مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

جنس الحقّ ، وبيعه وإعطاؤه الثمن إن لم يكن من جنسه ، أم لا؟

وإذا جاز فهل هو مقدّم على العقوبة ـ يعني : أنّ العقوبة إنّما تكون إذا لم يمكن إعطاء المال ، أو بيعه ـ أو مخيّر بينهما ، أو يتأخّر فيعاقب ، فإن أبى مع العقوبة أيضا يعطي أو يبيع؟

لم يحضرني الآن تصريح بذلك من الأصحاب ، إلاّ ما ذكره بعض الأجلّة في شرحه على القواعد ، حيث قال : وإن عرف كذبه في دعوى الإعسار حبس حتى يخرج من الحقّ بنفسه ، أو يباع عليه ماله ويعطى صاحب الحق (١). انتهى.

فإن كان قوله : « يباع » عطفا على « حبس » يكون تخييرا بين الحبس والبيع ، وإن كان عطفا على « يخرج » يكون حكما بتأخير البيع عن العقوبة.

وقال بعض الفضلاء المعاصرين : ثمَّ إن كان المقرّ واجدا للمال فيلزم بإعطائه ولو بحبس الحاكم وإغلاظ القول ، أو بأن يبيع ماله في أداء دينه لو لم يمكن الاستيفاء إلاّ بذلك (٢). انتهى.

فإن كان قوله : « بذلك » إشارة إلى الحبس والبيع معا يكون قولا بالتخيير ، وإن كان إشارة إلى البيع يكون قولا بتأخير البيع عن الحبس.

أقول : كما أنّ العقوبة مخالفة للأصل لا ترتكب إلاّ مع الدليل ، فكذلك إعطاء ماله أو بيعه ، لأنّ تمييز ما في ذمّة شخص من بين أمواله بيده وبيع غير المالك لا يجوز ، والدليل على حلّيّة العقوبة موجود كما مرّ ، ولا دليل على الإعطاء والبيع إلاّ كونه ممّا يتوقّف عليه إيصال الحقّ الواجب ، وهو ـ قبل اليأس بالعقوبة المنصوص جوازها ـ ممنوع ، فلا يجوز‌

__________________

(١) انظر كشف اللثام ٢ : ٣٣٦.

(٢) غنائم الأيام : ٦٧٩.

١٨١

إلاّ بعد عدم تأثير العقوبة.

وتدلّ عليه أيضا الروايات المتقدّمة المصرّحة بتأخير البيع عن الحبس (١).

نعم ، إذا لم يمكن العقوبة لغيبة ـ بخفاء أو فرار ـ يجوز البيع والإعطاء أولا ، لكونه ممّا يتوقّف عليه الإيصال.

وهل يباع بغير الغريم ، أو يجوز البيع به أيضا؟

الظاهر : الثاني ، للأصل.

ولا يتوهّم أنّ الظاهر من الروايات البيع بالغير ، حيث قال : « باعه ، فيقسّم » ، لأنّه يمكن أن تكون الفاء تفصيليّة ، أي باعه بأن يقسّمه بين الغرماء ، فيبيع كلاّ منهم بقدر حصّته. بل هو الظاهر من قوله : يعني ماله ، فإنّ الظاهر أنّ الغاية لبيان أنّ المقسوم بينهم نفس المال دفعا لتوهّم تقسيم الثمن ، [ لا أنّها ] (٢) لبيان أنّ المبيع نفس المال لدفع توهّم بيع المديون ، لأنّه ليس محلاّ للتوهّم.

هذا ، مضافا إلى كون تقدير الثمن في قوله : « يقسّمه » خلاف الأصل.

المسألة السادسة : لو ادّعى المحكوم عليه بالإقرار أو بغيره الإعسار‌ ، فإن علمه الحاكم أو أقرّ به المحكوم له يثبت إعساره.

وإلاّ فإمّا لا يعلم له مال أو لا ، حتى ما أخذه من المحكوم له ، وذلك يكون بأن تكون الدعوى على نفقة زوجة أو صداقها أو دية جرح أو مال مصالحة دعوى غير ثابتة أو نحوها.

__________________

(١) راجع ص ١٧٦ و ١٧٧.

(٢) في « ح » : لأنّها ، وفي « ق » : إلاّ أنّها ، والصحيح ما أثبتناه.

١٨٢

أو يعلم له مال ويعلم تلفه أيضا ، كأن يعلم أنّ ما أخذه من المحكوم له أنفقه ، أو أخذ منه قهرا ، أو سرق ، ونحو ذلك ، ولا يعلم ما سواه.

أو يعلم له مال غير معلوم التلف ، ولو كان هو ما اقترضه من الغريم أو اشتراه منه.

فعلى الأولين ، فإن ادّعى المحكوم له علمه بكذبه في الإعسار وكونه ذا مال تطلب منه البيّنة ، لأنّه مدّع حينئذ ، والبيّنة على المدّعي ، فإن جاء بها وأثبت عليه مالا موجودا يؤخذ منه ، وإن لم يؤدّه كان حكمه حكم الواجد للمال ، وقد مرّ.

