مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

كذلك.

أو يكون لاختلاف العلماء في المسألة ، كما إذا تنازع الولد الأكبر مع غيره في الحبوة مجّانا أو غير مجّان ، أو الزوجة مع الولد في الإرث من الأراضي وعدمه ، أو الأب مع البنت البالغة في ولاية العقد ونحوها.

أو يكون لأجل عدم علم المدّعى عليه بالحقّ المدّعى ، كما إذا ادّعى أحد حقّا على مورّث الآخر وأجاب هو بعدم العلم ، أو عليه بعينه وقال : لا أدري ، أو شيئا في يده بأنه مسروق منّي ، ونحو ذلك ، أو يكون لإنكار المدّعى عليه الحقّ.

وعلى جميع تلك التقادير : إمّا يكون عدم أهليّة غير الأهل الذي يترافعان إليه حينئذ لكونه جاهلا ، أي لعدم اجتهاده ولا تقليده في المسألة.

أو يكون لعدم كونه مجتهدا مع علمه بحكم المسألة تقليدا لمجتهد حيّ يتعسّر الوصول إليه ، أو لكونه فاسقا ، أو لفقد شرط آخر من شرائط القضاء كالبلوغ أو الذكورة أو البصر ـ على القول باشتراطه ـ ونحو ذلك.

وعلى التقادير : إمّا يكون ذلك الذي لا يتأهّل للقضاء جالسا مجلس الحكم تغلّبا وجورا.

أو لا ، بل يكون هناك شخص لا يتولّى القضاء فيريدون أن يترافعوا إليه.

وهذه صور كثيرة تتجاوز عن المائة بل المائتين ، والأدلّة التي ذكروها للجواز على فرض تماميّتها لا تجري إلاّ في أقلّ قليل من تلك الصور ، فلا تفيد لحكم الكلّية.

والتحقيق : أنّ ما يجوز الاستناد إليه في ذلك المقام ليس إلاّ دليل نفي الضرر ، وجواز التوصّل إلى الحقّ بكلّ ما أمكن لانتفاء الضرر أيضا. وهو‌

٤١

لا يجري في تلك الصور ، إلاّ في جواز ترافع من يعلم يقينا حقّه ثابتا ، ولا يمكنه التوصّل إلاّ بذلك ، فيجوز له الترافع إلى غير الأهل لنفي الضرر الخالي عن المعارض بالمرّة.

إذ ليس سوى مثل صحيحة ابن سنان المتقدّمة (١). وهي مخصوصة بما إذا حكم بغير حكم الله ، والمفروض أنّ المدّعي يعلم ثبوت حقّه.

ومثل المقبولة الناهية عن التحاكم إلى السلطان والقضاة ، وأنّ ما يحكم به له سحت ولو كان حقّا ، فإنّ فيها : عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان ، أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : « من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّا ثابتا له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) » قلت : فكيف يصنعان؟ قال : « ينظران من كان منكم » الحديث (٢).

وهي ـ مع اختصاصها بمثل السلطان والمتولّين لمنصب القضاء بغير حقّ ـ ظاهرة في صورة إمكان الرجوع إلى الأهل والتوصّل به إلى الحقّ ، فتبقى صورة العدم والرجوع إلى غير السلطان والقضاة تحت إطلاق نفي الضرر بلا معارض ، بل وكذلك الرجوع إلى السلطان والقضاة ، كما يأتي.

ومثل الصحيحة والمقبولة الآمرة بالرجوع إلى الأهل. واختصاصها أيضا بصورة الإمكان واضح.

فلا يكون لأدلّة نفي الضرر معارض ، إلاّ في صورة عدم علم المترافع‌

__________________

(١) في ص : ٤٠.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ ـ ١٠ ، وج ٧ : ٤١٢ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ ـ ٥١٤ و ٣٠١ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٦ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

٤٢

إليه بالحقّ للمدّعي ، وحكم بالظنون التي لم يثبت اعتبارها في حقّه ، كالبيّنة الغير المفيدة للعلم أو الإحلاف ، أو ردّ الحلف ، أو الاستصحاب ، أو نحوها ، فإنّه تعارضها حينئذ أدلّة حرمة المعاونة على الإثم ، ولكنّهما يتساقطان ، فيبقى أصل الجواز خاليا عن المعارض ، ولكنّ الثابت منه ليس إلاّ الجواز للمدّعي العالم بالحقّ.

وأمّا المترافع إليه ، فلا يجوز له قبول المحاكمة أصلا ، إلاّ إذا علم هو أيضا ثبوت الحقّ له علما واقعيّا ، لا بمثل البيّنة والإحلاف ، لأنّه ما لم يعلم واقعا ثبوت الحقّ له لا يعلم ضررا عليه ، ولا منكرا من المدّعى عليه ، حتى تجري في حقّه أدلّة نفي الضرر ، أو وجوب النهي عن المنكر ، فلا يجوز له الحكم بالظنون التي تجوز للأهل كالبيّنة والاستصحاب واليمين ونحوها.

