التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)

المفردات :

(إِذْ أَدْبَرَ) دبر وأدبر بمعنى : ولى وانصرم. (إِذا أَسْفَرَ) : أضاء وظهر.

(الْكُبَرِ) : جمع كبرى ، أنثى الأكبر. (رَهِينَةٌ) يقال : رهن الشيء رهنا ورهينة ، وهو الشيء المرهون وثيقة لشيء آخر. (ما سَلَكَكُمْ) : ما أدخلكم. (الْمُصَلِّينَ) الصلاة في اللغة : الدعاء والدين ، وشرعا : تطلق على الصلاة المعروفة ، والمراد المعنى اللغوي لا الشرعي. (نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) : نكذب مع المكذبين ، وأصل الخوض الذهاب في الماء ، ثم نقل إلى الذهاب في الكلام ، ثم غلب على الإكثار من باطل الكلام. (الْيَقِينُ) : الموت. (التَّذْكِرَةِ) : المراد القرآن. (مُسْتَنْفِرَةٌ) : نافرة من نفسها. (قَسْوَرَةٍ) : اسد. (صُحُفاً مُنَشَّرَةً) الصحف : القراطيس التي تكتب وتتداولها أيدى الناس ، والمنشرة : المبسوطة المفتوحة.

المعنى :

لقد تكلم المشركون في خزنة جهنم وعددهم ، واتخذوا ذلك مادة لاستهزائهم وسخريتهم فضلوا ضلالا بعيدا ، والقرآن هنا يزجرهم عن ذلك ويردعهم بكلمة زاجرة هي «كلا» ثم أقسم بالقمر ، والليل إذ أدبر ، والصبح إذا أسفر على أن سقر هي إحدى الكبر ، أما قسمه بهذه الأشياء فكما قلنا سابقا : إنه للفت أنظار المشركين إلى تلك الآثار الباهرة التي تدل على قدرة الله القادرة ، على أن هذا التقلب ، والتغيير من حال إلى حال ومن نور إلى ظلام ثم منه إلى ضياء على جواز البعث والانتقال من حال الفناء إلى حال الحياة.

أقسم بالقمر ونوره كيف ينشأ صغيرا ثم يكبر ثم يعود صغيرا صغيرا حتى المحاق ، وهذا الليل بجحافله ، وسكونه وهدوئه ، وموت الطبيعة فيه ، ثم يأتى الصبح بأضوائه

٧٨١

اللامعة ووجهه المشرق وحياته الحافلة ، أقسم بهذا كله على أن جهنم المعدة للمكذبين الذين يتخذون القرآن عضين هي إحدى الكبر من جهة أنها نذير (١) للبشر لمن (٢) شاء منكم أيها البشر أن يتقدم للخير ولمن شاء أن يتأخر بفعل الشر ، نعم هي نذير لهؤلاء الذين يخافون يوما عبوسا قمطريرا.

هذا إنذار للعاملين والعصاة المذنبين ، مع العلم أن كل نفس بما كسبت مرهونة ، أى : أن النفس مرهونة بعملها فإن كان خيرا فك رهنها وحبسها ، وإن كان شرّا فستظل حتى تستوفى عقابها ، وعلى ذلك فالعصاة نفوسهم مرهونة بعملهم الشر ، والمؤمنون أصحاب اليمين ليست نفوسهم مرهونة لأنهم أدوا ما عليهم. (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم في جنات مكرمون ، على سرر متقابلون ؛ يتجاذبون أطراف الحديث ويتساءلون ، أى : يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين المكذبين ما حالهم؟ ولعلهم يعرفون الجواب ، ولكن هذا يساق زيادة في تبكيت المجرمين وإيلامهم ، وإمعانا في سرور المؤمنين ، أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين فيطلعون عليهم ، وهم في جهنم فيقولون لهم : ما سلككم في سقر؟ ما الذي أدخلكم في جهنم؟ قالوا لهم : الذي سلكنا أننا لم نك من المصلين ، ولم نك ندعو الله رب العالمين بل كنا ندعو غيره ونشرك به سواه ، وأنا لم نك نطعم المسكين المحتاج بل كنا ننفق للدنيا وللرياء ، وكنا نكذب مع المكذبين ونخوض مع الخائضين في هراء الكلام وفاسده ، وكنا نكذب بيوم القيامة ولا نصدق به ، وظللنا على هذا الحال حتى أتانا اليقين الذي لا شك فيه كالموت ، وهذا العذاب الذي نقاسيه اليوم.

إذا كان الأمر كذلك فما تنفع هؤلاء شفاعة الشافعين ، ومن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ وهذا رد عليهم في دعواهم أن الآلهة تشفع عند الله لهم.

عجبا لهؤلاء بعد هذا البيان الساطع فما لهم عن القرآن معرضين؟ أى شيء حصل لهؤلاء حتى يعرضوا عن كلام رب العاملين مالك يوم الدين.