وإن أثبت عليه مالا قبل ذلك ، ولم يعلم تلفه ، يصير من القسم الأخير ، ويأتي حكمه.

وإن لم تكن له بيّنة أحلف المحكوم عليه ، لأنّه منكر حينئذ ، واليمين على من أنكر.

وإن لم يدّع علمه بكذبه بل ظنّ ذلك أو جوّزه لما مرّ سابقا من سماع الدعوى بالظنّ والاحتمال ، فيكون المحكوم له مدّعيا ، والمحكوم عليه منكرا ، فاليمين عليه.

وتأمّل فيه المحقّق الأردبيلي ، بل قال بعد تأمّله : وعدم إحلافه أظهر ، لظاهر آية النظرة ، ولعدم الدليل على الإحلاف إلاّ في الصورة الأخيرة.

وفيه : أنّ مدلول الآية إنظار ذي العسرة ، وعسرته بعد غير معلومة لا واقعا ولا شرعا ، فكيف يستدلّ لحكمه بالآية؟! والدليل له ـ على ما اخترناه من سماع الدعوى المظنونة والموهومة ـ ظاهر ، لصدق المدّعي والمنكر.

نعم ، يشكل ذلك على القول بعدم سماعها ، لعدم الدليل ،

١٨٣

وتصريحهم بالإحلاف هنا أيضا مؤيّد لما اخترناه.

وهل له ردّ الحلف إذا كان غريمه جازما في دعواه يساره أم لا؟

فيه إشكال ينشأ من عمومات الردّ وعدم المانع ، ومن أنّ فائدة الردّ الخروج عن عهدة المدّعى به إذا حلف المدّعي ، فإنّ قوله : « رددت عليك اليمين » متضمّن لـ : أنّه إن حلفت اخرج عن عهدة دعواك ، وهو يثبت هنا بعدم القدرة عليه ، فكيف يردّ؟! بل في شمول عمومات الردّ لمثل المقام تأمّل أيضا.

ولعلّ الأول أظهر ، إذ تظهر الفائدة في نكول المدّعي فتسقط دعواه ، وفي حلفه ، فإنّ إنكاره القدرة لا يثبت انتفاءها واقعا ، فيثبت عليه اليسار بعد حلف المدّعي ، ويعمل معه ما يعمل مع الواجد من الحبس والغلاظ إلى أن يؤدّي أو يموت أو يبرئه المدّعي.

وإن لم يردّ الحلف ـ إمّا لعدم إمكانه ، كما إذا كانت دعوى يساره غير مجزومة ، أو لم يرد الردّ ـ فإن حلف على عدم اليسار حكم له بالإعسار ، وإن نكل ولم يحلف فقال في القواعد وحكي عن التذكرة : إنّه يحلف مدّعي اليسار ، فيحكم بيساره ، ويعمل معه عمل الواجد من الحبس (١).

وقال بعض الفضلاء المعاصرين : إنّه يعمل به عمل الواجد ، فيحبس من غير ذكر حلف المدّعي (٢).

ولعلّه مبنيّ على الخلاف في أنّ مع نكول المنكر هل يثبت حقّ المدّعي ، أو يردّ الحاكم اليمين على المدّعي. ويأتي تحقيقه.

وعلى الأخير ـ وهو أن يعلم له مال وادّعى تلفه ـ فتؤول الدعوى إلى‌

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٠٩ ، التذكرة ٢ : ٥٨.

(٢) غنائم الأيام : ٦٨٠.

١٨٤

تلف المال ، والأصل بقاؤه ، فيصير المدّعي عليه بالحقّ مدّعيا لتلف المال فتطلب منه البيّنة ، فإن أقامها يحكم له بالإعسار ، ويعمل معه عمل ذي العسرة ، ويأتي.

وإن لم يقم البيّنة ، فقال جماعة ـ منهم : الشرائع والقواعد والكفاية (١) وغيرها (٢) ، بل قال بعض مشايخنا المعاصرين : إنّه المشهور (٣) ـ إنّه يحبس حتى يعيّن إعساره ، أو يقرّ ، أو يخرجه صاحب الحقّ.

وعن التذكرة : أنّه يحلف مدّعي الحقّ على عدم التلف ثمَّ يحبس (٤).

وهو ظاهر بعض متأخّري المتأخّرين (٥).

حجّة الأول : رواية غياث الثانية ، وصدر رواية الأصبغ ، ورواية السكوني ، المتقدّمة جميعا في المسألة الرابعة.

ودليل الثاني : العمومات الآتية المصرّحة بأنّه إذا لم تكن للمدّعي بيّنة فيمين المدّعى عليه أو المنكر (٦).

أقول : مقتضى الأخبار الأولى الحبس مطلقا ، سواء كان المدّعى عليه منكرا جازما بعدم التلف أو لا ، بل كان يقول : لا أدري ، كما هو الأكثر.