نعم ، لو علم ذلك يجوز له من باب النهي عن المنكر أيضا ، كجواز ترافع المدّعي.

ويحلّ للمدّعي العالم بالحقّ أخذ ما أخذ بحكمه ، ولكن لا يثبت حينئذ قضاء شرعيّا يجب على سائر الحكّام بعده إنفاذه ، ولا على المقتدرين على الإجراء إجراءه ، لأنّهم أيضا لو علموا بالحقّ كعلمه لكان واجبا على أنفسهم من باب النهي عن المنكر ، وإن لم يعلموا فمن أين يعلمون حقّية حكمه ، وجريان أدلّة نفي الضرر والنهي عن المنكر في حقّه حتى يجب عليهم إنفاذه؟!

بل يكون مثل ما إذا كان مال من مورّث عند شخص وسمع ذلك الشخص وحده إقرار المورّث بأنّه مال زيد ، فإنّه يجوز له إعطاؤه إيّاه ، ولكن لو ادّعى الوارث عليه تسمع دعواه ، ولا يجب على الحكّام قبول قوله.

٤٣

وظهر من ذلك أنّ الجائز من تلك الصور المتكثّرة هذه الصورة فقط ، فإنّها جائزة حتى بالرجوع إلى السلاطين الجبابرة وقضاة الجور.

والمقبولة المتقدّمة وإن كانت من جهة التعليل المذكور فيها عامّة لصورة إمكان الأهل وعدمه ، ولكن تعارضها أدلّة نفي الضرر بالعموم من وجه ، فيرجع إلى أصل الجواز.

ويمكن إخراج صورة أخرى أيضا بأدلّة وجوب النهي عن المنكر ، وهو : ما إذا كان مجتهد حيّ واحد تعذّر أو تعسّر الوصول إليه ، أو مجتهدان أو أكثر كذلك ، متّفقان في المسألة المتنازع فيها ، وكانت المسألة ممّا يجب بناء الأمر على التقليد فيها ، فيجوز للمقلّد العادل العالم برأي المجتهد الحيّ الحكم بمقتضى فتواه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كما إذا تحقّق عشرة أرضعه بين صبيّ وصبيّة ، ثمَّ تزوّج الصبيّ بالصبيّة بعد البلوغ ، ثمَّ تنازعا ، وكان المجتهد أو المجتهدون الأحياء المتعسّر الوصول إليهم متّفقين في نشر الحرمة بالعشر وعدمه. وكذلك إذا وقع نكاح البالغة الباكرة بإذن الوليّ (١) وتنازع الزوجان ، وأمثال ذلك ، فتأمّل.

فرع : لو ترافعا إلى غير الأهل حيث يحرم ، فحكم ، فهل يجوز قبول حكمه ، أم يجب الرّد إن أمكن؟ فيه تفصيل.

وهو : أنّه إذا حكم ، فإن كان المحكوم به ممّا يباح برضى المحكوم عليه ، فلا بأس له في العمل بمقتضى حكمه إن رضي ، للأصل ، إلاّ أنّ العمل ليس حينئذ بالحكم.

__________________

(١) يعني بإذن الولي من دون إذنها ورضاها.

٤٤

وإن لم يكن كذلك ، بل كان منوطا بالشرع ـ كالحلف والنكاح والطلاق وأمثالها ـ فلا يجوز.

نعم ، إذا حكم في مثله وعلم المحكوم عليه مطابقته للواقع فيما هو من باب الفتوى ، فيجب عليه العمل بمقتضاه ، لأجل ذلك.

هذا بالنسبة إلى المحكوم عليه.

وأمّا المحكوم له ، فإن كان المحكوم به من الثاني لم تجز متابعته أصلا.

وإن كان من الأول جاز عمله بمقتضاه إن رضي المحكوم عليه ، وإلاّ فلا ، سواء كان حقّا أم لم يكن.

أمّا الثاني فظاهر. وأمّا الأول فللمقبولة ، وقد ادّعى والدي العلاّمة ـ طاب ثراه ـ في معتمد الشيعة الإجماع عليه.

ولا تنافيه موثّقة ابن فضّال ـ وفيها : ثمَّ كتب تحته : « هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي ، فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم » (١) ، حيث دلّت بالمفهوم أنّه معذور إذا لم يعلم أنّه ظالم ـ لعموم القاضي فيها ، فيجب حمله على أهله.

