التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

وبخبركم بأننا طلبنا بلوغ السماء لنسمع كلام أصحابها كما كنا فوجدناها قد ملئت حرسا قويّا من الملائكة أعد لطرد من يسترق السمع ، وملئت شهبا رصدا لمن يريد السمع لتحرقه.

ونخبركم كذلك بأننا كنا نقعد منها مقاعد كثيرة لاستراق السمع قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن يستمع الآن يجد له شهابا خاصا به رصد لأجله لا يخطئه ، وهذه الشهب لا يمنع وجودها الآن وقبل الآن ، وكونها ظاهرة طبيعية لا يمنع أنها أعدت بعد البعثة لذلك مع صفتها الأصيلة ، وكثرت لهذا الغرض ، ويفيد ذلك قوله : «ملئت».

وآمنا بأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحراسة السماء أم أراد بهم ربهم رشدا وخيرا؟

وآمنا بأنا منا الصالحون ، أى : في أنفسهم ، الطيبون في المعاملات مع غيرهم ، المائلون للخير بطبعهم ، ومنا غير ذلك ، وهم كثير ، كنا طرائق مختلفة حيث وكلنا إلى أنفسنا.

وآمنا بأنا لن نعجز الله ولن نفلت منه أبدا أينما كنا في الأرض ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء ؛ فالكل في قبضته وتحت تصرفه.

وآمنا بأنا سمعنا الهدى ، أى : القرآن فآمنا به من غير تلعثم وتردد فمن يؤمن بربه وبما أنزله ـ عزوجل ـ فلا يخاف نقصا ولا يخاف ظلما إذ لا يظلم ربك مثقال ذرة. وفي الواقع أن ربك لا يظلم أحدا بل الكل يأخذ جزاءه ، لكن نصت الآية على أن المؤمن لا ينقص من حسناته! ولا يبخس شيء من عمله.

وبعد سماع القرآن آمنا بأنا منا المسلمون ، ومنا القاسطون الجائرون على طريق الهدى ، فأما المسلمون المهذبون فأولئك قوم توخوا العدل والحق وقصدوه واتبعوه وآمنوا وعملوا : وأما القاسطون الجائرون عن سنن الحق والعدل والكرامة التي هي سنن الإسلام فأولئك مأواهم جهنم بل كانوا لها حطبا ووقودا.

تلك حقائق إسلامية أوردها القرآن على لسان الجن فكانت دواء لكثير من أمراضنا وتصحيحا لكثير من أفهامنا.

٧٦١

توجيهات إلهية للرسول عليه‌السلام

وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)

المفردات :

(عَلَى الطَّرِيقَةِ) : على ملة الإسلام. (غَدَقاً) : كثيرا نافعا. (لِنَفْتِنَهُمْ) لنختبرهم فيه. (يَسْلُكْهُ) : يدخله. (صَعَداً) يعلو المعذب فيه ، وقيل : شاقّا

٧٦٢

(الْمَساجِدَ) : أماكن السجود ، والمراد المواضع المعدة للعبادة والصلاة. (لِبَداً) : جمع لبدة ، مأخوذة من تلبد القوم : إذا تجمعوا ، وعليه قولهم : لبدة الأسد للشعر المتراكم حول عنقه. (يُجِيرَنِي) : ينفعني ويدفع عنى. (مُلْتَحَداً) أى : ملتجأ ألتجئ إليه ، أو حرزا أتحصن به. (أَمَداً) : زمنا بعيدا. (يَسْلُكُ) المراد : يقيم ويثبت. (رَصَداً) : حراسا وحفظة.

المعنى :

قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن ، وأوحى إلى أن الحال والشأن لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام التي هي الطريقة المثلى ، الطريقة المحكمة التي فيها خير الدنيا والآخرة ، أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء كثيرا مباركا فيه (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ٩٦](وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [سورة المائدة آية ٦٦].

لو استقام الخلق لأتتهم الدنيا وكثرت أرزاقهم ، ثم أتت مرحلة أخرى هي مرحلة الاختبار والابتلاء ليظهر أهم من الشاكرين أم من الذين يكفرون بالنعم! وهذا معنى قوله تعالى : لنفتنهم فيه ، ومن يعرض عن ذكر ربه ، ولا يقبل على عبادته فإنه يدخله عذابا يعلوه ويكون هو فيه ، عذاب ـ والعياذ بالله ـ شديد وبئس هذا المصير.

وأوحى إلى أنه لما قام عبد الله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الناس إلى الخير وإلى الهدى والنور ، لما قام يدعوه كادوا ـ أى : الإنس والجن ـ يكونون عليه متراكمين متكتلين ليطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن ينصره ويظهر دينه ولو كره المشركون وقد كان ذلك كذلك.

