مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

لأنّ قطع الدعوى مع سكوت المدّعي وعدم طلبه ليس بجائز ، فكيف يحكم بوجوب تقديمه؟!

إلاّ أن يقال : إنّ المراد تقديم الأمر بالتكلّم ، واستحباب أصله لا ينافي وجوب تقديم بعض أفراده. ولكنّه بعيد.

ثمَّ إنّ أكثر الأصحاب لم يذكروا على ما حكموا به ـ من وجوب تقديم الأسبق مع العلم بالسبق والقرعة بدونه ـ دليلا. ويظهر من المسالك أنّه لمراعاة التسوية بين الخصوم (١).

وفيه : أنّ الثابت من التسوية هو وجوبه أو استحبابه بالنسبة إلى شخصين متخاصمين ، وأمّا بالنسبة إلى خصمين آخرين فغير ثابت.

واستدلّ والدي ـ طاب ثراه ـ على الأول في المعتمد بالأولويّة ، وعلى الثاني بأنّ القرعة لكلّ أمر مشكل.

ويرد على الأول : منع الأولويّة ، وعلى تسليمها منع صلاحيّتها لإيجاب التقديم.

وعلى الثاني : منع الإشكال ، لأنّه إنّما يكون إذا علم استحقاق أحدهما للتقديم ولم يتعيّن ، وأمّا إذا لم يعلم الاستحقاق فالحكم التخيير.

نعم ، يظهر من السرائر أنّه وردت بهذا الحكم رواية ، حيث قال : فإذا جلس حكم للأول فالأول ، فإن لم يعلم بالأول أو دخلوا دفعة روى أصحابنا أنّه : يتقدّم إلى من يأمر كلّ من حضر للتحاكم إليه أن يكتب اسمه واسم أبيه وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة ، فإذا فعلوا ذلك وكتب أسماءهم وأسماء خصومهم في الرقاع قبض ذلك كلّه‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٦.

١٢١

وخلط الرقاع وجعلها تحت شي‌ء يسترها به عن بصره ، ثمَّ يأخذ منها رقعة ينظر فيها ويدعو باسم صاحبها وخصمه فينظر بينهما (١). انتهى.

وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة ، ولكن بملاحظة اشتهار الحكم عند الأصحاب اشتهارا قويّا كاد أن يكون إجماعا ، لا يبعد القول بثبوت هذا الحكم وجوبا.

فروع :

أ : كلّما آل الأمر إلى الإقراع ، فهل يقتصر على كتب اسم المدّعي ، أو يكتب اسم خصمه أيضا؟

المشهور : الأول ، لأنّه المستحقّ للتقديم أو التأخير واقعا ، المجهول استحقاقه ظاهرا ، والخصم تابع له.

نعم ، لو ثبت للخصوم أيضا استحقاق عند تعدّدهم يفتقر إلى قرعة أخرى ، أو رقاع متعدّدة في القرعة الواحدة ، ولكنّه لم يثبت ، فللمدّعي الاختيار في التعيين مع التعدّد.

ولا يخفى أنّ هذا الدليل إنّما يتمّ لو كان الموجب للإقراع هنا وضعه لكلّ أمر مشكل. ولو كان موجبه الرواية المتقدّمة فلا بدّ من كتب اسم الخصم أيضا تعبّدا ، لذكره فيها.

ب : صرّح في المسالك والتحرير بأنّ المقدّم بالسبق أو القرعة إنّما يقدّم في دعوى واحدة ، فلو قال : لي دعوى اخرى مع هذا الخصم أو مع غيره لم يسمع إلى أن يفرغ القاضي من سماع دعوى سائر الحاضرين ،

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٥٦.

١٢٢

فحينئذ تسمع دعواه (١).

ومستند الحكم غير واضح ، فالحكم بوجوب التأخير مشكل.

ج : يجوز لمن حقّه التقديم بالسبق أو القرعة إسقاط حقّه ، فيقدّم من له السبق بعده أو من خرجت القرعة له.

ولو وهب حقّه لغيره ، فهل يجب تقديمه ، أو يجوز ، أو يقدّم من له السبق؟

قيل بالأول ، لأنّ الحقّ صار له. ويخدشه أنّ الثابت ثبوته لنفسه ، وحصول النقل بالانتقال موقوف على الدليل ، وليس ، فالظاهر الثالث.

وهل تجوز للحاكم الشفاعة في الإسقاط أو الهبة؟

الظاهر : نعم ، للأصل.

د : إذا حضر الخصمان فسبق أحدهما إلى الدعوى ، ثمَّ قطع المدّعى عليه دعواه بدعوى أخرى ، أو قال : أنا المدّعي ، لم تسمع منه دعواه بلا خلاف يعرف ، بل يمنع حتى يجيب عن الدعوى وتنتهي الحكومة.