__________________

(١) على هذا فهي مصدر وقع تمييزا ، ويصح أن تكون صفة مشبهة وتعرب حالا.

(٢) وعلى هذا فقوله : لمن شاء بدل من بشر ، ورأى آخر أنه خبر مقدم ، والمبتدأ المصدر المأخوذ من (أن يتقدم أو يتأخر) أى : التقدم والتأخر لمن شاء.

٧٨٢

ما لهم يعرضون ويفرون؟ كأنهم حمر ـ المراد حمر الوحش ـ نافرة من نفسها وطبعها ، وقد فرت من أسد ، إن أمر هؤلاء لعجيب.

بل ـ وهذا إضراب عن إعراضهم ونفورهم مما فيه سعادتهم وخيرهم كالحيوان واستمع لما هو أعجب وأغرب : بل يريد كل امرئ منهم أن تنزل عليه صحف من السماء مبسوطة تأمره باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

كلا وألف كلا!! بل هم لا يخافون الآخرة ، ولا يرجونها أصلا ، فهذا هو السبب ، وطلبهم الصحف المنشرة ضرب من العبث واللهو ، فأعرض عن هذا ولا تسمع لهم في شيء ..

كلا ؛ إن القرآن تذكرة وعظة لمن يريد الآخرة ويؤمن بالغيب ، وفيه استعداد للخير ، فمن شاء ذكره واتعظ به وآمن ، وما يذكرون إلا إن شاء الله ذاك بالقهر والإلجاء ، لكن الله ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب. وقيل المعنى : وما يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن شاء الله لهم ذلك ؛ إذ الأمر كله له ، هو الله أهل لأن يتقى ويحذر عقابه فلما ذا لا تتقون؟ وهو أهل للمغفرة فلما ذا لا تصلحون أعمالكم. وتتوبون لربكم وتثوبون لرشدكم؟

٧٨٣

سورة القيامة

وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها أربعون آية.

وهي في الكلام على يوم القيامة والاستدلال عليه. ووصفه وبيان أهواله ، ثم تعرضت لخروج الروح. وذكر مبدأ الخلق.

يوم القيامة وما فيه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)

٧٨٤

المفردات :

(اللَّوَّامَةِ) : كثيرة اللوم لنفسها أو لغيرها. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) : أيظن؟

(نُسَوِّيَ بَنانَهُ) البنان : أطراف الأصابع أو الأصابع كلها ، وتسويتها : جمع عظامها وإعادة تركيب أعضائها. (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) الفجور : التمادي في ارتكاب الآثام والذنوب والمراد بلفظ (أمامه) بقية حياته. (بَرِقَ الْبَصَرُ) : زاغ وتحير من شدة الدهش. (خَسَفَ الْقَمَرُ) : ذهب نوره وأظلم. (الْمَفَرُّ) : الفرار.

(لا وَزَرَ) الوزر : الجبل يلجأ إليه والمراد : لا ملجأ ولا معقل ولا حصن.

(الْمُسْتَقَرُّ) : الاستقرار والسكون. (بَصِيرَةٌ) : حجة وشاهد. (مَعاذِيرَهُ) : أعذاره. (وَقُرْآنَهُ) قراءته. (الْعاجِلَةَ) : هي الدنيا وما فيها. (وَتَذَرُونَ) : تتركون. (ناضِرَةٌ) : حسنة جميلة نضر الله وجهها بالنعم. (ناظِرَةٌ) : رائية ، أو منتظرة (باسِرَةٌ) : عابسة عبوسا شديدا. (فاقِرَةٌ) : داهية شديدة تقصم فقار الظهر.

المعنى :

افتتح الله هذه السورة بالقسم على إثبات البعث ، إلا أن القسم هنا وفي سورة (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) قد صدر بلا النافية ، وقد تحير العلماء في تخريج ذلك فبعضهم قال : إن الأصل لأنا أقسم بيوم القيامة (١) ، وقال البعض : إن لا النافية نفت معتقداتهم الفاسدة ثم بدئ بالقسم على البعث ، وقيل : إن الله لا يقسم بهذا على البعث لظهوره وانكشاف أمره حتى لم يعد للمنكر وجه ينفى.

وفي كتاب الآلوسي وجه آخر لعله أدق وأنسب ـ والله أعلم بأسرار كلامه ـ خلاصته : إن القسم بشيء يتضمن تعظيمه ، وكأن الله يقول : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة على معنى أن يوم القيامة والنفس اللوامة لا يعظمان بالقسم

__________________

(١) ثم حذف المبتدأ الذي هو أنا ، ثم أشبعت فتحة اللام فصارت لا.

٧٨٥

لأنهما في أنفسهما عظيمان سواء أقسم بهما أم لا؟ وهذا الأسلوب بلا شك يفيد تعظيمهما جدّا ، وبالتالى يفيد تعظيم المقسم عليه الذي هو البعث. انتهى باختصار وتصرف.

