مستند الشّيعة - ج ١٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ١٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-158-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٠٧

وهل يتعلّق الحلف بكلّ منهما أيضا ، فيقتسمان بعد حلفهما أو نكولهما ، ويختصّ بالحالف مع نكول أحدهما؟ كما قوّاه الفاضل في التحرير ، وجعل عدم اعتبار اليمين احتمالا (١) ، وصرّح به أيضا في التنقيح (٢) ، بل قيل : المستفاد من التنقيح عدم الخلاف في الإحلاف (٣).

ويدلّ عليه أيضا صريحا صدر رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة (٤) ، وهي غير منافية ، للروايات المتضمّنة للنصف بالإطلاق (٥) ، فيجب العمل بهما ، مع أنّ هذه الرواية مخصوصة صريحا في المورد ، والروايات إمّا ظاهرة فيه أو عامّة له.

أو لا ، كما هو المشهور؟

الظاهر : الأوّل ، لما مرّ. ولا يضرّ كون ما في الرواية قضية في واقعة بالتقريب المتقدّم في رواية تميم.

ثمَّ الخلاف في المسألة في مقامات أربعة :

أحدهما : في إطلاق الحكم المذكور بالنسبة إلى البيّنات‌ ، والمخالف فيه ـ على ما قيل (٦) ـ جمع من القدماء وصاحب المهذّب من المتأخّرين ، وبعض الفضلاء المعاصرين (٧) ، فخصّوا ذلك بما إذا تساوت البيّنتان في الأمور المرجّحة من الأعدلية والأكثرية وذكر السبب ، وحكموا مع الاختلاف فيها لأرجحهما.

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٩٤.

(٢) التنقيح ٤ : ٢٨١.

(٣) انظر الرياض ٢ : ٤٢٢.

(٤) في ص : ٣٩٢.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٢٤٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢.

(٦) انظر الرياض ٢ : ٤٢١.

(٧) المهذب البارع ٤ : ٤٩٢ ، المحقق القمي في رسالة القضاء ( غنائم الأيام : ٧٠٤ ).

٤٠١

واختلفوا في المرجّح أيضا ، فعن المفيد : اعتبار الأعدلية هنا خاصّة (١) ، وعن الإسكافي : اعتبار الأكثرية كذلك (٢) ، وعن المهذّب : اعتبار الأعدلية فالأكثرية (٣) ، وعن ابن حمزة : اعتبار الأعدلية أو الأكثرية أو التقييد بالسبب (٤) ، وعن الديلمي : اعتبار المرجّح من غير بيان له (٥).

ولا دليل على شي‌ء منها ، سوى ذيل صحيحة أبي بصير المتقدّمة (٦) ، المرجّحة للأكثرية فقط ، وهو ـ لكونه قضية في واقعة ـ لا يصلح دليلا لشي‌ء من تلك الأقوال ، إلاّ أن يضمّ معه التقريب المتقدّم ، فيصير دليلا للإسكافي خاصّة.

وظاهر أنّ قوله شاذّ نادر ، فتكون الرواية الموافقة له ـ لمخالفة الشهرة القديمة العظيمة ـ عن حيّز الحجيّة خارجة ، فتكون هي مرجوحة بالنسبة إلى دليلنا بمخالفة تلك الشهرة ، بل السنّة الثابتة ، وإن كانت بالنسبة إلى هذا الذيل عامّة ، لأنّ مخالفة عمومها أيضا داخلة في أسباب المرجوحية المنصوصة.

ولو قطع النظر عن جميع ذلك فيعارض دليلنا بالعموم من وجه ، والأصل مع عدم قبول بيّنة الداخل وإن كان أكثر ، بل مطلق البيّنة ، سيّما في صورة التعارض ، فيكون كما لا بيّنة له ، والحكم التنصيف أيضا.

وعدا ما قيل من أنّ حال البيّنتين حال الخبرين المتعارضين (٧).

وهو قياس باطل ، بل مع الفارق ، للخلاف في مناط العمل بالخبر هل‌

__________________

(١) المقنعة : ٧٣٠.

(٢) حكاه عنه في المختلف : ٦٩٣.

(٣) المهذّب ٢ : ٥٧٨.

(٤) الوسيلة : ٢١٨.

(٥) المراسم : ٢٣٤.

(٦) في ص : ٣٩٣.

(٧) انظر غنائم الأيام : ٧٠٤.

٤٠٢

هو من حيث إنّه خبر ، أو من حيث إفادته المظنّة ، وعلى الأخير يمكن لزوم متابعة أقوى الظنّين. بخلاف البيّنة ، فإنّ مناط العمل بها خصوصيّتها ـ كاليد ـ كما صرّح به جماعة من الأصحاب ، ولذا يعمل بها ولو لم تفد المظنّة ، بل حصل من قول المدّعى عليه أو بشهادة الفاسق ظنّ أقوى منها.

وثانيها : في أصل الحكم المذكور‌ ، والمخالف فيه ـ كما حكي ـ العماني (١) ، فإنّ إطلاق كلامه يقتضي لزوم القرعة هنا أيضا وتقديم من أخرجته ، ودليله المستفيضة (٢) المتقدّمة إليها الإشارة.

