مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

ولا بدّ من تقييده بما إذا لم يجب عليه القضاء مطلقا أو فورا ، وإلاّ يحرم ، لأنّ سبب الحرام حرام.

وبما إذا كان في مكان غير مباح لمن لم يأذنه ، وإلاّ فلا يجوز له المنع.

فإن قيل : فعلى هذا يتعارض دليل الاستئذان مع دليل الكراهة والحرمة هنا.

قلنا : لا تعارض ، لأنّ مدلول الأول لزوم استئذان الداخل ، ومدلول الثاني رجحان إذن القاضي.

وبما إذا لم يكن له أمر مساو أو أهمّ ، وإلاّ فيجوز أو يستحبّ.

ولكنّ ذكر القيدين الأخيرين غير لازم ، لأنّ الكلام في القاضي من حيث هو قاض ، ولذا خصّصنا الممنوع بالمتخاصمين ، فإنّ كراهة منعهما أوجب جعله من آداب القاضي.

وأمّا منع سائر المؤمنين من المتزاورين والمتردّدين فغير مخصوص به ، وليس هنا موقع تحقيقه ، ولذا اقتصروا بذكر ما يدلّ على كراهة منع الوالي مع تكثّر أخبار المنع عن الاحتجاب.

المسألة الخامسة : يكره القضاء مع الغضب ، والجوع ، والعطش ، والهمّ ، والحزن ، ومدافعة الأخبثين.

للحسن : « من ابتلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان » (١).

ومرفوعة البرقي : « لا تقضينّ وأنت غضبان » (٢).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٣ ـ ٢ ، الفقيه ٣ : ٦ ـ ١٩ ، التهذيب ٦ : ٢٢٦ ـ ٥٤٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٣ أبواب آداب القاضي ب ٢ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٣ ـ ٥ ، الفقيه ٣ : ٧ ـ ٢٤ ، التهذيب ٦ : ٢٢٧ ـ ٥٤٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٣ أبواب آداب القاضي ب ٢ ح ٢.

٦١

ورواية سلمة : « ولا تقعدنّ في مجلس القضاء حتى تطعم » (١).

وفي النبويّ : « لا يقضي إلاّ وهو شبعان ريّان » (٢).

وفي آخر « لا يقضي وهو غضبان مهموم ولا مصاب محزون » (٣).

وقد يستثنى الغضب لله تعالى ، لقضيّة الزبير والأنصاري (٤). وفيه نظر.

والمرويّ في أمالي الشيخ : إنّ رجلا سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن سؤال فبادر فدخل منزله ، ثمَّ خرج فقال : « أين السائل؟ » فقال الرجل : ها أنا يا أمير المؤمنين ، قال : « ما مسألتك؟ » قال : كيت وكيت ، فأجابه عن سؤاله ، فقيل : يا أمير المؤمنين كنّا عهدناك إذا سئلت عن المسألة كنت فيها كالسكّة المحماة جوابا ، فما بالك أبطأت اليوم عن جواب هذا الرجل حتى دخلت الحجرة؟ فقال : « كنت حاقنا ، ولا رأي لثلاثة : لا لحاقن ، ولا حاقب ، ولا حازق » (٥).

وقد صرّحوا بكراهة سائر ما يشبه المذكورات من شاغلات النفس ومشوبات الخاطر ، ولا بأس به وإن لم أعثر على نصّ عامّ.

ويمكن استنباط الجميع من التعليل المذكور في المرويّ عن الأمالي.

المسألة السادسة : يكره له تولّي التجارة‌ ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما عدل وال‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٨ ـ ٢٨ ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ ـ ٥٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢١١ أبواب آداب القاضي ب ١ ح ١.

(٢) سنن البيهقي ١٠ : ١٠٦.

(٣) أورده في المسالك ٢ : ٣٥٩ والرياض ٢ : ٣٨٩ ، ولم نعثر على مصدره.

(٤) كما في سنن البيهقي ٦ : ١٥٣.

(٥) أمالي الشيخ الطوسي : ٥٢٥. قال في معاني الأخبار : ٢٣٧ ، الحاقن الذي به البول ، والحاقب الذي به الغائط ، والحازق الذي به ضغطة الخف.

٦٢

اتّجر في رعيّته » (١).

وأمّا البيع والشراء نادرا ـ بحيث لا تصدق التجارة ـ فلا يكره ، وينبغي تركه ، لبعض الاعتبارات العقليّة.

والانقباض المانع من اللحن بالحجّة.

واللين الباعث على الجرأة ، وتكلّمهم بما لا يعني.

وارتكاب الحكومة بنفسه ، أي أن يحضر مع خصمه في منازعة بين يدي قاض ، قيل : لما روي : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وكلّ عقيلا في خصومة ، ولما روي أنّ : « للخصومات قحما وإنّي لأكره أن أحضرها » (٢).

وفي دلالتهما نظر ، وقد حضر أمير المؤمنين عليه‌السلام المحاكمة في دعوى درع طلحة (٣) وغيرها.

نعم ، يدلّ على كراهته بعض الاعتبارات.