ويمكن أن يستدلّ عليه بحديث التسوية ، وفي فقه الرضا عليه‌السلام : « وإذا تحاكم خصمان فادّعى كلّ واحد منهما على صاحبه دعوى فالذي بدأ بالدعوى أحقّ من صاحبه أن يسمع منه ، فإذا ادّعيا جميعا فالدعوى للذي على يمين خصمه » (٢) ، وضعفه بالعمل مجبور.

واستدلّ في المسالك على هذا الحكم بما سبق من وجوب تقديم السابق (٣).

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٦ ، التحرير ٢ : ١٨٣.

(٢) فقه الرضا « عليه‌السلام » : ٢٦٠ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٥١ أبواب آداب القاضي ب ٥ ح ١.

(٣) المسالك ٢ : ٣٦٦.

١٢٣

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان المراد بالسابق ـ فيما سبق ـ السابق بالدعوى ، وهو خلاف ظاهر كلام الأصحاب ، بل الظاهر منهم أنّ المراد منه : السابق بالورود ، وعلى هذا فربّما يكون الخصمان دخلا معا أو دخل السابق بالدعوى متأخّرا.

ولو ابتدرا معا ، فالمشهور بين الأصحاب ـ كما في المختلف (١) وغيره (٢) وادّعي الإجماع عليه (٣) ـ أنّه تسمع الدعوى من الذي على يمين صاحبه ، وهو المحكيّ عن عليّ بن بابويه في رسالته والمفيد في المقنعة والشيخ في النهاية (٤) ، وادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع (٥) ، وقال السيّد : إنّه ممّا انفردت به الإماميّة ، وادّعى الإجماع عليه أيضا (٦).

والشيخ بعد أن ادّعى إجماع الطائفة مال إلى القرعة ، واستوجهه في المسالك (٧).

وظاهر الكفاية والمفاتيح التوقف (٨).

والأصل فيه ما رواه محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام » (٩).

__________________

(١) المختلف : ٦٩٨.

(٢) كالكفاية : ٢٦٦.

(٣) كما في مفتاح الكرامة ١٠ : ٣٢.

(٤) حكاه عن علي بن بابويه في المختلف : ٦٩٨ ، المقنعة : ٧٢٥ ، النهاية : ٣٣٨.

(٥) الخلاف ٦ : ٢٣٤ ـ ٣٢.

(٦) الانتصار : ٢٤٣.

(٧) المسالك ٢ : ٣٦٦.

(٨) الكفاية : ٢٦٦ ، المفاتيح ٣ : ٢٥٢.

(٩) الفقيه ٣ : ٧ ـ ٢٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٨ أبواب آداب القاضي ب ٥ ح ٢.

١٢٤

واعترض بجواز أن يكون المراد باليمين يمين القاضي ، كما احتمله في المفاتيح (١) ، أو الحلف كما احتمله الإسكافي (٢) ، لأنّه صاحب اليمين إن شاء أحلف خصمه وإن لم يشأ لم يحلف ، بل يحتمل أن يكون المراد بالتقديم بالكلام : التقديم بتكلّم الحاكم معه.

وردّ بالمخالفة للظاهر.

وبنقل الاتّفاق في المسالك على أنّ المراد منه يمين الخصم.

وبأنّ الأصحاب حملوه عليه ، وفهمهم قرينة.

وبصحيحة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا تقدّمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض فكن عن يمينه » يعني : يمين الخصم (٣).

وفي الأول : أنّا لو سلّمنا مخالفة الأول للظاهر فمخالفة الثاني والثالث ممنوعة.

والاتّفاق المدّعى غير ثابت.

والصحيحة لا تفيد أزيد من رجحان التيامن المرغّب فيه في كلّ شي‌ء ، إلاّ أنّ الحلّي والشيخ في الخلاف والمبسوط قالا : إنّه روى أصحابنا يقدّم من على يمين صاحبه (٤). وكذا يدلّ عليه الرضويّ المتقدّم (٥) ، وهما منجبران بالشهرة والإجماع المنقول ، فلا مناص عن العمل بهما.

هـ : ما ذكر من تقديم الأسبق إنّما هو فيما إذا لم يستضرّ غيره‌

__________________

(١) المفاتيح ٣ : ٢٥٣.

(٢) نقله عنه في المختلف : ٦٩٩.

(٣) الفقيه ٣ : ٧ ـ ٢٦ ، التهذيب ٦ : ٢٢٧ ـ ٥٤٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٨ أبواب آداب القاضي ب ٥ ح ١.

(٤) الحلّي في السرائر ٢ : ١٥٦ ، الخلاف ٦ : ٢٣٤ ـ ٣٢ ، والمبسوط ٨ : ١٥٤.

(٥) في ص ١٢٣.

١٢٥

بالتأخير ، ولو استضرّ يقدّم ، دفعا للضرر ، وعدم الشهرة الجابرة.

ولا بعد في جواز تقديم المرأة أيضا مطلقا ، لعدم الانجبار.