وجوابه : إنّ دليلنا أخصّ مطلقا منها ، راجح عليها بما مرّ ، فيجب التخصيص.

لا يقال : يلزم تخصيص الأكثر ، إذ لم تبق إلاّ صورة واحدة ، هي كون العين في يد ثالث ، أو مع كونها ممّا لا يد عليها ، وهو أيضا تخصيص المساوي ، وفيه أيضا كلام.

لأنّا نقول : إنّ روايات القرعة ليست مخصوصة بالأعيان ، فتشمل غيرها أيضا ، مع أنّ أكثرها قضايا في وقائع.

وثالثها : في سبب الحكم المذكور‌ ، فقيل : هو تساقط البيّنتين ، فيكون كما لا بيّنة فيه (٣).

وقيل : لأنّ لكلّ واحد منها مرجّحا باليد على نصفها ، فيبنى على ترجيح بيّنة الداخل (٤).

وقيل : لترجيح بيّنة الخارج فيقضى لكلّ واحد منهما بما في يد‌

__________________

(١) المختلف : ٦٩٣.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣.

(٣) نقلهما في المسالك ٢ : ٣٩٠ من غير تعيين القائل ولم نعثر عليه.

(٤) نقلهما في المسالك ٢ : ٣٩٠ من غير تعيين القائل ولم نعثر عليه.

٤٠٣

صاحبه (١).

وتظهر الثمرة في ثبوت اليمين ، فتثبت عليهما على الأوّل ، ولا يمين على الأخيرين.

والحقّ : أنّ أكثرها تخريجات واستنباطات غير ملائمة لطريقة الإماميّة ، بل السبب ما ذكرنا من العمومات والأخبار الخاصّة.

ورابعها : في لزوم اليمين وعدمها‌ ، فإنّ المشهور ـ كما قيل (٢) ـ هنا عدم اليمين ، لإطلاق الروايات المتقدّمة (٣) ، وعدم صراحة رواية إسحاق (٤) في كون العين بيديهما.

وفيه : أنّ عدم صراحتها لعلّها على بعض الطرق ، وأمّا على ما نقله في الوافي عن التهذيب والكافي فهي صريحة في كونهما ذا اليد (٥). والله هو المعتمد.

المسألة الثالثة : لو كانت في يد ثالث ، يقضى بأرجح البيّنتين عدالة ، ومع التساوي في العدالة يقضى بأكثرهما عددا ، ومع التساوي يقرع بين المتداعيين ، فمن خرج اسمه احلف وقضي له ، ولو امتنع حلف الآخر وقضي له. فإن نكلا قضي بينهم بالسويّة على المشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخّرين ، بل عليه عامّتهم كما قيل (٦) ، وفاقا لنهاية الشيخ والتهذيب والاستبصار وموضع من الخلاف والصدوقين والحلبي والقاضي‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١١١.

(٢) الرياض ٢ : ٤٢٢.

(٣) في ص : ٣٩١ و ٣٩٢.

(٤) المتقدّمة في ص : ٣٩٢.

(٥) الوافي ١٦ : ٩٣١.

(٦) انظر الرياض ٢ : ٤٢٢.

٤٠٤

والحلّي وابن حمزة ويحيى بن سعيد وابن زهرة مدّعيا عليه الإجماع (١).

ودليلهم : أمّا على اعتبار الرجحان بالأعدليّة فرواية البصري : « كان عليّ عليه‌السلام إذا أتاه خصمان بشهود ، عدلهم سواء ، وعددهم سواء ، أقرع بينهم على أيّهم يصير اليمين » قال : « وكان يقول : اللهمّ ربّ السموات السبع أيّهم كان الحقّ له فأدّه إليه ، ثمَّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف » (٢).

وأمّا على اعتبار الأكثرية فهي أيضا ، مضافة إلى صحيحة أبي بصير المتقدّمة (٣) دليلا للقول السادس من المسألة الاولى.

وموثّقة سماعة : « إنّ رجلين اختصما إلى عليّ عليه‌السلام في دابّة ، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده ، وأقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد ، فأقرع بينهما سهمين ، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة ، ثمَّ قال : اللهمّ ربّ السموات السبع وو ربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألك أن تخرج سهمه ، فخرج سهم أحدهما فقضى له بها » (٤).

__________________

(١) النهاية : ٣٤٤ ، التهذيب ٦ : ٢٣٧ ، الاستبصار ٣ : ٤٢ ، الخلاف ٢ : ٦٣٨ ، الصدوقين في الفقيه ٣ : ٣٩ ، والمقنع : ١٣٣ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٤٩ ، المهذب ٢ : ٥٧٨ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٦٧ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٢٠ ، ابن سعيد في الجامع : ٥٣٢ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٣ ، الفقيه ٣ : ٥٣ ـ ١٨١ ، التهذيب ٦ : ٢٣٣ ـ ٥٧١ ، الاستبصار ٣ : ٣٩ ـ ١٣١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٥ ، بتفاوت.

(٣) في ص : ٣٩٣.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٢ ـ ١٧٧ ، التهذيب ٦ : ٢٣٤ ـ ٥٧٦ ، الاستبصار ٣ : ٤٠ ـ ١٣٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ١٢ ، بتفاوت.

