مستند الشّيعة - ج ١٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-041-2
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٩٠

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

وبه نستعين‌

٥
٦

كتاب المطاعم والمشارب

وفيه أبواب :

٧
٨

الباب الأول

في بيان أصول عامّة شاملة للحيوانات وغيرها

نذكرها في طي مسائل :

المسألة الأولى : الأصل الأولي في كلّ ما يمكن أكله وشربه : الحلّية ، وجواز الأكل والشرب عقلا وشرعا إجماعا ، وكتابا (١) ، وسنّة (٢) ؛ لما ثبت في علم الأصول من أصالة حلّية الأعيان ، وإباحة الأفعال ما لم تثبت حرمتها بدليل.

المسألة الثانية : الأصل في الخبائث : الحرمة ؛ للإجماع ، وقوله سبحانه ( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) (٣) واستدلّ له بمفهوم قوله سبحانه :

__________________

(١) البقرة : ١٦٨.

(٢) انظر الوسائل ٢٥ : ٩ أبواب الأطعمة المباحة ب ١.

(٣) الأعراف : ١٥٧.

٩

( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (١) وهي المقابلة للخبائث.

وفيه : أنّه مفهوم لا حجّية فيه ، مع أنّ في استلزام عدم التحليل للتحريم وكذا في مقابلة الطيّبات للخبائث نظرا.

ثمَّ المراد بالخبائث ـ على ما ذكرها جماعة (٢) ـ ما تشمئزّ منه أكثر النفوس المستقيمة ، وتتنفّر عنه غالب الطباع السليمة.

والظاهر أنّه ليس مرادهم ما تتنفّر الطباع وتشمئزّ عن أكله ؛ إذ كثير من العقاقير السبعة والأدوية ـ كالإهليلجات (٣) ونحوها ـ كذلك ، مع أنّها ليست خبيثة عرفا ولا محرّمة شرعا. ( بل كثير ممّا تتنفّر عنه الطباع إنّما يكون لحرمته ، أو توهّم حرمته ، أو عدم الاعتياد بأكله. ولذا ترى تنفّر طباع أكثر العجم عن أكل الجراد دون العرب ، وتنفّر طباع أهل البلدان عن الحيّة والفأرة والضبّ دون أهل البادية من الأعراب ، وكأنّ كثيرا ممّا تتنفّر عنه الطباع الآن كانت العرب تأكله قبل الإسلام ، كالضبّ ، والمسلمون يتنفّرون من الخنزير دون النصارى ، إلى غير ذلك ) (٤).

بل ما تتنفّر الطباع عنه مطلقا ، أكلا ولمسا ورؤية ، كرجيع الإنسان والكلب ، بل رجيع كلّ ما لا يؤكل لحمه ، والقي‌ء من الغير وقملته وبلغمه ـ سيّما المجتمع في موضع في مدّة ـ والقيح ، والصديد ، والضفادع ، ونحوها.

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) منهم المحقّق الأردبيلي في زبدة البيان : ٦٣١ والفاضل الجواد في مسالك الافهام ٤ : ١٤٦.

(٣) الإهليلج : عقير من الأدوية معروف وهو معرّب ـ انظر لسان العرب ٢ : ٣٩٢.

(٤) ما بين القوسين ليس في « س ».

١٠

ولكن في كون المراد من الخبائث في الآية مطلق ذلك نظرا ؛ إذ لا دليل عليه من شرع أو لغة بل ولا عرف ، ألا ترى تنفّر الطباع عن ممضوغ الغير ، وما خرج من بين أسنانه ، مع أنّ حرمته غير معلومة.

ولذا قال المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد : معنى الخبيث غير ظاهر ؛ إذ الشرع ما بيّنه ، واللغة غير مراد ، والعرف غير منضبط ، فيمكن أن يقال : المراد عرف أوساط الناس وأكثرهم ـ حال الاختيار ـ من أهل المدن والدور ، لا أهل البادية ؛ لأنّه لا خبيث عندهم ، بل يطيّبون جميع ما يمكن أكله ، فلا اعتداد بهم (١). انتهى.

أقول : إنّ ما ذكره رحمه‌الله من إمكان الإحالة إلى عرف أوساط الناس وأكثرهم : إن أراد إحالة التنفّر والاشمئزاز إلى عرفهم ، فهو إنّما يتمّ لو علم أنّه معنى الخباثة ، وهو بعد غير معلوم.

وإن أراد إحالة الخباثة ، فلا عرف لها عند غير العرب ؛ لأنّها ليست من لغتهم ، ولا يتعيّن مرادفها في لغتهم.