و : قد ذكروا أنّ المفتي والمدرّس أيضا كالقاضي عند تزاحم المستفتين والطلبة في وجوب تقديم الأسبق أو القرعة ، ومأخذ الحكم غير معلوم.

المسألة الخامسة : قد صرّح كثير من الأصحاب ـ منهم الشيخ في المبسوط (١) ـ باستحباب ترغيب الخصمين إلى الصلح للقاضي.

ويظهر من السرائر ذهاب جمع إلى عدم الجواز ، حيث قال : وله أن يأمرهما بالصلح ، ويشير بذلك ، لقوله تعالى ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (٢) وما هو خير فللإنسان فعله بغير خلاف من محصّل ، وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من المتفقّهة ، فيظنّ أنّه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح ولا يشير به ، وهذا خطأ من قائله (٣). انتهى.

وتفصيل الكلام : إنّ ترغيب الحاكم في الصلح إمّا يكون بعد الحضور للمرافعة وقبل بيان الدعوى ، أو يكون بعد البيان وقبل ثبوت الحقّ بالبيّنة أو اليمين أو الإقرار أو سقوطه بالحلف ، أو يكون بعد الثبوت أو السقوط وقبل الحكم وإظهار الثبوت أو السقوط ، أو يكون بعده.

ولا ينبغي الارتياب في استحباب الترغيب في الأولين.

ويدلّ عليه قوله تعالى ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ).

وقوله سبحانه ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (٤).

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٧٠.

(٢) النساء : ١٢٨.

(٣) السرائر ٢ : ١٦٠.

(٤) الحجرات : ١٠.

١٢٦

وقوله جلّ شأنه ( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (١).

وقوله عزّ اسمه ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ ) (٢).

والمرويّ في تفسير الإمام ، وهو طويل يذكر فيه كيفيّة قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي آخره : « فإذا ثبت عنده ذلك لم يهتك ستر الشاهدين ، ولا عابهما ولا وبّخهما ، ولكن يدعو الخصوم إلى الصلح ، فلا يزال بهم حتى يصطلحوا » الحديث (٣).

وصحيحة هشام بن سالم : « لأن أصلح بين اثنين أحبّ إليّ من أن أتصدّق بدينارين » (٤).

ورواية أبي حنيفة سائق الحاج : قال : مرّ بنا المفضّل وأنا وختني (٥).

نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة ، ثمَّ قال لنا : تعالوا إلى المنزل ، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم ، فدفعها إلينا من عنده ، حتى إذا استوثق كلّ منّا من صاحبه قال : أما أنّها ليست من مالي ، ولكن أبو عبد الله عليه‌السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شي‌ء أن أصلح بينهما وأفتديهما من ماله (٦).

وظاهر أبي الصلاح أنّ المستحبّ للقاضي الترغيب في أصل الصلح ،

__________________

(١) الأنفال : ١.

(٢) البقرة : ٢٢٤.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٣٩ أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ب ٦ ح ١ ، بتفاوت يسير.

(٤) الكافي ٢ : ٢٠٩ ـ ٢ ، الوسائل ١٨ : ٤٣٩ أبواب أحكام الصلح ب ١ ح ١.

(٥) الختن بالتحريك : كلّ من كان من قبل المرأة ، مثل الأب والأخ ، وهم الأختان.

هكذا عند العرب ، وأمّا عند العامّة فختن الرجل : زوج ابنته ـ الصحاح ٥ : ٢١٠٧.

(٦) الكافي ٢ : ٢٠٩ ـ ٤ وفيه : وافتديها من ماله ، التهذيب ٦ : ٣١٢ ـ ٨٦٣ الوسائل ١٨ : ٤٤٠ أبواب أحكام الصلح ب ١ ح ٤ ، وفيه : وافتدى بها من ماله.

١٢٧

وأمّا التوسّط فيما يصلحان به فيحوّله إلى ثالث (١) ، ولعلّه مخافة أن يتحشّما أو أحدهما من القاضي فيقع الصلح من غير رضاء.

وأمّا في الثالث ، فإن أعلم الحاكم المدّعي بالثبوت أو المنكر بالسقوط فكالأخير ، ويأتي حكمه.

وإلاّ ، فإن طلب منه بتخيّر الحكم أو علم مطالبته بشاهد الحال فالظاهر عدم الجواز ، لمنافاته للفوريّة الثابتة من مطالبة التخيّر.

وإلاّ ، فإن علم أنّه لو أظهر الحكم لم يرض من له الحكم بالصلح فلا يجوز أيضا ، لكونه تدليسا وخيانة. وإن لم يعلم بذلك فلا يبعد الجواز ، للأصل. بل الاستحباب ، للعمومات المتقدّمة ، ويدلّ عليه أيضا حديث قضاء عليّ عليه‌السلام بين صاحبي الأرغفة الثمانية المرويّ في الكافي والفقيه والتهذيب (٢).

