مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

فيقدّر المتيقّن ، وهو متاع البيت كما في سائر الأخبار.

والمراد من متاع البيت : ما يكون في بيتهما يتمتّعان به ، أيّ شي‌ء كان ، ولذا مثّل بعضهم لما يصلح للرجال منه بالأسلحة والمناطيق ، وما يصلح لهما بالفرش والحبوبات ، وعدّ في موثّقة سماعة السيف والسلاح من متاع البيت ، وليس المراد ما يتعارف التمتّع به في البيت ، كما في لفظ أثاث الدار.

ويشترط أن يكون البيت أو الدار ممّا يتعلّق بهما ويتصرّفان فيه ، فلو كان للزوجة بيت معيّن في الدار ، ولا مدخل لها في غيره ، لا يجري الحكم في متاعه.

ومنه بيت الضيافة للرجال ، وبيت الحكم والتدريس ، والإصطبل ، الذي يختصّ بالتصرّف فيه الرجل.

ولو كان لأحدهما شي‌ء خارج البيت يحكم فيه لذي اليد منهما ، ولو كان بيد ثالث يصدّق قوله في حقّهما ، كما مرّ بأقسامه.

د : لا فرق في الحكم المذكور بين ما إذا كان التداعي في تمام متاع البيت أو بعضها ، لإطلاق الأدلّة.

هـ : اعلم أنّ الحكم في أكثر الأخبار المذكورة مخصوص بالزوجة الدائمة ، لتصريح صحيحة رفاعة بالطلاق المختصّ بها ، واشتمال الصحاح الثلاث على قوله : « طلّقها » المخصّص للمرأة ـ التي هي مرجع الضمير ـ بالدائمة ، أو الموجب للتوقّف في التخصيص والعموم.

ولكن مقتضى إطلاق المرأة في موثّقة يونس ثبوت الحكم في المنقطعة أيضا ، وهو مقتضى دليل القائلين بالقول الأوّل ، لأنّ مرجعهم إلى العمومات الجارية في كلّ أحد ومنه المنقطعة ، وكذا دليل القائلين بالقول الأخير ، وهو الرجوع إلى العرف إن تحقّق وإلاّ فإلى العمومات. ولذا‌

٣٨١

أجري في القواعد الحكم في تداعي العطّار والنجّار في آلاتهما (١).

ومنه يعلم عدم انعقاد إجماع على التخصيص بالدائمة ، وحينئذ فالعمل بمقتضى إطلاق الموثّقة ـ مع عدم منافاة اختصاص البواقي له ـ أولى وأظهر.

و : لو ادّعى أحدهما اليد المستقلّة على بعض المتاع ، فإن كان ممّا يختصّ به فلا تترتّب ثمرة على المتنازع ، لاتّحاد حكمه مع ثبوت اليد وعدمه.

ولو ادّعاها في المختصّ بالآخر أو المشترك يترافعان أولا في ذلك ، فعلى مدّعي اليد الإثبات ، فإن أثبتها يقدّم قوله ، وإلاّ فله إحلاف الآخر ، فإن نكل فعليه حكمه ، وإن حلف تنفى اليد المستقلّة ، ويحكم بمقتضى حكم متاع البيت الذي لا يستولي عليه أحدهما.

ز : هل الحكم المذكور مخصوص بما لم تعلم فيه ملكيّته السابقة لأحدهما ، وأمّا فيما علم فيه فيستصحب حتى يظهر خلافه ، أو لا ، بل يجري فيه أيضا؟

مقتضى التعليل المذكور في الصحاح الثلاث : الأوّل ، لأنّه صرّح بأنّ هذا الحكم لأجل ملكيّة الزوجة السابقة ، ولو ادّعى الزوج أنّه أحدث في البيت شيئا فعليه البيّنة. ولا يضرّ ترك العمل بأصل الحكم فيها ، لأنّ ترك جزء من الحديث ـ لمعارض ـ لا يوجب ترك الباقي.

ولكنّ مقتضى إطلاق سائر الأخبار : [ الثاني ] (٢) ، فيتعارضان بالعموم من وجه ، ويرجع إلى استصحاب الملكيّة ، بل اليد السابقة أيضا.

فالحقّ هو : الأوّل ، إلاّ أن تعلم يد مستقلّة حاليّة فيه للآخر ، فتقدّم على الملكيّة السابقة ، والله العالم بحقائق الأمور.

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٢٣.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ : الأوّل ، وهو غير صحيح.

٣٨٢

الفصل السادس

في بيان نبذة من أحكام تعارض الملك السابق واليد ،

وتعارض البيّنات وتصادقهما

بحيث يستلزم العمل بكلّ منهما تكذيب الأخرى ، وإلاّ فيجب التوفيق بينهما ، والعمل بكلّ منهما ، لكونه حجّة شرعيّة ، وهو غالبا يكون في تنازع الأعيان.

وقد يتحقّق في الديون إذا بيّن المدّعي السبب ، كأن يقول : لي عليه عشرة ثمن الفرس الفلاني الذي بعته يوم كذا ، وأقام عليه بيّنة ، وأقام المدّعى عليه البيّنة على أنّ هذا الفرس بعينه مات بشهر قبل ذلك عند المدّعي.