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بيوم القيامة على أن الناس لا يتركون سدى بدون حساب بل لا بد أنهم يبعثون ويجاوزن على أعمالهم ، وأقسم كذلك بالنفس التي تكثر اللوم لذاتها لأنها لم تكثر من فعل الخير أو لفعلها الشر ، وهذا اللوم إنما يكون يوم القيامة وقيل : النفس اللوامة التي تلوم نفسها في الدنيا على التقصير في عمل الخير أو على بعض الهفوات في الشر ، وهذه ليس من المعقول أن تترك بلا جزاء على هذا العمل.

لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة لتبعثن ولتحاسبن يوم القيامة على ما قدمتم في الدنيا من خير أو شر.

أيحسب الإنسان الذي من شأنه وطبعه أنه يكذب بالوحي ، أيحسب (١) أنا لن نقدر على جمع عظامه بعد موته وتفريقها؟!! وهل المراد بالإنسان شخص خاص أو كل إنسان منكر؟ روى أن الآية وردت في معرض الرد على عدى بن ربيعة والأخنس بن شريق ، وكانا جارين سيئين لرسول الله ، فقد جلس عدى يوما إلى رسول الله وطلب منه أن يحدثه عن يوم القيامة ، فأخذ النبي يحدثه عن يوم القيامة ، فقال عدى : أما والله لو رأيت ذلك اليوم بعيني لم أصدقك يا محمد ، ولم أؤمن بك ولا به. أيمكن أن يجمع الله العظام؟! ولذلك جاء في رد القرآن على كل من ينكر ـ وخاصة عديا والأخنس وأضرابهما ـ بما يأتى : بلى نجمعها ونعيدها كما بدأنا خلقها أولا حالة كوننا ـ أى : الذات الأقدس ـ قادرين على جمع عظامه مع تسوية بنانه حتى يتمثل بشرا سويّا كاملا كما كان ، فذكر تسوية البنان إشارة إلى إعادة الإنسان كاملا في أعضائه حتى الأطراف ، أو إلى إعادته كاملا في تكوين جسمه كما كان في الدنيا.

والبنان وما فيه من سلاميات ومفاصل ، ودقة في الوضع والتركيب ، وما في أطرافه التي تختلف بصماتها في كل فرد عن الآخر دليل على كمال القدرة بل يدل على أن القادر على ذلك هو بلا شك قادر على جمع العظام وإحياء الموتى.

__________________

(١) والاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ على ما وقع من المنكرين البعث.

٧٨٦

(بَلْ (١) يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) وهذا إضراب عن توبيخ الإنسان والإنكار عليه لأنه يكذب بيوم الدين إلى توبيخه على فعل أشد وأدعى للإنكار. وهو أنه ينكر البعث لأنه يريد أن يتمادى في الشر. وينبعث في ارتكاب الإثم طول حياته ، فهو يريد أن يعيش كالحيوان لا عقل يمنعه ولا دين يردعه.

وهذا الإنسان المرتكب للمعاصي الفاجر المتعامى عن الحق فإذا وعظه واعظ أو ذكر بيوم القيامة سأل منكرا مستهزئا متعنتا : أيان يوم القيامة؟!! أى : متى هو؟ أقريب أم بعيد؟ ويظل هذا الوضيع سادرا في غيه لاهيا في شهواته ونزواته ، فإذا برق بصره ، وخسف القمر وانكسف نوره ، واختل نظام الكون حتى جمعت الشمس والقمر في مكان واحد وزمان واحد ، وإذا حصل هذا يقول متحيرا يومئذ : أين المفر؟ أين النجاة وأين السبيل؟!

كلا (٢) وألف كلا! اليوم لا وزر ولا ملجأ ، ولا معين ولا ناصر ، لا ملجأ منه إلا إليه ، ولا حصن من عذابه إلا عفوه ، إلى ربك يومئذ المستقر ، وإليه وحده الالتجاء والسكون ، وماذا بعد هذا؟ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم من عمل لذلك اليوم وما أخر من أمور طلبت منه ولم يعملها ، والمراد بالإخبار مجازاته على عمله كله إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.

ثم أضرب الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن إخباره بأعماله إلى مرتبة أتم وأوضح فقال : بل الإنسان على نفسه شاهد وحجة ورقيب ، وعلى ذلك فالمعنى أن الإنسان يوم القيامة ينبأ بعمله ، والمراد يجازى عليه ، على أنه هو شاهد على نفسه وسوء عمله وقبيح أثره في الدنيا. فليس الأمر في حاجة إلى شهيد آخر (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣). (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٤) فالإنسان يشهد على عمله ، ولو ألقى أعذاره ، وحمله الخجل والخوف على خلق أعذار كاذبة ، فإن شهادة نفسه عليه أحق بالقبول من هذه المعاذير.

__________________

(١) هذا حرف يفيد الإضراب الانتقالى من أسلوب لآخر ، أو من حجة لأخرى.

(٢) هي كلمة زجر وردع للمخاطب.

(٣) سورة النور آية ٢٤.