وقال والدي العلاّمة في المعتمد بعدم الجواز مع جهل صاحب الحقّ بعلم الحاكم بالحقّ مطلقا.

ثمَّ لو ارتكب القاضي المحرّم وأمر بالصلح أو رغّب فيه فيما يحرم ورضى به ، فقال والدي العلاّمة رحمه‌الله بصحّة الصلح ، لعدم تعلّق النهي به ، بل بأمر الحاكم. نعم ، له خيار الفسخ بعد علمه به.

وأمّا في الأخير ، فالاستحباب غير واضح ، لأنّه حقيقة ليس ترغيبا في الصلح ، لأنّ الظاهر منه هو ما يكون قبل ثبوت الحقّ لإسقاط اليمين أو رفع تجشّم الإثبات ، بل هو ترغيب لأحدهما بإسقاط الحقّ أو بذل المال لغير‌

__________________

(١) الكافي في الفقه : ٤٤٧.

(٢) الكافي ٧ : ٤٢٧ ـ ١٠ ، الفقيه ٣ : ٢٣ ـ ٦٤ ، التهذيب ٦ : ٢٩٠ ـ ٨٠٥ الوسائل ٢٧ : ٢٨٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢١ ح ٥.

١٢٨

مستحقّه.

والظاهر أنّ إضافة الأصحاب الترغيب إلى ضمير التثنية لتخصيصهم الاستحباب بغير هذه الصورة ، إذ لا معنى لترغيب الخصمين حينئذ كما لا يخفى.

وقول المحقّق والفاضل في الشرائع والقواعد بكراهة شفاعة الحاكم في إسقاط الحقّ (١) منزّل على ذلك أيضا ، فلا تنافي بين قولهما باستحباب الترغيب في الصلح والكراهة في هذه الشفاعة ، ولا حاجة في الجمع بينهما الى جعل الصلح متوسّطا بين الإسقاط وعدمه ، أو جعله مستثنى ، أو حمله على بعث غيره على ترغيبهما في ذلك ، كما في المسالك (٢).

وظاهر جماعة ـ كالمفيد والنهاية والكامل والمراسم والسرائر ـ عدم جواز الشفاعة (٣).

ودليلهم رواية السكوني ، وفيها : « ولا تشفع في حقّ امرئ مسلم ولا غيره إلاّ بإذنه » (٤).

والنبويّ : سأله أسامة حاجة لبعض من خاصم إليه ، فقال له : « يا أسامة ، لا تسألني حاجة إذا جلست مجلس القضاء ، فإنّ الحقوق ليس فيها شفاعة » (٥).

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٨١ ، القواعد ٢ : ٢٠٥.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٦.

(٣) المقنعة : ٧٢٤ ، النهاية : ٣٤١ ، المراسم : ٢٣١ ، السرائر ٢ : ١٦٠.

(٤) الفقيه ٣ : ١٩ ـ ٤٥ الوسائل ٢٧ : ٣٠٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣٥ ح ١.

(٥) دعائم الإسلام ٢ : ٥٣٧ ـ ١٩٠٥ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٥٨ أبواب آداب القاضي ب ١١ ح ٢ ، بتفاوت يسير.

١٢٩

والأولى قاصرة الدلالة على الوجوب. والثانية غير ثابتة الحجّية. فالكراهة أولى.

فرع : قال والدي العلاّمة قدس‌سره في المعتمد : ثمَّ من يؤدّي إليه شي‌ء بالصلح بالإعطاء أو الإسقاط بغير حقّ ، فإن علم بعدم استحقاقه له حرم عليه ووجب أن يتخلّص منه ، وإلاّ لم يحرم عليه ، لعلمه ظاهرا بكونه حقّا له ، نظرا إلى فعل الحاكم. انتهى. ولي فيه تأمّل.

المسألة السادسة : قال جماعة بأنّه يكره للقاضي أن يضيّف أحد الخصمين إلاّ ومعه خصمه (١).

لرواية السكوني : « إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام فمكث عنده أيّاما ثمَّ تقدّم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له : أخصم أنت؟ قال : نعم ، قال : تحوّل عنّا ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يضاف خصم إلاّ ومعه خصمه » (٢) ، وظاهرها عدم الجواز ، وبه صرّح في المبسوط (٣). وهو الأقوى.

وتدلّ عليه أيضا منافاته للتسوية الواجبة.

وصرّح في القواعد (٤) وغيره (٥) بكراهة حضوره ولائم الخصوم ، وعلّل بأنّه لئلاّ يزيد أحدهم في إكرامه فيميل إليه. ويمكن القول بتحريمه إذا كان لأحد المتخاصمين ، لمنافاته التسوية ، بل لهما أيضا إذا دخل في الرشوة المحرّمة.