هذا ، مع أنّ طباع أكثر أهل المدن العظيمة أيضا مختلفة جدّا في التنفّر وعدمه ، كما لا يخفى على من اطّلع على أحوال سكّان بلاد الهند والترك والإفرنج والعجم والعرب في مطاعمهم ومشاربهم.

ولذا خصّ بعض آخر بعرف بلاد العرب ، وهو أيضا غير مفيد ؛ لأنّ عرفهم في هذا الزمان غير معلوم للأكثر ـ مع أنّه لو كان مخالفا للّغة لم يصلح مرجعا ـ وكذا عرفهم في زمان الشارع.

وبالجملة : لا يتحصّل لنا اليوم من الخبائث معنى منضبطا يرجع إليه ،

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ١٥٦.

١١

فيجب الاقتصار فيها على ما علم صدقها عليه قطعا ـ كفضلة الإنسان ، بل فضلة كلّ ما لا يؤكل لحمه من الفضلات النجسة المنتنة ، وكالميتات المتعفّنة ونحوها ـ والرجوع في البواقي إلى الأصل الأول.

ولا يضرّ عدم حجّية بعض العمومات المبيحة للأشياء لتخصيصها بالمجمل ؛ إذ الأصل العقليّ والشرعي في حلّية ما لم يعلم حرمته كاف في المطلوب.

المسألة الثالثة : الأصل في الأعيان النجسة والمتنجّسة ـ ما دامت نجسة ـ : الحرمة بلا خلاف ، كما في المسالك وشرح الإرشاد والكفاية والمفاتيح (١) ، بل بالاتّفاق كما في شرح المفاتيح ، بل بالإجماع كما عن الغنية (٢) وغيرهما (٣) ، بل يمكن عدّه من الضروريّات كما قيل (٤) ، بل بالإجماع المحقّق ؛ وهو الحجّة فيه ، مع التعليل لتحريم لحم الخنزير بالرجسيّة في قوله تعالى ( فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) (٥) ، وتعليل وجوب الاجتناب الشامل لترك الأكل في الخمر والميسر والأزلام والأنصاب بالرجسيّة (٦) [ و ] (٧) الأخبار المستفيضة ، بل كما قيل : المتواترة معنى (٨) ، ( الواردة في موارد عديدة لا تحصى :

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٤٣ ، مجمع الفائدة ١١ : ٢١٣ ، المفاتيح ٢ : ٢١٧ ، كفاية الأحكام : ٢٥١.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٨.

(٣) انظر كشف اللثام ٢ : ٢٦٧.

(٤) كما في الرياض ٢ : ٢٨٩.

(٥) الأنعام : ١٤٥.

(٦) المائدة : ٩٠.

(٧) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المتن.

(٨) انظر الرياض ٢ : ٢٨٩.

١٢

منها : الأخبار ) (١) الواردة في تحريم أكثر الأعيان النجسة بخصوصها ، كالدم والميتة والخمر ولحم الخنزير (٢) ، بل لعلّ كلّها.

ومنها : الأخبار المتضمّنة لوجوب إهراق بعض المائعات النجسة والنهي عن أكلها ، وغسل بعض غير المائعات قبل الأكل أو طرحه ، بضميمة الإجماع المركّب :

كصحيحة زرارة : « إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه ، فإن كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وإن كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك » (٣).

والأعرج ، وفيها : عن الفأرة تموت في السمن والعسل ، فقال : « قال علي عليه‌السلام : خذ ما حولها وكل بقيّته » ، وعن الفأرة تموت في الزيت ، فقال : « لا تأكله ولكن أسرج به » (٤).

وابن وهب : جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل ، فقال : « أمّا السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله ، والزيت يستصبح به » (٥).

والحلبي : عن الفأرة والدابة في الطعام والشراب فتموت فيه ، فقال : « إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا فإنّه ربما يكون بعض هذا ، فإن كان الشتاء‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « س ».

(٢) انظر الوسائل ٢٤ : ٩٩ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦١ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ٨٥ ـ ٣٦٠ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ح ٢. واستصبحت بالدهن : نوّرت به المصباح ـ المصباح المنير : ٣٣١.

(٤) التهذيب ٩ : ٨٦ ـ ٣٦٢ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ح ٤.

(٥) الكافي ٦ : ٢٦١ ـ ٢ ، التهذيب ٩ : ٨٥ ـ ٣٥٩ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ح ١.

١٣

فانزع ما حوله وكله ، وإن كان الصيف فادفعه حتى تسرج به ، وإن كان بردا فاطرح الذي كان عليه » (١).