ولكنّ الحكم في المقبولة مختصّ بما إذا تحاكما إلى الطاغوت ، ولدلالته على المبالغة يختصّ بغير الأهل الذي جعل الحكم منصبا له ـ كالسلاطين والقضاة وأمثالهم ـ فالتعدّي إلى من حكم نادرا ولم يجعل الحكم لنفسه منصبا غير معلوم ، مع أنّ مقتضى الأصل حلّيّته لكونه حقّا له.

والتعدّي لاشتراك العلّة قياس باطل.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢١٩ ـ ٥١٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٥ أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٩.

٤٥

ولا فرق في ذلك بين طواغيت المخالفين والموافقين ، للإطلاقات.

المسألة الثامنة : إذا كان مجتهدان متساويان ، فالرعيّة بالخيار فيهما في الترافع إليهما ، لبطلان الترجيح بلا مرجّح.

ولو تفاوتا في العلم ، فهل يتعيّن الأعلم ، أم لا؟

قال في المسالك والمفاتيح : فيه قولان ، مبنيّان على وجوب تقليد الأعلم وعدمه (١).

قال في التحرير : يكون الخيار للمدّعي مع التعدّد مطلقا.

ثمَّ قال : ولو تراضيا بالفقيهين واختلف الفقيهان نفذ حكم الأعلم الأزهد (٢).

وذهب جماعة إلى الأول ، بل هو الأشهر كما في المسالك (٣) ، وبعضهم نفي الخلاف عنه عندنا ، ونقل المحقّق الأردبيلي أنّه قد ادّعي الإجماع عليه ، ونقل منع الإجماع أيضا ، وقال : ويشعر بعدم الإجماع كلام الفاضل في نهاية الأصول.

وفي المسالك : إجماع الصحابة على جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل ، واختاره المحقّق (٤) ، وظاهر الأردبيلي الميل إليه ، كما أنّ ظاهر المسالك التردّد (٥).

والحقّ هو : الجواز وخيار الرعيّة مطلقا ، للأصل ، والإطلاقات ، ويؤيّده إفتاء الصحابة مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضليّة ، وعدم الإنكار‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٥٣ ، المفاتيح ٣ : ٢٤٧.

(٢) التحرير ٢ : ١٨١.

(٣) المسالك ٢ : ٣٥٣.

(٤) الشرائع ٤ : ٦٩.

(٥) المسالك ٢ : ٣٥٣.

٤٦

عليهم.

احتجّ القائلون بوجوب تقديم الأعلم بأنّ الظنّ بقوله أقوى ، والأقوى أحرى بالاتّباع.

لأنّ أقوال المفتي كالأدلّة للمقلّد ، ويجب اتّباع أقواها.

ولأنّه أرجح ، فاتّباعه أولى ، بل متعيّن.

ولما بني عليه أصول مذهبنا من قبح تقديم المفضول على الأفضل.

وللأخبار ، منها : المقبولة : قلت : فإن كان كلّ واحد منهما اختار رجلا وكلاهما اختلف في حديثنا؟ قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » (١).

ورواية ابن الحصين : في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما. في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين ، واختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ فقال : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فلينفذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر » (٢).

ورواية النميري : سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال : « وكيف يختلفان؟ » قلت : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، فقال : « ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي‌

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ١٠ ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ١٨ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٥ ، الاحتجاج ٢ : ٣٥٦ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٥ ـ ١٧ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٣ ، الوسائل ٢٧ : ١١٣ أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٠.

٤٧

حكمه » (١).

والجواب عن الأول ، أمّا أولا : فبأنّه إنّما يتمّ على القول بأنّ متابعة المقلّد لقول مجتهده لأجل أنّه محصّل للظنّ بالواقع ، وهو ممنوع ، لجواز أن يكون هذا حكما آخر نائبا مناب الحكم الواقعي وإن لم يحصل الظنّ به ، كالتقيّة وشهادة الشاهدين واليمين.

ولو كان بناء القضاء على الظنون لزم عدم سماع دعوى كنّاس على مجتهد أنه آجره للكناسة ، ودعوى شرّير متغلّب على مجتهد عادل في دراهم ، ولزم أن يقضي بالشاهد الواحد إذا كان مفيدا للظنّ ، سيّما إذا كان المدّعي معروفا بالصلاح والسداد ، والمدّعى عليه بخلافه.

وحينئذ ، فلا دليل على اعتبار الأقوى ، بل لا معنى للأقوى والأقرب والأرجح.

وأمّا ثانيا : فلمنع إطلاق كون الظنّ بقوله أقوى ، إذ مع موافقة قول غير الأعلم لقول مجتهد آخر حيّ أو ميّت يزعمه الرعيّة أعلم ـ بل مع احتمالها ـ كيف يكون الظنّ من قول الأعلم أقوى؟! وأيضا قد يتمكّن غير الأعلم من الأسباب ما لا يتمكّن منها الأعلم ، فيكون الظنّ الحاصل من قوله أقوى.