قل لهم يا محمد : ما لكم! وماذا فعلت! إنما أدعو ربي وأعبده وحده ولا أشرك به شيئا ؛ فليس هذا بأمر يضركم أو يدعو إلى ما تفعلون.

قل لهم : ما لكم تقفون منى هذا الموقف!! إنى لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ، والذي يملك ذلك هو الله ، فلم أكن مقصرا في حقكم في شيء!

٧٦٣

قل لهم : وماذا أعمل لو لم أدعكم إلى الخير فعاقبنى الله بالسوء!! إنى لن يجيرني من الله أحد ، ولن يدفع عنى العذاب أحد ، ولن أجد من دونه ملتجأ فأنا مكلف ومأمور بهذا العمل من الله ، ولو تأخرت لعاقبنى ؛ فما لكم تفعلون معى هذا!!

قل لهم : إنى لا أملك لكم شيئا إلا أن أبلغ بلاغا جاءني من الله لكم ، هذا البلاغ هو القرآن الذي يهدى إلى التي هي أقوم ، إلا بلاغا من الله ورسالاته التي هي أوامره ونواهيه الدينية فمن سمع البلاغ ووعاه ، وامتثل جميع الأوامر والنواهي ، وتقبل الرسالات الإلهية وتدبرها كانت له الجنة خالدا فيها أبدا.

ومن يعص الله ورسوله في رسالاته وبلاغه ، فيعرض عن سماعها وتدبرها والعمل بها فإن له نار جهنم خالدا فيها جزاء وفاقا لتكذيبه وإعراضه وسوء صنيعه.

ولا يزال المشركون سائرين في ضلالهم مغرورين بأنفسهم وبقوتهم ، ويستهزئون بك وبوعيدك وبمن معك حتى يروا العذاب ، فإذا رأوه فسيعلمون من هو أضعف ناصرا ، ومن هو أقل عددا ، وسيعلمون أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا!! فاحذروا يا آل مكة هذا.

وكان المشركون حينما يسمعون هذا التهديد بالعذاب يوم القيامة ينكرونه ويستهزئون به فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : ما أدرى وقت هذا العذاب ، أما نفس العذاب فواقع لا محالة ، غير أنى لست أدرى أقريب هو أم بعيد؟ قد جعل له ربي زمنا طويلا.

هو عالم الغيب وحده ، لا يطلع على غيبه أحدا ، إلا من ارتضاه من رسول فإنه يطلعه على بعض غيبه مما يحتاج إليه في رسالته ويكون من الخير الاطلاع عليه ، أما غير ذلك فلا يرقى إلى غيبه مخلوق من إنس أو جن أو ملك ، وكيف يكون ذلك؟ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [سورة الأنعام آية ٥٩].

والخلاصة : أن الله عنده علم الغيب ، ولا يطلع عليه أحدا من خلقه إنسيّا كان أو جنيّا حكيما أو كاهنا أو غيرهما ، إلا من ارتضى من رسله الذين هم أصحاب الشرائع السماوية ، فإن الله أطلعهم على بعض غيوبه فكانت التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وما فيهم. ذلك هو الغيب الذي أطلع الله عليه بعض خلقه بواسطة الوحى به على لسان الأمين جبريل (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [سورة التكوير آية ٢٤] فالمراد بالغيب القرآن ، أى : ما هو بمتهم عليه حتى يتصور أنه غير أو بدل.

٧٦٤

ويريد الله أن يعلمنا أن هذا الغيب وصل إلى الرسل عن طريق محكم جدّا ، وبلغه الرسل بأمانة ودقة وحكمة ، لم يكن معه نسيان أو إهمال أو خطأ في شيء ، ألا ترى قوله : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) فإنه يسلك من بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا شديدا يحفظونه من الوساوس والاختلاط ، والذهول والنسيان حتى لا يترك بعض ما أوحى إليه أو يقصر في تبليغه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [سورة القيامة آية ١٧] وهذا ما يسمى في عرف علماء التوحيد بالأمانة والعصمة.

كل ذلك ليعلم ربك علم ظهور وانكشاف ـ أى : يتحقق هذا في الخارج ويشاهده الجميع ـ أن قد أبلغوا ـ أى : الرسل ـ رسالات ربهم ، أو ليعلم أن قد أبلغ جبريل زعيم الملائكة رسالات ربهم ، والحال أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أحاط بما لديهم كله إحاطة العليم الخبير ، الناقد البصير ، وأحصى كل شيء من هذا الكون حالة كونه معدودا مميزا عن غيره ، فهل يعقل أن يتطرق إلى الرسل شك في زيادة أو نقص (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)! [سورة الحجر آية ٩].