٤٠٥

وأمّا على الرجوع إلى القرعة فبالروايات المتقدّمة (١) ، مضافة إلى صحيحة الحلبي (٢) ، ورواية داود بن سرحان : في شاهدين شهدا على أمر واحد ، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا واختلفوا ، قال : « يقرع بينهم ، فأيّهما قرع فعليه اليمين ، وهو أولى بالقضاء » (٣).

وأمّا على تأخّر القرعة عن الأكثريّة فباختصاص جميع روايات القرعة بصورة التساوي في العدد ، كما هو ظاهر.

وأمّا على تأخّرها عن الأعدليّة فللرواية الأولى أيضا (٤).

وأمّا على تأخّر الأكثريّة عن الأعدليّة فلم أعثر على دليل لهم.

نعم ، استدلّ له بعض مشايخنا بالإجماع المنقول عن الغنية (٥).

ولا يخفى ضعفه ، بل ضعف بعض أدلّتهم الأخر المذكورة أيضا ، فإنّ دلالة رواية البصري وموثّقة سماعة على اعتبار الأعدليّة والأكثريّة ليست إلاّ بمفهوم الوصف ، الذي هو عند المحقّقين غير حجّة.

والأولى الاستدلال بالرضويّ المنجبر ضعفه بما مرّ ، قال : « فإن لم يكن الملك في يد أحد ، وادّعى الخصمان فيه جميعا ، فكلّ من أقام عليه شاهدين فهو أحقّ به ، فإن أقام كلّ واحد منهما شاهدين فإنّ أحقّ المدّعيين‌

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٣٥ ـ ٥٧٧ ، الاستبصار ٣ : ٤٠ ـ ١٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ١١.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٩ ـ ٤ ، الفقيه ٣ : ٥٢ ـ ١٧٨ ، التهذيب ٦ : ٢٣٣ ـ ٥٧٢ ، الاستبصار ٣ : ٣٩ ـ ١٣٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٦.

(٤) أي رواية البصري المتقدّمة في ص : ٤٠٥.

(٥) انظر الرياض ٢ : ٤٢١.

٤٠٦

من عدل شاهداه ، فإن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهودا يحلف بالله ويدفع إليه الشي‌ء ، وكلّ مالا يتهيّأ فيه الإشهاد عليه فإنّ الحقّ فيه أن تستعمل فيه القرعة » (١).

لا يقال : إنّ قوله : « فإن لم يكن الملك في يد أحد » ـ الظاهر في أنّه لا يد عليه أصلا ـ يخرج الكلام عن مفروض المسألة ، لأنّ المتبادر من اليد : اليد المقتضية (٢) للملكيّة ، واليد المنضمّة مع اعتراف المتصرّف بعدم استحقاقه له ـ كما هو المفروض ـ ليست يدا كذلك ، كما مرّ مفصّلا ، فالمفروض أيضا ممّا لا يد عليه ، مع أنّ الظاهر في قوله : « يد أحد » ـ بعد بيان حكم ما في يد أحدهما ـ إرادة عدم كونه في يد أحد من المتداعيين.

بل يمكن أن يقال : إنّ الظاهر من قوله : « ويدفع إليه الشي‌ء » أيضا ذلك ، فإنّ الظاهر من دفع الشي‌ء أنّه في يد أحد.

نعم ، بقي أنّ الظاهر من قوله : « من عدل شاهداه » أنّ الترجيح بأصل العدالة دون الأعدليّة.

وقوله : « فإن استوى الشهود في العدالة » وإن احتمل الثاني إلاّ أنّه ليس نصّا فيه ، بل يحتمل الأوّل أيضا.

إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ الظاهر من التساوي في العدالة بالإطلاق من غير تقييد بأصلها يفيد التساوي في القدر أيضا ، ولذا يصحّ سلب التساوي عرفا عن المختلفين في القدر ، ويؤكّده قوله في الرواية الأولى : « عدلهم سواء » فإنّه ظاهر في حدّ العدالة.

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٦٢ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٧٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٠ ح ٣.

(٢) في « ق » : المتضمّنة ..

٤٠٧

وأمّا على حلف من خرجت القرعة باسمه والقضاء له بعدها فبرواية البصري وصحيحة الحلبي ، وبهما يقيّد إطلاق الموثّقة والرضوي.

وأمّا على التنصيف بعد نكولهما ، فقيل : للإجماع المنقول المتقدّم (١) ، ووهنه ظاهر.

وقيل : لتعارض البيّنتين وتساقطهما ، مع عدم إمكان ترجيح إحداهما على الأخرى بالقرعة ، فلم يبق إلاّ النصف (٢).

أقول : ويمكن الاستدلال له بعمومات التنصيف المتقدّمة هنا وفي بحث الدعوى في الأعيان ، كموثّقة غياث (٣) ، ورواية تميم (٤) ، ومرسلة ابن مغيرة (٥) وغيرها (٦) ، خرجت صورة اختلاف البيّنتين عدالة أو عددا ، وقيل : القرعة والحلف بما مرّ (٧) ، فيبقى الباقي.