المسألة السابعة : يستحبّ أن يكون كاتبه ـ إن احتاج إليه ـ فقيها‌ ، جيّد الخطّ ـ لئلاّ يغلط في الكتابة ، ولا يشتبه خطّه ـ بالغا ، عاقلا ، مسلما ، عادلا ، بصيرا بما هو موكول إليه. بل ربّما يجب بعض ذلك ، لتؤمن خيانته وانخداعه بتزوير بعض الخصوم.

وأن يجلس كاتبه بين يديه ليملي عليه المطالب ، فيكتبها ويشاهد ما يكتبه ، ليأمن من الغلط.

وإذا افتقر القاضي إلى مترجم فلا بدّ من مترجمين عدلين.

__________________

(١) الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٥٠٠ ـ ٧٩٤١ ، المغني لابن قدامة ١١ : ٤٤٠ ـ ٨٢٦٩.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ١٠٧ ـ ٢٦٠ ، والقحمة : المهلكة ـ مجمع البحرين ٦ : ١٣٤.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٥ ـ ٥ ، الفقيه ٣ : ٦٣ ـ ٢١٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ ـ ٧٤٧ ، الاستبصار ٣ : ٣٤ ـ ١١٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٦.

٦٣

البحث الثالث

في بعض الأحكام المتعلّقة بالقاضي‌

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اختلفت كلماتهم في جواز أخذ الأجرة والجعل على القضاء من المتخاصمين أو أحدهما أو غيرهما.

فقال في الكفاية : ولا أعرف خلافا بين الأصحاب في أنّه لا يجوز له أخذها من المتخاصمين مع وجود الكفاية من بيت المال ، ومع وجود الحاجة إليه ففي جواز أخذه منهما أو من أحدهما قولان ، أشهرهما : المنع (١). انتهى.

ونقل والدي في معتمد الشيعة الإجماع على الحرمة صريحا مع عدم الحاجة.

وقال في التحرير : أمّا أخذ الأجرة عليه فإنّه حرام بالإجماع ، سواء تعيّن عليه أو لم يتعيّن ، وسواء كان ذا كفاية أو لا (٢).

وفي المسالك : فمع وجود الكفاية من بيت المال لا يجوز له أخذها من المتخاصمين مطلقا ، ومع عدمها ووجود الحاجة إليها ففي جواز أخذه منهما أو من أحدهما قولان ، أشهرهما : المنع (٣). انتهى.

وظاهره أيضا عدم الخلاف في المنع مع وجود الكفاية.

__________________

(١) الكفاية : ٢٦٢.

(٢) التحرير ٢ : ١٨٠.

(٣) المسالك ٢ : ٣٥٤.

٦٤

وقال بعض الأجلّة : ولو أخذ الجعل من المتخاصمين ، فإن لم يتعيّن للحكم وحصلت الضرورة قيل : جاز ، وإن تعيّن للقضاء أو كان مكتفيا لم يجز له أخذ الجعل قولا واحدا (١). انتهى.

وعن المبسوط أنّه قال : عندنا لا يجوز بحال (٢). وظاهره الإجماع على المنع في الصورتين ، ونقل الإجماع عليه عن الخلاف أيضا (٣).

وقال في الشرائع : أمّا لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف ، والوجه التفصيل ، فمع عدم التعيين وحصول الضرورة قيل : يجوز ، والأولى المنع ، ولو اختلّ أحد الشرطين لم يجز (٤). انتهى.

وظاهره وجود الخلاف مع عدم الضرورة أيضا.

وقال في المفاتيح : أمّا لو شرط على المتخاصمين أو أحدهما جعلا ليفصل الحكومة بينهما ـ من غير اعتبار الحكم لأحدهما ، بل من اتّفق الحكم له منهما على الوجه المعتبر ـ جاز عند بعضهم (٥).

وظاهره الجواز في الحالين أيضا.

وقال في شرحه : والمشهور أنّ القاضي لو شرط على المتخاصمين أو أحدهما بذله جعلا له ـ ليفصل المنازعة من غير اعتبار أن يحكم للباذل بخصوصه ـ جاز له أخذ ذلك ، بل لو شرط الجعل على من اتّفق الحكم لأحدهما على الوجه الموافق للحقّ ـ بأن قال : من غلب منكما فلي عليه كذا ـ جاز أيضا عند الأكثر. انتهى.

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ١٤٣.

(٢) نقله عنه في كشف اللثام ٢ : ١٤٣ ، وقد يستفاد من المبسوط ٨ : ٨٥.

(٣) الخلاف ٢ : ٥٩٨.

(٤) الشرائع ٤ : ٦٩.

(٥) المفاتيح ٣ : ٢٥١.

٦٥

وظاهره أيضا الجواز ، بل شهرته في الحالين.

ونقل عن الحلبي والحلّي والمحقّق الثاني (١) وجماعة (٢) : المنع.

وعن المفيد والنهاية والقاضي : الجواز مع الكراهة (٣).

وكيف كان ، فالحقّ : عدم الجواز مطلقا مع الكفاية ، لظاهر الإجماع ، ولما مرّ في بحث التجارة من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب.