وانظر إلى ختام السورة ، بإبراز الغيب الإلهى محاطا بسور لا يقربه إلا المرتضى المختار من الرسل الكرام ، أما الجن والكهان ومن يدعى علم الغيب فأولئك كذبة فجرة ، لا يعرفون أنفسهم ..

٧٦٥

سورة المزمل

وهي مكية كلها ، ويرى بعضهم أنه يستثنى من ذلك آخرها ، وعدد آياتها عشرون آية ، وتشمل : إرشادات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقوية جسمه وروحه حتى يقوى على تحمل الرسالة ، ثم أمره بالصبر وترك المشركين مع تهديدهم بأنواع التهديدات.

إرشادات إلهية لزعيم الدعوة الإسلامية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ

٧٦٦

فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)

المفردات :

(الْمُزَّمِّلُ) : المتلفف بثيابه ، يقال : تزمل وتدثر ، ثم قلبت التاء زايا في المزمل. ودالا في المدثر. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) المراد : اقرأ بتثبت وتؤدة. (ثَقِيلاً) : شاقّا. (ناشِئَةَ) : ما يحدث فيه ويتجدد ، مأخوذ من نشأ إذا حدث وتجدد. (أَشَدُّ وَطْئاً) : أصعب وقعا. (وَأَقْوَمُ) : أعدل. (سَبْحاً طَوِيلاً) : عملا كثيرا سريعا ، وأصل السبح : العوم على وجه الماء ، أو سرعة الجري ، ثم استعمل في العمل السريع الكثير. (وَتَبَتَّلْ) ، انقطع إليه انقطاعا. (وَذَرْنِي) : اتركني. (النَّعْمَةِ) : التنعم والترفه. (أَنْكالاً) : جمع نكل وهو القيد الثقيل. (ذا غُصَّةٍ) : ما أعده الله في تلك الدار من طعام منكر فظيع. (تَرْجُفُ الْأَرْضُ) : تضطرب وتتزلزل. (كَثِيباً) : تلّا من رمل متناثر جمعته الريح بعد تفرق. (مَهِيلاً) : هو ما إذا تحرك أسفله سال من أعلاه وتتابع. (وَبِيلاً) : ثقيلا شديدا. (مُنْفَطِرٌ) : متصدع ومتشقق. (تَذْكِرَةٌ) : عبرة وعظة.

أعد الله نبيه الكريم لتحمل أضخم رسالة في الوجود ، الرسالة العامة إلى جميع الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولكنه بشر بينه وبين الملك تنافر في الطبيعة المادية ، لذلك اضطرب وخاف عند أول لقاء وذهب إلى خديجة كأنه محموم ، وقال : زملوني زملوني!! وما علم أن هذا الذي لقيه في الغار هو جبريل الذي نزل على موسى وعيسى ، وكانت هذه الرسالة إلى قوم وثنيين مشركين ومتعصبين مقلدين ، وكان النبي يعرف عنهم ذلك فكان كأنه يخشاهم ، ويشعر بخطورة هذه الدعوة في هذا المجتمع! فناداه الله بهذا النداء وبقوله في السورة الأخرى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) من باب الملاطفة والملاينة وتأنيسا على عادة العرب في اشتقاق اسم من صفة المخاطب التي هو

٧٦٧

عليها ، وكانت هاتان السورتان ـ المزمل والمدثر ـ من أوائل القرآن نزولا ، ويروى أن الوحى لما نزل على النبي للمرة الثانية وجده متزملا في قطيفة فقال له : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ) وجاءه مرة أخرى وكان متدثرا فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ).

المعنى :

يا أيها المزمل ـ المتلفف بكساء وقد اضطجع في ركن داره ـ قم الليل إلا قليلا منه وهو نصفه (١) أو انقص منه قليلا بحيث يزيد على الثلث ، أو زد عليه قليلا بحيث لا يزيد على الثلثين ، فالنبي ـ عليه‌السلام ـ أمر بأن يقوم من الليل ساعات تتراوح بين الثلث والثلثين ، وهو التهجد (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [سورة الإسراء آية ٧٩].

يا أيها المزمل : دع ما أنت فيه وانشط لقيام الليل والصلاة فيه ، وقراءة القرآن وترتيله وتدبر معناه.

هذا خطاب للنبي ويدخل معه في ذلك أمته وخاصة أصحاب الدعوات والمبادئ والأفكار ، والشارع الأعظم يقصد بهذه الإرشادات والتوجيهات التربية الإسلامية الكاملة ، تربية الجسم وتعويده على تحمل المشاق والمكاره ، وتربية النفس بسموها وبعدها عن شوائب المادة وقوتها بحيث تحكم على الجسم ونوازع الشر فيه ، إذ لا شك أن قيام الليل شاق على النفس لكنه يؤدبها ويهذبها ، ويعودها الصبر ، وهو كذلك مما يقوى الأجسام ويساعدها على العمل والثبات في معترك الحياة.