وظهر بما ذكر أنّ سند المسألة واضح ، والحكم بها ـ كما قالوا ـ متعيّن.

وأمّا المخالف فيها من الفتاوى ، فبين من اقتصر على اعتبار الأعدليّة خاصّة ، كالمفيد (٨).

ومن اقتصر على اعتبار الأكثريّة خاصّة ، كالإسكافي ومحتمل‌

__________________

(١) انظر الرياض ٢ : ٤٢٣.

(٢) كما في الإيضاح ٤ : ٤٠٧.

(٣) المتقدّمة في ص : ٣٩٢.

(٤) المتقدّمة في ص : ٤٠٠.

(٥) المتقدّمة في ص : ٣٤٨.

(٦) كرواية السكوني المتقدّمة في ص : ٣٥٤.

(٧) كما في المبسوط ٨ : ٢٦٤.

(٨) المقنعة : ٧٣٠.

٤٠٨

الصدوقين (١) ، وهو ظاهر المحقّق الأردبيلي ، حيث قال : إنّ العدالة تكفي للشهادة ، وأمّا أنّ زيادتها تفيد الترجيح فلا.

ومن اقتصر على اعتبارهما خاصّة ، من غير ذكر الترتيب بينهما ولا القرعة بعدهما ، كموضع من الخلاف ، قائلا : إنّه الظاهر من مذهب أصحابنا (٢).

ومن اقتصر على ذكر المرجّح مطلقا ، من دون بيان له ولا ذكر قرعة ، كالديلمي (٣).

أو مع ذكر القرعة بعد العجز عن الترجيح ، مدّعيا عليه إجماع الإماميّة ، كموضع آخر من الخلاف (٤).

وبين من قدّم الأكثريّة على الأعدليّة ، كالحلّي (٥) ، معزيا له إلى ظاهر الأصحاب.

وبين من اقتصر على القرعة خاصّة ، كالعماني (٦).

وبين قائل بالقرعة مع الشهادة بالملك المطلق من الجانبين ، وبالقسمة نصفين إن كانت الشهادتان مقيّدتين ، والقضاء للمقيّد إن كانتا مختلفتين ، كالشيخ في المبسوط (٧).

__________________

(١) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٦٩٣ ، حكاه عن والد الصدوق في المقنع : ١٣٤ ، الصدوق في المقنع : ١٣٤.

(٢) الخلاف ٢ : ٦٣٦.

(٣) المراسم : ٢٣٤.

(٤) الخلاف ٢ : ٦٣٨.

(٥) السرائر ٢ : ١٦٩.

(٦) المختلف : ٦٩٣.

(٧) المبسوط ٨ : ٢٥٨.

٤٠٩

والكلّ أقوال نادرة عن الدليل التامّ خالية كما لا يخفى على المتتبّع ، سيّما بعد ما ذكرنا في هذه المسألة والمسألتين السابقتين.

وأمّا المخالف لها من الأخبار فبعض العمومات اللاّزم تخصيصها بما مرّ ، ورواية إسحاق المتقدّمة (١) المتضمّنة لقوله : « فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ قال : « أحلّفهما ، فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف ، فإن حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين ».

ولكن عدم قائل به يوجب رفع اليد عنه بالمرّة.

ثمَّ إنّه قد عرفت اعتبار اليمين مع القرعة ، وظاهر الصدوقين والشيخ في النهاية والخلاف والتهذيب والاستبصار والقاضي وابن زهرة اعتبارها مع الأكثريّة أيضا (٢) ، وادّعى في الخلاف والغنية إجماع الإماميّة عليه.

وتدلّ عليه صحيحة أبي بصير والرضويّ المتقدّمان (٣) ، فالقول به متعيّن.

وأمّا مع الأعدليّة فلا دليل على اعتبارها ، ولذا يظهر من جماعة ـ منهم : الشرائع والنافع والإرشاد والتحرير والقواعد واللّمعة ـ عدمه (٤) ، وعن الروضة اعتبارها معها (٥) ، والأصل ينفيه. والله العالم.

__________________

(١) في ص : ٣٩٢.

(٢) حكاه عن والد الصدوق في المقنع : ١٣٤ ، الصدوق في المقنع : ١٣٤ ، النهاية : ٣٤٣ ، الخلاف ٢ : ٦٣٦ ، التهذيب ٦ : ٢٣٧ ، الاستبصار ٣ : ٤٢ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٧٨ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٣) في ص : ٣٩٣ و ٤٠٦.

(٤) الشرائع ٤ : ١١١ ، النافع : ٢٨٦ ، التحرير ٢ : ١٩٥ ، القواعد ٢ : ٢٣٢ ، اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٠٧.

(٥) الروضة ٣ : ١٠٧.

٤١٠

فرع : لم يتعرّض الأكثر لتصديق الثالث لأحد المتداعيين هنا ، كما تعرّضوا له في صورة عدم البيّنة.

قيل : لعلّ إطلاقهم هنا مبنيّ على الإغماض عن حكم اليد وخلافها ، ونظرهم إلى بيان سائر المرجّحات (١). انتهى.