وموثّقة الساباطي : عن الدقيق يصيب فيه خرء الفأرة هل يجوز أكله؟

قال : « إذا بقي منه شي‌ء فلا بأس ، يؤخذ أعلاه فيرمى به » (٢).

ويونس : عن حنطة مجموعة ذاب عليها شحم الخنزير ، قال : « إن قدروا على غسلها أكلت ، وإن لم يقدروا على غسلها لم تؤكل » (٣).

ومرسلة سماعة : عن السمن تقع فيه الميتة ، قال : « إن كان جامدا فألق ما حوله وكل الباقي » قلت : الزيت؟ فقال : « أسرج به » (٤).

ومرسلة ابن أبي عمير : في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال : « يباع ممّن يستحلّ أكل الميتة » (٥).

واخرى : وهي مثلها ، إلاّ أنّ فيها : « يدفن ولا يباع » (٦).

ورواية السكوني : عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة ، قال : « يهراق مرقها ، ويغسل اللحم ويؤكل » (٧).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٨٦ ـ ٣٦١ وفيه : ثردا ، بدل : بردا. والثرد ما صغر من الثريد ـ مجمع البحرين ٣ : ١٩ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ح ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٨٣٢ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ح ٦.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٢ ، الوسائل ٢٤ : ٢٠٣ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٠ ح ١.

(٤) التهذيب ٩ : ٨٥ ـ ٣٥٨ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ح ٥.

(٥) التهذيب ١ : ٤١٤ ـ ١٣٠٥ ، الاستبصار ١ : ٢٩ ـ ٧٦ ، الوسائل ١ : ٢٤٢ أبواب الأسآر ب ١١ ح ١.

(٦) التهذيب ١ : ٤١٤ ـ ١٣٠٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩ ـ ٧٧ ، الوسائل ١ : ٢٤٣ أبواب الأسآر ب ١١ ح ٢.

(٧) الكافي ٦ : ٢٦١ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ٨٦ ـ ٣٦٥ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٤ ح ١.

١٤

وجابر : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « لا تأكله » إلى أن قال : « إنّ الله حرّم من الميتة كلّ شي‌ء » (١) إلى غير ذلك.

ولا ينافي ذلك بعض الأخبار الدالّة على نفي البأس عن أكل خبز العجين الذي عجن بماء وقعت فيه ميتة لملامسة النار (٢) ؛ لأنّه مبني على تطهّره (٣) بالنار ، وقد مرّ الجواب عنه في كتاب الطهارة.

ولا بعض آخر دالّ على جواز أكل المرق الذي وقع فيه دم (٤) ؛ لما ذكر ، ولشمول الدم فيه للحلال والحرام ، فيجب التخصيص بالأول.

وكذا لا ينافي الإجماع قول بعض علمائنا بجواز شرب المائع النجس بعد خلطه بالماء المطلق الطاهر الكرّ وإن لم يستهلك (٥) ، ونحو ذلك ؛ لأنّه أيضا مبني على حصول الطهارة بذلك ، وقد بيّنّا ضعفه في كتابها.

المسألة الرابعة : الأصل في الأشياء الضارّة بالبدن : الحرمة‌ ، فإنّها محرّمة كلّها بجميع أصنافها ـ جامدها ومائعها قليلها وكثيرها ـ إذا كان القليل ضارّا ؛ للإجماع المنقول (٦) ، والمحقّق.

ورواية المفضّل ، وهي طويلة ، وفيها : « علم تعالى ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم ، فأحلّه لهم وأباحه تفضّلا منه عليهم به لمصلحتهم ، وعلم‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٠ ـ ١٣٢٧ ، الاستبصار ١ : ٢٤ ـ ٦٠ ، الوسائل ١ : ٢٠٦ أبواب الماء المضاف ب ٥ ح ٢. والخابية : الحبّ ـ الصحاح ٦ : ٢٣٢٥.

(٢) انظر الوسائل ١ : ١٧٥ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٧ و ١٨.

(٣) في « ق » و « س » : تطهيره.

(٤) انظر الوسائل ٢٤ : ١٩٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٤.

(٥) كالشهيد الثاني في الروضة ٧ : ٣٣٤.

(٦) انظر الرياض ٢ : ٢٩٠.

١٥

ما يضرّهم ، فنهاهم عنه وحرّمه عليهم ، ثمَّ أباحه للمضطرّ ، فأحلّه في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلاّ به ، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك » الحديث (١).

ومفهوم لفظ الكلّ في رواية محمّد بن سنان المرويّة في العلل : « إنّا وجدنا كلّ ما أحلّ الله تعالى ففيه صلاح العباد وبقاؤهم ولهم إليه الحاجة التي لا يستغنون عنها ، ووجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة للعباد إليه ، ووجدناه مفسدا داعيا إلى الفناء والهلاك » (٢).