والنبي ـ عليه‌السلام ـ تنتظره في دعوته مشاق ومتاعب وتكاليف ، ودرعه الواقي في ذلك هو تعويد جسمه على تحمل المشاق ، وتقوية روحه بالعمل الصالح وتلاوة القرآن ، يا ليت قومي يعلمون ذلك فيعملون على تحقيقه ، ويفرحون لإرادة الله ذلك لهم.

__________________

١ ـ هذه إشارة إلى أن (نصفه) بدل من (قليلا) ووصفه بالقلة إشارة إلى أن النصف الذي أحياه بمنزلة الكل.

٧٦٨

يا أيها المزمل : قم الليل إلا نصفه أو قلل منه قليلا أو زد عليه قليلا ، ورتل القرآن في تهجدك ترتيلا ، واقرأه بتثبت وتدبر ، وتؤدة وتأن فإن القرآن جلاء القلوب ، وحياة النفوس.

ولقد امتثل النبي أمر ربه ، وتأدب بأدب القرآن ، وسهر الليل وجاهد النفس واقتدى به أصحابه حتى شحبت ألوانهم وضعفت أجسامهم وتورمت أقدامهم حتى كأنهم تخطوا الحدود المرسومة ؛ فأنزل الله (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى).

ولقد أخذ القرآن يذكر سبب هذا الأمر فقال ما معناه : يا محمد إنك تحمل أكبر رسالة ، وتدعو الناس إلى أضخم دعوة : دعوة الحق والحرية والكرامة. وسيكون لك أعداء ، وسيكون لمن يدعو بدعوتك أعداء ، لهذا أمرناك بإعداد نفسك وجسمك إلى تحمل هذه الرسالة ، إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقعه شديدا وطؤه على الكفار والمشركين ، ولا ينفع هذا إلا تقوية الجسم والروح ، وتدبر القرآن وتفهم معناه.

وكأن سائلا سأل شاكا في أن قيام الليل وتدبر القرآن مما يساعد على تحمل مشاق الدعوة ، فقال : إن ما حدث في الليل من قيام وصلاة وقراءة قرآن وتدبر له هو أشد وطئا ، وأصعب على النفس الإنسانية ، وهذا بلا شك مما يساعدها على تحمل المشاق ويقويها فتصبر على المكروه ولا شك أن الليل حيث السكون والصفاء مما يساعد على تدبر القرآن وتفهم معناه.

إن لك في النهار عملا كثيرا متواصلا سريعا فلم يبق إلا الليل ، فاغتنم جزءا منه يكن لك خير كثير وفضل كبير.

واذكر اسم ربك وتوكل عليه وحده ، وانقطع عما سواه فلن ينفعك غيره ، وهكذا المؤمن الكامل لا يتوكل إلا عليه ولا يعتمد على سواه ، ولا ينقطع عن كل ذلك لأنه رب المشرق والمغرب وما بينهما ، لا إله غيره ، وكيف يكون غير ذلك؟! وكل ما في الكون شرقه وغربه شاهد عدل على وحدانية الله ، وأنه لا إله غيره ، ولا معبود سواه ، إذا كان الأمر كذلك فاتخذه وكيلا ، واعتمد عليه وحده في دعوتك الخلق إلى الإسلام ..

٧٦٩

وسيصادفك ـ وكل من يدعو بدعوتك إلى يوم الدين ـ ما تكره من أذى الناس والعلاج في ذلك هو الصبر ـ إنه سلاح المؤمن وعدة المسلم ـ والهجر الجميل ؛ وانظر إلى علاج القرآن حيث جعل دعامته الصبر والسلوان والهجر الجميل.

أما المكذبون المغرورون أولو النعمة والترف فالله يقول فيهم : ذرني والمكذبين أولى النعمة والترف وأمهلهم قليلا فإن للكون سنة لا تختلف ، إن عاقبة هؤلاء المكذبين المغرورين سيئة ، والله يمهل قليلا ولا يهمل. هذا في الدنيا أما في الآخرة فالله يقول : إن لدينا أنكالا وقيودا ثقالا ، وجحيما أعدت لهم وطعاما ذا غصة وهو طعام الزقوم ، الطعام البشع الكريه التي تغص منه النفوس ، وبعد هذا كله فهناك عذاب أليم لهم للغاية.

اذكر يوم ترجف الأرض وتضطرب وتتزلزل الجبال وتتحرك حتى تكون تلّا من الرمل كثيبا مهيلا ، وليس هذا الاضطراب في الأرض فقط بل فيها وفي السماء (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (١) ، (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (٢).