وأمّا ثالثا : فلمنع وجوب تقديم الأقوى ، غاية الأمر : الرجحان.

ومن هذا يظهر جواب الثاني أيضا.

وعن الثالث : بأنّه قياس للقضاء والفتوى على الإمامة ، فإنّ قبح تقديم المفضول في أصول مذهبنا في الأخير ، والقياس باطل.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٢٣ أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٥.

٤٨

مع أنّه مع الفارق ، كما صرّح به المحقّق الأردبيلي ، قال : لأنّ الإمامة كالنبوّة في الاتّباع المحض له والتفويض إليه بالكلّية ، ويحكم بالعلم البديهي ويحتاج إلى علم إلهي في جميع الأمور ، ومنشأ الفتوى والحكم النصّ المستفاد عن بعض القرائن ، وقد يفرض وصول مفضول إلى الحقّ دون الفاضل ، ولا محذور فيه ، ولا يمكن ذلك في أصل الإمامة والنبوّة ، فإنّ المدار هنا على العلم الحقّ ، ولهذا جوّز إمامة المفضول للفاضل في الصلاة ، وجوّز للإمام نصب القاضي من غير اشتراط تعذّر الوصول إليه.

وعن الرابع : بأنّ الأخبار مختصّة بما إذا اختار كلّ من المترافعين مجتهدا ، أو ترافعا إلى مجتهدين فاختلفا ، فلا يمنع من جواز اختيارهما غير الأعلم ، أو من إمضاء حكمه بعد ترافعهما إليه وحكمه ، لو رجع أحدهما ، مع أنّها تدلّ على اشتراط الأورعيّة أو الأعدليّة في تقديم الأعلم أيضا ، فلا يثبت مطلقا.

والقول : بأنّ أصل العدالة الحاجزة عن المسامحة أو الكذب حاصل لهما ، فلا اعتبار بزيادة العدالة.

اجتهاد في مقابلة النّص ، ومعارض بأنّ أصل العلم الموجب لفهم الأحكام حاصل لهما ، فلا وجه لاعتبار الزيادة إلاّ تقوية الظنّ لقوّة فهمه ، وهي أيضا متحقّقة في اعتبار الأعدليّة من جهة تقوية الظنّ في بذل غاية جهده ، واستفراغ وسعه ، وإخباره برأيه ، وعدم الميل في الأحكام ولو مع البواعث القويّة.

مع أنّ الوارد في المقبولة الاختلاف في الحديث ، ولا شكّ أنّ مدخليّة الأعدليّة والأصدقيّة في الترجيح حينئذ أكثر من الأعلميّة.

٤٩

وظهر ممّا ذكرنا : أنّ الحقّ اختصاص ترجيح الأعلم بمورد النصوص ، وهو ما إذا اختلف المترافعان أولا في الاختيار كما في المقبولة ، أو اتّفقا على رجلين فاختلفا كما في الروايتين ـ كما هو ظاهر الفاضل في التحرير (١) ـ وأنّ اللاّزم ترجيحه حينئذ أيضا هو الأعلم والأعدل معا ، فلو فضل أحدهما في أحدهما وتساويا في الآخر أو رجح الآخر في الآخر فلا يجب الترجيح.

ثمَّ المراد بالأعلميّة والأعدليّة : الزيادة الظاهرة الكثيرة ، ولا اعتبار باليسير منها ، لعدم اتّفاق التساوي الحقيقي غالبا.

والمراد بالأعلميّة : الأعلميّة في الأحاديث ، وفي دين الله ـ كما في الروايتين ـ فلا اعتبار بالأعلميّة في العلوم الأخر ، كالطبيعي والرياضي والطبّ ، بل الكلام ، ولو باعتبار بعض مسائلها المعيّنة في الأحكام ، لعدم إيجاب ذلك الأعلميّة في الأحاديث وفي دين الله.

والأعلميّة في الأحاديث تكون تارة : بأكثريّة الإحاطة بها ، والاطّلاع عليها.

واخرى : بالأفهميّة لها ، وأدقّية النظر ، وأكثريّة الغور فيها.

وثالثة : بزيادة المهارة في استخراج الفروع منها ، وردّ الجزئيّات إلى كلّياتها.

ورابعة : بزيادة المعرفة بصحيحها وسقيمها وأحوال رجالها ، وفهم وجوه الخلل فيها.

وخامسة : بأكثريّة الاطّلاع على ما يتوقّف فهم الأخبار عليها من علم اللغة وقواعد العربيّة والنحو والصرف والبديع والبيان ونحوها.

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٨١.