والرضويّ : « ولم يحرّم إلاّ ما فيه الضرر والتلف والفساد ، فكلّ نافع مقوّ للجسم فيه قوّة للبدن فحلال ، وكل مضرّ يذهب بالقوّة أو قاتل فحرام » الحديث (٣).

والاستدلال بحديث نفي الضرر والإضرار عليل (٤) ؛ لأنّ في الإباحة والتخيير لا يصدق الضرر والإضرار ، مع أنّ غايته ـ لو تمَّ ـ عدم الإباحة الشرعيّة ، وهو غير التحريم.

وقد يستدلّ أيضا بما ورد في المنع من الطين من التعليل بأنّ فيه إعانة على النفس في قتلها أو ضعفها.

وهو كان حسنا لو وجد ذلك التعليل في الأخبار (٥) ، ولكنّي‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٤٢ ـ ١ ، المحاسن : ٣٣٤ ـ ١٠٤ ، الوسائل ٢٤ : ٩٩ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١ ح ١. والبلغة : إذا اكتفى به وتجزّأ ـ المصباح المنير : ٦١.

(٢) علل الشرائع : ٥٩٢ ـ ٤٣ ، الوسائل ٢٥ : ٥١ أبواب الأطعمة المباحة ب ١٩ ح ٤.

(٣) فقه الرضا « ع » : ٢٥٤ ، المستدرك ١٦ : ١٦٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١ ح ٥.

(٤) الكافي ٥ : ٢٩٢ ـ ٢ ، الفقيه ٣ : ١٤٧ ـ ٦٤٨ ، التهذيب ٧ : ١٤٦ ـ ٦٥١ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ أبواب إحياء الموات ب ١٢ ح ٣.

(٥) انظر الوسائل ٢٤ : ٢٢٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨.

١٦

ما وجدته.

نعم ، ورد في بعض الأخبار : أنّه يورث السقم في الجسد ويهيّج الداء (١) ، من غير جعل ذلك تعليلا للتحريم. وفيه أيضا : أنّه من أكل الطين وضعف عن العمل ـ الذي كان يعمله قبل أن يأكله ـ يعذّب عليه (٢). ثمَّ كما أشرنا إليه يعمّ التحريم القليل منه والكثير إذا كان قليله مضرّا أيضا.

وأمّا ما يضرّ كثيره دون قليله ـ كالأفيون (٣) والسقمونيا (٤) وشحم الحنظل وغيرها ـ فالمحرّم منه ما بلغ ذلك الحدّ دون غيره ، وكذا ما يضرّ منفردا دون ما إذا أضيف إلى غيره ولو كان كثيرا لا يحرم الكثير المضاف إليه أيضا ، وما يضرّ تكريره دون أكله مرّة يحرم التكرير خاصّة.

والضابط في التحريم : ما يحصل به الضرر. والضرر الموجب للتحريم يعمّ الهلاكة وفساد المزاج والعقل والقوّة وحصول المرض أو الضرر في عضو.

وبالجملة : كلّ ما يعدّ ضررا عرفا ؛ للإجماع ، وإطلاق رواية المفضّل (٥).

وهل يناط التحريم بالعلم العاري الحاصل بالتجربة وقول جمع من الحذّاق ونحوهما ، أو يحرم بغلبة الظنّ أيضا؟

صرّح في الكفاية بالثاني (٦). وهو الأحوط ، وإن كان الأصل يقوّي الأول.

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٤ : ٢٢٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨.

(٢) انظر الوسائل ٢٤ : ٢٢٠ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٨.

(٣) الأفيون : عصارة لبنيّة تستخرج من الخشخاش ـ انظر المنجد : ١٣.

(٤) السّقمونيا : نبات يستخرج من تجاويفه رطوبة دبقة وتجفف وتدعى باسم نباتها ، وله خواصّ ـ انظر القاموس ٤ : ١٣٠.

(٥) المتقدّمة في ص : ١٥ ، ١٦.

(٦) كفاية الأحكام : ٢٥١.

١٧

المسألة الخامسة : الأصل حرمة أكل مال الغير المحترم ـ مسلما كان أو كافرا محفوظا في ماله ـ بدون إذنه ؛ بالإجماع ، بل الضرورة ، والكتاب ، والسنّة.

قال الله سبحانه ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (١).

وقال سبحانه ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) (٢) دلّ بمفهوم الشرط على عدم جواز الأكل بدون الطيبة ، ويتعدّى إلى غير الزوجة بالفحوى والإجماع المركّب.

وفي النبويّ المشهور : « المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه » (٣).