وقد يتحقّق في سائر الحقوق أيضا ، كأن يقيم المدّعي البيّنة على أنّه جرحه اليوم الفلاني في موضع كذا ، وأقام المدّعى عليه البيّنة على أنّه كان في ذلك اليوم في بلدة اخرى بينهما مسافة عشرة أيّام.

ثمَّ العين التي تعارضت فيها البيّنتان إمّا تكون في يد أحد المتداعيين ، أو يدهما معا ، أو يد خارج عنهما ، أو لا تكون عليها يد. ونبيّن أحكامها في مسائل :

المسألة الأولى : إذا كانت في يد أحدهما وأقام كلّ منهما بيّنة ، فللأصحاب فيه أقوال :

الأوّل : ترجيح بيّنة الخارج مطلقا‌ ، سواء شهدت البيّنة من الجانبين بالملك المطلق ، أو المقيّد بالسبب ، أو التفريق.

٣٨٣

وهو المحكيّ عن والد الصدوق والشيخ في كتاب البيوع من الخلاف والديلمي وابن زهرة والكيدري (١) ، وعن الغنية دعوى إجماعنا عليه ، واختاره طائفة من المتأخّرين (٢) ، منهم بعض مشايخنا المعاصرين (٣).

ودليلهم على ذلك : الإجماع المنقول ، والمستفيضة المصرّحة : بأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه (٤) ، فإنّ التفصيل قاطع للشركة ، ومقتضاها اختصاص قبول البيّنة من المدّعي ، كما استدلّ به أكثر الأصحاب.

ويدلّ عليه صريحا خبر منصور ـ الذي لو كان فيه ضعف فبالشهرة مجبور ـ : رجل في يده شاة ، فجاء رجل فادّعاها ، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده ، ولم يهب ولم يبع ، وجاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول وأنّها ولدت عنده ، ولم يهب ولم يبع ، فقال : « حقّها للمدعي ، ولا أقبل من الذي في يده بيّنة ، لأنّ الله تعالى إنّما أمر ان تطلب البيّنة من المدّعي ، فإن كانت له بيّنة وإلاّ فيمين الذي هو في يده ، هكذا أمر الله عزّ وجلّ » (٥).

وهذه الرواية بنفسها أيضا حجّة مستقلّة على المطلوب ، وذكر السبب في السؤال غير ضائر ، لعموم الجواب والعلّة.

__________________

(١) حكاه عن والد الصدوق في المقنع : ١٣٣ ، الخلاف ٣ : ١٣٠ ، المراسم : ٢٣٤ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٢) كالعلاّمة في القواعد ٢ : ٢٢٢ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٠٨ و ١٠٩ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٦٥.

(٣) انظر الرياض ٢ : ٤١٩.

(٤) انظر الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٤٠ ـ ٥٩٤ ، الاستبصار ٣ : ٤٣ ـ ١٤٣ ، وفيهما بتفاوت يسير ، وأورد ذيله في الوسائل ٢٧ : ٢٣٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣ ح ٤.

٣٨٤

والرضويّ المنجبر ضعفه بما ذكر ، قال عليه‌السلام : « فإذا ادّعى رجل على رجل عقارا أو حيوانا أو غيره ، وأقام بذلك بيّنة ، وأقام الذي في يده شاهدين ، فإنّ الحكم فيه أن يخرج الشي‌ء من يد مالكه إلى المدّعي ، لأنّ البيّنة عليه » (١).

ومبنى استدلالهم على أصالة عدم حجّية بيّنة الداخل ، فلا يرد عليهم : أنّه إن كان بناؤهم على عدم حجّيتها فهو مناف لقبولها في بعض الموارد ، وإن كان على قوّة الظنّ فقد يكون الظنّ الحاصل من بيّنة الداخل أقوى من بيّنة الخارج. فإنّا نختار الأوّل ، والأصل لا ينافي الخروج عنه بالدليل.

قيل : ظاهر المستفيضة أنّ وجوب البيّنة على المدّعي لا عدم الحكم بها لو أقامها المنكر ، أي تجب البيّنة على المدّعي ، ولا يكلّف المنكر تجشّمها ، واليمين أيضا لا يجب إلاّ على المنكر ، فالتفصيل إنّما هو في الواجب لا في الجائز ، فنقول بسماع بيّنة المنكر أيضا ، كما صرّح به جماعة في موارد عديدة :

منها : ما ذكروا في مقام تعارض البيّنات ، بأنّهما تعارضتا فتساقطتا ، والتساقط لا يكون إلاّ مع حجّيتهما ، وبأنّ لذي اليد دليلين : اليد والبيّنة ، وبتقديم الأعدل والأكثر منهما.

ومنها : ما ذكره الفاضل في القواعد والتحرير والشهيد في الدروس من سماع بيّنة ذي اليد قبل المخاصمة للتسجيل ، وبعدها لدفع اليمين.

ويدلّ على سماع بيّنة الداخل أيضا عموم قولهم : « أحكام المسلمين‌

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٦١ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٧٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٠ ح ٣.

٣٨٥

على ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنّة ماضية » (١).