٥٠

وسادسة : باستقامة السليقة ، ووقادة الذهن ، وحسن الفهم فيها ، كما أشار إليه في بعض الأخبار المتقدّمة بقوله : « وحسن الاختيار ».

وسابعة : بأكثريّة الاطّلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في فهم الأخبار ، ومواقع الإجماعات ، وأقوال العامّة التي هي من المرجّحات عند التعارض ، وفي فهم القرآن الذي هو أيضا كذلك.

والأعلم الذي يمكن الحكم الصريح بوجوب تقديمه هو : الأعلم بجميع تلك المراتب ، أو في بعضها مع التساوي في البواقي. وإلاّ فيشكل الحكم بالتقديم.

ومن ذلك تظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتّة ، والله سبحانه العالم.

المسألة التاسعة : إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر يتخيّر فيهما الرعيّة‌ ، فالحكم لمن اختاره المدّعي ، وهو المتّبع إجماعا ، له ، ولأنّه المطالب بالحقّ ولا حقّ لغيره أولا ، فمن طلب منه المدّعي استنقاذ حقّه يجب عليه الفحص ، فيجب اتّباعه ، ولا وجوب لغيره ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال إذا كان كلّ منهما مدّعيا من وجه ، كما إذا اختلف رجلان في امرأة باكرة رشيدة زوّجت نفسها لأحدهما ، وزوّجها أبوها للآخر ، ولم تكن تحت يد أحدهما.

وكما إذا اختلف أكبر الذكور مع غيره فيما ليس في يد أحدهما ممّا اختلف الفقهاء في أحبائه أم لا.

وكما إذا ادّعى مدّعيان شيئا في يد ثالث معترف بأنّه من أحدهما ، ونحو ذلك.

٥١

وإنّما قيّدنا في المثال الأول بقولنا : ولم تكن تحت يد أحدهما ، وفي المثال الثاني : بما ليس في يد أحدهما ، وكذلك الثالث ، لأنّه مع كونه في يد أحدهما يكون الآخر هو المدّعي ، ويقدّم من قدّمه.

ثمَّ إنّا بيّنا المقدّم من الحاكمين في مثل ذلك في مسألة الاختلاف في الحبوة من كتاب الفرائض ، وأنّه هو الأعلم والأعدل مع اختلاف الحاكمين في الوصفين ، تبعا للحكم بتقديمه في الروايات المتقدّمة.

وأنّه يقدّم من سبق إليه أحد المدّعيين فحكم (١) ، لأنّه حاكم حكم بحكم لمطالب ذي حقّ فيجب اتّباعه وإمضاؤه ، ويحرم الردّ عليه ونقض حكمه ، والرادّ عليه كالرادّ على الله ، والمستخفّ بحكمه كالمستخفّ بحكم الإمام ، كما في المقبولة.

ولو استبق كلّ منهما إلى حاكم ، فإن سبق أحدهما بالحكم فيقدّم حكمه.

وإن أحضر كلّ من الحاكمين غريم من ترافع إليه ، فإن أجاب أحد الخصمين دعوة حاكم خصمه فالحكم حكمه.

وإن أبى كلّ إلاّ حكم حاكمه ، فإن سبق أحد الحاكمين على الحكم بالغائب فهو المتّبع.

وإن لم يسبق ـ إمّا لعدم كون رأيهما الحكم على الغائب ، أو لاشتباه السابق منهما وعدم إمكان التعيين ، أو لاتّفاق التقارن في الحكم ـ فيشكل الأمر.

والظاهر في غير الأخير الرجوع إلى القرعة ، لأنّها لكلّ أمر مجهول.

__________________

(١) في « س » : ليحكم.

٥٢

وفي الأخير عدم نفوذ شي‌ء من الحكمين ، لعدم ثبوت نفوذ مثل ذلك.

المسألة العاشرة : ثبوت الاجتهاد‌ ـ بالعلم الحاصل من الاستفاضة العلميّة ، والقرائن المفيدة للعلم ، والمخالطة الموجبة له لمن له رتبة فهمه ـ واضح.

وبالاستفاضة الظنّية ـ بل بمطلق الظنّ ـ محلّ الخلاف. والأقوى عدم الثبوت ، وفاقا للمعارج والذّريعة والمعالم والوافية ومعتمد الشيعة وتجريد الأصول لوالدي (١) ، بل الأكثر كما قيل : للأصل ، والظواهر الناهية عن اتّباع الظنّ.

وخلافا للفاضل في التهذيب ، فقال بكفاية غلبة الظنّ ، وحكي عن مبادئه ونهايته أيضا (٢) ، وعن شرح المبادي لفخر المحقّقين والمنية للعميدي والذكرى والروضة والجعفريّة والمقاصد العليّة (٣) ، وبعض من عاصرناه.

لإطلاق آية السؤال (٤).