(٤) سورة الإسراء آية ١٤.

٧٨٧

روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حريصا على حفظ القرآن ، وكان يصعب عليه حفظ الآيات ؛ وجبريل يلقيها إليه ، فكان يحرك لسانه وشفتيه بالقرآن أثناء سماعه لجبريل حرصا على عدم ضياع شيء منه ، فنهى النبي عن ذلك في سورة طه. (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ..) الآيات ؛ والمعنى : لا تحرك أيها الرسول لسانك وشفتيك بالقرآن قبل أن ينتهى جبريل من إلقاء الوحى ، لا تحرك لسانك لتعجل بأخذه وحفظه ثم ذكر العلة في ذلك فقال : إن علينا جمع هذا القرآن في صدرك ، وتثبيته في قلبك ، وإن علينا أن نوفقك لقراءته كاملا مضبوطا حتى تحفظه ولا تنساه ، فإذا قرأناه عليك بواسطة جبريل فأنصت له حتى يفرغ ، وإذا فرغ جبريل فاتبع قراءته فإنك ستجد نفسك واعيا له وحافظا ، ولا يهمنك معناه فإن على الله وحده بيانه وإيضاح مشكلاته وكشف أسراره لك ، أليس ذلك من الأدلة القوية على أن القرآن من عند الله؟

بقيت مسألة هامة : ما السر في وضع هذه المسألة وسط الكلام على البعث ومنكريه؟ بعض العلماء ذهب في تأويله إلى أن الكلام متصل بما قبله إذ كل إنسان له كتاب يقرأ فيه عمله يوم القيامة ، فإذا جاء المكذب بيوم البعث الفاجر طول حياته يقرأ كتابه ، تلجلج وحرك لسانه بسرعة ليخفى بعض ما في الكتاب ظنا منه أن ذلك ينجيه فنهى عن ذلك وأمر بالإقرار والاعتراف لأن على الله بيان كل أعماله.

ولكن أغلب المفسرين على الرأى الأول ، وقالوا عن وضع هذه الآيات هنا : إنها اعتراض بما يؤكد التوبيخ على العجلة ، ولو كانت في الخير كما في حفظ القرآن ؛ فكيف بها إذا كانت في حب الدنيا ، والذي يؤيد هذا ما وراء ذلك من آيات.

ويرجح الشيخ عبد القادر المغربي في تفسيره أن هذه الآية أنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما كان جبريل يتلو عليه سورة القيامة فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرك لسانه متعجلا الحفظ فأوحى إليه ربه آية (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ...) ولقنه جبريل هذه الآية غضة طرية في غضون تلقينه الآيات التي حرك بها لسانه ليكون ذلك أدعى إلى الامتثال.

كلا ، ارتدعوا أيها البشر عما أنتم عليه من حب العجلة في شئونكم وأعمالكم وهذا داء عام شامل لجميع البشر ، وإن يكن البعض يتعجل في الخير والكثير يتعجل في التكذيب والشر ، أنتم أيها المكذبون بالبعث لم تكذبوا الوحى إحقاقا للحق بل أنتم قوم تحبون العاجلة وتؤثرون الدنيا الفانية ، وتذرون الحياة الآخرة والعمل لها ، وما علمتم أن

٧٨٨

الناس في الآخرة فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، فريق وجوهه ناضرة بالنعيم جميلة بإكرام الله له ، وهي إلى ربها ناظرة ؛ وفريق آخر وجوهه يومئذ كالحة منقبضة عابسة باسرة ، تظن لسوء فعلها في الدنيا ـ بل تتحقق ـ أنه لا بد أن ينزل بها مصيبة فادحة مصيبة عظمى تقصم الظهر ، وتبيد فقاره.

بقي شيء ، وقع فيه خلاف كبير بين العلماء قديما ، هو : هل نرى ربنا يوم القيامة أو لا؟ الجمهور على إثبات الرؤية مستدلا بقوله هنا : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وبالأحاديث عن رسول الله : وبعض الفرق تمنع الرؤية بالنظر إذ البصر يحد الله وذاته ، وهو لا تدركه الأبصار ، على أنه يلزم معها الانحصار في زمن وجهة ، والله محال عليه ذلك ، والآية هنا تؤول بأن الوجوه تنتظر من الله النعم والفضل والرضوان ، على أن الخطب سهل فأمور الآخرة أمور غيبية لا نقيسها على الحاضر عندنا بل نؤمن بها ، والله أعلم بها.

الإنسان عند موته وعند بدء خلقه

كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)

٧٨٩

المفردات :

(التَّراقِيَ) : جمع ترقوه ، وهي العظمة التي تمتد من ثغرة النحر إلى العاتق وهما ترقوتان يمينا وشمالا. (راقٍ) : من رقى فهو راق ، وهو الذي يعمل الرقية ، والمراد المعالج. (الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) : هذا مثل لاشتداد الحال ونهاية الشدة.