وقوله سبحانه لنبيّ من الأنبياء : « اقض بينهم بالبيّنات ، وأضفهم إلى اسمي » (٢).

وكون قول العدلين دليلا شرعيّا غالبا.

وخصوص الأخبار ، كصحيحة حمّاد الحاكية لأمر اللعين موسى بن عيسى في المسعى ، إذ رأى أبا الحسن موسى عليه‌السلام مقبلا [ من المروة على بغلة ، فأمر ابن هياج رجلا من همدان منقطعا إليه أن يتعلّق بلجامه ويدّعي ] البغلة ، فأتاه وتعلّق باللجام ، وادّعى البلغة ، فثنى أبو الحسن عليه‌السلام رجله ونزل عنها ، وقال لغلمانه : « خذوا سرجها وادفعوها إليه » فقال : والسرج أيضا لي ، فقال : « كذبت ، عندنا البيّنة بأنّه سرج محمّد بن علي ، وأمّا البغلة فإنّا اشتريناها منذ قريب ، وأنت أعلم بما قلت » (٣).

ورواية فدك المتقدّمة (٤) ، فإنّه لو كانت إقامة البيّنة للمنكر بلا فائدة وغير مجوّزة لكان أولى بالمجادلة به مع أبي بكر.

ورواية حفص السابقة (٥) ، حيث قال فيها : أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ إلى غير ذلك.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٣٢ ـ ٢٠ ، التهذيب ٦ : ٢٨٧ ـ ٧٩٦ ، الخصال : ١٥٥ ـ ١٩٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١ ح ٦.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٤ ـ ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٢٨ ـ ٥٥١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١ ح ٢ وفيه : اقض عليهم ..

(٣) الكافي ٨ : ٨٦ ـ ٤٨ ، الوسائل ٢٧ ـ ٢٩١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٤ ح ١ ، بدل ما بين المعقوفين في « ح » و « ق » : على بغلته رجلا أن يدّعي ، وما أثبتناه من المصدر.

(٤) في ص : ٣٣٣.

(٥) في ص : ٣٣٣.

٣٨٦

وأمّا رواية منصور (١) فيمكن أن يكون وجه التعليل فيها : أنّ الله حكم بإعمال بيّنة المدّعي وإحقاق حقّه بمجرّد البيّنة وإن ثبتت للمدّعى عليه أيضا بيّنة ، إلاّ أنّه لا يمكن ثبوت حقّ المدّعى عليه بالبيّنة إذا لم تكن للمدّعي بيّنة (٢).

أقول أوّلا : إنّ ما ذكره ـ من أنّ غاية ما يفيده ، إلى آخره ـ فيه : إنّه لو سلّمنا أنّ معنى قولهم : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، ما ذكره من التفصيل بين الواجبين دون الجائزين معيّنا أو احتمالا ، فمع منعه ـ كما يأتي ـ يرد عليه : أنّه يمكن للمستدلّ أن يقول : إنّه على التقديرين يثبت ترتّب الأثر على بيّنة المدّعي ، وأمّا تأثير بيّنة المنكر فيكون احتماليّا ، بل يكون مسكوتا عنه على ذلك الاحتمال أيضا ، والأصل عدمه. وما ذكره دليلا لتأثيره غير ناهض كما يأتي ، فيمكن تتميم الاستدلال أيضا.

وثانيا : إنّه على ما ذكره يجوز للمنكر الحلف وتجوز إقامة البيّنة ، وقد مرّ في بحث كيفيّة الحكم جواز ترك المدّعي لبيّنته الغائبة أو الحاضرة ، والاكتفاء بإحلاف الخصم ، وقد عرفت نفيهم الخلاف فيه.

وإذا جاز للمدّعي ترك بيّنته وللمنكر رفع الحلف بالبيّنة ، فأين الوجوب الثابت لهما من هذه الأخبار؟!

هذا ، مع أنّ سماع بيّنة المنكر دفعا لليمين في غير مقام التعارض ممنوع ، كيف؟! وقال بعض مشايخنا المعاصرين : إنّ وظيفة ذي اليد اليمين دون البيّنة ، فوجودها في حقّه كعدمه بلا شبهة ، ولذا لو أقامها بدلا‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص : ٣٨٤.

(٢) غنائم الأيام : ٧٠٢.

٣٨٧

عن يمينه لم تقبل منه إجماعا إن لم يقمها المدّعي (١). انتهى.

وثالثا : إنّ الإمام في هذه الأخبار ليس في مقام بيان التكليف حتى يفيد الوجوب أو الجواز ، وإنّما هو في مقام التوقيف وبيان الحكم الوضعي ، وهو المتبادر من هذا الكلام في ذلك المقام ، فالمعنى : أنّ حكم الله ( الموقف الذي وضعه ) (٢) هو إتيان المدّعي بالبيّنة والمدّعى عليه بالحلف ، والتفصيل قاطع للشركة في التوقيف والوضع ، فلا يترتّب أثر على بيّنة المدّعى عليه إلاّ بدليل آخر.