ولصحيحة ابن سنان : عن قاض بين فريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ، فقال : « ذلك السحت » (٤) ، فإن الظاهر من الرزق على القضاء كونه بإزائه ، فيكون أجرا ، وهو غير ارتزاق القاضي كما يأتي. وبذلك يظهر ضعف تضعيف دلالتها ، واحتمال حمل السحت فيها على الكراهة بالإجماع على حلّية الارتزاق.

والمرويّ في الخصال : « السحت أنواع كثيرة » ، وعدّ منها أجور القضاة (٥).

مضافا في صورة التعيين إلى عدم جواز توقيف أحد الواجب عليه على الشرط ، لأنّه عمل لنفسه لا لأحد المتحاكمين. بل قد يضاف ذلك في صورة عدم التعيين أيضا ، لما ذكر.

وفيه : أنّ المسلّم عدم جواز التوقيف في الواجب العيني ، ولذا قيل‌

__________________

(١) الحلبي في الكافي في الفقه : ٢٨٣ ، والحلي في السرائر ٢ : ٢١٧ ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٣٦.

(٢) منهم المحقق في الشرائع ٤ : ٦٩ ، والعلاّمة في القواعد ٢ : ٢٠٢ ، والشهيد في الدروس ٢ : ٦٩.

(٣) المفيد في المقنعة : ٥٨٨ ، النهاية : ٣٦٧ ، والقاضي في المهذب ٢ : ٥٨٦.

(٤) الكافي ٧ : ٤٠٩ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٤ ـ ١٢ ، التهذيب ٦ : ٢٢٢ ـ ٥٢٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢١ أبواب آداب القاضي ب ٨ ح ١.

(٥) الخصال : ٣٢٩ ـ ٢٦ ، الوسائل ١٧ : ٩٥ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ١٢.

٦٦

بجواز أخذ الأجرة فيما لا تشترط فيه القربة من الكفائيّات ، غاية الأمر أنّ إيجاد ما تعلّق به الوجوب لا يكون من جهة امتثال أمر الشارع ، ولا يكون الفاعل ممتثلا ، ولا يلزم منه عقاب ، أمّا على الفاعل فلعدم الوجوب عليه ، وأمّا على الجميع فلسقوط الواجب عنهم ، لأنّ الواجبات الكفائيّة الغير المشروطة بالقربة توصّليّة ، ولازم الوجوب التوصّلي تقييده بعدم تحقّق التوصّل ، فإذا حصل سقط.

ولكن الحقّ ـ كما سبق في كتاب التجارة ـ عدم جواز الأجرة على الواجب على الفاعل مطلقا ، عينيّا أو كفائيّا ، محتاجا إلى نيّة القربة أم لا.

وأمّا مع الضرورة وعدم الكفاية ، فمع التعيين لا يجوز أيضا إجماعا كما صرّح به والدي في معتمد الشيعة ، لأنّ اشتراط الجعل توقيف لامتثال أمر الشارع الواجب عليه على شرط وهو غير جائز.

وأمّا بدون التعيين ، فقيل : يجوز ، لانحصار الدليل على المنع حينئذ بإطلاق الصحيحة والرواية ، وهو معارض بأدلّة نفي الضرر ، وهي راجحة بموافقة الكتاب ومعاضدة الاعتبار وأكثريّة الأخبار ، ولو لا الرجحان أيضا لكان المرجع إلى أصالة الجواز.

ولا يرد انتفاء الضرر بتحصيل الكفاية من المعدّات لذوي الحاجات والمبرّات ، لأنّ المفروض انتفاؤها أو تعسّر أخذها عليه.

ومنعها والدي رحمه‌الله بإمكان دفع الضرر بترك القضاء وخروجه عن الاستحباب حينئذ.

والحاصل : أنّ تعارض أدلّة نفي الضرر مع أدلّة حرمة الأجر إنّما هو إذا لم يجز ترك القضاء ، ومع عدم التعيين يجوز ، فلا تعارض ، فيعمل‌

٦٧

بالدليلين بترك القضاء الذي لا محذور فيه.

وهو كذلك ، فالحرمة حينئذ هي الأقوى ، لتعارض دليلي نفي الضرر وحرمة الأجرة مع دليل القضاء ، فلا يعلم الإذن في القضاء هنا ، فلا يجوز.

ومنه يظهر فساد ما قد يقال من حصول ذلك التعارض مع التعيين أيضا بين دليل التعيين وأدلّة نفي الضرر ، فيرجع إلى الأصل فيجوز.

لأنّ الرجوع إلى الأصل يوجب تحريم القضاء ووجوب التكسّب لدفع الضرر ، فإنّ هذا إنّما يتمّ لو لم يمكن دفع الضرر إلاّ بأخذ الأجرة ، والمفروض إمكان دفعه بالتكسّب ، وإلاّ لم يكن القضاء موجبا للضرر.

المسألة الثانية : يجوز له الارتزاق من بيت المال‌ ، ولو مع التعيين وعدم الحاجة ، كما صرّح بهما والدي في معتمد الشيعة ، وادّعى بعضهم الإجماع عليه.