وهو محتمل ، ويحتمل أيضا أن يكون بناؤهم على عدم اعتبار تصديقه ، نظرا إلى إطلاق الأدلّة ، كما فهمه المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث حكم بتفرقة المطلوب بين صورة عدم البيّنة وصورة وجودها في سماع تصديق الثالث ، وقال بأنّ الحكم بالتصديق والحلف هنا أيضا ممكن.

ووجه عدم الاعتبار حينئذ ـ كما يظهر من الفاضل في التحرير (٢) ـ : أنّ البيّنتين متطابقتان على عدم ملكيّة الثالث ، فلا يكون إقرارا ، لأنّه إنّما يكون في ملك الشخص واقعا أو ظاهرا ، ومع البيّنتين لا يكون كذلك ، وللتأمّل فيه مجال.

المسألة الرابعة : لو لم تكن العين في يد أحد‌ ، فإن كانت لواحد منهما بيّنة يقضى له ، وإن كانت البيّنة لهما فظاهر عبارة الصدوقين أنّ حكمه حكم يد الثالث (٣) ، وقال بعض فضلائنا المعاصرين : إنّه الأولى (٤).

وهو كذلك ، لإطلاق أكثر الأخبار المتقدّمة ـ إن لم نقل جميعا ـ بالنسبة إلى هذه الصورة أيضا.

__________________

(١) غنائم الأيام : ٧٠٨.

(٢) التحرير ٢ : ١٩٥.

(٣) الصدوق في المقنع : ١٣٣ ـ ١٣٤ ، وحكاه عن والده.

(٤) المحقق القمّي في رسالة القضاء ( غنائم الأيام : ٧٠٨ ).

٤١١

المسألة الخامسة : كلّ ما ذكر إنّما كان في تعارض البيّنات في الأعيان من الأموال ، وقد يتحقّق في الديون‌ ، كما إذا كانت دعوى الدين مقرونة بسبب خاصّ يقيم المنكر البيّنة على انتفاء السبب.

وكما إذا ادّعى أحد على آخر جناية فيها الدية خاصّة في وقت خاصّ ، وأقام بيّنته ، وأقامها الآخر على أنّه لم يكن حاضرا في هذا الوقت.

أو ادّعى أحد بالشهود وصيّة زيد له بثلث ماله ، وادّعاها آخر أيضا كذلك.

وقد يتحقّق في غير الأموال من الحقوق أيضا ، كما إذا أقام أحد شهودا على زوجيّة زينب له ، وأقامها الآخر كذلك.

أو أقام أحدهما على وصيّة زيد له بالولاية على الصغير ، وأقام آخر أيضا كذلك. إلى غير ذلك.

والتحقيق في الجميع : أن يبنى على أصالة عدم قبول بيّنة المنكر ، وعلى تعيين القرعة لكلّ أمر مشكل.

وعلى هذا ، فنقول : إنّ جميع الأخبار المتضمّنة لسماع بيّنة المنكر أيضا ومزاحمتها لبيّنة المدّعي كانت مخصوصة بالأعيان من الأموال ، فلا أثر لها في غيرها أصلا ، وكلّ ما دلّ على سماع بيّنة المدّعي وقبولها فمخصوص بحكم العقل بما لا يعارضه مثلها.

فمورد التعارض الواقع في غير الأعيان إن كان ممّا يكون أحدهما مدّعيا والآخر منكرا تطرح بيّنة المنكر ويعمل بمقتضى بيّنة المدّعي.

وإن كان ممّا يكون كلاهما مدّعيين ولا دليل للحكم في خصوص المسألة ، يقرع ويحكم بمقتضى القرعة ، لعموم : « القرعة لكلّ أمر مجهول » ‌

٤١٢

أو : « مشكل » (١) المستفيضة دعوى الإجماع على روايته والعمل به (٢) ، ولصحيحة الحلبي ورواية داود بن سرحان ورواية البصري والرضوي ، المتقدّمة جميعا (٣).

وتدلّ عليه أيضا مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار الآتية (٤).

ورواية زرارة : رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهما ، وجاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم ، كلّهم شهدوا في موقف ، قال : « أقرع بينهم ، ثمَّ استحلف الذين أصابهم القرع بالله أنّهم يشهدون بالحقّ » (٥).

ومقتضى هذه الرواية وروايتي البصري وداود بن سرحان وصحيحة الحلبي الإحلاف بعد القرعة أيضا ، وعليه العمل.

وبهذه الأخبار تقيّد المطلقات في مقام تعارض البيّنات. والله العالم.

المسألة السادسة : لو تعارضت اليد الحاليّة مع الملكيّة السابقة أو اليد السابقة‌ ، ففي تقديم الحاليّة أو السابقة قولان ، كلّ منهما عن الشيخ في كلّ من المبسوط والخلاف (٦).

وتبعه على الأوّل جماعة (٧) ، ولعلّهم الأكثرون ، ومنهم من‌

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٨٩ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣ ح ١١.

(٢) انظر عوائد الأيام : ٢٢٦.

(٣) في ص : ٤٠٥ و ٤٠٦.

(٤) في ص : ٤٢٣.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٣٥ ـ ٥٧٨ ، وفي الكافي ٧ : ٤٢٠ ـ ١ ، الاستبصار ٣ : ٤١ ـ ١٣٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٢ ح ٧ : يحلفون بالحقّ ، بدل : يشهدون بالحقّ.