ولكنّها مخصوصة بالدين ، بل من لم يثبت حاله من الإعسار وعدمه.

ومقتضى العمومات الثانية حلف المدّعى عليه في خصوص صورة الإنكار ودعوى عدم التلف ، ولكنّها عامّة في الدين والعين وسائر الحقوق.

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٩٥ ، القواعد ٢ : ٢٠٩ ، الكفاية : ٢٦٧.

(٢) كالمسالك ٢ : ٣٦٧.

(٣) انظر الرياض ٢ : ٣٩٦.

(٤) التذكرة ٢ : ٥٨.

(٥) انظر كشف اللثام ٢ : ٣٣٧.

(٦) انظر الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٧.

١٨٥

فتتعارضان بالعموم من وجه في صورة إنكار المدّعي ، ولا أصل هنا ، وكلّ من الحبس والإحلاف مخالف للأصل محتاج إلى الإذن ، فمقتضى القاعدة التخيير بين الحبس أو لا ، أو الإحلاف ثمَّ الحبس ، إلاّ أنّي لم أجد به قائلا ، ولكن إثبات الإجماع المركّب في أمثال المقام مشكل ، والأحوط الإحلاف ثمَّ الحبس ، ودليل تجويز الإحلاف حينئذ أدلّة الاحتياط ، كما بيّنا في موضعه.

ولكن يحصل الإشكال للحاكم حينئذ لو لم يحلف المنكر لعدم التلف ، فهل يحكم بنكوله ويثبت به الإعسار ، أو يحبس؟

ولندرة الفرض ـ من جهة أنّ الأغلب عدم علم المدّعي ، ولو فرض أحيانا ـ فنكوله نادر ، ولو فرض النكول فتمكّن الحبس للحاكم في هذه الأزمنة مشكل ، وجواز غيره من العقوبات هنا غير ثابت ، فصرف الوقت في حاله حينئذ ليس بذلك المهم.

وكيف كان ، فلو لم ينكر المدّعي عدم التلف يحبس ، للروايات المتقدّمة الخالية عن المعارض.

هذا ، وللمحقّق الأردبيلي هنا كلام آخر ، حيث قال : قد لا تكون له بيّنة ويكون معسرا لا مماطلا ، ومجرّد وجود مال سابقا لا يستلزم بقاءه ، والرواية ضعيفة ، ودلالتها غير ظاهرة. وقد يكون ظاهر حاله إتلافه ، كأن يستقرض ليخرجه في مئونته مع حاجته ، أو وجد عنده وكان يحتاج كلّ يوم إلى نفقة ، وكيف يأتي بالبيّنة بإخراج كلّ درهم؟! فيمكن عدم الحبس ، بل إحلافه على عدم بقائه عنده ، ويخلّى سبيله إلى الميسرة ويؤيّده ظاهر الآية ، فإنّ الظاهر منها كونه ذا عسرة بحسب الظاهر لا نفس الأمر ، وهو حينئذ كذلك ، فيمكن عدم اليمين أيضا‌

١٨٦

لذلك ، إلاّ أنّه لمّا ادّعي عليه المال ، وعلم وجوده ، ولم يكن للمدّعي إثبات البقاء ، والاستصحاب يقتضي البقاء ، وأنكر هو وجوده ، احلف. انتهى.

أقول : أمّا دعوى ضعف الرواية ـ بعد اشتهار العمل بمضمونها ـ فلا يضرّ. وأمّا عدم ظهور دلالتها فلا يتحقّق وجهه.

وأمّا ظهور إعساره ، فإن بلغ ذلك إلى حدّ يعتبر شرعا فلا كلام ، لحصول التبيين المذكور في الروايات. وأمّا إذا لم يبلغ ذلك فلا وجه لاعتباره وترك النصّ لأجله ، ولفظ « ذي العسرة » موضوع للمعنى الواقعي ، غاية الأمر تقييده بالعلم أيضا ، وأمّا بأمثال ذلك الظهور فلا ، وإحلاف مدّعي التلف لا وجه له ، وجعله منكرا للبقاء لا ( وجه ) (١) يجعله منكرا ، وإلاّ لجرى ذلك في كلّ مدّع. فكلامه غير سديد.

فروع ثلاثة :

أ : البيّنة التي تقام على الإعسار يلزم أن تشهد بتلف المال علما أو حسّا على اختلاف القولين في مسألة الشهادة ، وحينئذ تقبل ، لأنّها بيّنة الإثبات ، أمّا لو شهد بمطلق الإعسار فهو راجع إلى النفي ، فلا تقبل.

نعم ، إذا كان مراقبا لأحوال المشهود له ، مطّلعا على خفايا أمره ، فله أن يشهد بما ضبط واطّلع من أحواله وأعماله الكاشفة عن العسر ، فإن علم الحاكم بها عسره يحكم به ، وأمّا شهادته بأنّه ذو عسرة أو معسر فلا وجه لقبولها ، إلاّ إذا اكتفينا بالشهادة العلميّة ، وقلنا بأنّ تلك شهادة إثباتيّة ، والمقدّمتان ممنوعتان.