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٥١ : القواعد ٢ : ٢٠٥.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٣ ـ ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٢٦ ـ ٥٤٤ ، الفقيه ٣ : ٧ ـ ٢١ الوسائل ٢٧ : ٢١٤ أبواب آداب القاضي ب ٣ ح ٢ ، بتفاوت.

(٣) المبسوط ٨ : ١٥١.

(٤) القواعد ٢ : ٢٠٥.

(٥) المسالك ٢ : ٣٦٤.

١٣٠

المسألة السابعة : يكره أن يسارّ القاضي أحدا في مجلسه‌ ، لكونه مورثا للتهمة ، ولمرفوعة البرقي (١) ، ومرسلة الفقيه (٢) : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح : « لا تسارّ أحدا في مجلسك ».

وأمّا مسارّة أحد الخصمين فهي محرّمة ، لمنافاتها التسوية.

المسألة الثامنة : يكره أن يعنّت الشهود‌ ، أي يدخل عليهم المشقّة ، ويكلّفهم ما يثقل عليهم من التفريق والمبالغات في مشخّصات القضية ، إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويّة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد ، وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة ، بأن يدخل في أثناء شهادته كلاما يجعله ذريعة إلى أن ينطق بما أدخله الحاكم ، ويعدل عمّا كان يريد الشاهد ، هداية له إلى شي‌ء ينفع فتصحّ شهادته ، أو يضرّ فتردّ شهادته.

أو يتعقّبه عند فراغه بكلام ليجعله تتمّة للشهادة ، بحيث تصير به الشهادة مسموعة أو مردودة.

بل الواجب أن يصبر عليه حتى ينتهي ما عنده ، ثمَّ ينظر فيه ويحكم بمقتضاه من قبول أو ردّ.

وإذا تردّد الشاهد في شهادته لم يجز له ترغيبه في إقامتها ، لجواز عروض أمر يوجب التردّد.

ولا يجوز له تزهيده في الإقامة ، ولا أن يردّده فيها.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٣ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٢٧ ـ ٥٤٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٣ أبواب آداب القاضي ب ٢ ح ٢.

(٢) الفقيه ٣ : ٧ ـ ٢٤ ، بتفاوت يسير ، الوسائل ٢٧ : ٢١٣ أبواب آداب القاضي ب ٢ ح ٢.

١٣١

ولا يجوز له إيقاف عزم الغريم عن الإقرار ، ويجوز ذلك في حقوق الله سبحانه ، كما تنبّه عليه قضية ماعز (١).

والوجه في الكلّ واضح.

المسألة التاسعة : قالوا : يستحبّ إجلاس الخصمين بين يدي الحاكم.

وهو كذلك ، لأنّه أقرب إلى التسوية وأسهل للمخاطبة.

ولقول عليّ عليه‌السلام حين ترافعه مع يهوديّ في الدرع عند شريح : « لو لا أنّه ذمّيّ لجلست معه بين يديك ، غير أنّي سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا تساووهم في المجالس » (٢).

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قضى أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي (٣).

ولو قاما بين يديه جاز.

قيل : ولا تجوز الإقامة إن لم يرضيا (٤).

وهو حسن إن كان القضاء في مكان مباح لهما أو مملوك لمن أذن بالجلوس لهما ، وإلاّ فتجوز إن لم يأذن المالك بالجلوس ، بل تجب.

وإن اختار أحدهما القيام مع جلوس الآخر فقد أسقط نفسه حقّه بالتسوية ، فيجوّزه من يرفع الأمر بالتسوية حين إسقاط أحدهما. والحقّ عدم السقوط كما مرّ.

المسألة العاشرة : إذا تعدّى الغريمان أو أحدهما سنن الشرع‌ ، فإن‌

__________________

(١) سنن البيهقي ٨ : ٢٢٦.

(٢) المغني ١١ : ٤٤٤ ـ ٤٤٥ ، بتفاوت.

(٣) المغني ١١ : ٤٤٥.

(٤) انظر كشف اللثام ٢ : ١٤٩.

١٣٢

كان بالإتيان بمحرّم ـ كفحش أو ضرب أو إيذاء للغريم أو معاونة أو للقاضي بنسبته إلى جور أو ميل أو مثل ذلك ـ فعلى القاضي العمل بمراتب النهي عن المنكر في ردعه عن التعدّي ، وإجراء حكم ما صدر فيه من حدّ أو تعزير ، إن كان ممّا له حكم.

وإن كان بغير المحرّم ـ كإساءة أدب ومثلها ـ فينبغي له وعظه وإرشاده برفق ومداراة.

المسألة الحادية عشرة : قالوا : من أتى القاضي مستعديا على خصمه والتمس من الحاكم إحضاره‌ ، فإن كان خصمه في البلد وكان ظاهرا غير معذور يمكن إحضاره وجب على الحاكم إجابته وإحضاره مطلقا ، سواء حرّر المستعدي دعواه أم لا ، وسواء شقّ عليه الحضور في مجلس الحكم ـ لكونه من أهل الصيانات والمروّات ـ أم لا.

