مرتين ماشيا ثم قدم وحده إلى حلب فقطنها وقرأ بها على الفخر عثمان الكردي وملا قل درويش والبدر السيوفي وعلى الشمس البازلي لما قدم إلى حلب ، ودرس وقتا فوقتا. وأما الفتوى فربما أفتى وجلس بمكتب الشهادة بحلب تحت قلعتها ، وتردد طلاب الفضائل إليه لكونه ابن بجدتها.
ولم يزل معدودا من العدول بل من فضلاء المعقول والمنقول على رغم العذول ، يربي الطالبين ويلبي دعوة الراغبين ، ويوضح لهم ما أشكل ويفصل لهم ما كان من مجمل ، إلى أن تلقى منه بطريق الاستفادة جمع جم من الأفاضل وترقى به إلى ذروة الإفادة كثير من طلابه الأماثل ، ولم يبرح على ذلك فيها هنالك إلى أن زالت الدولة الجركسية وعدل عن مكاتب العدول بالكلية ، فأبرم على الإفادة مثل ما كان وزيادة لمن جد وطلب بشمالية جامع حلب ، وبها كنت اشتغلت عليه في القواعد الصرفية والنحوية والعروضية والمنطقية ، واستفدت من غالي أشعاره في أسعاره ومن بديع نثره العالي بل نثاره ، إلى أن طرقته المنية ولم نظفر منه بتمام الأمنية ، ومات في يوم الثلاثاء سابع شوال سنة خمس وعشرين ودفن بمقابر حارة المشارقة في يوم مشهود هبت فيه ريح عظيمة سقط منها رأس منارة زاوية الأطعاني ودرابزين منارة جامع الصفي وبعض حجارتها ورأس شرافة باب قبلية الجامع الأموي بحلب ، وجلس شرذمة ممن كان صحبة جنازته إلى جنب حائط من حيطان مقبرته فما ذهبوا عنه إلا وقد سقط ، فعدت سلامتهم من بركته.
وبالجملة فقد كان شيخ الطلبة ومرشد من طلبه ، وكان في علوم العربية فارسا لا يجارى وفي الفنون الأدبية مناظرا لا يمارى ، ذا باع طويل وافي في العروض والقوافي ، وتقرير في الفقه شافي معروف به كل خافي ، ومنظوم سلسل رقيق أزرى برقة الرحيق ، ومنثور ما ضاع نشره العبيق إلا وشق ثوبه الشقيق ، ويا طالما نهج المنهج القويم لتحصيل غاية المأمول ، وصدق في مقاله المحرر الذي حصلت للقلوب منه بهجة وقبول ، وكشف عن وجه المعاني النقاب حتى كأنها شمس ذات إسفار ، وقطع بعقله مادة الارتياب عما هو مطوي في بطون الأسفار ، وعني بجبر قلوب الطلاب ، فلا كسر ولا قص ، وعري عما يرمي به أو يعاب ، فلا قدح فيه ولا نقص وما برح منعوتا بمحاسن جمال الأفعال ، مغنيا لكل لبيب من صلة فوائده في كل حال ، منصفا في مقام البحث ، مقابلا لخفي الأسرار العلمية بالنث والبث ، لطيف المحاضرة ، مرضي المذاكرة ، حسن المعاشرة ، يذكر كل