مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

المالك ، إمّا كونه مجهولا عند غير ذي اليد فظاهر ، وإمّا عنده فكذلك أيضا ، لأجل أنّه يعلم أنّه لا يعلم.

الرابع : كما أنّ مقتضى اليد أصالة الملكيّة فيما يملك كذلك مقتضاها أصالة الاختصاص بذي اليد فيما ليس ملكا‌ ـ كالوقف ـ فلو كان شي‌ء في يد أحد مدّعيا وقفيّته عليه فادّعاه غيره ولا بيّنة له يقدّم قول ذي اليد ، لموثّقة يونس بن يعقوب المتقدّمة (١) ، بل الظاهر الإجماع أيضا.

الخامس : ما ذكر من تقديم قول ذي اليد لدلالة اليد على الملكيّة أو الاختصاص إنّما هو إذا لم يعارضه أصل آخر‌ ، وأمّا إذا عارضه أصل أو استصحاب آخر ففي بعض موارده الخلاف ، وفي بعض آخر يقدّم الاستصحاب كما يأتي.

فلو ادّعى مالك الأرض ملكيّتها والمتشبّث بها وقفيّتها عليه منه ، أو المتشبّث : الإجارة ، والمالك : عدمها ، أو المتشبّث : التحجير ، وغيره أثبت تحجيره السابق ، لا يقدّم قول ذي اليد كلّيّا ، وتحقيق كلّ مسألة مذكور في موضعها.

السادس : هل يختصّ اقتضاء اليد لأصالة الملكيّة أو الاختصاص بالأعيان ، أم يجري في المنافع أيضا؟

لم أعثر بعد على مصرّح بأحد الطرفين ، والظاهر هو الأول ، للأصل ، وعدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان ، واختصاص أكثر الأخبار بها.

أمّا أخبار تعارض البيّنات (٢) والروايتان الأخيرتان فظاهرة ، لأنّ موردها في الأعيان.

__________________

(١) في ص : ٣٣٤.

(٢) انظر الوسائل ٢٧ : ٢٤٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢.

٣٤١

وأمّا رواية حفص (١) ، فلأنّ لفظ : « شيئا » فيها وإن كان نكرة في سياق الشرط المفيدة للعموم إلاّ أنّ رجوع الضمير في قوله : « الشراء منه » و : « أن تشتريه » يوجب إمّا تخصيصه بالأعيان ، أو التوقّف ، كما بيّن في الأصول ، لعدم جواز الشراء في المنافع إجماعا.

وأمّا الموثّقة (٢) ، فلرجوع الضمير المجرور فيها إلى المتاع ، الذي هو من الأعيان.

وأمّا رواية مسعدة (٣) ، فلأنّ الاستدلال بها إنّما هو بواسطة الأمثلة المذكورة فيها ، وكلّها من الأعيان. وأمّا قوله : « والأشياء كلّها على هذا » فإنّما يدلّ على الحلّية دون المطلوب.

نعم ، ظاهر حديث فدك (٤) العموم ، إلاّ أنّه يمكن دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان ، فإنّها المتبادر عرفا من لفظ : « ما في اليد » ، بل الاستيلاء وصدقه على المنافع غير معلوم ، بل نقول : إنّ الكون في اليد والاستيلاء إنّما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارّة ، وأمّا الأمور التدريجيّة الوجود الغير القارّة ـ كالمنافع ـ فلو سلّم صدق اليد والاستيلاء فيها فإنّما هو فيما تحقّق ومضى ، لا في المنافع الآتية التي هي المراد هنا.

ولا يتوهّم أنّ ما ورد في خصوص الرحى الواقعة على نهر ماء الغير والمنع عن سدّ الماء عنه (٥) يثبت اقتضاء اليد في المنافع الملكيّة أيضا ، وكذا ما ذكره جماعة في الميراث ، لأنّ عدم اقتضاء اليد الملكيّة لا ينافي‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص : ٣٣٣.

(٢) المتقدّمة في ص : ٣٣٤.

(٣) المتقدّمة في ص : ٣٣٤.

(٤) المتقدّم في ص : ٣٣٣ و ٣٣٤.

(٥) الوسائل ٢٥ : ٤٣١ أبواب إحياء الموات ب ١٥ ح ١.

٣٤٢

المنع عن سدّ منفعة مخصوصة بدليل آخر ـ كالخبر ، أو الضرر ـ فيختصّ الحكم بمورده.

وأمّا ما قد يدّعى من ظهور اليد في الملكيّة ، وهو حاصل في المنافع أيضا.

ففيه ـ بعد تسليم اليد ـ : منع حجّيّة ذلك الظهور أولا ، ومنع الظهور ثانيا ، لأنّه لو سلّم فإنّما هو في الأعيان مع التصرّفات الملكيّة. وأمّا في المنافع التي أعيانها ملك الغير فلا ، لشيوع مشاهدة تصرّفات الناس في كثير من المنافع من غير تحقّق جهة اللزوم والملكيّة ، فيحمل الجار على حائط جاره أو المشترك ، وينصب الميازيب على داره ، ويطرح الثلج ، ويضع خشب السقف على حائطه ، ويجري الماء من داره إلى داره ، أو ماءه إلى داره ، ويستعمل المسلمون ـ بشاهد الحال ـ بعضهم ماء بعض ، ويجرون مياههم في دورهم ، وقد يغيّرون مواضع الجريان في كلّ عام ، ويبنون الحياض الكبيرة المجدّدة ، إلى غير ذلك.