__________________

(١) ليست في « ح ».

١٨٧

ب : مئونة المحبوس حال الحبس من ماله ، ووجهه ظاهر.

ويشكل الأمر لو لم يكن له شي‌ء ظاهر ، وكان ينفق كلّ يوم بقرض أو كسب قدر مئونته أو سؤال أو كلّ على غيره ونحوها ، بل قد يغتنم المحبس لذلك.

وكذا الإشكال في مئونة الحبس ، فإنّه يحتاج إلى مكان ومراقب ليلا ونهارا لئلاّ يهرب ، فإن كان هناك بيت مال فالمؤنتان عليه ، وإلاّ فإن بذله خصمه من ماله فلا إشكال أيضا ، وإلاّ فتحميله على الحاكم ضرر عليه منفيّ شرعا ، فيعارض بأدلّته أدلّة الحبس ، فيرجع إلى أصل عدم وجوب الحبس عليه ، أو يقال بالتخيير ، فله إطلاقه ولا يجب عليه شي‌ء.

ج : إذا لم يكن للحاكم محبس ، ولا أعوان ينصبها للمراقبة ، وسائر ما يحتاج إليه للحبس ـ كما هو الغالب في تلك الأزمنة ـ فله بعثه إلى محبس السلطان ونحوه ، وللسلطان ونحوه الحبس بإذن الحاكم ، لأنّه يصير حينئذ محبسا للقاضي. ولو لم يتمكّن من ذلك أيضا سقط عنه.

المسألة السابعة : ثمَّ إذا حكم للمدّعى عليه بالإعسار بالبيّنة ، أو علم الحاكم ، أو اليمين ، أو الإقرار‌ ، فذهب جماعة إلى أنّه ينظر ويمهل ويخلّى سبيله حتى يحصل له مال ، وهو مذهب المفيد والشيخ في الخلاف والحلّي والمحقّق والقواعد والمسالك والمهذّب والصيمري (١) والمعتمد وغيرهم (٢) ، بل هو المشهور كما في المسالك والكفاية وشرح القواعد للهندي (٣) والمعتمد ، وغيرها (٤).

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٧٢٣ ، الخلاف ١ : ٦٢٤ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٦٠ ، المحقّق في الشرائع ٤ : ٨٤ ، القواعد ٢ : ٢٠٩ ، المسالك ٢ : ٣٦٧.

(٢) كما في التبصرة : ١٨٧.

(٣) المسالك ٢ : ٣٦٧ ، الكفاية : ٢٦٧ ، كشف اللثام ٢ : ٣٣٦.

(٤) كالروضة ٣ : ٨٣ ، الرياض ٢ : ٣٩٦.

١٨٨

للأصل ، وقوله تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (١) ، وروايتي غياث والأصبغ المتقدّمتين (٢) ، ومفهوم الحصر في صحيحة زرارة السابقة (٣).

ورواية السكوني : « إنّ امرأة استعدت على زوجها أنّه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا فأبى عليه‌السلام أن يحبسه ، وقال : إنّ مع العسر يسرا » (٤).

وعن الشيخ في النهاية : أنّه يسلّم إلى الغرماء ليؤاجروه ويستعملوه ويستوفوا حقّهم من ما يفضل من قوته وقوت عياله (٥) ، لرواية السكوني المتقدّمة في المسألة الرابعة ، ووصفها في المختلف بالمشهور (٦).

وعن ابن حمزة قول ثالث ، مفصّل بين ما إذا كان المعسر ذا حرفة يكتسب بها فالثاني ، وما إذا لم يكن كذلك ـ ونفى عنه البعد في المختلف (٧) ـ فالأول (٨) ، للرواية الأخيرة ، كما في المختلف ، أو جمعا بينها وبين الروايات السابقة (٩) كما قيل ، ولأنّه يتمكّن من أداء ما وجب عليه وإيفاء الحقّ صاحبه فيجب عليه كالسعي في المؤنة ، وحيث يتمكّن من الكسب لا يكون معسرا ، لتحقّق اليسار بالقدرة على تحصيل المال ، ولهذا‌

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) في ص : ١٧٦ و ١٧٧.

(٣) في ص ١٧٨.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٩٩ ـ ٨٣٧ وج ٧ : ٤٥٤ ـ ١٨١٧ ، الوسائل ١٨ : ٤١٨ أبواب أحكام الحجر ب ٧ ح ٢.

(٥) النهاية : ٣٥٢.

(٦) المختلف : ٧١١.

(٧) المختلف : ٧١١.

(٨) الوسيلة : ٢١٢.

(٩) في ص : ١٧٦ و ١٧٧.

١٨٩

الحق القادر على الكسب بالغنيّ في باب الزكاة.