(يَتَمَطَّى) التمطي : التبختر والتكبر في المشي. (سُدىً) : هملا بلا عناية.

(نُطْفَةً) النطفة : الماء القليل. (يُمْنى) : يراق ويصب. (عَلَقَةً) : قطعة دم عالقة. (فَخَلَقَ) : قدرها بقدر محكم. (فَسَوَّى) : عدلها وأحكم أمرها.

المعنى :

وهذا نوع من العلاج عظيم ، هو أن يلفت القرآن أنظار البشرية إلى حالهم ساعة خروج الروح ، وما فيها من أهوال ، ثم يتلطف معهم في الحديث فيذكرهم بالنشأة الأولى ليخلص من ذلك كله إلى إثبات البعث الذي تدور عليه السورة كلها.

كلا أيها البشر : ارتدعوا عن حب العاجلة ، وتذكروا الآخرة واعملوا لها بكل قواكم ، اذكروا ما ينزل بكم ساعة خروج الروح ، ساعة تبلغ الروح الترقوة.

اذكروا إذا بلغت الروح التراقي ، واجتمع الأهل والأصحاب وقالوا : هل من طبيب أو راق؟ الكل حوله لا يملكون شيئا إلا استدعاء الطبيب ، ولكن الأقدار سهام إذا انطلقت لا ترد ، وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه يرجع الأمر ، وظن الإنسان بل وتيقن أنه الفراق لا محالة ، واشتد الأمر ، وعظم الخطب والتفت الساق بالساق ، وانتهى الأمر إلى الواحد الباقي ، إلى ربك وحده ساعتها المساق.

أما المكذب الضال فالويل له!! فإنه لا صدق بمال ولا برأى ولا بشيء أبدا ، ولا صلى لله ، ولكن كذب بالحق لما جاءه. وأعرض عن رسول الله حين دعاه ؛ وغرته الدنيا بزخارفها غرورا كثيرا ، ثم ذهب بعد ذلك بتبختر في مشيته ، غير مكترث بما فعل. أولى لك أيها المكذب فأولى : ثم أولى لك فأولى! وهذه عبارة هدد بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا جهل ففهم منها الوعيد والتهديد ، وقال للنبي : أتوعدني يا محمد؟ والله ما تستطيع

٧٩٠

أنت ولا ربك فىّ شيئا ، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها ، ثم لم يلبث أن قتل ببدر شر قتلة.

أيحسب الإنسان المغرور أنه يترك هملا ، بلا شرع ولا حكم ، وبلا حساب ولا عقاب؟

ألم يك نطفة من ماء يصب في الرحم. ثم صار علقة فمضغة ثم صوره فأحسن تصويره. وسواه فأكمل خلقه. فكان منه الذكر والأنثى لبقاء النوع الإنسانى.

أليس الذي فعل هذا مع الإنسان بقادر أن يحيى الموت ويبعثهم يوم القيامة؟! فكروا واتعظوا أيها الناس ، واعلموا أن الذي رعاكم ورباكم في النشأة الأولى لا يعقل أن يترككم سدى ، ويخلقكم هملا لا يجازى المحسن ، ولا يعاقب المسيء.

٧٩١

سورة الإنسان

وهي مكية ، وحكى بعضهم الإجماع على أنها مدنية ، وعدد آياتها إحدى وثلاثون وتشمل الكلام على البعث ، وعلى خلق الإنسان وهدايته للخير والشر ، ثم بيان عاقبة كل ، مع ذكر أعمال الأبرار وجزائهم.

الإنسان : بعثه وخلقه وتكليفه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤)

المفردات :

(حِينٌ) الحين : جزء محدود من الزمان شامل للقليل والكثير. (الدَّهْرِ) : الزمان الممتد الذي ليس بمحدود. (نُطْفَةٍ) : هي القليل من الماء. (أَمْشاجٍ) : جمع مشج ، أى : أخلاط. (نَبْتَلِيهِ) : نختبره. (هَدَيْناهُ) : دللناه وأرشدناه إلى الطريق. (أَعْتَدْنا) : هيأنا. (سَلاسِلَ) : قيودا توضع في الأرجل.

(وَأَغْلالاً) : أطواقا توضع في الأيدى.

٧٩٢

المعنى :

هل أتى على الإنسان وقت من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟ وقد علم الله أنهم يقرون فيقولون : نعم قد أتى عليه ذلك ، فيقال لهم : الذي أوجده من العدم بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه من العدم (١)؟ والإنسان من حيث هو إنسان مر عليه حين من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه ، وهذا الزمن لا يعلمه إلا الله.

هذا الإنسان الذي خلق من العدم كيف خلق؟ يقول الله ـ تعالى ـ مجيبا ومؤكدا : إنا خلقناه من نطفة أمشاج ، يا سبحان الله! يقول الله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة موصوفة بأنها أخلاط ، فيها نوازع الخير والشر كامنة ، وفيها صفات للإنسان مختلفة ، وفيها اتجاهات له متباينة. ولو شاء ربك لجعل الناس على نظام واحد وطريقة واحدة كلهم للخير أو كلهم للشر ، ولكنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، ولأجل هذا الاختلاف خلقهم ، فبه يعمر الكون ، وتكون الدنيا والآخرة.