ورابعا : إنّ ما ذكره ـ من قول جماعة بسماع بيّنة المدّعى عليه في موارد ـ فمع كون أكثرها من الأقوال النادرة الشاذّة لو سلّم غير مفيد ، إذ نحن نقول بكون ذلك من باب القاعدة ويقبل التخصيص ، كما خصّ جانب المدّعي بثبوت اليمين عليه مع الردّ ، ومع الشاهد الواحد ، ومع كون الدعوى على الميّت ، وفي الدماء ، وغير ذلك ، فلا يصير ذلك دليلا على صرف اللفظ عن ظاهره ، ولا موجبا لإثبات أثر بيّنة المنكر ، الذي هو خلاف الأصل في غير تلك الموارد.

وخامسا : إنّ استدلاله بسماع بيّنة المنكر بالعمومين اللذين ذكرهما باطل جدّا ، إذ لا عموم في الحديث الأوّل أصلا ، فإنّ المعنى : أنّ الحكم يتحقّق بأحد هذه الأمور ، أمّا أنّ مواردها أين هي فلا يعلم من الخبر ، ولذا لا يحكم في المدّعى باليمين ، وليست السنّة ماضية في جميع الموارد.

وأمّا الثاني ، فلو كان عامّا لاقتضى الجمع بين البيّنة واليمين في جميع الموارد ، لا قبول البيّنة فقط ، بل لا دلالة على قبولها في مورد أصلا ،

__________________

(١) الرياض ٢ : ٤٢٠.

(٢) بدل ما بين القوسين في « ح » : الموظف الذي وظفه.

٣٨٨

فالمراد منه العمل بكلّ في مورده الثابت شرعا.

وسادسا : إنّ كون قول العدلين دليلا مطلقا ـ حتى في موقع الترافع وعن المنكر ـ فأول الكلام ، والاستقراء المفيد غير ثابت.

وسابعا : إنّ الاستدلال بصحيحة حمّاد غريب جدّا ، لأنّه لم يكن في مقام إقامة البيّنة والترافع ، وإنّما ترك الإمام البغلة توقّيا لدينه ، حيث كان يجوز صدقه فيها مع جواز ردّ قوله ، كما صرّح به في رواية حفص المتقدّمة (١) ، ولوجود البيّنة على أنّ السرج لمحمّد بن عليّ فكان يعلم أنّه كاذب فيه فلم يطعه.

وثامنا : أنّه لا دلالة لرواية فدك على ما رآه ، إذ لعلّ المخالفين يجوّزون بيّنة الداخل ، فلا يصير ما ذكره حجّة عليهم ، مع أنّه تكفي للحاجة حجّة واحدة.

وتاسعا : إنّ رواية حفص ليست صريحة في جواز الشهادة وقبولها عنه في جميع الموارد وموضع التنازع ، فلعلّ المراد نسبته إليه ـ كما صرّح به الإمام بعد ذلك ـ أو يشهد له بالملك الاستصحابي ، أو ملكيّة الأمس ، ونحو ذلك ، مع أنّ جواز الشهادة لا يستلزم جواز القبول ، ألا ترى أنّ الفاسق لو سأل الإمام : إنّي لو رأيت في يد أحد شيئا يملكه أيجوز لي أن أشهد له؟ بحيث يقول : نعم ، ولا يقول : إنّه غير مقبول الشهادة.

وعاشرا : أنّ الإمام عليه‌السلام قال : « ولا أقبل من الذي في يده بيّنة » في رواية منصور ، وهو صريح في عدم قبول بيّنة المدّعى عليه ، وعدم ثبوت حقّه به.

__________________

(١) في ص : ٣٣٣.

٣٨٩

ثمَّ إنّه ذكر بعض أمور أخر ، لا فائدة في ذكرها سوى التطويل.

الثاني : أنّه ترجّح بيّنة الداخل مطلقا‌ ، وهو المحكيّ عن كتاب الدعاوي من الخلاف (١).

واحتجّ له بالأصل. والاستصحاب.

وبأنّ ذا اليد له حجّتان : اليد والبيّنة ، والآخر له حجّة واحدة ، فيترجّحان عليه.

وبأنّ البيّنتين تعارضتا وتساقطتا ، فبقيت العين في يد صاحب اليد بلا بيّنة للمدّعي.

وببعض الأخبار العاميّة والخاصّية ، الآتية إليها الإشارة ، المخصوصة بما ذكر فيه السبب ، سوى رواية إسحاق على ما في التهذيب (٢) ، ولكن الظاهر اختصاصها أيضا بذلك ، لإيرادها بعينها في الكافي مسبّبة (٣) ، كما يأتي.

ولو سلّم عمومها فلا بدّ من تخصيصها ، لدلالة صدرها على الرواية الأخرى ، على أنّ مع مسبّبية البيّنتين يحلفان ، وبضميمة الإجماع المركّب والأولويّة يثبت الحكم في الصورة الباقية أيضا.

مع أنّها معارضة مع رواية منصور المتقدّمة ، المتضمّنة لقوله : « لا أقبل من الذي في يده بيّنة » ، وأعمّيتها من صورة التعارض غير ضائرة ، إذ عدم القبول مع عدم المعارض يستلزمه معه بالطريق الأولى.

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٦٣٥.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٣٣ ـ ٥٧٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٠ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٢.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٢.