لمرسلة حمّاد الطويلة ، وفيها : « ويؤخذ الباقي ، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين الله ، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد ، وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة » (١) الحديث.

وقيّد في اللمعة الجواز بالحاجة (٢). ولا وجه له بعد عموم الرواية المنجبرة.

ومعنى الارتزاق منه : هو أخذ الرزق منه لأجل كونه قاضيا ، لا لقضائه وعليه وبإزائه. وإعطاء الوالي أيضا كذلك.

والفرق بين المعنيين واضح ، فإنّ الأخ يعطي أخاه لكونه أخا له ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٣٩ ـ ٤ ، التهذيب ٤ : ١٢٨ ـ ٣٦٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢١ أبواب آداب القاضي ب ٨ ح ٢.

(٢) اللمعة ( الروضة البهيّة ٣ ) : ٧١.

٦٨

لا لأجر الاخوّة وبإزائه. وكذا من وقف على المؤذّن مثلا أو نذر له شيئا فهو يعطيه لأجل كونه مؤذّنا ، لا بإزاء أذانه. ولذا لو وقف أحد ضياعا على شيعة بلده أو صائميه يجوز لهم الارتزاق من نمائه ، مع أنّه لا يجوز أخذ شي‌ء بإزاء التشيّع والصوم.

ومن هذا يظهر أنه لا تعارض بين المرسلة وبين الصحيحة والرواية ، لعدم كون المأخوذ حينئذ أجرا أو رزقا على القضاء ، وإن كان رزقا لكونه قاضيا.

وهل يكره له ذلك مع اليسار؟.

صرّح والدي في معتمد الشيعة بالكراهة ، ناسبا له إلى الأكثر ، لصحيحة ابن سنان المتقدّمة.

وفي دلالتها نظر يظهر ممّا مرّ.

نعم ، لا بأس بالقول بالكراهة ، لحكايتها عن الأكثر.

ولو لم يكن بيت المال ، فهل يجوز له الارتزاق من سائر الوجوه التي مصرفها الخير أو سبيل الله؟

الظاهر : الجواز مع الضرورة والحاجة ، لتوقّف التوصّل إلى ذلك الخير العام بالارتزاق ، وأمّا بدونها فيشكل ، سيّما مع التعيين ، بل لا يجوز حينئذ البتّة ، كما لا يجوز صرفها إلى المصلّين والصائمين لأجل صلاتهم وصيامهم.

المسألة الثالثة : يحرم على القاضي أخذ الرشوة‌ ـ مثلّثة الراء ـ إجماعا من المسلمين ، للمستفيضة من المعتبرة.

وفي موثّقة سماعة : « إنّ الرشا في الحكم هو الكفر بالله » (١).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٩ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٢٢ ـ ٥٢٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٢ أبواب آداب القاضي ب ٨ ح ٣.

٦٩

وفي مضمرته : « فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم » (١).

وكذا في روايته (٢) ، ومرسلة الفقيه (٣) ، ورواية عمّار بن مروان (٤).

وفي رواية يزيد بن فرقد : عن السحت ، فقال : « الرشا في الحكم » (٥).

وفي رواية السكوني : قال : « السحت ثمن الميتة » إلى أن قال : « والرشوة في الحكم » (٦).

وكما يحرم عليه أخذها كذلك يحرم على باذلها دفعها ، لأنّه إعانة على الإثم والعدوان ، ولقوله عليه‌السلام : « لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم » (٧).

ولا كلام في شي‌ء من ذلك ، وإنّما الكلام في أمور ثلاثة :

أحدها : أنّ الرشوة المحرّمة ما هي؟

وثانيها : أنّه هل خصّص من تحريم الإرشاء والارتشاء صورة ، أم لا؟

وثالثها : في التفرقة بينها وبين الهديّة للقاضي ، وأنّها هل هي أيضا رشوة ، أو كالرشوة محرّمة ، أم لا؟

أمّا الأول : فلا كلام في أنّ الرشوة للقاضي هي : المال المأخوذ من‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٧ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٥٢ ـ ٩٩٧ ، الوسائل ١٧ : ٩٢ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٢١ ـ ١١٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٣ أبواب آداب القاضي ب ٨ ح ٨.

(٣) الفقيه ٣ : ١٠٥ ـ ٤٣٥ ، الوسائل ١٧ : ٩٤ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ٨.

(٤) الكافي ٥ : ١٢٦ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٣٦٨ ـ ١٠٦٢ ، الوسائل ١٧ : ٩٢ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ١.

(٥) الكافي ٥ : ١٢٧ ـ ٤ ، الوسائل ١٧ : ٩٣ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ٤.

(٦) الكافي ٥ : ١٢٦ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٦٨ ـ ١٠٦١ ، تفسير القمي ١ : ١٧٠ ، الخصال : ٣٢٩ ـ ٢٥ ، الوسائل ١٧ : ٩٣ أبواب ما يكتسب به ب ٥ ح ٥.

(٧) سنن الترمذي ٢ : ٣٩٧ ـ ١٣٥١ ، سنن ابن ماجه ٢ : ٧٧٥ ـ ٢٣١٣ ، مسند أحمد ٢ : ٣٨٧ ، مستدرك الحاكم ٤ : ١٠٣.