بل يمكن ادّعاء ظهور عدم الملكيّة في أمثال ذلك ، وابتناء الأمر أولا على المسامحة ، أو شاهد الحال.

السابع : ما ذكر ـ من أنّ الاستيلاء يدلّ على أصالة الاختصاص للمستولي ـ إنّما هو إذا لم يكن هناك مدّع ثبت له اختصاص آخر أيضا ، فلو كان كذلك لا يفيد الاستيلاء شيئا ، لأنّ جهة الاختصاص الثابتة بالاستيلاء غير معيّنة ، وإرجاعها إلى ما يدّعيه المستولي لا دليل عليه بخصوصه حتى يحمل عليه ، والجهة الأخرى للغير ثابتة ، فليس لها معارض معلوم ، ولا رافع كذلك.

فلو ادّعى أحد استئجار شي‌ء في يد غيره ، مدّعيا بأنّه استأجره ،

٣٤٣

تطلب البيّنة من المدّعي ، لأصالة الاختصاص بالمستولي ، فإنّ جهة الاختصاص بينهما واحدة.

بخلاف ما لو ادّعى المالك عدم الإجارة ، لأنّ ملكيّته مختصّة به ، والمستأجر يدّعي الاختصاص الاستئجاري ، ولا دليل عليه.

وكذا لو ادّعى أحد اختصاصه بشي‌ء في يده ، ويستولي عليه من جهة استحقاق منفعته بصلح ونحوه ، وادّعى (١) المالك عدمه ، فلا يقدّم قول المستولي ، لثبوت جهة اختصاص للمالك ، وعدم ثبوت الاختصاص النفعي للمستولي فاحتفظ بذلك ، فإنّه مفيد في كثير من المواضع.

الثامن : يشترط في دلالة اليد على الملكيّة احتمال كونها ناشئة من السبب المملّك‌ ، فلو علم مبدؤها وأنّه ليس سببا مملّكا لا حكم لها ، كيد الغاصب والودعي ، وكما إذا كان شي‌ء لم يحتمل وجها شرعيّا مملّكا ، وكما إذا أخذه المدّعي بحضورنا وأثبت يده عليه ، للإجماع ، واختصاص الأدلّة بغير ذلك.

والمراد باحتمال الاستناد إلى السبب المملّك أيضا : الاحتمال المتحقّق بعد إعمال الأصول والقواعد الممهّدة الثابتة ، فلو كانت هناك يد لم يعلم منشؤها ، ولكن علم مسبوقيّتها بيد عارية أو غصب ، ولم يعلم أنّ اليد الحاليّة هل هي تلك اليد ، أو زالت الاولى وحصلت يد حاصلة من السبب المملّك ، فمقتضى استصحاب اليد السابقة وأصالة عدم حدوث يد اخرى يجعلها هي اليد الاولى ، فلا تفيد ملكيّته.

وليس هذا من باب تعارض الاستصحاب والأصل مع اليد المقتضية‌

__________________

(١) في « ق » : وإن ادّعى ..

٣٤٤

للملكيّة ، بل تصير اليد بواسطة الأصل والاستصحاب غير اليد المقتضية.

التاسع : لا يشترط في صدق اليد عرفا مباشرة ذي اليد بنفسه للتصرّف‌ ، بل تكفي مباشرة الوكيل والمستعير والأمين والمستأجر والغاصب بعد ثبوت أحد هذه الأوصاف له في ذلك التصرّف ، للصدق العرفي. وكذا يد المقرّ أنّها لزيد ، فإنّه يقال عرفا : إنّها في يد زيد ، فتأمّل.

العاشر : يمكن أن تكون يدان أو أزيد على شي‌ء واحد‌ ، بمعنى : أن تكون يد كلّ منهما بحيث لو كانت منفردة لصدق كون ذيها ذا اليد بالنسبة إلى تمام الشي‌ء عرفا ، كالدابّة يركبانها رديفين ، أو السراج يستضيئان به ، واللحاف ينامان معا في كلّ ليلة فيه ، والإناء يأكلان منه دفعة ، وحينئذ فيحكم بكونهما ذا اليد على ذلك الشي‌ء ، لا أنّ يد كلّ منهما على بعضه المشاع ، لإمكان كون شي‌ء واحد في يد اثنين ، فلا ضرورة إلى التبعيض.

وليست اليد كالملكيّة التي لا يمكن تعلّقها بتمام شي‌ء بالنسبة إلى كلّ من الشخصين ، بل مثل القرابة لشخصين والتوطّن في بلدتين ، والجارية لدارين ، والمصاحبة مع شخصين ، والمؤانسة لهما ، وهكذا.

الحادي عشر : اقتضاء اليد للملكيّة التامّة لذي اليد إنّما هو إذا لم تعارضها يد أخرى أيضا‌ ، أي كانت يدا منفردة ، فلو كان شي‌ء واحد في يد شخصين ـ بحيث لم تختصّ يد كلّ بالبعض عرفا ـ لا يدلّ على ملكيّته لواحد منهما ، للمعارض ، ولا لهما معا بأن يكون تمامه ملكا لهما ، لعدم الإمكان.