ولقد أخذ القرآن يهددهم بما حل بغيرهم وكانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فقال : إنا أرسلنا إلى فرعون رسولا هو موسى ، فعصى فرعون وقومه رسولهم فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر. حيث أغرقهم ونجى موسى ومن معه.

إذا كان الأمر كذلك فكيف تتقون ـ إن دمتم على كفركم ـ يوما شديد الهول : يوما يجعل الولدان من شدة أهواله شيبا ، والسماء في هذا اليوم تنفطر وتتشقق بعد أن كانت آية في الإحكام والدقة (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٣) كل ذلك كان وعده مفعولا.

إن هذه الإرشادات والتوجيهات التي سيقت في تلك الآيات تذكرة وعظة ، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا هو الإيمان والتمسك بالقرآن ، وتعود الصبر والسلوان ...

__________________

١ ـ سورة التكوير الآيتان ١ و ٢.

٢ ـ سورة الانشقاق الآية الأولى

٣ ـ سورة الملك آية ٣.

٧٧٠

ذلك تخفيف من ربكم ورحمة

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)

المفردات :

(أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) المراد : أقل منه. (لَنْ تُحْصُوهُ) : تطيقوه. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) : رجع بالتيسير عليكم.

المعنى :

هذه الآية ترجع إلى أول السورة حيث كان الأمر فيها للنبي ـ وكذلك صحبه ـ بأن يقوم ساعات طوالا من الليل تتراوح بين الثلث والثلثين ، وقد امتثل النبي لذلك بل وبولغ في هذا كما سبق ، وبعد عشر سنين من هذا الأمر نزل التخفيف على الأمة وانتقل الأمر من الواجب إلى المباح ، فلقد خفف الله عن الأمة الإسلامية حيث اتسع العدد وأصبح فيها المريض وذو الحاجة والمسافر والمقاتل ، وهؤلاء بلا شك لا يطيقون القيام فجعله الله مندوبا ، من شاء فعله فاستحق ثوابه ، ومن شاء ترك هذا الفضل الكبير والله هو العالم بكل شيء.

٧٧١

إن ربك يعلم أنك قمت وامتثلت أمر ربك أنت وطائفة من قومك. قمتم أدنى من ثلثى الليل ، وقمتم نصفه ، وثلثه ، وكان معك صحبك ، والمراد بالعلم أن الله سيجازيك على ذلك أحسن الجزاء.

والله وحده هو الذي يقدر الليل والنهار ، وهو الذي يعلم المصلحة ، وقد علم أن المدة السابقة كافية للتربية الإسلامية ، وقد جاء معكم ناس لا يستطيعون ذلك العمل ، فالله علم أنكم كجماعة لن تطيقوا قيام الليل على سبيل الواجب ، أما كأفراد فمنكم من يقدر وأكثركم لا يقدر ، والأحكام الشرعية تبنى على الأعم الأغلب.

فالله قد رجع عليكم بالتيسير والتخفيف منذ أن رجعتم إليه بالشكوى والدعاء ، فاقرأوا ما تيسر من القرآن في قيام الليل أو في الصلاة في ساعة من ساعات الليل. علم الله أن الحال والشأن سيكون منكم مرضى ضعاف ، لا يستطيعون قيام الليل ، وآخرون منكم مسافرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله بالتجارة والسعى على تحصيل الرزق من طريق الحلال ، وآخرون يقاتلون في سبيل الله ، هؤلاء وهؤلاء لا يستطيعون قيام الليل ، فالله خفف عنكم فاقرأوا ما تيسر منه ، وأقيموا الصلاة كاملة الأركان مستوفاة الشروط ، وآتوا الزكاة ، أى : الزكاة الواجبة بناء على أن هذه الآية نزلت بالمدينة أو هي زكاة الفطر ، أو مطلق إنفاق على أن السورة مكية ، وأقرضوا الله قرضا حسنا فالله غنى قادر سيجازيكم على الدرهم عشرا بل ربما ضاعفه إلى سبعمائة ضعف ، فأقرضوه يكن خيرا لكم وأفضل ، وما تقدموا لأنفسكم من خير مطلقا تجدوا ثوابه عند الله كاملا ، وتجدوه عند الله هو خيرا مطلقا من العمل مهما كان صعبا ، وأعظم أجرا ، واستغفروا الله على ما فرط منكم فإن من أمراض القلوب الرياء وحب السمعة ، وكثيرا ما كان ذلك في الصدقة ، فاستغفروا الله مما يكون قد حصل ؛ إن الله غفور رحيم.

٧٧٢

سورة المدثر

وهي مكية كلها عند بعضهم ، وقال بعضهم هي مكية إلا آية (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ...) وعدد آياتها ست وخمسون آية وهي تشمل إرشادات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتاج إليها في دعوته ، ثم تهديد زعيم من زعماء الشرك ، وتطرق الكلام إلى وصف جهنم ومن فيها ، وهذه السورة والتي قبلها متشابهتان إلى حد ما ، فالأولى في إعداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كداعية ، والثانية ترشده إلى ما به ينجح في دعوته.