ونسبه في الكفاية إلى المعروف من مذهب الأصحاب (١) ، وفي المسالك وشرح المفاتيح والمعتمد وعن المبسوط : ادّعاء الإجماع عليه (٢).

قيل : لتوقّف الحكم الواجب بينهما على ذلك ، ولأنّ الحاكم منصوب لاستيفاء الحقوق ، وترك الإحضار تضييع لها (٣).

واحتاط في الكفاية في إحضاره قبل تحرير الدعوى ، لأنّ في الإحضار في مجلس الحكم نوع إيذاء ، فلعلّ دعواه كانت غير مسموعة (٤).

__________________

(١) الكفاية : ٣٦٥.

(٢) المسالك ٢ : ٢٦٥ ، المبسوط ٨ : ١٥٤. وفيه : وهو الأقوى عندنا ..

(٣) الرياض ٢ : ٣٩٣.

(٤) الكفاية : ٢٦٥.

١٣٣

وعن الإسكافي : التخصيص بمن لا يشقّ عليه الحضور من جهة الرفعة والشرف ، وأمّا هو فيوجّه الحاكم إليه من يعرّفه الحال ليحضر ، أو وكيل له ، أو أن ينصف خصمه ويغنيه عن معاودة الاستعداء (١).

وفي المبسوط عن بعضهم : إن كان من أهل الشرف فيستدعيه الحاكم إلى منزله دون مجلس الحكم ، لما ذكر (٢).

وردّ بعدم منافاة ذلك للشرف ، فإنّ عليا عليه‌السلام حضر مع يهوديّ عند شريح ، وحضر عمر مع ابيّ عند زيد بن ثابت ليحكم بينهما في داره ، وحجّ المنصور فحضر مع جمّالين مجلس الحكم لحلف كان بينهما (٣).

قالوا : وإن احتاج الإحضار إلى بعض الأشخاص المرتّبين على باب القاضي فالظاهر أنّ مئونتهم على الطالب إن لم يرزقوا من بيت المال.

وإذا ثبت عند القاضي امتناعه من غير عذر أو سوء أدب فللقاضي أن يستعين على إحضاره بأعوان السلطان ، فإذا حضر عزّره بما يراه.

وفي كون مئونة المحضر ـ والحال هذه ـ على المدّعي أو على الخصم ، وجهان ، جزم بعضهم بالثاني (٤) ولا وجه له.

قالوا : ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور ـ كالمرض والخوف من عدو وشبههما ـ فليس للقاضي أن يكلّفه الحضور ، بل يكلّفه بعث وكيل ليخاصم عنه ، أو يبعث القاضي من يحكم بين المتخاصمين ، وإن دعت الحاجة إلى تحليفه يرسل إليه من يحلّفه.

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٧٠٢.

(٢) المبسوط ٨ : ١٥٤.

(٣) انظر المبسوط ٨ : ١٥٤.

(٤) كما في المسالك ٢ : ٣٦٥.

١٣٤

قالوا : وإن كان المطلوب خارج البلد لا يحضره القاضي بمجرّد التماس المدّعي ، بل يسأله أن يحرّر دعواه عليه ، فإن حرّرها وكانت دعوى مسموعة أحضره وإن كان في بلدة بعيدة منه ، وإن لم يحرّر دعواه وحرّرها وكانت غير مسموعة لم يكلّفه الحضور.

والفرق بين المسألتين في اعتبار التحرير في الثانية دون الاولى لزوم المشقّة والضرر وعدمهما ، إذ ليس في إحضار الحاضر مئونة ولا مشقّة ، بخلاف الغائب.

وخالف في ذلك الإسكافي أيضا ، ولم يوجب الإحضار حينئذ بمجرّد تحرير الدعوى أيضا ، بل قال : لم يجب إلاّ بعد أن يثبت المستعدي حقّه عند الحاكم (١). ومثله قال في الخلاف (٢).

وفرّق في المبسوط بين كونه في بلد تحت ولاية القاضي وغيرها ، فيحضر بالتحرير في الأول ، ويقضي على الغائب في الثاني (٣).

وفرّق في المختلف بين ما إذا لم يتمكّن المدّعي من الإثبات وطلب غريمه للإحلاف ، أو لم يكن له مال ، بل كان بيد الغريم ، فلا يمكنه استيفاء الحقّ لو ثبت منه بدون حضوره. وبين ما إذا تمكّن وكان له مال يستوفي منه الحقّ إن ثبت. فيحضر في الأول دون الثاني (٤).

وقد تلخّص ممّا ذكر : أنّ في صورة الحضور في البلد : ظاهر الأكثر الاتّفاق على الإحضار ولو قبل التحرير ، لغير ذوي الأشراف وأرباب المعاذير.