٣٩٠

ولو قطع النظر عن الجميع وفرض تماميّة الدلالة ، تكون خارجة عن الحجيّة ، للشذوذ الشديد.

الثالث : ترجيح الخارج مطلقا ، إلاّ إذا انفردت بيّنة الداخل بذكر السبب ، فيرجّح.

حكي عن الشيخ في النهاية (١) ، وقد ينسب إلى الصدوق أيضا (٢) ، وعن القاضي والطبرسي والشرائع والنافع والمختلف والتحرير والإرشاد والقواعد ونكت الإرشاد والروضة والمهذّب ـ ناسبا خلافه إلى الندرة ـ والتنقيح (٣).

وحجّتهم على الجزء الأوّل ما مرّ دليلا للقول الأوّل.

وعلى الثاني ـ على ما قيل (٤) ـ يستشعر من كلام الشيخ في الخلاف والمبسوط ومن كلام ابن فهد من الإجماع على تقديم بيّنة الداخل مع ذكر السبب مطلقا ، أو مع تفرّدها به ، وتأييده بالسبب ، والأخبار الآتية المشار إليها ، المتضمّنة لتقديم قول ذي اليد مع ذكر السبب.

الرابع : ترجيح الخارج مطلقا ، إلاّ إذا تضمّنت البيّنتان أو بيّنة الداخل فقط ذكر السبب ، فيرجّح الداخل.

نسب إلى الشيخ في جملة من كتبه (٥) ، وقد ينسب إلى القاضي وجماعة ، ومن المتأخّرين من أنكر ظهور قائل بهذا القول عدا الشيخ في‌

__________________

(١) النهاية : ٣٤٤.

(٢) الموجود في الفقيه ٣ : ٣٩ غير مطابق للنسبة ، فراجع.

(٣) القاضي في المهذّب ٢ : ٥٧٨ ، حكاه عن الطبرسي في الرياض ٢ : ٤٢٠ ، الشرائع ٤ : ١١١ ، النافع : ٢٨٦ ، المختلف : ٦٩٢ ، التحرير ٢ : ١٩٥ ، القواعد ٢ : ٢٣٢ ، الروضة ٣ : ١٠٩ ، التنقيح ٤ : ٢٨٠ ـ ٢٨١ وفيه نقل للقول دون الأخذ به.

(٤) رياض المسائل ٢ : ٤٢٠.

(٥) كالاستبصار ٢ : ٤٢ ، الخلاف ٢ : ٦٣٦.

٣٩١

طائفة من كتبه مع تأمّل في بعضها أيضا (١).

واستدلّوا بالخبر العامّي الذي رواه جابر : إنّ رجلين تداعيا دابّة ، فأقام كلّ منهما البيّنة أنّها دابّته أنتجها ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للذي في يديه (٢).

ورواية إسحاق « إنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في دابّة في أيديهما ، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها أنتجت عنده ، فأحلفهما عليّ عليه‌السلام ، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف ، فقضى بها للحالف ، فقيل له : فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ قال : أحلّفهما ، فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف ، فإن حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين ، قيل : فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البيّنة؟ قال : أقضي بها للحالف الذي في يده » (٣).

وموثّقة غياث بن إبراهيم : « اختصم إليه رجلان في دابّة ، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها ، فقضى بها للذي في يده ، وقال : لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين » (٤).

الخامس : ترجيح الخارج مطلقا ، إلاّ مع أعدليّة بيّنة الداخل ، ثمَّ أكثريّتها ، فيترجّح‌ ، وهو للمفيد (٥).

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٢١.

(٢) سنن البيهقي ١٠ : ٢٥٦ ، بتفاوت يسير.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٢ ، وفي التهذيب ٦ : ٢٣٣ ـ ٥٧٠ ، الاستبصار ٣ : ٣٨ ـ ١٣٠ لا توجد : في دابّة في أيديهما ، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها أنتجت عنده ، فأحلفهما علي عليه‌السلام ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٠ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٢.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٣٤ ـ ٥٧٣ ، الاستبصار ٣ : ٣٩ ـ ١٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٠ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٣.

(٥) المقنعة : ٧٣٠.

٣٩٢

السادس : ترجيح أكثرهما عددا ، ومع التساوي فللحالف منهما ، ومع حلفهما أو نكولهما فللداخل.

نقل عن الإسكافي (١) ، واختاره من متأخّري المتأخّرين صاحب المفاتيح وشارحة (٢) ، إلاّ أنّهما اقتصرا على تقديم الأكثر ، ومع التساوي في العدد يقدّمان بيّنة الخارج.

وتدلّ على اعتبار الأكثريّة صحيحة أبي بصير : عن الرجل يأتي القوم فيدّعي دارا في أيديهم ، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها من أبيه ولا يدري كيف أمرها ، فقال : « أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه » وذكر : « أنّ عليّا أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت لهؤلاء البيّنة أنّهم أنتجوها على مذودهم (٣) لم يبيعوا ولم يهبوا ، وقامت لهؤلاء البيّنة بمثل ذلك ، فقضى بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم » (٤).