(٦) المبسوط ٨ : ٢٦٩ و ٢٨٠ ، الخلاف ٢ : ٦٤١.

(٧) كالعلاّمة في القواعد ٢ : ٢٣٢ و ٢٣٤ ، يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٥٣٢ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٠٩.

٤١٣

المتأخّرين : الكفاية والمفاتيح وشرحه (١) ، وبعض فضلائنا المعاصرين (٢).

وعلى الثاني : الشرائع (٣) ، ويظهر من الإرشاد الميل إليه.

ويظهر من التحرير وجه ثالث هو التساوي ، حيث قال : ولو كان السبق في جانب واليد في جانب ، ففي تقديم السبق أو اليد أو التساوي نظر (٤). انتهى.

واحتجّ للأوّل بأنّ اليد ظاهرة في الملك الحالي ، ولا تدفعها اليد السابقة ، لاحتمال كونها بعارية ونحوها ، ولا الملك السابق ، لاحتمال انتقالها منه إلى الغير ، ولعدم مطابقة الدعوى والشهادة ، إذ الدعوى بالملك الحالي ، والشهادة متعلّقة بالسابق.

وفيه ـ مضافا إلى أنّ احتمال العارية ونحوها متحقّق في اليد الحاليّة أيضا ـ : أنّ اليد والملك السابقين وإن لم يصلحا لدفع الحالي ولم يطابقا الدعوى إلاّ أنّ استصحاب مقتضى اليد السابقة وأصل الملك السابق صالح لدفعه ، مطابق للدعوى.

والقول بأنّ الاستصحاب إنّما يعمل به لو لا المعارض له ، واليد الحاليّة هنا له معارض ، خصوصا في اليد السابقة ، لانقطاعها رأسا ، كما ذكره بعضهم (٥).

أو أنّ الاستصحاب وإن عارض اليد ولكنّ اليد أقوى ، لأنّ اقتضاءها الملكيّة وإن كان ظنيّا لكن نفسها قطعي ، بخلاف استصحاب مدلول الشهادة ، فإنّ مقتضى الشهادة ظنّيّ وكذا استصحابه ، فالأوّل ظنّ حاصل من‌

__________________

(١) الكفاية : ٢٧٧ ، المفاتيح ٣ : ٢٧٣.

(٢) المحقق القمي في رسالة القضاء ( غنائم الأيّام : ٧١٠ ).

(٣) الشرائع ٤ : ١١٢.

(٤) التحرير ٢ : ١٩٥.

(٥) انظر المسالك ٢ : ٣٩٣.

٤١٤

القطع ، والثاني ظنّ حاصل من الظنّ ، فيقدّم ، كما قاله آخر.

أو أنّ الثابت حجّيته هو ما شهد به الشاهد بعلمه أو ظنّه الاستصحابي ، وأمّا ظنّ الحاكم لاستصحاب المخبر به فلا دليل على حجّيته ، ولا يستلزم فعلية الظنّ للشاهد ، وإنّما الثابت حجّية علمه القطعي في القضاء ، لا مطلق الظنّ ، كما ذكره ثالث.

فاسد ، سيّما الأخير.

أمّا الأوّل : فلأنّ مقتضى التعارض رفع اليد عن المتعارضين عند عدم المرجّح ، لا تقديم أحدهما.

نعم ، لو كانت اليد دليلا على الملك يدفع بها الاستصحاب عند التعارض ، ولكن قد عرفت أنّه أيضا كالاستصحاب من باب الأصل.

وأمّا الثاني : فلمنع كون اليد أقوى بعد ثبوت حجيّة الكلّ من الشارع ، وما ذكر في تقويتها من تخريجات العامّة العمياء ، ثمَّ منع إيجاب مثل تلك القوّة ـ لو كانت ـ للتقديم.

وأمّا الثالث : فلأنّ أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ أدلّة واضحة على حجّية ذلك الاستصحاب ، ولو اختصّ جواز قضاء الحاكم بعمله لما جاز الحكم بالبيّنة أيضا ، إذ لا تفيد العلم.

فإن قيل : هي أمارة ثبتت حجّيتها شرعا.

قلنا : وكذلك الاستصحاب ، ولو سلّمنا أنّ حجّية الاستصحاب لأجل الظنّ فإنّما هو ظنّ ثابت الحجّية.

واستدلّ للثاني : بأنّ اليد الحاضرة إن كانت دليل الملك فالسابقة المستصحبة أو الملك السابق المستصحب أولى ، لمشاركتهما في الدلالة‌

٤١٥

على الملك الحالي ، وانفرادهما بالزمن السابق (١).

وفيه : أنّ انفرادهما بالسابق لا يوجب ترجيحا إلاّ من جهة الاستصحاب أيضا ، وإذا سقط بالمعارضة لا يبقى وجه ترجيح.

وذكر الحلّي في السرائر (٢) ـ في مسألة تعارض بيّنتي ملك القديم والأقدم ـ ما يمكن أن يستدلّ به للثاني هنا أيضا ، بأن يقال بعد ثبوت الملكيّة السابقة : لا يمكن الملكيّة الحادثة إلاّ بانتقال عن الأوّل إلى الثاني ، وهو خلاف الأصل ، وموجب بوجوب الدرك على الأوّل ، وهو أيضا خلاف الأصل.