نعم ، ناقش بعض متأخّري المتأخّرين في ذلك ، واحتمل اختصاص‌

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٧٠٢.

(٢) الخلاف ٦ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ـ ٣٤.

(٣) المبسوط ٨ : ١٥٥.

(٤) المختلف : ٧٠٣.

١٣٥

وجوب الإحضار مع الحضور بصورة تحرير الدعوى (١). وهو ظاهر المحقّق الأردبيلي ، بل تأمّل هو في جواز الإحضار بدون (٢) التحرير أيضا.

وفي صورة الغيبة : ولا يحضر قبل التحرير ، وأمّا بعده فالأكثر على الإحضار ، والفاضل في المختلف على التفصيل المذكور ، والمحقّق الأردبيليّ على التفصيل المنقول عن المبسوط.

هذا في الرجل.

وأمّا المرأة ، فقالوا : إن كانت برزة كان حكمها حكم الرجل ، فتحضر حيث يحضر الرجل ولو من غير البلد ، ولكن يشترط هنا ـ زيادة على الرجل ـ أمن الطريق من هتك عرض ووجود محرم ونحوه.

وفي الكفاية : الأولى البعث إليها للإحضار أو التوكيل ، إلاّ بالنسبة إلى من لا تبالي بالإحضار أصلا (٣).

قالوا : وإن كانت مخدّرة لم تكلّف الحضور بنفسها ، بل يبعث إليها من يحكم أو يأمرها بالتوكيل.

وفي الكفاية : لا يعتبر في المخدّرة لأن لا تخرج إلاّ لضرورة ، بل الظاهر أنّ التي قد تخرج إلى عزاء ذوي الأرحام أو زياراتهم أو إلى الحجّ وزيارة المشاهد أحيانا مخدّرة.

بل مع كثرة ذلك وخروجها إلى السوق للبيع والشراء ونحوهما كثيرا ـ كالخروج لشراء الخبز والقطن وبيع الغزل ونحوها ـ بحيث لا تبالي بالخروج ، فهي برزة ، والمرجع فيها إلى العرف والعادة.

__________________

(١) حكاه في الرياض ٢ : ٣٩٣.

(٢) في « ق » بذلك ..

(٣) الكفاية : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

١٣٦

وعن الشيخ في المبسوط : إنّ البرزة هي التي تبرز لقضاء حوائجها بنفسها ، والمخدّرة هي التي لا تخرج لذلك ، وهو قريب (١). انتهى.

قال في القواعد وشرحه : فإن اختفى المدّعى عليه المحضر نادى منادي الحاكم على بابه ثلاثة أيّام إن لم يحضر سمر (٢) بابه وختم عليه وجمع أهل محلّته وأشهدهم على أعدائه.

فإن لم يحضر وسأل المدّعي ختم بابه ختمها ، فإن لم يحضر بعد الختم بعث الحاكم من ينادي إن لم يحضر أقام الحاكم عنه وكيلا وحكم عليه.

فإن لم يحضر فعل ذلك وحكم عليه إن ثبت عليه شي‌ء وإن لم يحكم عليه حال الغيبة ابتداء (٣). انتهى.

هذا ما ذكروه في هذا المقام ، ولم أجد على أكثر ما ذكروه دليلا ، ولا أرى له وجها ، إلاّ إذا قلنا بعدم جواز الحكم على الغائب مطلقا.

وأمّا لو قلنا بجوازه كذلك أو على الغائب عن البلد ، فلا وجه لوجوب الإحضار فيما يجوز فيه الحكم عليه ، لعدم توقّف الحكم عليه ، بل يحكم مع غيبته ، فإن أدّى إلى الحلف ، فإن جوّز الحلف في غير مجلس القضاء يبعث من يحلّفه ، وإلاّ يحضره حينئذ.

وإن أدّى إلى أخذ مال فيؤدّيه الحاكم من مال المدّعى عليه إن كان ، وإن كان ماله عند نفسه يبعث من يأخذه منه أو يأتي بحجّته ، بل يمكن أن يقال بعدم وجوب ذلك حينئذ على الحاكم عينا ، بل يجب على كلّ مقتدر‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٦٦.

(٢) السّمر : شدّك شيئا بالمسمار. وسمرة يسمره وسمّره ، جميعا : شدّه. لسان العرب ٤ : ٣٧٨.

(٣) القواعد ٢ : ٢٠٧ ، كشف اللثام ٢ : ٣٣٤.

١٣٧

على إجراء حكمه كفاية.

والتمسّك بالإجماع ضعيف ، لأن تحقّقه ـ بعد ما علمت ـ غير ثابت ، ومنقوله غير حجّة ، وأضعف منه التمسّك بجريان الصدر السلف عليه ، إذ لم يكن في السلف للفرقة الناجية قضاة علانية يحضرون ويعزّرون غالبا ، بحيث تثبت منه السيرة أو الإجماع ، وكان الحكم بيد المتغلّبة.