السابع : الفرق بين السبب المتكرّر ـ كالبيع ـ وغير المتكرّر ـ كالنتاج ونساجة الثوب‌ ـ نسب إلى ابن حمزة (٥) ، وفسّر في شرح المفاتيح قوله بأنّه إذا شهدت لذي اليد على سبيل التكرار ـ كأن يقول : كان يبيعه مرّة ويشتريه اخرى ـ ترجّح بيّنته ، وإن قالت : اشتراها مرّة ، واقتصر على ذلك ، أو قال قولا آخر ، قدّمت بيّنة الخارج.

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٦٩٣.

(٢) المفاتيح ٣ : ٢٧١.

(٣) المذود : معلف الدابّة ـ مجمع البحرين ٣ : ٤٦.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٨ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٣٨ ـ ١٢٩ ـ ١٣٠ ، التهذيب ٦ : ٢٣٤ ـ ٥٧٥ ، الاستبصار ٣ : ٤٠ ـ ١٣٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ١ ، بتفاوت.

(٥) الوسيلة : ٢١٩ ، ونسبه إليه في المسالك ٢ : ٣٩١.

٣٩٣

الثامن : تقديم بيّنة الخارج ، إلاّ إذا شهدت بالملك ، وشهدت بيّنة الداخل بالإرث ، فيقدّم أكثرهم بيّنة ويستحلف‌ ، هو ظاهر الصدوق في الفقيه (١) ، وحكي عن الحلبي (٢) ، وتدلّ عليه صحيحة أبي بصير المتقدّمة.

التاسع : الرجوع إلى القرعة مطلقا‌ ، حكي عن العماني (٣) ، مدّعيا تواتر الأخبار بقضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك (٤).

وربّما توجد في المسألة أقوال أخر.

وقد تردّد جماعة في المسألة أيضا ، كما في الدروس واللمعة والمسالك والكفاية (٥) ، وقد اختلف بعضهم مع بعض في نسبة الأقوال أيضا.

أقول : لا ينبغي الريب في أنّ الأصل مع القول الأوّل ، لما مرّ من الأدلّة المثبتة للقاعدة ، وهي كون البيّنة حجّة للخارج ، وأصالة عدم حجّيتها لغيره ، ومع ذلك أفتى بمقتضى ذلك الأصل جماعة من فحول العلماء ، من القدماء وغيرهم (٦) ، وادّعي عليه الإجماع (٧) ، فلا يجوز رفع اليد عنه إلاّ بمخرج ، فاللاّزم النظر في أدلّة سائر الأقوال.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٩.

(٢) قال في الرياض ٢ : ٤٢٠ : .. ويحتمل فيه القول بمضمونه كما حكاه في المختلف عن الحلبي. إلاّ أنّ المنقول في المختلف : ٦٩٣ هو عين ما في الكافي : ٤٤٠ ، ولم نر فيه ظهورا في ذلك.

(٣) حكاه عنه في المختلف : ٦٩٣.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣.

(٥) الدروس ٢ : ١٠١ ، اللمعة ( الروضة ٣ ) : ١٠٧ ، المسالك ٢ : ٣٩٠ ، الكفاية : ٢٧٦.

(٦) راجع ص : ٣٨٣ و ٣٨٤.

(٧) كما في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

٣٩٤

فنقول : أمّا أدلّة الثاني فغير تامّة جدّا ، أمّا الأصل والاستصحاب فلاندفاعهما ببيّنة المدّعي ، التي هي حجّة شرعيّة ، بل برواية منصور المتقدّمة (١) أيضا.

وأمّا سقوط بيّنة المدّعي بالتعارض فلكونه فرع التعارض ، الذي هو فرع كون بيّنة المنكر دليلا شرعيّا ، وهو ممنوع غايته.

وأصالة حجيّة قول العدلين غير ثابتة ، ولو سلّمت فهي في مقام الترافع غير مسلّمة ، لقطع الإمام الشركة ، وقول نادر بسماعها غير مفيد ، سيّما مع معارضته بدعوى الإجماع على خلافه كما مرّ.

وبعض الأخبار المشار إليها غير ناهضة ، لما مرّ من اختصاصها بالمقيّد بالسبب ، ولم نعثر على خبر غير مقيّد ، ولم يدّعه أحد ، بل صرّح بعضهم بعدم وضوحه (٢).

فلا شكّ في سقوط هذا القول من البين بالمرّة ، سيّما مع ما له من الشذوذ والندرة ، كما صرّح به بعض الأجلّة (٣).

وأمّا أدلّة الجزء الثاني للثالث فيرد على أولها : عدم حجّية الإجماع المنقول أولا.

ومنع ظهور كلمات من ذكر في الإجماع ثانيا.

ومعارضته مع صريح نقل الإجماع في الغنية المؤيّد بموافقة أكثر القدماء ثالثا.

وعلى ثانيها : منع كون السبب مؤيّدا ، كما صرح به بعض مشايخنا ،

__________________

(١) في ص : ٣٨٤.

(٢) كما في الرياض ٢ : ٤١٩.

(٣) انظر الرياض ٢ : ٤١٩.

٣٩٥

حيث قال : مع أنّ في حصول التأيّد بالسبب نظرا ، ولو سلّم فلا نسلّم كلّيته (١).