٧٠

أحد الخصمين أو منهما أو من غيرهما للحكم على الآخر ، وإهدائه وإرشاده في الجملة.

إنّما الكلام في أنّ الحكم أو الإرشاد المأخوذين في مهيّته ، هل هو مطلق شامل للحقّ والباطل ، أو يختصّ بالحكم بالباطل؟

مقتضى إطلاق الأكثر وتصريح والدي العلاّمة في معتمد الشيعة والمتفاهم في العرف هو : الأول ، وهو الظاهر من القاموس والكنز ومجمع البحرين (١).

ويدلّ عليه استعمالها فيما اعطي للحقّ في الصحيح : عن الرجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله فيسكنه ، قال : « لا بأس » (٢).

فإنّ الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره الحقيقة ، كما حقّق في موضعه.

نعم ، عن النهاية الأثيريّة ما ربّما يشعر بالتخصيص (٣) ككلام بعض الفقهاء ، وهو لمعارضة ما ذكر غير صالح ، مع أنّ الظاهر أنّ مراد بعض الفقهاء تخصيص الحرمة دون الحقيقة.

وأمّا الثاني : فمقتضى إطلاق الأخبار التعميم.

وقد يخصّ الجواز للمرتشي إذا كان يحكم بالحقّ وإن لم يرتش. وهو ضعيف غايته.

وقد يخصّ الجواز للراشي إذا كان محقّا ولا يمكن وصوله إلى حقّه بدونها ، ذكره جمع كثير (٤) منهم الوالد الماجد.

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٣٣٦ ، مجمع البحرين ١ : ١٨٤.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٧٥ ـ ١٠٩٥ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٨ أبواب ما يكتسب به ب ٨٥ ح ٢.

(٣) النهاية الأثيرية ٢ : ٢٢٦ ، قال : فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل.

(٤) منهم المحقق في الشرائع ٤ : ٧٨ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٦٤ ، والروضة ٣ : ٧٥.

٧١

وهو حسن ، لمعارضة إطلاقات تحريمها مع أدلّة نفي الضرر ، فيرجع إلى الأصل لو لم يرجح الثاني ، ولكن الجواز حينئذ مخصوص بالراشي دون المرتشي.

وقد يخصّ أيضا (١) بما إذا أرشى وارتشى للحكم بالباطل ، إمّا لاختصاص حقيقتها بذلك كما مرّ ، وضعفه قد ظهر. أو لتخصيص ذلك بالصحيحة المذكورة المجوّزة للإرشاء للتحوّل من منزله ، ويضعّف بأنّ الكلام في الرشا في الحكم دون التحوّل من المنزل.

وأما الثالث : فالفرق بين الرشوة والهديّة : أنّ الاولى ـ كما عرفت ـ : هي المال المبذول للتوصّل به إلى الحكم ابتداء أو إرشادا. والثانية : هي العطيّة المطلقة ، أو لغرض آخر نحو التودّد أو التقرّب إليه أو إلى الله.

والحاصل : أنّ كلّ مال مبذول لشخص للتوصّل به إلى فعل صادر منه ولو مجرّد الكف عن شرّه لسانا أو يدا أو نحوهما فهو رشوة.

ولا فرق في الفعل ـ الذي هو غاية البذل ـ أن يكون فعلا حاضرا ، أو متوقّعا ، كأن يبذل للقاضي لأجل أنّه لو حصل له خصم يحكم للباذل ، وإن لم يكن له بالفعل خصم حاضر ولا خصومة حاضرة.

وكلّ مبذول لا لغرض يفعله المبذول له ، بل لمجرّد التودّد أو التقرّب إلى الله أو إليه أو لصفة محمودة أو كمال فيه ، فهو هديّة ، وإن كان الغرض من التودّد والتقرّب إليه الاحتفاظ من شرّ شخص آخر أو التوصّل إلى فعل شخص آخر يوجبه التقرّب والتودّد إليه.

وقد يستعمل لفظ أحدهما في معنى الآخر تجوّزا.

__________________

(١) يعني : الحكم بالحرمة.

٧٢

فما كان من الأول ، فإن كان الفعل المقصود الحكم فهو حرام مطلقا كما مرّ ، سواء كان الحكم لخصومة حاضرة أو فرضيّة ، ولذا حكموا بحرمة الهديّة الغير المعهودة قبل القضاء ، لأنّه قرينة على أنّ المقصود منه الحكم ولو فرضا.

وهو كذلك ، لصدق الرشوة عرفا ، فتشمله إطلاقاتها ، وعليه يحمل إطلاق ما ورد في طريق العامّة والخاصّة كما في أمالي الشيخ : « إنّ هدايا العمّال » كما في بعضها ، أو : « هديّة الأمراء » كما في بعض آخر « غلول » أو « سحت » (١).

وتدلّ عليه أيضا رواية أبي حميد الساعدي : قال : استعمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا ـ يقال له : اللثّة ـ على الصدقة ، فلمّا قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر فقال : « ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فهلاّ جلس في قعب بيته أو في بيت امّه فينظر أيهدى له أم لا ، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلاّ جاء يوم القيامة يحمله على رقبته » الحديث (٢).