وفيه : أنّ هذا الأصل معارض بأصالة اقتضاء اليد الملكيّة ، الموجبة للانتقال والدرك ، فلا تأثير له ، ولا يفيد تعدّد خلاف الأصل في جانب ، كما بيّناه في محلّه. مع أنّ توقّف ملكيّة الثاني على الانتقال عن الأوّل ممنوع ، لجواز بناء الشاهد على الملكيّة الظاهرة المستفادة من اليد أو نحوها ، وكان واقعا ملكا للثاني ، وكان بيده وكالة أو نحوها ، فأخذ المال من غير انتقال.

ثمَّ بما ذكر يظهر دليل الوجه الثالث المذكور في التحرير أيضا (٣).

والتحقيق : أنّ اقتضاء اليد للملكيّة يعارض استصحاب الملكيّة ، فلا يبقى لشي‌ء منهما حكم ، ولكنّ أصل اليد لا يعارضه شي‌ء ، وهو باق بالمشاهدة والعيان ، والأصل عدم التسلّط على انتزاع العين من يده ، ولا على منعه من التصرّفات التي كان له فيها ، حتى بيعها وإجارتها ، إذ غاية الأمر عدم دليل لنا على ملكيّته ، ولكن لا دليل على عدم ملكيّته أيضا ،

__________________

(١) انظر المسالك ٢ : ٣٩٣.

(٢) السرائر ٢ : ١٦٩.

(٣) التحرير ٢ : ١٩٥.

٤١٦

وأصالة عدم الملكيّة بالنسبة إليه وإلى غيره سواء ، مع ثبوت أصل الملكيّة ، فلا يجري فيه ذلك الأصل أيضا.

مضافا إلى إمكان حصول جواز هذه التصرّفات كلاّ أو بعضا بالتوكيل والإجارة والولاية والإذن وغيرها ، فتبقى أصالة عدم التسلّط وأصالة جواز تصرّفاته خالية عن المعارض.

وإلى هذا يشير كلام من قال : إنّ احتمال كون اليد الثانية بالعارية أو غيرها لا يلتفت إليه مع بقاء اليد على حالها ، فإنّ المقصود الأصلي من إعمال اليد هو إبقاء تسلّطها على ما فيها وعدم جواز منعها من التصرّفات كيف شاء بسبب احتمال الغصب أو العارية أو غيرهما ، فيحكم عليها بما يحكم على ملك الملاّك ، وليس هذا معنى الحكم بأنّه ملك (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

فإن قيل : كما أنّ الملكيّة أو اليد السابقة تقتضي استصحاب الملكيّة ، كذلك تقتضي استصحاب تسلّط المالك الأوّل والحاكم على منع ذي اليد عن التصرّفات أيضا ، وبه تندفع أصالة عدم التسلّط.

قلنا : ليس تسلّط الأوّل كالملكيّة التي إذا حدثت يحكم لها بالاستمرار حتى يثبت المزيل ، بل هو ممّا يمكن تقييده بقيد ، والمعلوم من التسلّط الأولي هو تسلّطه ما دام يحكم له بالملكيّة وتعلم له الملكيّة ، فالمعلوم ثبوته أولا ليس إلاّ ذلك المقيّد ، فبعد انتفاء الحكم بالملكيّة والعلم بها ينتفي القيد ، ويتغيّر الموضوع.

ثمَّ إنّه كما أنّ نفس اليد المشاهدة الحاليّة ومقتضياتها ـ سوى الملكيّة ـ

__________________

(١) غنائم الأيّام : ٧١٠.

٤١٧

لا معارض لها ، فكذلك أيضا كون البيّنة على غير ذي اليد ، وكون من يدّعيه مطالبا بالبيّنة ، وذي اليد باليمين ، إذا لم يخرج خارج اليد عن صدق المدّعي عرفا ، ولا صاحبها عن المنكر كذلك.

فيدلّ على كون وظيفة الأوّل البيّنة والثاني اليمين قولهم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » ورواية فدك المتقدّمة (١) ، فتكون البيّنة على المالك السابق واليمين على ذي اليد ، ولا يمنع ذو اليد من شي‌ء من التصرّفات ، وليس المطلوب من ترجيح اليد الحالية غير ذلك أيضا ، مع أنّه يمكن جعل هذين الأمرين دليلا برأسه على الملكيّة أيضا بالإجماع المركّب يسقط به الاستصحاب بالمرّة لعدم صلاحيّته لمعارضة الدليل مطلقا.

فرعان :

أ : صرّح جماعة من الأصحاب‌ ـ منهم : المحقّق في الشرائع والفاضل في جملة من كتبه والمحقّق الأردبيلي وفي المسالك والكفاية والمفاتيح (٢) وغيرها (٣) ـ بأنّه لو شهدت بيّنة المدّعي : أنّ صاحب اليد غصبها ، أو استأجرها ، أو استعارها ، أو نحو ذلك ، سقط اعتبار اليد ، وحكم بها للمدّعي. ونفى عنه الإشكال في المسالك ، بل ظاهره بل صريحه نفي الخلاف عنه ، وفي الإيضاح : أنّه تقبل الشهادة حينئذ قولا واحدا (٤) ، وهو مؤذن بدعوى الإجماع عليه ، ونفى عنه الريب في شرح‌

__________________

(١) في ص : ٣٣٣.