وبالجملة : لا وجه تامّا لوجوب الإحضار مع جواز الحكم على الغائب ، فالأقرب : التخيير ، والأولى البعث إليه وإخباره بأنّه يحضر أو يحكم عليه.

ثمَّ إنّ بعض شرّاح المفاتيح ـ بعد بيان وجوب الإحضار كما تقدّم ـ قال في شرح مسألة الحكم على الغائب : كما يجب على القاضي إحضار الخصم مع سؤال المدّعي وإمكان حضوره ، كذلك يجوز ـ على المشهور ـ أن لا يحضره ، بل يحكم على من غاب عن مجلس القضاء ، سواء كان مسافرا أو حاضرا في البلد. انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التناقض ظاهرا.

وأمّا بعث المنادي وختم الدار فلم أظفر له على رواية ، ويشبه أن يكون ذلك مستخرجا من الاعتبارات التي يستحسنها العامّة ، وإن كان شأن مثل الفاضل أرفع من ذلك ، ولو لا أنّه تصرّف في مال الغير بدون إذنه لقلنا باستحبابه ، لفتوى ذلك الشيخ الجليل.

والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

١٣٨

الفصل الثاني

فيما يتعلّق بالمدّعي ودعواه‌

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لمّا كانت تتعلّق بالمدّعي أحكام ـ كتقديم مختاره من الحاكمين ، وطلب البيّنة منه ، ونحو ذلك ـ مسّت الحاجة إلى معرفته‌ ، وعرّفه الفقهاء بثلاثة تعريفات :

أحدها : أنّه الذي لو ترك الخصومة والنزاع لترك وحاله ، وخلّي ونفسه. وبعبارة اخرى : أنّه الذي لو سكت ولم يخاصم سكت عنه ، ولم يخاصم ، ولم يتوجّه إليه كلام ، ولم يطالب بشي‌ء.

وثانيها : إنّ المدّعي هو الذي يدّعي خلاف الأصل. والظاهر أنّ المراد بالأصل هو القاعدة دون أصل العدم خاصّة ، فيكون مدّعي ملكية عين في يد غيره مدّعيا.

وثالثها : إنّ المدّعي هو الذي يذكر أمرا خفيّا بحسب الظاهر ، أي خلاف الظاهر بحسب المتعارف والمعتاد.

والمنكر خلاف المدّعي على كلّ من التعريفات.

وقد زيد رابع أيضا‌ ، وهو الذي يدّعي الثاني أو الثالث ، نقله في النافع والشرائع والقواعد والروضة قولا (١) .. ويحتمل أن يكون الترديد‌

__________________

(١) المختصر النافع : ٢٨٤ ، الشرائع ٤ : ١٠٦ ، القواعد ٢ : ٢٠٨ ، الروضة ٣ : ٧٦.

١٣٩

لبيان تعدّد القول دون أقسام المدّعي ، كما هو الظاهر من الشرائع.

وقد يزاد خامس‌ ، وهو : أنّ المدّعي من يكون في مقام إثبات قضيّة على غيره ، ذكره في مجمع البحرين قائلا : إنّه الظاهر من الحديث (١). وحكي نسبته إلى الصدوق أيضا.

وليس المراد بالترك في التعريف الأول تركه مطلقا ولو من غير جهة تلك الدعوى الخاصّة التي يدّعيها ، بل المراد تركه من هذه الجهة ومن تلك الحيثيّة ، فإنّ قيد الحيثيّة في التعاريف مأخوذ ، بل رجوعه إلى ما تقتضيه الحالة السابقة شرعا لو لا تلك الدعوى ، كما صرّح به والدي العلاّمة قدس‌سره في المعتمد ، قال : المراد بالترك هو : عدم الإلزام بأمر متجدّد حادث ، مع العمل بالحالة السابقة والرجوع إلى ما ثبت شرعا قبل الدعوى. وبعدمه : الإلزام بمتجدّد حادث لإثبات واقع قبلها. انتهى.

وذكر قريبا منه المحقّق الأردبيلي.

والمراد بالأصل في التعريف الثاني هو القاعدة الثابتة شرعا ، اللاّزم أخذها لو لا ثبوت خلافها ، سواء كان أصل العدم أو غيره ، لا خصوص أصل العدم والاستصحاب.

وعلى هذا يظهر تساوق المعنيين الأولين واتّحادهما وتلازمهما في جميع الموارد ، إذ كلّ من يدّعي خلاف أصل بالمعنى الذي ذكرنا لو ترك دعواه يترك ويعمل بالأصل الذي ادّعى خلافه ، وكلّ من يترك على الحالة السابقة ويعمل بمقتضاها شرعا لو ترك الدعوى يدّعي خلاف الأصل بالمعنى المذكور.

__________________

(١) مجمع البحرين ١ : ١٤٣.

١٤٠