وإن كان غير الحكم ، فإن كان أمرا محرّما فهو أيضا كرشوة الحكم محرّم ، لكونه إعانة على الإثم واتّباعا للهوى.

وإن لم يكن محرّما فلا يحرم ، للأصل ، واختصاص الأخبار المتقدّمة برشوة الحكم.

وما كان من الثاني لا يحرم.

وقيل بحرمته للقاضي أيضا إن كان للباذل خصومة حاليّة أو مئاليّة ،

__________________

(١) أمالي الشيخ ١ : ٢٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٣ أبواب آداب القاضي ب ٨ ح ٦.

(٢) سنن البيهقي ٤ : ١٥٨.

٧٣

لإيجابه ميل قلبه ، وانكسار قلب خصمه.

وفيه : أنّ إيجاب الميل القلبي لا يوجب التحريم ، وحرمة كسر قلب الخصم إنّما تتأتّى في الخصومة الحاضرة أو الواقعة يقينا ولو بعد حين ، ومع ذلك يوجب كسر قلبه إذا كان بحيث يطّلع عليه ، فلو فرض إهداء شي‌ء علم أنّ غرضه ليس فعلا أصلا ولم يطّلع خصمه عليه لا يكون حراما ، وأمّا حصول ذلك العلم فهو أمر لا يكاد يحصل غالبا.

ولو لم يعلم مقصوده وأنّ المبذول هل هو من الأول أو الثاني ، فمقتضى الأصل الحلّية ، إلاّ أن تدلّ على قصده القرينة ، ومنها : عدم الاعتياد قبل القضاء ، ومنها : حضور خصومة له أو عليه أو حصولها له بعد ذلك علما أو ظنّا.

ولو لم يعتبر ذلك في التميّز لزم عدم حرمة رشوة إلاّ ما صرّح به الراشي أنّه للحكم ، وهو خلاف الإجماع.

ولو تعارضت القرينتان ـ كأن يكون ذلك ممّن جرت عادته بذلك قبل حصول الخصومة ، كالقريب والصديق الملاطف ، فبذل بعد حضورها أيضا ـ فالأحوط عدم القبول ، بل الأحوط للقاضي سدّ باب الهدايا مطلقا ، بل حكم جمع بكراهتها له ، ولا بأس به ، لفتواهم.

فرع : يجب على المرتشي ردّها على الراشي‌ ـ وإن بذلها برضى نفسه ـ مع بقاء عينها إجماعا ، والوجه فيه ظاهر.

ويجب عليه ردّ عوضها مع تلفها أيضا ـ وإن لم يكن التلف بتفريطه ـ وجوبا فوريّا ، على المصرّح به في كلام الأصحاب ، بل نفي الخلاف بيننا عنه (١) ، وعن ظاهر المسالك (٢) وغيره : إجماعنا عليه.

__________________

(١) كما في غنائم الأيام : ٦٧٥.

(٢) المسالك ١ : ١٦٧.

٧٤

وهو أيضا فيما إذا كان بذلها من غير رضى الباذل وطيب نفسه ظاهر ، وأمّا لو بذلها بطيب نفسه ـ سيّما إذا حكم له بالحقّ ـ فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها عليه وضمانه إيّاها مطلقا ، وإلاّ فللتأمّل فيه ـ للأصل ـ مجال واسع.

المسألة الرابعة : صرّح جماعة ـ منهم : المحقق في الشرائع والفاضل في القواعد والتحرير والإرشاد ووالدي العلاّمة رحمه‌الله في معتمد الشيعة ـ بعدم نفوذ قضاء القاضي على من لا تقبل شهادته عليه ، ولا لمن لا تقبل شهادته له (١).

واستدلّوا له بكونه شهادة وزيادة.

وفيه : منع ظاهر. وإطلاقات نفوذ حكم الحاكم يشمل الجميع ، فلا مناص عن الحكم بالعموم إلاّ أن يثبت الإجماع على ما ذكروه ، ولكنّه غير ثابت ، بل قال بعض الأجلّة في شرحه على القواعد : وخصّ بعضهم المنع بقاضي التحكيم (٢).

وجوّزه المحقّق الأردبيلي ، لعموم الأدلّة.

نعم ، لا ينفذ حكم الحاكم لنفسه على خصمه إجماعا ، لاختصاص النصوص بما يتضمّن الحكم للمتنازعين ، أو ما يتبادر منه غير نفسه ، بل لإطلاق الأوامر بالرجوع إلى الحاكم ، والنظر في التنازع والحوادث إلى من علم أو عرف ، أو رواه الحديث ، من غير تفصيل بين العالم والعارف والراوي وغيرهم ، والرجوع وأمثاله لا يكون إلاّ إلى الغير.

ويدلّ عليه أيضا ما ورد في تنازع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعرابي في‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٧١ ، القواعد ٢ : ٢٠٢ ، التحرير ٢ : ١٨١.

(٢) كشف اللثام ٢ : ١٤٣.