وهل يحكم حينئذ بالاشتراك في الملكيّة حتى يكون بينهما بالسويّة؟ كما هي قاعدة الشركة ، مع عدم دليل على الاختلاف ، أم لا ، بل يحكم بواسطة اليدين على نفي ملكيّة غيرهما وإن لم يحكم بملكيّتهما أو‌

٣٤٥

أحدهما؟

ظاهر أكثر الأخبار المتقدّمة وإن كان خاليا عن الدلالة في ذلك ، لأنّ الرواية الأولى (١) مختصّة باليد الواحدة ، والعلّة المذكورة فيها بقوله : « ومن أين جاز لك » إلى آخره ، لا تدلّ على أنّه إذا اشتراه من اثنين يجوز له أن يشهد أنّه لهما ، بل تدلّ على أنّه يجوز له أن يشهد أنّه ملك لهما أو لأحدهما.

والثانية (٢) وإن كانت أعمّ إلاّ أنّها لا تدلّ على الأزيد من طلب البيّنة من الخارج عنهما ، المستلزم لاقتضاء نفي ملكيّة الغير وحصول الملكيّة في الجملة الشاملة لملك هذا وهما معا بالشركة ، وأمّا الاشتراك بخصوصه فلا. وكذا إطلاق الروايات الثلاث الأخيرة (٣).

إلاّ أنّ مقتضى قوله في الموثّقة : « ومن استولى على شي‌ء منه فهو له » (٤) أنّه لو استوليا معا عليه كان لهما ، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة أنّه بينهما نصفين ، ومرجعه إلى أنّ اليدين المشتركتين تقتضيان الملكيّة المشتركة.

وتعضده الروايات الكثيرة (٥) الدالّة على تنصيف ما يدّعيه الاثنان ويدهما عليه بدون البيّنة لأحدهما ، أو مع البيّنة لهما ، بل الظاهر أنّه إجماعيّ أيضا ، كما يظهر من حكمهم بالتنصيف في تداعي شخصين ما في‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص : ٣٣٣.

(٢) المتقدّمة في ص : ٣٣٣ و ٣٣٤.

(٣) المتقدّمة في ص : ٣٣٤ و ٣٣٥.

(٤) المتقدّمة في ص : ٣٣٤.

(٥) انظر الوسائل ١٨ : ٤٥٠ أبواب أحكام الصلح ب ٩ ، وج ٢٧ : ٢٤٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢.

٣٤٦

يدهما معا.

الثاني عشر : لو أقرّ ذو اليد بملكيّة زيد ، ثمَّ أقرّ بعده لعمرو ، يحكم باليد لزيد‌ ، لثبوتها بالاعتراف الأول ، وعدم صدق اليد عرفا للثاني بعد الأول ، فلا يصلح الثاني لمعارضة الأول ، فيبقى الأول بلا معارض ومستصحبا.

المسألة الثانية : لو تنازع اثنان في عين واحدة‌ ، بأن ادّعى كلّ منهما جميعها ، فإمّا تكون في يدهما ، أو يد أحدهما ، أو يد ثالث ، أو لا يد عليها ، فهذه أربع صور.

الصورة الاولى : أن تكون في يدهما معا‌ ، فترجع دعوى كلّ منهما إلى النصف الذي في يد الآخر ، ويكون النصف الآخر خاليا له عن المعارض ، لما مرّ في الموضع الحادي عشر من المسألة الاولى.

وعلى هذا ، فإن كانت هناك بيّنة لأحدهما يحكم بالجميع له ، لأنّ البيّنة حجّة شرعيّة.

وإن كانت لهما فيرجع إلى تعارض البيّنات ، ويأتي حكمه.

وإن لم تكن بيّنة يحلف كلّ منهما على نفي ما يدّعيه صاحبه ممّا في يده ، لأنّه منكر بالنسبة إليه ، ولا يتعرّض في الحلف لإثبات ما في يده ، إذ لا يمين على ما لا دعوى فيه. فإن حلفا أو نكلا قضي بينهما بالسويّة من غير ردّ يمين على المنكول له ، على المختار.

وإن حلف أحدهما ونكل الآخر بعده قضي بالجميع للحالف من غير ردّ يمين اخرى عليه ، على ما اخترناه من القضاء بالنكول.

وإن نكل الأول ثبتت دعوى صاحبه في نصف الناكل ، فإن حلف الآخر لنفي النصف الّذي ادّعاه صاحبه عليه يخلص الكلّ له.

٣٤٧

وعلى القول بردّ يمين الناكل ، تثبت على كلّ منهما اليمين المردودة مع نكولهما ، وعلى الحالف يمين اخرى بعد نكول الثاني مع نكوله بعد حلف الأول ، فيحلف مرّتين ، وكذا إذا كان النكول قبل حلف صاحبه.

وهل يجمع اليمينين حينئذ في يمين واحدة ، أم لا؟

الوجه : الأول ، كما هو ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف كما قيل (١) ، لما أثبتنا في موقعه من أصالة تداخل الأسباب.

ثمَّ إنّه هل يتخيّر الحاكم في البدأة بينهما بالإحلاف ، أو يقرع بينهما؟ فيه وجهان ، وقيل : يبدأ بالسابق منهما بالدعوى ، فيحلف صاحبه (٢). وهو حسن ، لما مرّ من تقديم حقّ من بدر بالدعوى.

ويمكن الاستدلال أيضا بأنّ كلاّ منهما ـ لكون يد الآخر عليها ـ مدّعي ، ولكون يده عليها منكر ، فلكلّ منهما الحلف والإحلاف ، فيتحالفان ، أو ينكلان ، أو يحلف أحدهما وينكل الآخر ، لعموم الأدلّة ، فالترجيح على الأخير ظاهر ، وعلى الأولين لا يمكن الجمع بإعطاء جميع العين كلاّ منهما ولا منع كليهما ، لعدم خروج الملكيّة عنهما ، ولا ترجيح أحدهما بزيادة ، لعدم المرجّح ، فلم يبق إلاّ التنصيف ، ولكن فيه كلام يأتي من عدم ظهور مثل ذلك من المدّعي والمنكر المتقابلين.