أقول : قد يخالجني ـ في التمسّك بهذه الأخبار في تخلية سبيله حتى يستفيد مالا ، وفي إيجاره واستعماله ـ شي‌ء ، وهو أنّه قد استفاضت الأخبار على أنّ الإمام يقضي دين المديونين عن سهم الغارمين : ففي مرسلة العبّاس : « الإمام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلا مهور النساء » (١).

وفي رواية أبي نجار : جعلت فداك ، إنّ الله عزّ وجل يقول ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله عزّ وجل في كتابه ، لها حدّ يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بدّ من أن ينظر ، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله ، وليس له غلّة ينتظر إدراكها ، ولا دين ينتظر محلّه ، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال : « نعم ، ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام ، فيقضي ما عليه من الدين من سهم الغارمين » الحديث (٢). وغير ذلك من الأخبار (٣).

وأخبار المسألة واردة في فعل عليّ عليه‌السلام ، وهو إمام مبسوط اليد ، بيده بيت المال والزكوات ، فكان عليه الأداء ، فما التوفيق بين هذه الأخبار؟! وهلاّ يؤدّي الإمام ديونهم؟! ولا يمكن حمل أخبار المسألة على صورة عدم حضور سهم الغارمين عنده ، لأنّه ليس قضية في واقعة ، بل‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٩٤ ـ ٧ ، التهذيب ٦ : ١٨٤ ـ ٣٧٩ ، الوسائل ١٨ : ٣٣٧ أبواب الدين والقرض ب ٩ ح ٤.

(٢) الكافي ٥ : ٩٣ ـ ٥ ، وفيه بدل « أبي نجار » : « أبي محمّد » وكذا في التهذيب ٦ : ١٨٥ ـ ٣٨٥ والوسائل ١٨ : ٣٣٦ أبواب الدين والقرض ب ٩ ح ٣ ، وفي الوافي ١٨ : ٧٨٩ ـ ١٥ عن الكافي : أبي نجاد.

(٣) الوسائل ١٨ : ٣٣٥ أبواب الدين والقرض ب ٩.

١٩٠

يصرّح بأنّه عليه‌السلام كان يفعل ذلك ، وهو دالّ على التجدّد الاستمراري.

والذي أراه أنّ أخبار قضاء الإمام مخصوصة بمن لم يكن له طريق إلى الوفاء ، ولا يمكنه استفادة المال من استغلال أو تكسّب أو عمل ، كما تشعر به رواية أبي نجار ، وأخبار المسألة مخصوصة بمن أمكنه استفادة المال ، كما يصرّح به قوله : حتى يستفيد المال ، وقوله : ليستعملوه ، أي يطلبوا منه العمل وتكون لفظة « حتى » تعليليّة ، أي يخلّي سبيله ليستفيد المال ويؤدّي الدين.

والتوفيق بين رواية السكوني (١) وسائر روايات المسألة : أنّ مورد سائر الروايات إنّما هو ما إذا كان المديون بحيث يعلم من حاله أنّه يستفيد المال بنفسه من غير حاجة إلى استعماله فيها وإجباره عليها ، كما هو المستفاد من قوله : حتى يستفيد. ومورد رواية السكوني إنّما هو ما إذا لم يكن كذلك ولم يبال بعدم أداء الدين وعدم الاستفادة ، إذ من الظاهر أنّ من يعلم من حاله أنّه يستفيد بنفسه لا حاجة فيه إلى المؤاجرة والاستعمال.

وبما ذكرنا يرتفع التنافي بين الأخبار طرّا.

ثمَّ نقول : إنّ بما ذكرنا ظهر عدم صلاحيّة شي‌ء من الأخبار لمستند المشهور ، لأنّ المشهور : أنّه يخلّى سبيله ويترك بحاله مطلقا ، سواء كان قادرا على الاستفادة ـ ولو بالتكسّب ـ أم لا ، وهو لا يلائم مع قوله : خلّى سبيله حتى يستفيد (٢) ، أي ليستفيد ، فإنّ التخلية إنّما كانت لذلك ، ولو منعت من إرادة هذا المعنى ـ لاحتمال كون حتى للغاية ـ فنقول : باحتمال التعليلية يسقط استدلالهم.

__________________

(١) المتقدمة في ص : ١٧٧.

(٢) راجع ص : ١٧٧.

١٩١

وأمّا صحيحة زرارة (١) ، فلا دلالة لها أصلا ، لأنّ الظاهر المتبادر من الحبس إسجانه في سجن الإمام ، وأمّا اشتغاله بالكسب فليس حبسا قطعا.

ومنه يظهر حال رواية السكوني الأخيرة.

وأمّا الآية الشريفة ، فكما مرّت إليه الإشارة لا تدلّ على مرادهم أصلا ، لأنّ من يقدر على استفادة المال ولو بالتكسّب ـ الذي لم يكن شاقّا عليه ، بل هو حرفته وعليه معاشه ـ لا يصدق عليه أنّه ذو عسرة أصلا ، لا لغة ولا عرفا.