ولعدم وسيلة للمقلّد إلى تحصيل العلم بالاجتهاد.

وللزوم العسر والحرج لولاه.

ولأصالة عدم لزوم تحصيل العلم وعدم وجوب الرجوع إلى المعلوم اجتهاده.

ولعدم ثبوت اشتغال الذمّة بالرجوع إلى من ظنّ اجتهاده.

__________________

(١) معارج الأصول : ٢٠١ ، الذريعة ٢ : ٨٠١ ، معالم الأصول : ٢٣٩.

(٢) مبادي الوصول : ٢٤٧.

(٣) الذكرى : ٣ ، الروضة ٣ : ٦٧.

(٤) النحل : ٤٣.

٥٣

ويضعّف الأول : بمنع شمول إطلاق الآية لمن ظنّ اجتهاده ، فإنّ كون من ظنّ أنّه من أهل الذكر من أهله غير ثابت.

والثاني : بأنّ العامّي وإن لم يتمكّن بنفسه واختباره (١) من تحصيل العلم ، ولكنّه يتمكّن من تحصيله من الاستفاضة والأخبار المحفوفة بالقرائن المفيدة للقطع ، كيف؟! وإنّا نرى العوام والمقلّدين مع كثرتهم وعدم حصرهم جازمين قاطعين باجتهاد جمع من مجتهدي عصرنا من المشايخ بحيث لا يرتابون فيه أصلا ، بل وكذا باجتهاد جمع من المجتهدين الماضين ، وذلك أقوى تضعيف لذلك الدليل.

ولو سلّمنا عدم إمكان تحصيله العلم ، فهو أيضا غير ضائر بعد حجّية الظنّ المخصوص له ، كشهادة العدلين.

ومنه يعلم ضعف الثالث أيضا. مع أنّه إن فرض تعسّر تحصيل المجتهد المعلوم اجتهاده فنقول : إن حصّله يرجع إليه ، وإلاّ فعليه ما عليه لو لا المظنون اجتهاده أيضا.

والرابع : بمعارضته مع أصول أخر أقوى ممّا ذكر ومزيله له.

ومنه يعلم ضعف الخامس أيضا ، فإنّ ذلك إنّما يفيد لو لم يعارضه أصل آخر وثبت من أدلّة التقليد جواز الرجوع إلى القدر المشترك.

نعم ، يستثنى من الظنّ المنهيّ عن اتّباعه هنا شهادة العدلين ، بل من غير ملاحظة إفادة الظنّ أيضا لو لم يظنّ خلافها ، وفاقا للمحكي عن المعالم والمقاصد العلّية ومعتمد الشيعة والتجريد (٢) ، لأصالة قبول شهادة العدلين‌

__________________

(١) في « ح » : واختياره.

(٢) معالم الأصول : ٢٣٩.

٥٤

وحجّيتها ، كما بيّناها مفصّلا في كتاب عوائد الأيّام (١).

ويدلّ عليها قول الصادق عليه‌السلام ـ في صحيحة حريز ـ لابنه إسماعيل : « فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم » (٢).

وإطلاق مثل رواية السكوني : « إنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيّا ومعه شاهد آخر » (٣).

وصحيحة عمّار : « إذا كان خيّرا جازت شهادته لأبيه ، والأب لابنه ، والأخ لأخيه » (٤) ، وغير ذلك. وكونه في مقام بيان حكم آخر لا يضرّ ، كما بينّاه في موضعه.

ومرسلة يونس : « استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين » الحديث (٥).

فإنّ ولاية الاجتهاد أيضا حقّ ثابت من الله ومن حججه للمجتهد.

خلافا للمحكيّ عن الذريعة والمعارج والجعفريّة والوافية (٦) ، للأصل المندفع بما مرّ.

وهل يشترط كون العدلين مجتهدين ، أم لا؟

الظاهر : نعم ، بمعنى : كونهما مقتدرين على الترجيح في الجملة في‌

__________________

(١) عوائد الأيام : ٢٧٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٩ ـ ١ ، الوسائل ١٩ : ٨٢ أبواب أحكام الوديعة ب ٦ ح ١.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٨٦ ـ ٧٩٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٨ أبواب الشهادات ب ٢٦ ح ٥.

(٤) الكافي ٧ : ٣٩٣ ـ ٤ ، الفقيه ٣ : ٢٦ ـ ٧٠ ، التهذيب ٦ : ٢٤٨ ـ ٦٣١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٧ أبواب الشهادات ب ٢٦ ح ٢.

(٥) الكافي ٧ : ٤١٦ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ ـ ٥٦٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم ب ٧ ح ٤.

(٦) الذريعة ٢ : ٨٠١ ، معارج الأصول : ٢٠١.