ويدلّ على المطلوب أيضا : أنّه ثبت تنصيف العين بينهما في المورد من الأخبار ، كمرسلة ابن المغيرة الصحيحة عن ابن محبوب ـ مع كون الإرسال عن غير واحد من أصحابنا ـ : في رجلين كان معهما درهمان ، فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الآخر : هما بيني وبينك ، فقال أبو‌

__________________

(١) رياض المسائل ٢ : ٤١٦.

(٢) انظر الكفاية : ٢٧٥.

٣٤٨

عبد الله عليه‌السلام : « أمّا الذي قال هما بيني وبينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له فيه شي‌ء وأنّه لصاحبه ، ويقسّم الدرهم الثاني بينهما نصفين » (١) ، المعتضدة بموثّقة يونس المتقدّمة (٢).

ورواية السكوني : في رجل استودع رجلا دينارين واستودعه آخر دينارا ، فضاع دينار منهما ، فقضى لصاحب الدينارين دينارا ، ويقسّمان الدينار الباقي بينهما نصفين (٣).

وثبت أيضا بالعمومات المشار إليها توقّف القضاء بينهما على التحالف ، فيعمل بالجميع ، فيتحالفان ويقتسمان نصفين.

ولكن يبقى ها هنا شي‌ء يرد على ذلك وعلى ما تقدّم أيضا ، وهو أنّ الظاهر المتبادر من الأخبار الأخيرة ـ التي هي أخصّ مطلقا من العمومات ـ أنّ الاقتسام إنّما هو بلا حلف ، بل هو من مقتضى إطلاقها أو عمومها ، فإنّها حاكمة بالتقسيم مطلقا ، سواء حلفا أو حلف أحدهما خاصّة.

فمقتضى الاستدلال تقديم الأخيرة والقضاء بينهما نصفين من دون حلف ، كما هو مختار المحقّق في الشرائع صريحا (٤) ، والسيّد أبي المكارم في الغنية ظاهرا ، مدّعيا عليه إجماع الطائفة ، قال فيه : وإن كان لكلّ واحد منهما يد ولا بيّنة لأحدهما كان الشي‌ء بينهما نصفين ، كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة (٥). انتهى.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٠٨ ـ ٤٨١ ، وفي الفقيه ٣ : ٢٢ ـ ٥٩ ، والوسائل ١٨ : ٤٥٠ أبواب أحكام الصلح ب ٩ ح ١ ، بتفاوت يسير.

(٢) في ص : ٣٣٤.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٣ ـ ٦٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠٨ ـ ٤٨٣ وج ٧ : ١٨١ ـ ٧٩٧ ، الوسائل ١٨ : ٤٥٢ أبواب أحكام الصلح ب ١٢ ح ١ ، بتفاوت.

(٤) الشرائع ٤ : ١١٠.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

٣٤٩

ونقل القول به في التحرير أيضا ، حيث قال في المسألة على ما حكي : إنّ فيها قولين (١). وظاهر بعض فضلائنا المعاصرين التردّد (٢) ، حيث نقل القولين من غير ترجيح ، ولكنّ المشهور بين الأصحاب ـ كما صرّح به الصيمري ـ هو الأول. وقال في المسالك : بل لم ينقل الأكثر فيه خلافا (٣). إلاّ أنّ هذه الشهرة المحكيّة لا توجب وهنا فيما يقتضيه الاستدلال ، سيّما مع معارضتها بالإجماع المحكيّ ، وعدم تعرّض طائفة لأصل المسألة ، منهم الشيخ في النهاية (٤).

هذا ، مع ما في دلالة العمومات على ثبوت الحلف في صورة التداعي كما يأتي بيانه ، فالأقوى هو مختار الشرائع ، والله العالم.

الصورة الثانية : أن تكون في يد أحدهما‌ ، فيقدّم قوله وتطلب البيّنة من الخارج ، فإن أقامها فيحكم بها له إجماعا ، وإن أقاماها يرجع إلى التعارض الآتي حكمه.

وإن لم تكن بيّنة ، فللخارج إحلاف ذي اليد المنكر ، فإن حلف سقطت الدعوى عنه ، وإن نكل يحكم بالعين للمدّعي الخارج بدون يمين على الأظهر ، ومعها على القول الآخر ، ولا خلاف في شي‌ء ممّا ذكر غير ما أشير إلى الخلاف فيه.

وتدلّ عليه الأخبار المتواترة معنى المتقدّمة أكثرها ، وفي الرواية : « فإن كانت له » أي للمدّعي الخارج « بيّنة ، وإلاّ فيمين الذي هو في يده ،

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٩٥ ، قال : وهل يحلف كل واحد على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين؟ الأقوى عندي الأوّل مع احتمال الثاني.

(٢) غنائم الأيام : ٧٠٦.

(٣) المسالك ٢ : ٣٩٠.

(٤) النهاية : ٣٤٤.

٣٥٠

هكذا أمر الله عزّ وجلّ » (١).