توجيهات نافعة للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)

المفردات :

(الْمُدَّثِّرُ) : لابس الدثار ، وهو ما فوق الشعار الذي يلبس فوق الجسد مباشرة. (وَثِيابَكَ) المراد : قلبك ونفسك. (وَالرُّجْزَ) : هو العذاب والمراد هنا أسبابه. (نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) : نفخ في الصور. (لا تَمْنُنْ) المراد : لا تعط مستكثرا.

٧٧٣

المعنى :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول اتصاله بالوحي ولقائه له يتأثر بذلك كثيرا ، وكان يتزمل بعده ويتدثر ، حتى انقطع عنه الوحى حينا ثم جاءه على شوق منه إليه ، وربما كان هذا التخلف ليهدأ روعه وتسكن نفسه ، وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصيبه من أذى قومه ما يجعله يعتزل مجتمعهم مفكرا ويجلس متدثرا بدثاره في بيته ، فجاءه الوحى يحضه على ترك العزلة ، وعلى التشمير للدعوة.

يا أيها المدثر الذي اشتمل بدثاره كمن لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن ، والمستغرق في أفكاره ، والمتهيب للقاء الوحى : قم نشيطا من مضجعك ، ولا تجعل لليأس سبيلا إلى قلبك ، فإن العناية الإلهية أعدتك لرسالة سامية خالدة ، ولنشر دين عام هو خاتم الأديان ، قم فأنذر الناس بذلك الدين ، وخوفهم عاقبة الكفر به ، هذه الرسالة التي كلف النبي بها ، والتي جاءت لتهدى الناس إلى الطريق الحق ، وتجعلهم يعبدون الله الواحد الأحد بعد الأصنام والأوثان والصاحبة والولد ، ليست بالأمر الهين السهل ، تصور أنك تحاول أن تقنع شخصا بترك ما يعتقده وورثه عن آبائه .. لذلك أرشد الله نبيه إلى طريق النجاح في تلك الدعوة الإسلامية ، وإنها لأسلحة جبارة لو استخدمت استخداما صحيحا لكسب صاحبها المعركة وهي :

١ ـ (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) نعم مهما يكن من شيء فكبر (١) ربك وحده ، ولا تشرك به غيره ، وخلص عقلك من أوهام الشرك وعبادة ما لا ينفع بل يضر.

٢ ـ (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال ، ولذلك قالت العرب : فلان طاهر الثوب أو طاهر الجيب ، يريدون بذلك وصف نفسه بالنقاء من المعايب وسىء الأخلاق ، ولا غرابة في ذلك إذ الثياب مما يلازم الإنسان في جميع أطوار حياته. وقد يطلقون الثياب ويريدون ذات النفس أو القلب ، وعليه قول عنترة.

فشككت بالرمح الأصم ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

__________________

(١) وهذا إشارة إلى أن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر ، وهكذا كل فاء آتية هنا.

٧٧٤

٣ ـ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أى : اترك كل ما يؤدى بك إلى العذاب من المعاصي والآثام ، وحرر جوارحك من كل ما يغضب ربك.

ألست معى في أن هذه الكلمات جمعت أمهات الفضائل؟ كتحرير العقل من ربقة الشرك وتقويم النفس بكريم الخلق. وإصلاح البدن والروح بهجر المآثم والمحارم.

وهذه الأوامر من باب (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أى : دم على ما أنت عليه من العبادة الكاملة ، ومن تحلى نفسك بالخلق الشريف ، ومن هجرك لكل ما يغضب الله.

٤ ـ هذه صفة مهمة تستحق الإفراد بالذكر وهي : الجود وعدم البخل واستكثار العطاء فإن البخل وشح النفس مما ينفر الناس عن صاحب الدعوة ، حقيقة الجود مما يدخل في قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ولكنه خص بالذكر لأثره المهم في جذب قلوب الناس فحقّا صدق الله (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أى : لا تعط عطاء مهما كان كثيرا وأنت تقدر في نفسك أنه كثير ، بل اعتقد أنه قليل ، وأعط عطاء من لا يخاف الفقر بحال.

٥ ـ (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أى : إذا كان الأمر كذلك وقد قمت بالواجب عليك واتبعت نصائح ربك ثم وجدت من قومك إعراضا وتكذيبا وإيذاء فاصبر لأجل ربك ولتبليغ رسالاته ، وتلقين وحيه ، فإن الصبر هو عدة المسلم وطريق الوصول إلى ما يريد.