٥٥

المسائل الشرعيّة ، بناء على ما سيأتي في بحث الشهادات ، وذكرناه في العوائد (١) ، من أنّ الشهادة المقبولة إنّما هي المستندة إلى الحسّ عرفا ، والمحسوس فيما نحن فيه هو مشاهدة ترجيحاته المطابقة للقواعد وملاحظتها ، ولا يتمكّن غير المجتهد من فهم المطابقة والصحّة ، إذ كلّ من يدرك ذلك فهو مجتهد. وقياس الاجتهاد على النظم ـ حيث إنّ لغير الشاعر درك موزونيّة الشعر ـ باطل.

نعم ، يكفي للشاهد كونه متجزّيا ، بل يكفي كونه مدركا لصحّة الترجيح الموقوف على تمكّنه من الترجيح ، وإن لم يتكرّر ذلك منه بعد ، بحيث تحصل له الملكة الحاصلة بتكرّر الترجيحات والقوّة القدسيّة ، فتأمّل.

وإن شئت قلت باشتراط كونهما عالمين بمقدّمات الاجتهاد ، مشرفين على حصول الاجتهاد بمعنى الملكة ، ولكن فهم ذلك على العوام مشكل.

__________________

(١) عوائد الأيام : ٢٧٣.

٥٦

البحث الثاني

في آداب القاضي ووظائفه‌

اعلم أنّهم ذكروا آدابا كثيرة ووظائف عديدة للقاضي ، بعضها يتعلق بالنائب الخاصّ ، وبعضها مشترك بينه وبين العامّ ، ولعدم ترتّب فائدة على الأول نقتصر ها هنا على الثاني.

ثمَّ الآداب المشتركة على قسمين :

أحدهما : ما هو أدب ووظيفة لمن اتّخذ القضاء شغلا ومنصبا ، وصار علما بذلك مرجعا للأنام ، وجلس مجلس الحكومة ، وتشمّر لتلك الرئاسة العامّة ، فتولّى ذلك الشغل الخطير ، وتكفّل لذلك المهمّ العظيم ، واتّخذه الرعيّة حاكما وقاضيا ، وعرف بذلك ، إمّا لأجل نصب الإمام له بخصوصه ، أو للوجوب العينيّ أو الكفائيّ له في زمان الغيبة.

والثاني : ما هو أدب ووظيفة لمطلق الحكم ، ولو لمن لم يعرفه الناس ، واتّفق له أن يحكم حكما واحدا.

فما كان من الأول يكون آداب المنصب والرئاسة ، والثاني آداب الحكم ولو كان واحدا.

ومثل الفريقين مثل أئمّة الجماعات ، فإنّ منهم من اتّخذ الإمامة ديدنا ، وفرّغ نفسه لها في جميع الأوقات أو أكثرها ، ومنهم من ليس كذلك وإن ائتمّ به من يعرفه بالعدالة مرّة أو مرّات.

ويمكن أن يكون نظر كثير من الأصحاب ـ حيث قرّروا عنوانين ،

٥٧

أحدهما لآداب القاضي ، والثاني لوظائف الحكم ـ إلى ذلك أيضا ، وإن أدخل بعضهم بعضا من كلّ منهما في الآخر ، ونحن أيضا نذكرهما في عنوانين وإن دخل بعض من الثاني في الأول ، لأنّ الأمر فيه سهل.

فلنذكر ها هنا ما يتعلّق بالأول ، ونذكر الباقي في بحث وظائف الحكم ، ونورد ما يتعلّق بالأول في طيّ مسائل :

المسألة الأولى : ينبغي له أن يستحضر حكمه أهل العلم ، ويشاورهم ، ويناظرهم ، لا لتقليدهم ، بل لينبّهوه على الخطأ إن وقع منه سهوا وغفلة ، ويستوضح منهم ما عسى أن يشكل عليه.

ومنه يظهر أنّه لا ينحصر من ينبغي إحضاره بالمجتهدين ، إذ يجوز لغير المجتهد تنبيه المجتهد إذا نسي أو غفل ، فإنّه قد يعرف المفضول ما لا يعرفه الفاضل ، ويتنبّه التلميذ لما لا يتنبّه له الأستاذ. فما في المسالك ـ من أنّ المراد من أهل العلم المجتهد ـ ليس بجيّد.

وأن يجمع ما يتعلّق بكلّ يوم وأسبوع وشهر وسنة من القضايا ووثائقها وحججها ، ويكتب عليها تأريخها وأسامي أهلها ، فإن اجتمع كلّ شهر كتب عليه شهر كذا ، أو سنة فسنة كذا ، أو يوم فيوم كذا ، ليكون أسهل عليه وعلى من بعده من الحكّام في استخراج المطلوب منها وقت الحاجة.