الصورة الثالثة : أن تكون في يد ثالث ولا بيّنة‌ ، وحينئذ فإمّا يصدّق أحدهما بخصوصه ، أو يصدّقهما معا ، أو يصدّق أحدهما لا بعينه ـ أي يقول : إنّها لأحدهما ولا أعرفه ـ أو يكذّبهما معا ، أو يقول : لا أدري أنّها لهما أو لا.

فعلى الأول ، قالوا : بأنّها للمصدّق له مع يمينه ، فإنّه في حكم ذي اليد ، وعلى الثالث المصدّق اليمين للآخر إن ادّعى عليه علمه بأنّها له ، فإن امتنع يجب عليه إغرام القيمة له بلا يمين ، أو مع اليمين المردودة ، على اختلاف القولين ، لأنّه لا يمكنه دفع العين ، لاستحقاق المصدّق له إيّاها بإقراره ، فلا يمكنه الارتجاع عنه ، وتفويته العين على الآخر بإقراره ، فيغرّم القيمة. ولم أعثر على مصرّح بخلاف ذلك ، بل لعلّه إجماعي.

ويدلّ على كونه للمصدّق له أنّه حينئذ يكون ذا اليد ، فإنّ ظاهر العرف أنّ من أسباب صدق اليد كونه الشي‌ء تحت تصرّف من ثبت أنّه مباشرة ، كالوكيل والأمين والمستودع والمستأجر والمستعير ، أو أقرّ بذلك. ولعلّ إلى ذلك يشير استدلالهم بأنّه في حكم ذي اليد ، بل تصريح جماعة ـ منهم الشهيد في الدروس (٢) ـ بأنّ ذا اليد من صدّقه الثالث.

ويدلّ عليه أيضا أنّه أقرّ الثالث بكونه له ، ومن أقرّ شيئا في يده لأحد فهو له.

لا لعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، لأنّ الإقرار على النفس إنّما‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٤٠ ـ ٥٩٤ ، الاستبصار ٣ : ٤٣ ـ ١٤٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣ ح ٤ ، والمعترضة من المصنّف.

(٢) الدروس ٢ : ١٠٠.

٣٥١

هو في نفيه عن نفسه لا في إثباته للغير ، مع أنّ الثابت دلالته من العموم ليس إلاّ نفوذه على نفسه لا على غيره.

بل للمستفيضة الدالّة على من أقرّ بعين لأحد فهو له ، كمرسلة جميل : في رجل أقرّ أنّه غصب رجلا على جاريته ، وقد ولدت الجارية من الغاصب ، قال : « تردّ الجارية وولدها على المغصوب إذا أقرّ بذلك ، أو كانت له بيّنة » (١) ، وعمومها الحاصل من ترك الاستفصال ـ بل من أداة الشرط ـ يشمل صورة ادّعاء الغير للجارية أيضا.

وصحيحة سعد بن سعد : عن رجل مسافر حضره الموت فدفع مالا إلى رجل من التجّار ، فقال : إنّ هذا المال لفلان بن فلان ليس له فيه قليل ولا كثير ، فادفعه إليه يصرفه حيث شاء ، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمر ، ولا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك ، كيف يصنع؟ قال : « يضعه حيث شاء » (٢) ، ومثلها صحيحة إسماعيل الأحوص (٣).

دلّتا على ثبوت المال لصاحبه بمجرّد الإقرار ، ولا يمكن أن يكون ذلك لادّعائه ما لا يد لأحد عليه ، لأنّه لم يكن مدّعيا له.

وصحيحة أبي بصير : عن رجل معه مال مضاربة ، فمات وعليه دين ، فأوصى أنّ هذا الذي ترك لأهل المضاربة ، أيجوز ذلك؟ قال : « نعم ، إذا كان مصدّقا » (٤) ، أي لم يكن متّهما.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٥٥٦ ـ ٩ ، الفقيه ٣ : ٢٦٦ ـ ١٢٦٦ ، التهذيب ٧ : ٤٨٢ ـ ١٩٣٦ ، الوسائل ٢١ : ١٧٧ أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٦١ ح ١ ، بتفاوت.

(٢) التهذيب ٩ : ١٦٠ ـ ٦٦٢ ، الوسائل ١٩ : ٢٩٣ أبواب أحكام الوصايا ب ١٦ ح ٦.

(٣) الكافي ٧ : ٦٣ ـ ٢٣ ، الوسائل ١٩ : ٢٩٣ أبواب أحكام الوصايا ب ١٦ ح ٦.

(٤) التهذيب ٩ : ١٦٧ ـ ٦٧٩ ، الوسائل ١٩ : ٢٩٦ أبواب أحكام الوصايا ب ١٦ ح ١٤.

٣٥٢

وتؤيّده أيضا رواية [ المهتدي ] (١) : إنّ أخي مات وتزوّجت امرأته ، فجاء عمّي فادّعى أنّه تزوّجها سرّا ، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشدّ الإنكار وقالت : ما كان بيني وبينه شي‌ء قط ، فقال : « يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها » (٢).

وتدلّ على سلطنة المدّعي على إحلاف المصدّق له عمومات البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

وعلى تغريم المصدّق لو نكل أو ردّ اليمين : أنّ بالنكول أو اليمين المردودة ثبت عليه الحقّ ، كما مرّ في الأخبار المتقدّمة في بحث النكول وردّ اليمين (٣).