ولو سلّمنا صدقه عليه فنقول : إنّ الإنظار المأمور به هو ترك مطالبة أداء الدين حال العسرة ، فإذا تركه وأخّره أنظره ولو أمره بالتكسّب وتحصيل اليسار ثمَّ الأداء ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال : أمهله حتى يشتغل ببيع ضياعه ويأخذ ثمنه ويعطيه ، فيصدق الإنظار مع أنّه مشغول بطلب المشتري والمبايعة وأخذ الثمن.

والحاصل : أنّ الإنظار هو الإمهال والتأخير ، ويمكن أن يكون المراد إمهاله في أداء الدين وتأخيره مطالبته. وأمّا الأصل فإنّما يفيد لو لم يكن دليل مخرج عنه ، ولا شكّ أنّ قضاء الدين على كلّ متمكّن منه واجب ، والقادر على العمل والتكسّب متمكّن فيجب عليه ، ولازمه وجوب العمل والكسب من باب المقدّمة ، ولازمه جواز أمره به وحمله عليه ، بل وجوب ذلك.

وظهر ممّا ذكرنا خلوّ المشهور عن الدليل ، وكذا قول النهاية إن أراد دفعه إلى الغرماء مطلقا ، سواء أمكنه الاستفادة بعمل أم لا ، وسواء أدّى ما‌

__________________

(١) المتقدمة في ص : ١٧٨.

١٩٢

يجب عليه بنفسه مع الإمكان [ أم لا (١) ] ، إذ ظاهر أنّ الرواية مخصوصة بصورة قدرته على عمل تحصل منه اجرة وشي‌ء وإلاّ فلا فائدة فيه ـ كشيخ هرم أعمى ومفلوج وأعرج وأشل ـ وبصورة عدم اشتغاله بنفسه ووفائه الدين.

ومنه يظهر خلوّ قول ابن حمزة (٢) أيضا عن الدليل لو أراد الإطلاق.

فالحقّ ـ كما هو ظاهر المحقّق الأردبيلي ، وصاحب الكفاية (٣) ، وبعض مشايخنا المعاصرين وفضلائهم (٤) ـ أنّه وإن لم يتسلّط الغريم على استيفاء منافعه وإجارته ابتداء ولكن يجب على المديون المتمكّن من العمل والكسب اللاّئق بحاله الغير الشاقّ عليه الكسب.

ولو ترك هذا الواجب وتوانى منه ـ بحيث يترتّب عليه ضرر الغرماء ـ على الحاكم إجباره أمرا بالمعروف ودفعا للضرر.

ولو رأى أنّه لا ينجح فيه أمره وجبره وإقامته على الفعل الواجب إلاّ بالدفع إلى الغرماء أمكن الجواز ، بل الوجوب ، بل يجب إن أمكن.

فروع :

أ : إذا أمر بالتكسّب أو استعمل ، يوضع ممّا استفاده مئونته ومئونة عياله الواجب نفقتهم بالمعروف ، ويصرف الزائد في الدين.

ب : التكسّب يشمل جميع الصنائع والحرف والأشغال‌ ـ ولو مثل‌

__________________

(١) أضفناه لاقتضاء السياق.

(٢) الوسيلة : ٢١٢.

(٣) الكفاية : ٢٦٧.

(٤) انظر الرياض ٢ : ٣٩٦ ، غنائم الأيام : ٦٧٩.

١٩٣

الاحتطاب والاحتشاش ـ إذا كان ممّن يتخشّى (١) منه ذلك ، ويليق بشأنه وحاله ، ولا يعدّ شاقّا عليه عرفا. ويقتصر في زمان التكسّب بما هو متعارف سائر الناس في حرفهم وصنائعهم.

ج : لو رضي الغريم بإمهاله حتى يحصل له مال وعفى عن تكسّبه فله ذلك. ولو تعدّد الغرماء ورضي بعضهم دون بعض يأمره من لم يرض بالتكسّب ، ويكون جميع فاضل مئونته ممّا استفاد لذلك.

د : لو ارتاب الحاكم بالمقرّ وشك في بلوغه ، أو عقله ، أو رشده ، أو اختياره ، أو شبه ذلك ممّا هو شرط في صحّة إقراره ، توقّف في الحكم حتى يستبين حاله ، ووجهه واضح.

__________________

(١) أي يترجّى منه ذلك ـ ففي مجمع البحرين ١ : ١٢٤ ولسان العرب ١٤ : ٢٢٨ : خشيت بمعنى : رجوت.

١٩٤

البحث الثاني

في الإنكار‌

اعلم أنّه إذا أنكر المدّعى عليه ما ادّعي عليه فلا يخلوأمّا أن يكون الحاكم عالما بالحال أو لا ، وعلى الثاني فإمّا تكون للمدّعي بيّنة أم لا ، فهاهنا مقامان :

المقام الأول

فيما إذا كان الحاكم عالما

وقد عرفت أنّ الحقّ أنّه يقضي حينئذ بعلمه مطلقا ، ولكن بقيت هنا مسائل ينبغي التنبيه عليها :

المسألة الاولى : لو كان الحاكم حكم في الواقعة بحكم سابقا‌ ـ بعلمه أو بغيره من الإقرار أو البيّنة أو اليمين ـ وتذكّره ، يقضي بمقتضاه ، سواء تذكّر مستند الحكم السابق أم لا ، لأنّ حكمه أيضا حجّة تامّة ومستند شرعي ، فهو عالم بحكم الواقعة ، فيشمله مثل قولهم عليهم‌السلام : « رجل يقضي بالحقّ وهو يعلم » (١) وسائر عمومات الحكم.