المسألة الثانية : ينبغي له أن يتّخذ كاتبا‌ ، لمسيس الحاجة ، وعمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه.

ويشترط كونه : بالغا ، عاقلا ، مسلما ، عدلا ، بصيرا ، ليؤمن من خيانته وانخداعه.

٥٨

ويستحبّ كونه : فقيها ، جيّد الخطّ ، عفيفا من الطمع ، لئلاّ ينخدع عن غيره بمال ومثله.

وينبغي أن يجلس بين يديه ليملي عليه ويشاهد ما يكتب.

المسألة الثالثة : القضاء في المسجد مكروه مطلقا‌ ، وفاقا للأكثر كما في معتمد الشيعة ، لمرسلة ابن أسباط : « جنّبوا مساجدكم الشرى ، والبيع ، والمجانين ، والصبيان ، والأحكام ، والضالّة ، والحدود ، ورفع الصوت » (١).

ومرسلة الفقيه : « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، ورفع أصواتكم ، وشراءكم ، وبيعكم ، والضالّة ، والحدود ، والأحكام » (٢).

والاستدلال بالنبويّ : « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ، ومجانينكم ، وخصوماتكم » (٣) منظور فيه.

وقيل باستحبابه كذلك (٤) ، لأنّ المسجد للذكر ، ومنه القضاء ، ولكونه أفضل الأعمال اللاّئق بأشرف البقاع.

وقيل بالإباحة كذلك (٥) ، للأصل ، وفعل عليّ عليه‌السلام ، حتى أنّ دكّة قضائه مشهورة.

وقيل بكراهة الدائم دون غيره ، جمعا بين أدلّة المنع والجواز (٦).

والجواب : أمّا عن أول دليلي الاستحباب : فيمنع كون المسجد لمطلق‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٤٩ ـ ٦٨٢ ، علل الشرائع : ٣١٩ ـ ٢ ، الخصال : ٤١٠ ـ ١٣ ، الوسائل ٥ : ٢٣٣ أبواب أحكام المساجد ب ٢٧ ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٥٤ ـ ٧١٦ ، الوسائل ٥ : ٢٣٤ أبواب أحكام المساجد ب ٢٧ ح ٤.

(٣) سنن ابن ماجه ١ : ٢٤٧ ـ ٧٥٠.

(٤) كما في المراسم : ٦٥٦.

(٥) كما في التنقيح ٤ : ٢٤١.

(٦) كما في الدروس ٢ : ٧٣.

٥٩

الذكر ، بل في رواية جعفر بن إبراهيم : « إنّما نصبت المساجد للقرآن » (١).

سلّمنا ، ولكن كون القضاء ذكرا ممنوع.

وأمّا عن ثانيهما : فبأنّه اجتهاد في مقابلة النصّ.

وأمّا عن دليلي الإباحة : فباندفاع الأصل بما مرّ ، وعدم ثبوت فعل عليّ عليه‌السلام. واشتهار الدكّة لا يثبته ، لمنع ثبوتها أولا ، وكونها دكّة قضاء علي عليه‌السلام ثانيا ، وكونها من المسجد في الصدر الأول ثالثا.

وأمّا عن دليل التفصيل : فبأنّ المراد بأدلّة الجواز إن كان أدلّة جواز القضاء في المسجد فلا دليل ، وإن كان أدلّة جوازه مطلقا فالجمع بالتخصيص متعيّن كما هو القاعدة ، مع أنّ هذا الجمع لا شاهد له.

فإن قيل : وجوب القضاء فوريّ ، وهو مناف لكراهيّته.

قلنا : الثابت الفوريّة العرفيّة دون الحقيقيّة ، فيخرج عن المسجد ويقضي.

المسألة الرابعة : قالوا : يكره له اتخاذ الحاجب‌. والمراد به : ما يمنع من وصول المتخاصمين إليه مطلقا.

للنبويّ : « من ولي شيئا من أمور الناس فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله تعالى دون حاجته وفاقته وفقره » (٢).

ولأنّ قضاء حاجتهم مطلوب ، فتركه مكروه ، واتّخاذ الحاجب سببه ، وسبب المكروه مكروه.

وربّما نقل قول بتحريمه عن بعض الفقهاء ، وقرّبه فخر المحقّقين إن كان على الدوام ، واستحسنه الشهيد الثاني (٣). والأقرب : الكراهة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٦٩ ـ ٥ ، التهذيب ٣ : ٢٥٩ ـ ٧٢٥ ، الوسائل ٥ : ٢١٣ أبواب أحكام المساجد ب ١٤ ح ١.

(٢) مستدرك الحاكم ٤ : ٩٣ ، سنن البيهقي ١٠ : ١٠١.

(٣) كل ذلك في المسالك ٢ : ٣٥٨.

٦٠