٧٥

ثمن الناقة (١) والفرس (٢) ، وتنازع وليّ الله مع عقيل (٣) وعبّاس (٤). ويؤكّده تصريح الأصحاب بكراهة تولّيه للترافع مع خصمه عند حاكم آخر ، واستحباب التوكيل له.

ومنه يظهر عدم نفوذ حكمه فيما له الشركة فيه إذا كان هو أو وكيله الخصم ، لأنّه حينئذ مأمور بالرجوع إلى الحاكم ، ولا معنى لرجوع أحد إلى نفسه.

وأمّا لو كان الخصم شريكه ـ كأن يدّعي أخوه دارا في يد غيره بحقّ الإرث ـ ينفذ حكمه في حقّ أخيه ، للإطلاقات. ولا يثبت منه حقّه حينئذ ، لعدم حكمه لنفسه وعدم نفوذه لو حكم ، فلو ترك المدّعى عليه الكلّ نفذ حكمه في النصف ولم يتنازع في نصف الحاكم أيضا فلا بحث ، وإن نازع معه يتحاكمان إلى ثالث ، وإن حكم بخلاف ما حكم هو لأخيه ، كما إذا تحاكم كلّ من الشريكين مع خصمه إلى حاكم غير ما تحاكم به الآخر فحكما كذلك ، كلّ بحكم غير حكم الآخر.

وكذا إن ادّعى أحد على أخيه حصّته من دار مورّثه ينفذ حكم الحاكم لأخيه فيه ، ولا تسقط به دعوى المدّعي في حصّة الحاكم ، فلو ادّعى يتحاكمان إلى ثالث.

فإن قيل : ثبوت حقّ الشريك يستلزم ثبوت حقّ الحاكم أيضا ، فثبوت‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٦٠ ـ ٢١٠ ، أمالي الصدوق : ٩٠ مجلس ٢٢ ، الانتصار : ٢٣٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧٤ أبواب كيفية الحكم ب ١٨ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٤٠٠ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٦٢ ـ ٢١٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٧٦ أبواب كيفية الحكم ب ١٨ ح ٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٠٩.

(٤) رجال الكشي ١ : ٢٧٩ ـ ١٠٩ ، ١١٠.

٧٦

المحكوم به لشريكه دون نفسه يستلزم تخلّف الملزوم عن اللاّزم ، وهو باطل البتّة ، فيجب إمّا عدم نفوذ الحكم أصلا ، أو ثبوت المحكوم به في حصّة الحاكم أيضا ، بأن يثبت للشريك ـ لعمومات نفوذ حكم الحاكم للغير ـ ولنفسه لأجل الاستلزام ، ولكن ثبوته فيما له شركة فيه خلاف الإجماع القطعي ، فلا بدّ أن لا ينفذ في شي‌ء منهما.

قلنا : ليست هذه اللوازم لوازم عقليّة لا يمكن تخلّفها عن الملزوم ، بل أمور شرعيّة قابلة للتخصيص ، فالعمومات توجب نفوذ الحكم في حقّ الشريك ، والإجماع يمنع نفوذه في حقّ الحاكم ، لأنّ بالإجماع تنفى الملازمة هنا ، ولا يمكن نفي ثبوت الملزوم ، لعدم الإجماع فيه ، وكون عمومات النفوذ خالية عن المعارض.

وهل ينفذ حكمه لمن له الولاية بالأبوة أو الجدودة أو الوصاية عليه ، أم لا؟

قال في التحرير : ولو تولّى وصيّ اليتيم القضاء فهل يقضي له؟ فيه نظر ينشأ من كونه خصما في حقّه كما في حقّ نفسه ، ومن أنّ كلّ قاض هو وليّ الأيتام (١). انتهى.

والتحقيق : أنّه إن كان الخصم والمنازع هو الحاكم فلا ينفذ حكمه ولا بدّ من الرجوع إلى الغير ، وإن كان غيره ـ كشريك لمن هو وليّه ـ فينفذ حكمه في حصّة الشريك والمولّى عليه له.

أمّا في حصّة الشريك فبعمومات نفوذ حكمه.

وأمّا في حصّة المولّى عليه فبأدلّة الملازمة بين ثبوت ذلك المال وبين‌

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٨١.

٧٧

شركة المولى عليه ، فإذا حكم أنّه مال مورّث الشريك فثبت حقّ المولّى عليه بأدلة الإرث.

بل وكذا غير المولّى عليه والمدّعي ، فلو ثبت بعد دعوى المدّعي كون الملك الفلاني مال مورّثه وحكم بحصّته له ثبتت حصّة سائر الكبار أيضا ، فلهم المطالبة بذلك الإثبات من غير حاجة إلى إقامة الشاهد ثانيا.

نعم ، لو اعترف ذلك بعدم حقّيّة نفسه يعارض ذلك دليل الاستلزام ويرجع إلى الأصل.

فإن قيل : ما الفرق بين حصّة الحاكم نفسه ، فكانت لا تثبت بالاستلزام وتثبت حصّة من له الولاية عليه؟

قلنا : الفارق هو الإجماع المتقدّم ، فإنّه معلوم في حصّة نفسه ، ولولاه لقلنا بثبوتها أيضا ، ولا إجماع هنا حتى من جهة ما يثبت للحاكم أيضا من التسلّط في التصرّف بحقّ الولاية ، إذ لم يتحقّق الإجماع إلاّ في حصّته الماليّة.