وعلى ثالثها : أنّ الأخبار موردها اشتمال البيّنتين على السبب ، فلا ربط لها بمحلّ البحث من كون بيّنة الداخل مقيّدة خاصّة.

والتتميم بالأولويّة ـ كما في المسالك (٢) ـ مردود بأنّ صحّته فرع قولهم بالأصل ، وهو تقديم بيّنة الداخل في المسبّبين حتى يسري في الفرع بالأولويّة ، وهم لا يقولون به ، مع أنّ العمل بالأولويّة إنّما يتمّ مع مقطوعيّة العلّة ، وهي ليست هنا بمقطوعة ولا مظنونة ، لأنّ ذكر السبب إنّما وقع في كلام السائل.

وأمّا دليل الرابع ـ وهو الأخبار الثلاثة المتقدّمة ـ فمع كون أولها عامّيا ضعيفا غير منجبر ، أنّ شيئا منها لا يدلّ على المطلوب ، إذ ليس فيها إلاّ أنّ بعد شهادتهما بالنتاج عنده قضى لذي اليد بعد الحلف كما في الأولين ، أو مطلقا كما في الأخير ، الواجب حمله على المقيّد أيضا.

وهذا كما يمكن أن يكون لتعارض البيّنتين المسبّبتين وتقديم بيّنة ذي اليد منهما ، يمكن أن يكون لطرح بيّنة الداخل ، لعدم توقيفيّته ، وعدم فائدة لبيّنة الخارج ، لكونها شهادة على الملك القديم ، وكونه مرجوحا بالنسبة إلى اليد الحاليّة كما هو المشهور.

بل الاحتمال الثاني هو الأظهر ، لقضائه عليه‌السلام بعد الحلف ، الذي لا يقولون به القائلون بالقول الرابع ، وإنّما هو على الاحتمال الثاني ، فلا يكون لهذا القول ولا لسابقه دليل أصلا كالقول السابق عليهما.

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٢١.

(٢) المسالك ٢ : ٣٩٠.

٣٩٦

مع أنّه على فرض الدلالة ـ كما زعمه المستدلّ ـ يحصل التعارض بينهما وبين أخبار القول الأوّل ، والترجيح مع أخبار الأوّل ، لموافقتها لأصالة عدم حجّية بيّنة الداخل وعدم وجوب الحلف ، وللسنّة النبويّة الثابتة ـ التي هي كون إقامة البيّنة وظيفة المدّعي ، وهي من المرجّحات المنصوصة ـ وللشهرة العظيمة سيّما القديمة ، ومخالفتها لأكثر العامّة ، كما صرّح به التقيّ المجلسي في حاشية الفقيه (١).

وتدلّ عليه رواية جابر ، ونسبة القضاء في الخبرين إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

وأمّا ما في الخلاف ـ من سماع أبي حنيفة بيّنة الداخل (٣) ـ فهو ليس صريحا في أنّه يقدّمها في مورد الروايات ـ كما ظنّ ـ حتى يكون مرجّحا لروايات القول الرابع.

فخلوّ هذا القول عن الدليل أيضا في غاية الظهور كالقول الخامس أيضا ، فإنّه مع ندرته جدّا ـ كما صرّح به بعض الأجلّة ، حيث ناقش مع المهذّب والدروس في نسبة اعتبار الأعدليّة قبل الأكثريّة إلى قدماء الأصحاب كما في الأوّل ، أو أكثرهم كما في الثاني ، وقال : لم أقف على قائل منهم بذلك عدا من ذكرنا ، أي المفيد ، وإن قالوا بذلك فيما إذا كانت العين بيد ثالثة (٤). انتهى ـ لا شاهد له من الأخبار أصلا.

نعم ، في رواية البصري : « كان عليّ عليه‌السلام إذا أتاه خصمان يختصمان‌

__________________

(١) انظر روضة المتقين ٦ : ١٧٥.

(٢) المتقدّمة جميعا في ص : ٣٩٢.

(٣) الخلاف ٢ : ٦٣٥.

(٤) انظر الرياض ٢ : ٤٢٠.

٣٩٧

بشهود ، عدلهم سواء ، وعددهم سواء ، أقرع بينهم على أيّهم يصير اليمين » الحديث (١).

ولا دلالة له على هذا المطلب أصلا ، إذ لا دلالة لها إلاّ على أنّه إذا لم يكن عدلهم وعددهم سواء لم يقرع ، ولا يعلم أنّه ما يصنع ، مع أنّ إرادة الأعدليّة من تساوي عدلهم غير معلومة ، واعتبر معه التساوي في العدد أيضا ، ومع ذلك لا دلالة لها على كون العين في يد واحد منهما.

وأمّا القول السادس ، فمع ما ذكر من الشذوذ المخرج لدليله عن الحجّية ، يرد على دليله ـ وهو الصحيحة ـ أنّ الاستدلال بها إن كان من جهة ذيلها المتضمّن لقضاء عليّ عليه‌السلام في البغلة فلا تعرّض فيها لكونها في يد أحدهما كما هو محلّ النزاع ، فيحتمل كونها في يد ثالث ، ولا بأس بالقول به حينئذ كما يأتي.