قم يا محمد فأنذر ، وبلغ رسالة ربك كلها ، وإن لم تفعل هذا فما بلغت رسالته ، والله عاصمك من الناس ، فإذا أبوا إلا التكذيب ، فاعلم أن وراءهم يوما ثقيلا ، يوما عبوسا قمطريرا ، فإذا نقر في الناقور ونفخ في الصور فذلك ـ يوم إذ يحصل هذا ـ يوم عسير جدّا شديد على الكافرين غير يسير.

ما يلاقيه زعماء الشرك

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ

٧٧٥

أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١)

المفردات :

(ذَرْنِي) : دعني واتركني. (مَمْدُوداً) : مبسوطا موسعا. (شُهُوداً) : حضورا لا يفارقونه. (مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) بسطت له الدنيا بسطا. (كَلَّا) : كلمة ردع وزجر. (عَنِيداً) : معاندا له ومكابرا. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) : سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا كصعوبة من يحاول صعود جبل صعب. (قَدَّرَ) : هيأ الأمر في نفسه ودبره. (عَبَسَ وَبَسَرَ) العبوس : تقلص عضلات الوجه أو الحاجبين عند ألم أو حزن ، والبسور أشد من العبوس. (سَقَرَ) : اسم من أسماء جهنم ، وهو من : سقرته الشمس : إذا لوحته وآلمته. (فِتْنَةً) : ابتلاء واختبارا. (وَلا يَرْتابَ) : ولا يشك. (مَرَضٌ) : شك ونفاق. (مَثَلاً) المثل : هو القول السائر على ألسنة

٧٧٦

الخلق ، ويكون في أمر عجيب وشأن خطير ، والمراد أن عدد الخزنة أمر عجيب كالمثل. (جُنُودَ رَبِّكَ) : أنصاره وأعوانه ، والمراد هنا : صنف من الخلق. (ذِكْرى لِلْبَشَرِ) : موعظة وعبرة.

المعنى :

لقد رسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ الخطوط لنجاح الدعوة المحمدية باستكمال العقل وتحرره من الشرك ، وباستكمال النفس بالخلق الكامل والمثل العليا ، وبتطهير الجوارح والروح بالبعد عن المعاصي والمحارم ، ولقد ذكر صفتين لهما وضع خاص ، هما الجود والصبر ، وبعد ذلك بين ما يلاقيه الكفار يوم القيامة ، ثم أراد أن يشجع الرسول على التبليغ فذكر أحد زعماء الشرك وتوعده بسقر التي هي لواحة للبشر ، هذه هي دعائم نجاح الرسول في دعوته ، وتلك سنة الله في الدعوات كلها لا يستقيم لها أمر إلا بهذا.

ذرني ومن خلقته وحدي بلا شريك معى ، اتركه لي وثق أنى قادر عليه ؛ لقد خلقته وحيدا لا مال له ولا ولد ولا حول له ولا قوة ، حتى إذا أنعمت عليه بالمال والولد قام يكفر بي ويكذب رسلي ، لقد مهدت له الدنيا ووسعتها عليه توسيعا ، ثم بعد ذلك يطمع أن أزيده من نعمى ، أو ثم يطمع أن أزيده فأرسله رسولا!! كلا إنه كان لآياتنا القرآنية معاندا ومكابرا ، وماذا يكون جزاؤه؟ سأرهقه صعودا ، أى : سأحمله من العذاب نوعا شاقاّ عليه تضعف عنه قوته كما تضعف قوة من يصعد في الجبل في طريق وعر ، وكأن سائلا سأل : كيف كانت حالته في معاندة الآيات حتى استحق هذا العذاب؟ فأجيب : إنه فكر فيها وقدر ، وهيأ في نفسه أمرا وأجال فيها رأيا يقوله ليرضى الباطل وأهله.

فقتل كيف قدر؟ ثم قتل كيف قدر؟ وهذا كما يقولون : قاتله الله ما أشجعه! في معرض التعجب والاستعظام مدحا للشخص الذي يقولون فيه هذا الكلام ، وكأنه بلغ حدا يجعل حساده يقولون له هذا ، ثم شاع هذا الاستعمال حتى صار يقوله كل معجب بشخص أو كل محب له ، أما العبارة في الآية فليس المقصود منها المدح ، وإنما هي للتعجب المشوب بالذم ، أو المدح الذي فيها للتهكم والاستهزاء ، ثم بعد أن فكر وقدر نظر في جمهور النادي نظر المفكر الساهم ، ثم قطب وجهه وقلص عضلات حاجبيه واشتد ذلك التقطيب متهيئا للكلام والحكم القطعي في شأن الرسول والقرآن.