وإن لم يتذكّر الحكم ، فإن شهد عدلان بحكمه به فالأصحّ لزوم القضاء به ، وفاقا لوالدي العلاّمة رحمه‌الله ، لعموم قبول شهادة العدلين كما يأتي.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٧ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٣ ـ ٦ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ ـ ٥١٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢ أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٦.

١٩٥

وقيل بالمنع ، لإمكان رجوعه إلى العلم (١).

وفيه : منع كلّية الإمكان أولا ، ومع صلاحيّته للمنع ثانيا وإنّما هو إذا كان العمل بالشاهدين من باب الظنّ ، وتختصّ حجّيّته هنا بصورة انسداد باب العلم.

وظاهر التحرير التردّد في المسألة (٢) ، حيث نقل القولين من غير ترجيح.

ولو لم يكن شاهد ، وكان هناك خطّه وخاتمه لم يحكم به وإن أمن التزوير ، للأصل.

نعم ، لو ضمّ معه قرائن اخرى موجبة للعلم بحكمه يلزم الحكم ، والوجه واضح.

المسألة الثانية : لا يختلف لزوم حكمه بما حكم أولا مع تذكّر الواقعة أو شهادة العدلين أن يعلم عدم تبدّل رأيه في بعض جزئيّات الواقعة ، أو كلّها ، أو لم يعلم ، أو علم التبدّل ، لأنّه قد ثبت ( الحقّ بالحكم السابق ) (٣) ، فيجب استصحابه ، ولا يصلح تبدّل الرأي لرفعه ، كما إذا لم يحصل التنازع بعده ، وكذا إن ظهر له طريان الفسق لشهود الحكم الأول بعده.

المسألة الثالثة : لو تذكّر ثبوت الحقّ عنده أولا من غير حكم به ، أو شهد بذلك الشاهدان. فإن تذكّر مستند الثبوت أو شهد به الشّاهدان بحيث ثبت ، يحكم بمقتضاه.

__________________

(١) الدروس ٢ : ٧٨.

(٢) التحرير ٢ : ١٨٥.

(٣) بدل ما بين القوسين في « ح » : الحكم بالحقّ.

١٩٦

لا لأجل الثبوت السابق ، لعدم كون مجرّد الثبوت بدون الحكم ملزما للخصم.

بل لأجل المستند ، لعدم دليل على وجوب مقارنة قيام المستند لحال الحكم.

ولكن يشترط حينئذ عدم تبدّل رأيه ، فلو ثبت عنده أولا بشهادة النساء مثلا ، أو بشهادة رجل ويمين المدّعي ، ولم يحكم ، وتبدّل رأيه قبل الحكم عن قبول ذلك في مثل تلك الواقعة ، لا يحكم به ، للأصل ، لعدم تعلّق حقّ على الخصم حتى يستصحب ، والثبوت السابق بدون الحكم غير ملزم.

نعم ، لو طرأ فسق الشهود لم يمنع من الحكم ، والفرق : أنّ المعتبر في عدالة الشاهد إنّما هو حال الأداء ، وفي فتوى المجتهد حال الحكم.

وإن لم يتذكّر المستند ولم يثبت بمثل العدلين أيضا فلا يحكم ، للأصل ، إذ لم يثبت أن مجرّد الثبوت عند الحاكم ـ من غير ظهور المستند الثابت اعتباره شرعا ـ من مستندات الحكم.

فإن قيل : الثبوت عند الحاكم قائم مقام علمه ، فإذا جاز حكمه بعلمه جاز بالثبوت أيضا.

قلنا : لا نسلّم أنّ مطلق الثبوت عنده قائم مقام علمه ، بل الثبوت مع الحكم ، وأمّا بدونه فلا ، وأمّا الحكم بعد الثبوت بالمستند فليس لأجل الثبوت ، بل لأجل المستند.

المسألة الرابعة : لو لم يتذكّر الواقعة ولكن شهد عدلان بشهادته فيها ، فهل يجوز حكمه بمقتضى شهادته هذه ، أم لا؟

قال والدي العلاّمة رحمه‌الله في المعتمد : نعم. ولعلّه لأجل أنّه إذا جاز‌

١٩٧

حكم الحاكم بشهادة نفسه جاز بما ثبتت به شهادته أيضا ، لأنّه حكم بشهادة نفسه أيضا.