(٢) الشرائع ٤ : ١١٣ ، الفاضل في القواعد ٢ : ٢٣٤ ، التحرير ٢ : ١٩٦ ، المسالك ٢ : ٣٩٣ ، الكفاية : ٢٧٧ ، المفاتيح ٣ : ٢٧٣.

(٣) كما في كشف اللثام ٢ : ٣٦٧.

(٤) إيضاح الفوائد ٤ : ٤١٤.

٤١٨

المفاتيح.

وكيف كان ، فلا ريب في الحكم ، لأنّ استصحاب اليد السابقة الغصبيّة أو الاستيجاريّة مثلا وأصالة عدم حدوث يد اخرى يجعل اليد الحاليّة يد مباشرة لا المقتضية للملكيّة ، فلا يبقى معارض للاستصحاب ، بل ليس مقتض لملكيّة ذي اليد ، إذ ليس إلاّ اليد ، واقتضاؤها مخصوص بما إذا لم يدلّ على عدمه دليل ، وما ذكرنا دليل على عدم الاقتضاء.

ب : قال في الكفاية : وفي كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو أقرّ أمس بأنّ الملك له‌ ـ أي للمدّعي ـ أو شهدت البيّنة بإقراره أمس له ، أو أقرّ بأنّ هذا له أمس ، قضي به له ، وفي إطلاق الحكم بذلك إشكال (١). انتهى.

وكذا حكم في القواعد بثبوت الإقرار ، واستصحاب موجبه لو شهدت البيّنة بإقراره له بالأمس ، أو أقرّ المدّعى عليه بالأمس أنّه له ، وبالانتزاع عن يده لو أقرّ بأنّه كان ملك المدّعي بالأمس (٢).

وكذا في التحرير (٣) وشرح الإرشاد للأردبيلي في صورة الشهادة بإقرار الأمس ، وصورة إقرار المدّعي بأنّه كان له بالأمس ، إلاّ أنّه جعل الأقرب في الصورة الأخيرة الانتزاع من يده ، مؤذنا بوقوع الخلاف فيه ، إلاّ أنّه قال في شرح الإرشاد : إنّه غير واضح الدليل إلاّ أن يكون إجماعا.

وقال في تمهيد القواعد : لو قال المدّعى عليه : كان ملكك بالأمس ، أو قال المقرّ بذلك ابتداء ، قيل : لا يؤخذ به ، كما لو قامت بيّنة بأنّه كان ملكه بالأمس ، والأقوى أنّه يؤاخذ ، كما لو شهدت البيّنة بأنّه أقرّ أمس.

__________________

(١) الكفاية : ٢٧٧.

(٢) القواعد ٢ : ٢٣٤.

(٣) التحرير ٢ : ١٩٥.

٤١٩

انتهى.

وقد يستدلّ على بعض هذه الصور ـ ويفرّق بينه وبين ما تقدّم ـ بأنّ الإقرار ينبئ عن التحقيق ، والشاهد قد يخمّن ، ويقال فيما تقدّم : بأنّ اليد محسوسة ، والشهادة مظنونة ، وبأنّ استصحاب المقرّ به ظنّ ناشئ من القطع ، واستصحاب المشهود به ظنّ حاصل من الظنّ.

ولعمري أنّه لا يليق للفرقة الإماميّة أن تتشبّث بأمثال هذه التخريجات.

والتحقيق : أنّه إن أقرّ المدّعى عليه في الحال ـ أي بعد الادّعاء عليه ـ بأنّه كان له في السابق ، أو ثبت هذا الإقرار بالبيّنة ، يقدّم المدّعي ، لأنّ ذلك الإقرار المسموع منه أو الثابت بالبيّنة يتضمّن أمرين ، أحدهما : ملكيّة المدّعي في السابق ، وثانيهما : الانتقال منه إلى المدّعى عليه ، وهو في الثاني مدّع ولا تفيده اليد لمعارضة الاستصحاب ، فتكون عليه البيّنة والإثبات ، نظير الدعوى بالدين ، فإنّه لو ادّعي عليه عن مبيع اشتراه بالذمّة فأقرّ بذلك البيع يصير مدّعيا ، وترفع اليد عن أصالة براءة الذمّة ونحوه ولو لم يصرّح بأنّي أدّيته.

وعلى هذا ، فتشمله عمومات البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه.

وهذا مراد من قال بأنّ ذلك اعتراف من ذي اليد بكونه مدّعيا وظيفته الإثبات.

وأمّا لو كان المدّعى عليه أقرّ في السابق بملكيّته ، أو ثبت إقراره السابق ، فلا يوجب تقديم المدّعي ، لأنّ ذلك لا يجعله مدّعيا عرفا ، سواء كان ذلك الإقرار سابقا على يده أو على الادّعاء عليه.

٤٢٠