وفي آخر : « المسلم أخو المسلم ، لا يحلّ له ماله إلاّ عن طيب نفس منه » (٤).

وفي رواية الحسين المنقري عن خاله : « من أكل من طعام لم يدع إليه فكأنّما أكل قطعة من النار » (٥).

وفي أحاديث الخمس عن صاحب الزمان صلوات الله عليه : « لا يحلّ‌

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) النساء : ٤.

(٣) صحيح مسلم ٤ : ١٩٨٦ ـ ٢٥٦٤ ، ورواه الشهيد الثاني مرسلا في المسالك ٢ : ٢٤٧.

(٤) غوالي اللئالي ٣ : ٤٧٣ ـ ١ ، الوسائل ٢٩ : ١٠ أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣ ، بتفاوت.

(٥) الكافي ٦ : ٢٧٠ ـ ٢ ، التهذيب ٩ : ٩٢ ـ ٣٩٨ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٣ ح ١.

١٨

لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه ، فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟! » (١) ، إلى غير ذلك (٢).

المسألة السادسة : يستثنى من هذه الأصول الأربعة ومن سائر ما حرّم : ما يدعو الاضطرار إليه ؛ لتوقّف سدّ الرمق وحفظ النفس عليه ، فيختصّ التحريم بالمختار.

وأمّا المضطرّ فيجوز له ـ بل يجب ـ الأكل والشرب من كلّ محرّم بلا خلاف ـ إلاّ في الخمر والطين كما يأتي ـ للإجماع.

وقوله سبحانه ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٣) والمخمصة : المجاعة ، والمتجانف : المائل.

وقال عزّ شأنه ( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٤) ، وقريب منه في آية أخرى (٥).

وقال جلّ اسمه ( وَما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (٦).

ولأدلّة نفي العسر والحرج (٧) ، ونفي الضرر والضرار (٨) ؛ إذ لا حرج‌

__________________

(١) كمال الدين : ٥٢١ ـ ٤٩ ، الاحتجاج : ٤٨٠ ، الوسائل ٢٤ : ٢٣٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٣ ح ٣.

(٢) انظر الوسائل ٢٤ : ٢٣٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٣.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) النحل : ١١٥.

(٥) الأنعام : ١٤٥.

(٦) الأنعام : ١١٩.

(٧) انظر عوائد الأيام : ٥٧.

(٨) انظر الفقيه ٤ : ، ٢٤٣ ـ ٧٧٧ ، الوسائل ٢٦ : ١٤ أبواب موانع الإرث ب ١ ح ١٠ ، مسند أحمد بن حنبل ١ : ٣١٣ ، سنن ابن ماجه ٢ : ٧٨٤ ـ ٢٣٤٠ ـ ٢٣٤١ ، عوائد الأيام : ١٦ ، القواعد الفقهية ١ : ٧٦.

١٩

ولا ضرر أعظم من المنع حينئذ.

ولرواية المفضّل المتقدّمة في المسألة الرابعة (١).

وفي مرسلة الصدوق : « من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتى يموت فهو كافر » (٢) ، ورواها أحمد بن محمّد بن يحيى في نوادر الحكمة.

وفي الدعائم : قال علي صلوات الله عليه : « المضطرّ يأكل الميتة وكلّ محرّم إذا اضطرّ إليه » (٣).

وفي تفسير الإمام : قال : « قال الله سبحانه : فمن اضطرّ إلى شي‌ء من هذه المحرّمات فإنّ الله غفور رحيم ستّار لعيوبكم أيّها المؤمنون ، رحيم بكم حين أباح لكم في الضرورة ما حرّمه في الرخاء » (٤) ، إلى غير ذلك من الروايات (٥).

ثمَّ إنّه يحصل الاضطرار بخوف تلف النفس مع عدم التناول ، أو خوف المرض الشاقّ الذي لا يتحمّل صاحبه عادة ، أو خوف زيادة المرض ، أو بطء برئه كذلك ، أو خوف لحوق الضعف المؤدّي إلى التلف أو المرض ؛ كلّ ذلك لصدق العسر والحرج والضرر والاضطرار معه عرفا.

__________________

(١) انظر ص : ١٥ ، ١٦.

(٢) الفقيه ٣ : ٢١٨ ـ ١٠٠٨ ، الوسائل ٢٤ : ٢١٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٦ ح ٣.

(٣) دعائم الإسلام ٢ : ١٢٥ ـ ٤٣٥.

(٤) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٨٥ ، مستدرك الوسائل ١٦ : ٢٠١ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٠ ح ٥.

(٥) انظر الوسائل ٢٤ : ٢١٤ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٦.

٢٠