وكذا الحكم في سائر الأيتام والمجانين والغيّب الذي له الولاية عليه عموما ، فلا ينفذ حكمه لهم لو كان هو الخصم والمنازع ، وينفذ حكمه لو كان المنازع غيره ، من قيّم من جانبه على أمورهم ، أو من جانب حاكم آخر.

وليس القيّم كالوكيل في المخاصمة والتنازع ، حتى يكون هو بمنزلة الموكّل ، بل هو بمنزلة الوكيل لمن هو قيّم له ، جعله الحاكم وكيلا له بحقّ ولايته لا وكيلا لنفسه ، ولذا يفترق مع الوكيل في أنّه لا يشرط في الوكيل الوثاقة والعدالة ويشترط في القيّم ، ويجوز له إجراء العقود بقيد الاحتساب دون الوكالة.

٧٨

ولو كان القيّم هو الحاكم ، ووكّل أحدا في المنازعة ، فلا ينفذ حكمه.

وكذا لا ينفذ حكمه لو وكّل أحدا من جانب نفسه لولايته على ولده الصغير أو ولد موصيه في منازعة.

ولو وكّله في جميع أموره عموما من غير سبق نزاع فاتّفقت المنازعة ، فهل ينفذ حكمه لوكيله؟ فيه إشكال.

كما أنّه يشكل الحكم بجواز جعل أحد قيّما لأحد هذين الصغيرين لا وكيلا لنفسه حتى ينفذ حكمه له.

والأولى والأحوط حينئذ الرجوع في المنازعة إلى حاكم آخر.

ولو لم يكن هناك غيره فالأولى التوصّل بالحيل الشرعيّة ، فتنقل حصّة المولّى عليه إلى غيره مع خيار فسخ في مدّة معلومة ، فيحكم للمنتقل إليه ثمَّ يفسخ.

فرع : لو باشر الحاكم بنفسه عقدا لغيره بوكالته كبيع أو نكاح ، ثمَّ حصل النزاع فيه بين متنازعين ، ينفذ حكم الحاكم فيه‌ ، للإطلاقات.

ولا يضرّ كونه وكيلا ، لأنّه كان وكيله في مجرّد إيقاع عقد ، وتمّت الوكالة ، وليس مثل ذلك الوكيل ممّن يردّ قوله.

ولو باع عن بالغ غير رشيد لأحد ولاية ، وباع أبوه أيضا لآخر كذلك ، أو نكح غير رشيدة بظن الولاية ، ونكحت نفسها لآخر ، فتنازع المتبايعان أو الزوجان ، ينفذ حكم ذلك الحاكم لمن حكم لهما ، سواء كان النزاع في الرشد وعدمه ، أو في إجراء العقد وعدمه ، أو في صحّة عقد الحاكم عن الرشيد والرشيدة وعدمه ، للإطلاقات.

المسألة الخامسة : إذا حكم حاكم بحكم ، لم يجب على حاكم آخر البحث عنه‌ ، وجاز له إمضاؤه إذا اعتقده أهلا ، بل يجب ، للمقبولة.

٧٩

لكن لو نظر فيه جاز ، فإن ظهرت إصابته أو لم يظهر شي‌ء من الصواب والخطأ وجب الإمضاء.

وكذا إن ظهرت مخالفته لما هو صواب في نظر الثاني من الأدلّة الظنّية المحتملة للمخالفة.

وإن ظهر خطوة في دليل قطعيّ غير متحمّل لقبول المخالفة من المجتهدين ، لم يجز إمضاؤه ، بل وجب عليه وعلى غير ذلك الحاكم نقضه ، سواء خفي الدليل على الحاكم الأول أو لا ، وسواء أنفذه الحاكم الأول أو لا ، وسواء أنفذه الجاهل به أم لا ، للإجماع ـ كما صرّح به بعض الأجلّة في شرحه على القواعد أيضا (١) ـ وللقطع بأنّه خلاف حكم الله ، فإمضاؤه إدخال في الدين ما ليس منه وحكم بغير ما أنزل الله ، فيدخل في نصوص من حكم به ، أو لم يحكم بما أنزل الله.

وكذا إن ظهر خطوة في دليل ظنّي عنده لأجل تقصيره في القدر اللاّزم من الاجتهاد عند الأول ، بل ينقض مع التقصير ولو اتّفق مطابقته لطريقة اجتهاده.

والحاصل : إنّ الموجب للنقض أحد الأمرين : إمّا الخطأ في الدليل القطعي ، أو التقصير في الاجتهاد ، إذ ليس الحكم في الصورتين حكم الله في حقه قطعا.

ولكن فهم التقصير في الاجتهاد إذا لم يخالف دليلا قطعيّا ممّا لا يظهر لغير نفسه غالبا وإن أمكن أحيانا ، فالفائدة في الأغلب تظهر في جواز نقض نفسه حكمه أو وجوبه.

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ١٥٤.

٨٠