وهذا فريق منهم يرى : أنّ العبد لا اختيار له في فعل ما ، وهو مجبور ظاهراً وباطناً ، فالهداية تلحقه بخلق الله ، والضلال يلحقه بخلق الله ، دون أن يكون له دخل ما في هدايته أو ضلاله ، لا ابتداءً ولا جزاءً. وهذا رأي يناقض صريح ما جاء في القرآن من نسبة الأعمال إلى العباد ، ومن التصريح بأنّ الجزاء ثواباً أو عقاباً إنّما يكون بالأعمال الصادرة من العباد ، وهي أكثر من أن تحصى ، وهو بعد ذلك يصادم الشعور والوجدان الذي يجده كلّ إنسان من نفسه حينما يفكّر وحينما يتجه ويعزم ، وحينما يفعل ، وهو مع كلّ هذا ، ينقض قاعدة التكليف ، وهي اختبار المكلّف ، وقاعدة العدالة ، وهي السّيئة بالسّيئة ، والحسنة بالحسنة.
وهذا فريق آخر يرى : أنّ الله يخلق الضلال في العبد ابتداءً واستمراراً ، وليس للعبد قدرة على فعل ما ، أو ليس لقدرته تأثير في فعل ما ، وحينما رأوا نتائج الرأي السابق تلزمهم ، انتحلوا للتخلص منها شيئاً سمّوه كسباً ، وصحّحوا به في نظرهم قاعدة التكليف ، وقاعدة العدالة ، ونسبة الأفعال ، وحاصل معنى هذا الكسب هو الاقتران العادي بين الفعل والقدرة الحادثة ، أي إنّ الله يخلق الفعل عند قدرة العبد لا بها ، كما يقولون ، وبهذه المقارنة نسب الفعل إلى العبد ، وكلّف بالفعل ، وسئل عنه ، وجوزي عليه. ولا ريب أنّ تفسير الكسب بهذا لا يتفق واللغة ، ولا يتفق واستعمال القرآن لكلمة « كسب » على أنّه بهذا المعنى الذي يريدون ، لا يصحح قاعدة التكليف ، ولا قاعدة العدالة والمسؤولية ، لأنّ هذه المقارنة الحاصلة بخلق الله للفعل عند قدرة العبد ، ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتى ينسب الفعل بها إليه ، ويجازى عليه ، والفعل كما يقارن القدرة ، يقارن السمع والبصر والعلم ، فأيّ مزية للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد؟
وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له ، وقد قال بعض العلماء : إنّ كسب الأشعري وطفرة النظام ، وأحوال أبي هاشم ، ثلاثتها من محاولات الكلام.
وهذا فريق ثالث يرى : أنّ العبد يفعل بإرادته وقدرته الّلتين منحهما الله ابتداءً واستمراراً في دائرة ابتلائه وتكليفه ، ويفصل آخرون بين الضلال ابتداء