خلقنا ربك من نطفة فيها أخلاط ليبتلينا ، إنا خلقناه من نطفة أمشاج حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره فيما سنكلفه به من شرائع.

ولهذا جعلناه سميعا بصيرا ، أى : فترتب على إرادة الابتلاء أن خلق الله فينا قوة العقل والإدراك لنميز بعقولنا التي كان طريقها المهم السمع والبصر ، ولكن هل يكفى العقل وحده لإدراك الخير والشر؟ لا .. ولهذا قال : إنا هديناه السبيل العام ، أى : دللناه وبينا له طريق الخير وطريق الشر بواسطة الشرائع والرسل بعد أن منحناه العقل والنظر.

فالله ـ سبحانه ـ خلق الإنسان ، وفيه نوازع الخير والشر ، والاتجاهات المختلفة المتباينة ثم رزقه عقلا وفكرا ، وأرشده بعد ذلك إلى سبيل الخير والشر بواسطة الكتب والرسل .. إنا هديناه السبل حالة كون الإنسان إما شاكرا وإما كفورا ، فهو بعد ذلك إما شاكرا لربه نعمه سالكا سبل الخير مستحقّا دار الكرامة ، وإما كفورا لنعم ربه لم يقم بحقها فكفر وكذب وعمل سيئا ، فاستحق دار الإهانة ، وهذا ما أعد لكل من الفريقين فريق الشاكرين وفريق الكافرين. إنا هيأنا للكافرين في جهنم سلاسل توضع في أرجلهم وأغلالا في أيديهم وأعناقهم : ونارا مستعرة يصلونها وبئس القرار قرارهم.

__________________

(١) هذا المعنى على أن (هل) استفهامية ، وهي تفيد التقرير ، وبعضهم يقول : إنها بمعنى (قد) وتفيد التقرير ، والمآل واحد على المعنيين.

٧٩٣

الأبرار : أعمالهم وجزاؤهم

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢)

٧٩٤

المفردات :

(الْأَبْرارَ) : جمع بر. وهو من جمع بين الصدق والتقوى والإخلاص.

(كَأْسٍ) الكأس : تطلق على إناء الخمر وعلى الخمر نفسها. (مِزاجُها) : ما تمزج به. (كافُوراً) : طيب معروف له رائحة جميلة. (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) فجر الماء وفجره : إذا أخرجه من الأرض وشق طريقا يجرى فيه ، والمراد أنها تحت أمرهم.

(بِالنَّذْرِ) النذر : هو ما التزمته منه قربة لله ، والوفاء به إنفاذه حسب ما التزمته.

(مُسْتَطِيراً) : منتشرا فاشيا في كل جهة. (مِسْكِيناً) : هو من أسكنه فقره وحاجته أو ذله حتى كان قليل الحركة. (وَيَتِيماً) اليتم : التفرد ، وهو هنا من فقد أباه حتى أصبح وحيدا بلا عائل. (وَأَسِيراً) : من أسر في حرب إسلامية مع الكفار. (عَبُوساً) : شديد الهول عظيم الخطر. (قَمْطَرِيراً) : شديدا مظلما.

(وَلَقَّاهُمْ) : ألقى عليهم وأعطاهم. (نَضْرَةً وَسُرُوراً) : حسنا وفرحا.

(مُتَّكِئِينَ) الاتكاء : الجلوس بتمكن وراحة. وغالبا يكون على شق واحد مع الاعتماد على وسادة. (الْأَرائِكِ) : جمع أريكة وهي السرير عليه الأستار والكلة ـ الناموسية ـ (زَمْهَرِيراً) : بردا قارسا. (وَذُلِّلَتْ) : سهلت حتى صارت في متناول الأيدى. (قُطُوفُها) : جمع قطف وهو العنقود ساعة يقطف. (بِآنِيَةٍ) : هي صحاف الطعام. (وَأَكْوابٍ) : جمع كوب : آنية الشراب ، والكوب قدح مستدير الرأس لا عروة فيه ، ولا خرطوم ، وهو ما نسميه الآن ـ كوبة ـ (قَوارِيرَ) : جمع قارورة وهي الوعاء الزجاجي المعروف. (زَنْجَبِيلاً) : نبات له طعم حريف ورائحة جميلة. (سَلْسَبِيلاً) : الشراب السهل المرور في الحلق لعذوبته ، واسم عين في الجنة. (سُندُسٍ) : من الثياب المصنوعة من الحرير. (وَإِسْتَبْرَقٌ) : نسيج من حرير سميك. (وَحُلُّوا) ألبسوا حلية. (شَراباً طَهُوراً) : نقيّا من الشوائب.