وكلّ من ثبت عليه حقّ للغير وضيّعه فعليه الغرامة ، كما دلّت عليه العلّة المنصوصة في رواية عمر بن حنظلة : في رجل قال لآخر : اخطب لي فلانة ، فما فعلت من شي‌ء ممّا قاولت من صداق أو ضمنت من شي‌ء [ أو شرطت ] فذلك رضا لي ، وهو لازم لي ، ولم يشهد على ذلك ، فذهب فخطب له وبذل عنه الصداق وغير ذلك ممّا طالبوه وسألوه ، فلمّا رجع إليه أنكر له ذلك كلّه ، قال : « يغرّم لها نصف الصداق عنه ، وذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها » الحديث (٤) ، دلّت على أنّ من ضيّع حقّا لغيره فعليه الغرامة له.

وعلى الثاني قالوا : يقضى بها لهما بالسويّة ، ولكلّ منهما إحلاف‌

__________________

(١) في « ح » و « ق » : المهدي ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الكافي ٥ : ٥٦٣ ـ ٢٧ ، الفقيه ٣ : ٣٠٣ ـ ١٤٥٢ ، الوسائل ٢٠ : ٢٩٩ أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب ٢٣ ح ١.

(٣) انظر الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٧.

(٤) الفقيه ٣ : ٤٩ ـ ١٦٩ ، التهذيب ٦ : ٢١٣ ـ ٥٠٤ ، الوسائل ١٩ : ١٦٥ أبواب أحكام الوكالة ب ٤ ح ١ ، ما بين المعقوفين ليس في « ح » و « ق » ، أضفناه من المصادر.

٣٥٣

الآخر كما لو كانت في يدهما ، ولهما إحلاف المصدّق إن ادّعيا علمه ، لفائدة الغرم ، فإن حلف فهو ، وإلاّ فيغرّم القيمة تماما لهما ، ويقتسمانها بينهما نصفين على القول بالحكم بالنكول. وعلى القول بردّ اليمين عليهما ، فإن حلفا معا يغرّم التمام كذلك أيضا ، وإلاّ غرّم نصف القيمة للحالف منهما.

ويظهر الوجه في هذه الصورة أيضا ممّا ذكرنا في سابقتها بعينه.

وعلى الثالث ، قيل : يحتمل القرعة ، فيحلف من خرجت له ، فإن نكل حلف الآخر ، وإن نكلا قسّمت بينهما. ويحتمل القضاء بينهما نصفين ابتداء بعد حلفهما أو نكولهما كما لو كانت بيدهما (١).

أقول : بل الأوجه الثاني ، لرواية السكوني : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان لأحدهما عندي ألف درهم ، ثمَّ مات على تلك الحال ، فقال : أيّهما أقام البيّنة فله المال ، فإن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان » (٢).

ولكنّ الظاهر من الرواية التنصيف بدون الإحلاف ، بل هو مقتضى إطلاقها ، فالقول به ـ كما فيما إذا كان في يديهما معا ـ أوجه.

وحكم الفاضل في القواعد بالقرعة بينهما من غير ذكر حلف (٣) ، وهو كان حسنا لو لا الرواية المذكورة.

وعلى الرابع ، قالوا : حلف لهما وأقرّت العين في يده ، سواء ادّعاها‌

__________________

(١) انظر المسالك ٢ : ٣٩٠ ، الرياض ٢ : ٤١٦.

(٢) الكافي ٧ : ٥٨ ـ ٥ ، الفقيه ٤ : ١٧٤ ـ ٦١٠ ، التهذيب ٩ : ١٦٢ ـ ٦٦٦ ، الوسائل ٢٣ : ١٨٣ أبواب الإقرار ب ٢ ح ١ ، بتفاوت.

(٣) القواعد ٢ : ٢٢٢.

٣٥٤

لنفسه أم لا ، ولا يجب عليه نسبة الملك إلى نفسه أو إلى أحد معيّن ، وهو كذلك ، لثبوت يده عليها بالتصرّف ، وبعدم الاعتراف بها للغير.

وعلى الخامس ، فإن قال : لا أدري أنّها لهما أو لغيرهما ـ مع اعترافه بأنّها ليست لنفسه ـ أقرع بينهما وفاقا للقواعد (١) ، لأنّها لكلّ أمر مجهول ، ولا حلف ، لما يأتي في الصورة الرابعة. وكذا إن قال : لا أدري أنّها لي أو لهما.

الصورة الرابعة : أن لا تكون يد عليها‌ ، قال المحقّق الأردبيلي : فهي مثل ما كانت في يد ثالث ، ولم يصدّق أحدهما ، ولم يدّعيا علمه ، فيحلفان أو ينكلان ويقتسمانها بالسويّة. وإن حلف أحدهما دون الآخر تكون للحالف بحكم العقل ، ولرواية إسحاق بن عمّار ، وفيها : « فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ قال : أحلفهما ، فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف » (٢). انتهى.

أقول : الحلف أمر شرعيّ يتوقّف على التوقيف ، ولا أرى دليلا على حلفهما هنا والحكم بنكولهما أو نكول الناكل ، والرواية مخصوصة بصورة إقامتهما البيّنة ، والتعدّي يحتاج إلى الدليل ، والقرعة لكلّ أمر مجهول ، فالرجوع إليها أظهر ، كما حكم به عليّ عليه‌السلام في روايتي أبي بصير وابن عمّار :

الاولى : « بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام إلى اليمن ، فقال له حين قدم : حدّثني بأعجب ما ورد عليك ، قال عليه‌السلام : يا رسول الله ، أتاني قوم قد‌

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٢٢.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٣٣ ـ ٥٧٠ ، الاستبصار ٣ : ٣٨ ـ ١٣٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٠ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٢.

