيع المشفوع بتقليده ، ورضى به الشريك تقليدا له أيضا ، ثمَّ تنازعا عند نافي الشفعة ، يجب عليه الحكم بكون المشفوع لآخذ الشفعة ، لأنّه أخذه بتقليد من يقول بثبوتها وإعطاء الشريك الآخر أيضا بتقليده ، فصار المشفوع ملكا للشفيع بفتوى‌

٩٧

ذلك المترافع إليه أيضا ، فيحكم بمقتضاه.

وكذا لو باع شخص الصيد المقتول بالتّفنك (١) لأجل كونه مذكّى عنده بفتوى من يرى حلّيته ، واشتراه المشتري أيضا بتقليده ، وأجريا العقد ، ثمَّ وقع بينهما التنازع ، وترافعا عند من لا يرى حلّيته ، يجب عليه الحكم بصحّة البيع ، لأنّ فتواه صحّة بيعه للمجتهد المفتي بحلّيته وطهارته ولمقلّده ، وقد وقع ذلك من المتبايعين الكذائيّين ، فيكون صحيحا ممضى عنده أيضا. وهكذا في جميع الوقائع.

نعم ، يشترط حينئذ في الحكم بالصحّة في تلك الموارد عمل المتنازعين معا بمقتضى فتوى المجتهد الآخر ، ولا يكفي تقليد أحدهما ، لما مرّ من عدم دليل على كفاية تقليد أحدهما فيما يكون الأمر بين اثنين.

نعم ، لو لم تكن الواقعة ممّا يكون الأثر المترتّب على العمل بين المتنازعين ، فيكفي تقليد أحدهما ، كمسألة عقد البكر نفسها أو الوليّ ، فلو عقدت البكر نفسها لزوج بتقليد مجتهد يرى استقلالها ، وقبله الزوج بتقليده أيضا ، ثمَّ تنازع الوليّ عند من يرى استقلاله ، يجب الحكم بصحّة العقد ، إذ لا تعلّق للوليّ في أثر العقد الذي هو حلّية البضع ، ولا يحتاج تقليد البكر إلى رضى الوليّ.

ولو كان الحاكم في الأمثلة المذكورة في المعاملات ممّن لا يقول بلزوم التقليد في المعاملات ، بل يكتفي بالمطابقة لرأي مجتهد ، فبنى المتنازعان الأمر أولا على أحد الطرفين ، يجب على هذا الحاكم الحكم بصحّته بناء على رأيه أيضا.

__________________

(١) كلمة فارسية تعني : البندقية.

٩٨

وكذا لو اكتفى بالتقليد اللاّحق على العمل وقلّدا بعد العمل أيضا. وهكذا.

والمحصّل : أنّه يجب على الحاكم المترافع إليه أن يستخرج الأول فتواه في كلّ الواقعة المتنازع فيها ويحكم بمقتضاها ، سواء كانت مطابقة لفتواه في جزء الواقعة أو لا ، فيرى أنّه إذا سئل منه : ما رأيك في الحبوة إذا تنازع فيها الورثة؟ يفتي بأنّها للأكبر مجّانا ، فيحكم به في الواقعة إذا تنازعا قبل رضاء الطرفين وبنائهما على تقليد ، إذ ليس للواقعة جزء آخر.

ولو بنى المتنازعان فيها على تقليد من لا يرى مجّانا ، فيزيد في الواقعة جزء آخر ، لأنّ التنازع إنّما هو في الحبوة التي بنيا فيها الأمر على تقليد.

ويرى أنّه إذا سئل عنه : ما رأيك في الحبوة التي أخذها الأكبر مجّانا بتقليد من يراها كذلك وأعطاها سائر الورثة أيضا كذلك ، فهل يصير مالا حلالا له؟ يفتي بأنّها ماله ، فيجب الحكم به في الواقعة أيضا.

ولو سئل : أنّه لو أخذها الأكبر بتقليد من يراها مجّانا ولكن لم يرض به الباقون؟ فيفتي بأنّه لا يكفي تقليده فقط.

ويرى أنّه إذا سئل : ما فتواك في حقّ باكرة زوّجت نفسها بشخص بتقليدهما لمن يرى استقلالها؟ يفتي بالصحّة ، فيجب عليه الحكم بها أيضا بعد وقوع العقد ، ولو فرض أنّ فتواه على عدم الصحّة فيحكم به أيضا.

ولو تنازع الجاني والمجنيّ عليه في قدر الدّية المختلف فيها عند حاكم فيجب حكمه بمقتضى رأيه ، ولا يفيد هنا بناء أحدهما أو كليهما على فتوى غيره ، إلاّ إذا عملا بها وأعطى الجاني الدية بمقتضاها وأخذها المجنيّ عليه كذلك.

٩٩

وبالجملة : اللاّزم على الحاكم في جميع الوقائع تصوير فتواه في كلّ الواقعة إذا سئل عنها فيها والحكم بها.

فرع : لو ترافع المتنازعان في أمر قبل بنائهما على أحد الطرفين بالتراضي أو إجراء عقد فيه ، وحكم الحاكم بمقتضى رأيه ، فهل يجوز للمتنازعين بعده البناء على تقليد الآخر في هذه الواقعة لو رضيا ويترتّب عليه أثره ، أم لا؟

الظاهر : الثاني ، لاستقرار الأمر على ما حكم به فلا ينقض ، فلو حكم الحاكم بإحباء شي‌ء للولد الأكبر أو بكونه له مجانا بعد الترافع أو بسقوط الشفعة ، فلو تراضيا بخلافه بعد ذلك لم يترتّب عليه أثر ، فلا يصير الأخذ بالشفعة لازما ، ولا الشي‌ء المحبوّ ملكا لغير الكبير ، بل لو أرادوا اللزوم احتاج إلى عقد آخر ناقل شرعيّ ، كبيع أو صلح أو هبة.

المسألة الثالثة عشرة : قد عرفت أنّه يجب على الحاكم إمضاء حكم حكم به حاكم آخر مقبول الحكم عنده في واقعة خاصّة ، ولا يجوز له نقضه. والظاهر أنّه إجماعيّ ، ونقل الإجماع عليه مستفيض ، والأخبار تدلّ عليه كما مرّ. والمراد بإمضائه : العمل بمقتضاه.

ولو أنكر المحكوم عليه حقّ المحكوم له فحضرا عند الحاكم الثاني وادّعى المحكوم له الحقّ وأنكر غريمه وتمسّك المحكوم له بحكم الحاكم الأول ، يجوز للثاني الحكم به له أيضا ، كما يجوز له الحكم بالبيّنة والحلف.

والحاصل : أنّ الحكم السابق أيضا طريق لإثبات الحقّ كالبيّنة واليمين والإقرار.

ويمكن أن يكون قوله في بعض الروايات المتقدّمة : « أو سنّة قائمة » ‌

١٠٠