المعنى :

تلك سنة القرآن يتبع الترهيب بالترغيب ، ويتكلم على الكفار ونهايتهم ثم على الأبرار من المؤمنين وخاتمتهم ، ليظهر الفرق جليا فيكون ذلك أدعى إلى الإيمان وعدم التكذيب.

٧٩٥

إن الأبرار لفي نعيم ، يشربون شرابا ممزوجا بالكافور ، هذا الشراب مستمد من عين جارية لا ينفد ماؤها ، أعنى عينا يشربها عباد الله ، يجرونها حيث شاءوا فهي طوع إرادتهم.

وكأن سائلا سأل : بما ذا استحقوا تلك الكرامة ، وهذا النعيم؟ والجواب : إنهم يوفون بالنذر ، ويخافون يوم الحساب فإن شره مستطير ، وهم يتمتعون بخلق كريم فاضل ، والوفاء بالنذر الشرعي الذي هو قربة إلى الله كنذر صيام أو صلاة أو صدقة دليل على قوة الإيمان ومضاء العزيمة في الخير ، وإذا وفي الإنسان بالنذر لأنه التزام ، فالوفاء بالواجب المكلف به شرعا أحرى وأهم له ، بل هو من باب أولى ، تلك هي الخصلة الأولى للأبرار. والخصلة الثانية : خوفهم من الحساب ، فهذا الخوف يدعوهم إلى عمل الصالح من الأعمال ، وترك الفحش من السيئات ، وهذا اليوم جدير بالخوف من العقلاء لأن فيه شرا مستطيرا منتشرا في كل جهة.

والخصلة الثالثة : تمسكهم بالخلق الفاضل ، وتحليهم بكرم الفعال كإطعام الطعام للمحتاجين ، وبالتجربة كان الإطعام والبذل لله دليلا على صدق الإيمان ، وقوة اليقين هؤلاء يساعدون المحتاج ، ويمدون إليه يد المعونة وخاصة الإطعام ، والمحتاج مسكين قانع أو يتيم محروم أو أسير ذليل ، هم يطعمون الطعام مع حبه وشدة الحاجة إليه.

وقد روى عن علىّ ـ كرم الله وجهه ـ وزوجه فاطمة ـ رضى الله عنها ـ أنهما نذرا لله نذرا إن شفى الحسن والحسين سبطا رسول الله فسيصومان ثلاثة أيام ، فشفاهما الله فصاما ؛ ولم يكن عند هما إلا ما يفطرهما فقط ، وعند المغرب سألهما مسكين طعاما ، فأعطياه الطعام مع الحاجة إليه وباتا على الطوى : وفي اليوم الثاني سألهما يتيم فأعطياه مع شدة الحاجة ، وفي اليوم الثالث سألهما أسير فأعطياه ؛ وقد صاما ثلاثة أيام متوالية بلا طعام .. عند ذلك نزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآيات ثم قال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك.

هذا هو الإيمان السليم من كل شائبة ، يطعمون الطعام على حبه قائلين بلسان الحال لا بلسان المقال ، قالوا : إنا نخاف من ربنا عذاب يوم تعبس فيه الوجوه من كثرة ما تلاقى : عبوسا لشدة هوله وعظيم خطره على العباد ، يوما عبوسا قمطريرا ، أى : شديدا مظلما.

٧٩٦

كافأهم الله على ذلك بأن وقاهم شر ذلك اليوم وألقى عليهم بدل العبوس والظلمة والشدة والرهق حسنا وبهجة وبهاء. وسرورا ، أعطاهم جنة تجرى من تحتها الأنهار ، أكلها دائم ، وظلها كذلك ، وتلك عقبى المتقين ، وأعطاهم جنة وكساهم حريرا ، وأجلسهم على الأرائك متكئين جلسة المتمكن الهادئ فارغ البال ، وهم في تلك الجنة ، لا يرون شمسا محرقة ، ولا يحسون بردا شديدا ، بل هم في جو هادئ حالم لا يشعرون بما يكدرهم.

وهذه الجنة قد دنت عليهم ظلالها الوارفة ، وكانت ثمارها سهلة التناول ، يتناولها الشخص بلا تعب ولا مشقة ، يا سبحان الله!!

وهم فيها مكرمون ، لهم خدم وحشم ، ويطوف عليهم غلمان لهم بآنية من فضة فيها طعامهم ، ويطاف عليهم بأكواب من فضة ، فيها شرابهم ، هذه الأكواب فيها صفاء الزجاج وبياض الفضة ونضرتها ، وهذه الأوانى قد قدرت لهم تقديرا تامّا فليست صغيرة لا تفي بما يطلبون ، ولا كبيرة تزيد على ما يحتاجون.

وهم في الجنة يسقون فيها شرابا تارة يمزج بالكافور كما مضى ، وطورا يمزج بالزنجبيل ، وهذا الشراب مستمد من عين لا تنقطع تسمى سلسبيلا لأنها سهلة لينة هينة ، ولهم خدم يطوفون عليهم ، هؤلاء الولدان مخلدون في نضرة الشباب وروعة الحسن والجمال إذا رأيتهم مقبلين ومدبرين حسبتهم لؤلؤا منثورا في الصفاء والنظافة والجمال.