٣٥٥

تبايعوا جارية ، فوطؤوها جميعا في طهر واحد ، فولدت غلاما ، فاختلفوا فيه ، كلّهم يدّعيه ، فأسهمت بينهم وجعلته للذي خرج سهمه ، وضمّنته نصيبهم » الحديث (١).

والأخرى : « إذا وطئ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد ، فولدت ، فادّعوه جميعا ، أقرع الوالي بينهم ، فمن قرع كان الولد [ ولده ، ويردّ ] قيمة الولد على صاحب الجارية » الحديث (٢) ، وعمل بها الأصحاب طرّأ في مورده من غير إحلاف.

فإن قيل : عمومات البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر تشمل المورد.

قلنا : العمومات غير ظاهرة في مثل ذلك ، بل ظاهرة في غيره ، حتى ما تتضمّن لفظ « المدّعى عليه » الغير المعلوم تحقّقه عرفا هنا ، حيث إنّه لا يد لأحد عليها حتى يصدق الادّعاء عليه.

وقد يقال : إنّ الرواية الواردة في قضيّة فدك : « وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر » (٣) تشمل المورد ، لصدق من أنكر عليه ، وكذا رواية ابن أبي يعفور : « إذا رضي صاحب الحقّ بيمين‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٤ ـ ١٨٣ ، وفي الكافي ٥ : ٤٩١ ـ ٢ ، والتهذيب ٨ : ١٧٠ ـ ٥٩٢ ، والاستبصار ٣ : ٣٦٩ ـ ١٣٢٠ ، والوسائل ٢٧ : ٢٥٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣ ح ٥ : واحتجّوا ، بدل فاختلفوا.

(٢) الفقيه ٣ : ٥٢ ـ ١٧٦ ، التهذيب ٨ : ١٦٩ ـ ٥٩٠ ، الاستبصار ٣ : ٣٦٨ ـ ١٣١٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣ ح ١٤ ، وبدل ما بين المعقوفين في « ح » و « ق » : له يردّ ، وما أثبتناه من المصادر.

(٣) تفسير القمّي ٢ : ١٥٦ ، الاحتجاج : ٩٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٥ ح ٣.

٣٥٦

المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله ، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي » الحديث (١).

وردّ : بأنّ مدلولهما أنّ كلّ بيّنة على المدّعي وكلّ يمين على المنكر ، لا أنّ كلّ مدّع ومنكر عليه البيّنة واليمين. وحاصله : منع عموم من أنكر والمنكر ، بل نفي عموم المدّعي في جميع الروايات أيضا.

وفيه : أنّه لا وجه لمنع العموم حتى في قوله : « من أنكر » ، لأنّ الموصولة المتضمّنة لمعنى الشرط ـ أي ما كان ما بعده علّة لما قبله ـ تفيد العموم ، كما بيّن في الأصول.

نعم ، يرد عليه أولا : معارضة العمومات مع روايتي أبي بصير وابن عمّار.

وثانيا : أنّ [ أحد ] (٢) هذين المتخاصمين في مفروض المسألة لا يصدق عليه المدّعى عليه ولا المنكر ـ بأيّ معنى من المعاني المذكورة لهما ـ في مقابلة المدّعي ، الذي هو من لو ترك ترك ، إلى آخر التعاريف.

بل هما مدّعيان ، فلا يتوجّه عليهما يمين ولو أبيت ، إلاّ أنّ المنكر عرفا من تشبّث بالإنكار ، فلا يمكن أن يكون المراد الإنكار الالتزامي ، إذ يكون كلّ مدّع منكرا أيضا ، ولا يقول به أحد ، مع أنّ الإنكار الالتزامي لا يكفي في صدق المنكر العرفي قطعا ، فلا بدّ من إرادة الصريح. ولا شكّ أنّ الإنكار الصريحي لا يكون في جميع صور مفروض المسألة ، بل إنّما هو إذا قال كلّ من المدّعيين : إنّه ليس لك ، منضمّا مع قوله : إنّه لي.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٧ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٣٧ ـ ١٢٥ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ ـ ٥٦٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٩ ح ١.

(٢) ما بين المعقوفين ليس في « ح » و « ق » ، أضفناه لاستقامة المعنى.

٣٥٧

وثالثا : أنّ المتبادر من المدّعي والمنكر في صورة ذكرهما ومقابلتهما : الذي لم يجتمع معه الآخر ، فالمراد بالمدّعي : الذي لم يكن منكرا ، وبالمنكر : الذي لم يكن مدّعيا ، كما هو ظاهر.

ورابعا : أنّا لو سلّمنا الجميع فلا يحكم بعد حلفهما بالتنصيف ، لجواز إسقاط حقّ كلّ منهما بحلف الآخر ، فلا يحكم لواحد منهما ، فتأمّل.

هذا إذا كانت دعواهما دفعة واحدة ، عرفا أو حقيقة ، وإلاّ فيحكم بها للمتقدّم ادّعاء ، وتطلب البيّنة من الآخر أو الإحلاف ، كما مرّ.