وإن كان من جهة صدرها فهو أخصّ ممّا هو بصدده ، لصراحتها في أنّ بيّنة ذي اليد إنّما هي على كون الدار بيده بالإرث ، وهو القول الثامن ، فلا يفيد له ، مع عدم دلالتها على سائر مطالبة من الحلف مع التساوي والحكم للداخل مع النكول.

وأمّا السابع ، فلم أعثر له على دليل.

وأمّا الثامن ، فدليله ـ كما عرفت ـ هو الصحيحة المذكورة ، وهي وإن كانت دالّة على ذلك القول إلاّ أنّ شذوذها ومخالفتها لشهرة القدماء ـ حتى لم يذكر عامل بها سوى من ذكر ، وكلام الصدوق أيضا ليس صريحا في‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٣ ، الفقيه ٣ : ٥٣ ـ ١٨١ ، التهذيب ٦ : ٢٣٣ ـ ٥٧١ ، الاستبصار ٣ : ٣٩ ـ ١٣١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٥ ، بتفاوت.

٣٩٨

الفتوى بمضمونها ـ يمنع من العمل بها.

وأمّا التاسع ، فدليله الأخبار المتكثّرة كما ذكره ، وهي ـ كما قال ـ كثيرة معتبرة يأتي ذكرها ، إلاّ أنّها برمّتها مطلقة ، وأخبار القول الأوّل ـ بكون العين في يد أحدهما ـ مقيّدة ، والخاصّ مقدّم على العام البتّة ، سيّما مع موافقة الخاصّ للشهرة ، بل الإجماع ، ومخالفه العامّ في عمومه لعمل الأصحاب.

ومن ذلك ظهر أنّ أقوى الأقوال وأمتنها هو القول الأوّل ، فعليه الفتوى وعليه المعوّل.

المسألة الثانية : لو كانت العين في يديهما معا ، وأقام كلّ واحد منهما بيّنة على الجميع‌ ، قضى لهما نصفين ، تساوت البيّنتان كثرة وعدالة وإطلاقا وتقييدا أم اختلفتا ، بلا إشكال في أصل الحكم كما في المسالك (١) ، وعلى المعروف بينهم كما في الكفاية (٢) ، وبلا خلاف كما في المفاتيح (٣) ، وعلى الأشهر ، بل عليه عامّة من تأخّر إلاّ من ندر كما قيل (٤).

لمرسلة ابن المغيرة الصحيحة عن ابن محبوب ، ورواية السكوني ، المتقدّمتين في المسألة الثانية من بحث أحكام الدعاوي في الأعيان (٥) ، الممكن تعميمهما لمورد النزاع بترك الاستفصال عن إقامة البيّنة وعدمها.

ولقوله عليه‌السلام في موثّقة غياث المتقدّمة : وقال : « لو لم تكن في يده‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٩٠.

(٢) الكفاية : ٢٧٦.

(٣) المفاتيح ٣ : ٢٧١.

(٤) انظر الرياض ٢ : ٤٢١.

(٥) راجع ص : ٣٤٨ و ٣٤٩.

٣٩٩

جعلتها بينهما نصفين » (١) فإنّه أعمّ من أن تكون في يديهما.

بل صرّح بعضهم بأنّ المراد : أنّه لو لم تكن في يده فقط بل تكون في يديهما (٢).

ورواية تميم بن طرفة : إنّ رجلين عرّفا بعيرا ، فأقام كلّ واحد منهما بيّنة ، فجعله أمير المؤمنين عليه‌السلام بينهما (٣). ومعنى قوله : عرّفا ـ كما فسّر ـ : أنّهما أحضراه عرفة ، وكان في يديهما.

وتوهّم كونها قضية في واقعة ـ فيحتمل اشتمالها على ما يخرج عن مفروض المسألة ـ ليس في موقعه ، لأنّ غرض الإمام عليه‌السلام عن حكاية قضاء الأمير عليه‌السلام بيان الحكم ، كما تدلّ عليه تتمّة الخبر وجرت عليه طريقة الأئمّة وأصحابهم ويتفاهم منه عرفا ، فلا يكون شي‌ء له مدخليّة في الحكم عن الكلام خارجا ، بل القرينة الحاليّة قائمة على أنّ مناط القضاء كان هو ما في الكلام خاصّة.

ويدلّ عليه أيضا ما مرّ في المسألة الاولى من بحث أحكام الدعاوي ، من أنّ كلاّ منهما مدّع ومنكر ، فيعمل ببيّنته وتنصّف ، بالتقريب المتقدّم في المسألة المذكورة.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ إعمال البيّنة هو العمل بتمام مقتضاها ، ولمّا لم يمكن ذلك في المتعارضتين فتكونان عن مدلول العمومات خارجتين.

__________________

(١) راجع ص : ٣٩٢.

(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٢٠.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٥ ، الفقيه ٣ : ٢٣ ـ ٦١ وفيه بدل « عرّفا » : ادّعيا ، التهذيب ٦ : ٢٣٤ ـ ٥٧٤ ، الاستبصار ٣ : ٣٩ ـ ١٣٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٤.

٤٠٠