وإذا رأيت هناك ـ ونسأل الله الكريم أن يرينا ذلك ـ رأيت نعيما لا يقادر قدره ، ولا يدرى كنه ، ورأيت ملكا كبيرا ، يتضاءل أمامه ملك كسرى وقيصر ، وما مر من وصف لبعض مشاهد الجنة فوصف تقريبي فقط ، ونعيمها الحقيقي لا يعلمه إلا خالقه ، وهم في الجنة تعلوهم ثياب من سندس رقيق أخضر ، ومن إستبرق سميك كل بما يناسبه ، وألبسوا حلية هي أساور من فضة أو ذهب ، وسقاهم ربك شرابا لا يدرى وصفه ، شراب طهور نقى من كل الشوائب.

إن هذا كان لكم أيها العاملون الشاكرون جزاء على أعمالكم ، وكان سعيكم مشكورا.

٧٩٧

توجيهات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)

المفردات :

(آثِماً) : كثير الإثم. (كَفُوراً) : شديد التعصب للكفر. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) : أول النهار وآخره. (الْعاجِلَةَ) : الدنيا. (وَيَذَرُونَ) : يتركون. (ثَقِيلاً) : شديدا. (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) : ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق ، وفي القاموس : الأسر : شدة الخلق والخلق ، والمراد : أحكمنا خلقهم. (تَذْكِرَةٌ) : عظة وعبرة.

لقد جمعت هذه السورة بين تذكير الإنسان بخلقه ونشأته ثم تكليفه بالشرائع ، ووعظه ببيان أحوال المكذبين يوم القيامة والمؤمنين ، ومع هذا فقد ظل المشركون على

٧٩٨

ما هم عليه ، فكان من الخير أن تختم السورة بتوجيهات شديدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنفعه في هذا الوضع.

المعنى :

إنا نحن نزلنا عليك القرآن يا محمد : نزلناه تنزيلا ، فهذا القرآن حق لا شك فيه ولا مراء ، وليس عليك إلا اتباعه ، وعلينا وحدنا نصرة المؤمنين وخذلان الكافرين ، فالأمر كله لله الذي أنزل القرآن كتابا محكما لا يأتيه الباطل أبدا ، وإذا كان الأمر كذلك فاصبر لحكم ربك فإنه هو الحكم العدل ، سيقضي بينك وبينهم بالقول الفصل ، وما عليك شيء سوى الصبر ، وإياك أن تطيع منهم آثما كثير الذنوب كعتبة بن ربيعة الذي كان يعرض على النبي أن يترك دينه نظير تزويجه بنتا جميلة من بناته ، ولا تطع منهم كفورا قوى الشكيمة في الكفر شديد التعصب للجاهلية كأبى جهل والوليد بن المغيرة ، الذي يروى عنه أنه كان يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر وسأعطيك مالا حتى ترضى ، ولهذا قال له ربه : اصبر حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا ، ولا تطع منهم آثما أو كفورا.

ولهذا لا بد لمقابلة هذه الشدائد من التذرع بسلاح الإيمان القوى : ألا وهو الذكر في الصباح والمساء والغدو والرواح فإنه الحصن الحصين ، والسجود لله في الليل وتسبيحه في وقت طويل منه.

وأما هؤلاء الكفار فدعهم لخالقهم فهو أعلم بهم وأدرى ، إنهم يحبون العاجلة ويجرون وراء الدنيا وزينتها الفانية ، ويتركون وراءهم يوما شديد الهول ، يوما تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فنحن خلقناهم ، وأحكمنا خلقهم وتصويرهم. وإذا شئنا بدلنا بهم أمثالهم تبديلا ، فربك على كل شيء قدير ، وهذا تهديد لهم كبير.

إن هذه السورة وأمثالها ـ يا محمد ـ تذكرة وعظة فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيل الخير الموصلة للخير في الآخرة. ومن شاء لم يتعظ واتخذ طريق الضلال والإثم والفسوق والعصيان إلى ربه؟ وهذا أسلوب تطمين وتهدئة لخاطر النبي الكريم.

٧٩٩

فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، إذ السبل مفتحة أمام العبد (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) ولكن اعلموا أن الأمر مع هذا لله ، وما تشاءون إلا وقت أن يشاء الله ، فللعبد مشيئة جزئية هي مناط الثواب والعقاب ، ولله المشيئة الإلهية.

إن الله كان عليما بخلقه حكيما في كل أفعاله.

ثم ختمت السورة ببيان عاقبة الفريقين : أما أحدهما فالله يدخله في رحمته وجنته ورضوانه ، وأما الآخر فهم الظالمون وقد أعد الله لهم عذابا أليما.

__________________

١ ـ سورة البلد آية ١٠.

٨٠٠