ثمَّ إنّ كلّ ما ذكر في هذه الصور الأربع إذا لم تكن هناك بيّنة ، وإلاّ فإن كانت لأحدهما حكم بها له ، لأنّ البيّنة حجّة شرعيّة. وإن كان لكلّ منهما وأمكن الجمع بينهما ـ كما لو شهدت إحداهما بملك زيد أمس ، والأخرى بانتقاله إلى عمرو الآن ، أو أطلقت أحدهما وفصّلت الأخرى ـ جمع بينهما ، لوجوب العمل بهما مع عدم التنافي ، ولو لم يمكن الجمع فتتعارض البيّنات ، ويأتي حكمه.

المسألة الثالثة : لو ادّعى أحد مالا لا يد لأحد عليه ، ليس لأحد منعه من التصرّف فيه ، ولا طلب البيّنة منه ، ولا إحلافه‌ ، للأصل ، والإجماع ، بل الضرورة كما قيل (١) وموثّقة منصور ، بل صحيحته : عشرة كانوا جلوسا ووسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا : ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، [ فلمن هو؟ ] قال : « هو للذي ادّعاه » (٢) ،

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤١٣.

(٢) الكافي ٧ : ٤٢٢ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٩٢ ـ ٨١٠ ، النهاية : ٣٥٠ ـ ٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٧ ح ١ ، وما بين المعقوفين ليس في « ح » و « ق » ، أضفناه من المصادر.

٣٥٨

ومقتضى قوله : « هو للذي ادّعاه » أنّه يحكم به له ، وأنّه يجوز ابتياعه منه والتصرّف فيه بإذنه. ونفي عنه الخلاف أيضا (١).

وقد يستدلّ له بصحيحة البزنطي أيضا : عن الرجل يصيد الطير الذي يسوى دراهم كثيرة ، وهو مستوي الجناحين ، وهو يعرف صاحبه ، أيحلّ له إمساكه؟ قال : « إذا عرف صاحبه ردّه عليه ، وإن لم يكن يعرفه وملك جناحه فهو له ، وإن جاء طالب لا تتّهمه ردّه عليه » (٢).

وفيه : أنّ الأمر بالردّ فيها مقيّد بعدم الاتّهام ، الذي هو حقيقة في عدم تجويز كذبه ، وإلاّ فيكون منهما ، ومع عدم تجويز الكذب يخرج عن الموضوع ، لأنّه حينئذ يعلم ملكيّة الغير.

والاحتجاج له بوجوب حمل أفعال المسلمين على الصحّة والصدق موقوف على ثبوت القاعدة ، وهو في حيّز المنع ، مع أنّها مخصوصة بالمسلم ، والمدّعى أعمّ منه.

فروع :

أ : لو ادّعاه ثان بعد تصرّف المدّعي الأول له ، أو الحكم به له ، يكون الثاني مدّعيا ، فتجري عليه أحكامه ، ويقدّم قول الأول ، للاستصحاب ، ولأنّه مقتضى كونه له فهو كذي اليد ، ولعدم دليل على قبول دعوى الثاني ، لاختصاص الإجماع والنصّ بالأول.

وكذا إذا ادّعى الثاني بعد ادّعاء الأول بزمان لا يعدّ ادّعاؤهما دفعة عرفا ، إذ بالدعوى الاولى صار مالا للمدّعي بحكم النّص ، وإن لم يضمّ بعد‌

__________________

(١) كما في الرياض ٢ : ٤١٣.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٩٤ ـ ١١٨٦ ، الوسائل ٢٥ : ٤٦١ أبواب اللقطة ب ١٥ ح ١.

٣٥٩

معه الحكم أو التصرّف فيستصحب.

نعم ، لو كان ادّعاؤهما دفعة عرفية أو حقيقيّة يجي‌ء الإشكال ، لعدم ثبوت إجماع ، والخروج عن النصّ ، لظهوره فيما لا يدّعي معه في زمان واحد عرفا ، وسيأتي حكمه في باب التنازع في الأعيان.

ب : لو لم تكن عليه يد ولا مدّع ظاهر ، لا يحكم بكونه مجهول المالك ، ولا تجري عليه أحكامه إلاّ بعد الفحص اللازم ، وهو القدر الميسور منه ، لعدم صدق عنوان مجهول المالك أو غير معروف المالك عرفا إلاّ بعد هذا القدر من الفحص ، فإذا تحقّق وتصرّف فيه النائب العام من جانب الإمام ، أو تصدّق به فادّعاه مدّع ، لا يسمع منه إلاّ بعد الإثبات ، للاستصحاب ، واختصاص النصّ والإجماع بغير ذلك ، فإن أثبته يردّ إليه مع بقاء العين ، ولا ضمان مع التلف. بل وكذا على الظاهر لو ادّعاه بعد الفراغ عن الفحص والحكم بصدق العنوان ، لما مرّ.

ج : هل حكم ما في يد أحد ولا يدّعي ملكيّته ـ بل يجهل مالكه ، أو ما في ذمّة أحد كذلك ـ كحكم ما لا يد عليه ، فيحكم به لمن يدّعيه ، أو لا؟

مقتضى أصالة عدم براءة ذي اليد عن اشتغاله بإيصاله إلى صاحبه وأصالة عدم تسلّط المدّعي على أخذه وعدم شرعيّة الحكم به له : الثاني ، والموثّقة (١) مخصوصة بغير ذلك المورد.

وممّا ذكرنا من الأصول والخصوصيّة يظهر الفرق بينه وبين ما لا يد لأحد عليه.

ولهذا القسم أنواع كثيرة ، منها : اللقطة ، والضالّة ، والكنز ، ومال من لا يعرف‌

__________________

(١) أي موثقة منصور المتقدّمة في ص : ٣٥٨.

٣٦٠