وفيه : أنّه إنّما يصحّ لو كان حكمه بشهادة نفسه لأجل أنّها شهادة نفسيّته ـ كما في شهادة الشاهدين ـ وليس كذلك ، لعدم دليل عليه ، وإنّما هو لأجل علمه حين الحكم ، وهو منتف هنا. فالأصحّ عدم جواز الحكم بها ، للأصل.

المسألة الخامسة : لا يجوز للحاكم العالم بالواقعة ـ فيما يجوز حكمه بعلمه ـ قطع النظر عن العلم وإيقاف الحكم على غيره من البيّنة أو اليمين ، لأنّ معنى الإيقاف : أنّه لو كان الغير مخالفا للعلم عمل به ، وهو غير جائز ، إذ قبول البيّنة إنّما هو إذا لم يعلم مخالفتها للواقع وإلاّ فلا تقبل إجماعا ، ولأنّه موجب للحكم بخلاف ما يعلم ، بل بغير ما أنزل الله باعتقاده.

بل نقول : إنّ المتبادر من عمومات طلب البيّنة واليمين إنّما هو في صورة اشتباه الواقعة ، وعلى هذا فلا يكون بناء العمل على الغير مشروعا أيضا.

ومنه يظهر عدم جواز طلب البيّنة أو اليمين ، لأنّه إلزام للمطلوب منه بدون ملزم شرعي. بل لا يجوز الإحلاف ولو مع رضى الخصمين ، لأنّه أمر شرعيّ يتوقّف على التوقيف.

ويجوز طلب البيّنة من غير أمر وإلزام ، بأن يقول : إن كان لك بيّنة وأردت إقامتها فلك ذلك ، لأصالة جواز الإتيان بها ، وجواز إخبارها ، وجواز استماع خبرها ، بل قد يكون راجحا إذا أوجب البعد عن معرض التهمة ، والله العالم.

١٩٨

المقام الثاني

فيما إذا لم يكن الحاكم عالما بالحال

والحكم حينئذ إمّا يكون باليمين ، أو بالبيّنة ، أو بهما. وتفصيل الكلام فيها في ثلاثة مواضع بعد ذكر مقدّمة.

المقدّمة : اعلم أن من القواعد الثابتة المسلّمة بين الأمّة المدلول عليها بالأخبار (١) : أنّ الدعاوي تقطع بالبيّنة واليمين.

قال الله سبحانه ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ ) (٢).

وفي رواية أبي ضمرة : « أحكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى » (٣).

وفي مرسلة أبان : « اقض بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به » وفيها أيضا : « ثمَّ أوحى الله تعالى إليه » أي إلى داود « أن احكم بينهم بالبيّنات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به » (٤).

وفي صحيحة سعد وهشام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » الحديث (٥).

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٧ : ٢٢٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١.

(٢) البقرة : ١٤٠.

(٣) الكافي ٧ : ٤٣٢ ـ ٢٠ ، التهذيب ٦ : ٢٨٧ ـ ٧٩٦ ، الخصال : ١٥٥ ـ ١٩٥ وفيه : بتفاوت يسير ، الوسائل ٢٧ : ٢٣١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١ ح ٦.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٤ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٢٨ ـ ٥٥١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١ ح ٢ وفيه : اقض عليهم ..

(٥) الكافي ٧ : ٤١٤ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ ـ ٥٥٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ١.

١٩٩

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحكم بين الناس بالبيّنات والأيمان في الدعاوي » (١) ، إلى غير ذلك.

ثمَّ إنّ هذا حكم مجمل وقاعدة مبهمة.

ومن القواعد المسلّمة بين الأمّة الثابتة بالأخبار المستفيضة المفصّلة لذلك المجمل : أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر.

ففي صحيحة الحلبي وجميل وهشام : « البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه » (٢).

وفي صحيحة العجلي : « الحقوق كلّها : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، إلاّ في الدم خاصّة » الحديث (٣).

وفي رواية أبي بصير : « إنّ الله [ عزّ وجلّ ] حكم في الدماء ما لم يحكم في شي‌ء من حقوق الناس ، لتعظيمه الدماء ، لو أنّ رجلا ادّعى على رجل عشرة آلاف درهم أو أقلّ من ذلك أو أكثر لم يكن اليمين على المدّعي ، وكانت اليمين على المدّعى عليه » الحديث (٤).

وفي صحيحته : « إن الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم ، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه » الحديث (٥).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ٣.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٥ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ ـ ٥٥٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣ ح ١.

(٣) الكافي ٧ : ٣٦١ ـ ٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣ ح ٢.

(٤) الكافي ٧ : ٣٦٢ ـ ٨ ، الفقيه ٤ : ٧٣ ـ ٢٢٣ ، التهذيب ١٠ : ١٦٧ ـ ٦٦٣ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٦ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ٥.

(٥) الكافي ٧ : ٣٦١ ـ ٦ و ٤١٥ ـ ٢ ، الفقيه ٤ : ٧٢ ـ ٢١٩ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ ـ ٥٥٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣ ح ٣ ، وج ٢٩ : ١٥٣.

أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٩ ح ٤.

٢٠٠