٧٧٧

ولما كان قوله محض افتراء ، ونهاية الإعراض عن الحق والإيمان ، وكان ناشئا عن كبر وغمط للحقوق عبر عنه القرآن بقوله : ثم أدبر واستكبر ، فماذا قال؟ قال : إن الكلام الذي سمعته ما هو إلا سحر يؤثر عن السحرة من البابليين والآشوريين والمصريين ، ثم أكد رأيه بأنه سحر معروف وليس من كلام الله بقوله : ما هذا إلا مثل قول البشر الذين عاشوا في القرون الماضية.

ما جزاء هذا؟ سأرهقه صعودا ، سأصليه سقر (١) وما أدراك؟ ما سقر (٢)؟ أى شيء أعلمك ما سقر؟ وهذا استفهام يراد به التعجب من هول سقر ، وأنه مهما فكر فيها المفكر لا يمكنه أن يعرف من أمرها إلا ما عرفه الوحى من أنها لا تبقى على شيء يلقى فيها إلا أهلكته ، ولا تذر أحدا من الفجار يفلت منها ، وهي لواحة للبشر تجعل أجسامهم قطعا سوداء متغيرة ، عليها تسعة عشر ، وهم خزنتها الموكلون بخدمتها وهل هم تسعة عشر ملكا أو صنفا أو صفا أو نقيبا؟ الله أعلم بذلك ، وليس لنا أن نبحث في ذلك بعد قوله تعالى : وما أدراك ما سقر؟ على أن المخاطب بذلك سيد البشر.

وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، أى : ليسوا بشرا ، وهذا رد على من قال : سأكفيكم هذه الآية : ثكلتكم أمهاتكم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء!! فيرد الله عليهم : ليس هؤلاء بشرا بل هم ملائكة ، فاسألوا عنهم عادا وثمود وأهل قرى قوم لوط ، فإنهم يعرفون الملائكة وقوتهم.

وما جعلنا عدتهم ـ تسعة عشر ـ إلا ابتلاء واختبارا للناس ، وكانت فتنة وضلالا وإعراضا عن الحق ، حيث كفر المشركون بهذا وضلوا ، فكانت عاقبة أمرهم ضلالا وإعراضا. أما المؤمنون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسلمين وأهل الكتاب فازدادوا يقينا على يقينهم ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون بل هم متيقنون ، وكان ذلك ليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق كالمنافقين ، وليقول الكافرون بالوحي : ماذا أراد الله بهذا؟ أى : ماذا أراد الله بهذا القول ـ عدتهم تسعة عشر ـ الذي يشبه المثل في الغرابة والبداعة؟ فيخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر.

__________________

(١) تعرب هذه بدلا من الأولى بدل اشتمال.

(٢) ما أدراك (ما) مبتدأ و (أدراك) خبر ، وجملة (ما سقر) ساد مسد المفعول الثاني لأدرى ، وإعرابها خبر مقدم وسقر مبتدأ مؤخر.

٧٧٨

مثل ذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء ، ويهدى من أراد لهم ذلك لأنهم على استعداد للخير أو الشر ، وقد ساروا بمحض اختيارهم في أحد السبيلين.

وما يعلم جنود ربك إلا هو ، نعم لا يعلم خلقه إلا هو ، وجنود ربك التي هي وسائط في تنفيذ إرادته وأحكامه من الأمور الغيبية التي نؤمن بها فقط.

وما سقر ووصفها بهذا إلا ذكرى وموعظة للبشر ، فيخافون ربهم ويبتعدون عن عقابه وعذابه ، أما حقيقتها فشيء لا يعلمه إلا الله.

يكاد المفسرون يجمعون على أن قصة التهديد السابقة نزلت في الوليد بن المغيرة فإنه كان كثير المال والولد عظيم الجاه قوى النفوذ ، وكان له عشرة أولاد يحضرون مجلسه لكبر سنهم ورجاحة عقولهم ، ويقيمون معه لا يغادرون مكة لغناهم وثرائهم.

ولما اشتد الأمر رأى زعماء الشرك أن دعوة النبي محمد آخذة في الانتشار ، وأن محمدا سيجتمع بوفود العرب وسيكلمهم في الإسلام. اجتمعوا للتشاور فيما يقولون ليردوا به العرب عن الإسلام ، فقال قائل : نقول : إنه شاعر ، وقال آخر : لا ، إنه كاهن ، وقال ثالث : لا ، إنه مجنون ، وقال رابع : لا ، إنه كذاب! كل هذا والوليد يسمع ولا يتكلم فقالوا له : ما لك لا تتكلم؟؟ فقال : لقد سمعت محمدا يقرأ كلاما ما هو بكلام الإنس ولا الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر. فكان لهذا الكلام وقع شديد على المجتمعين ، وقالوا : لقد صبأ الوليد ـ أى : ترك دين آبائه وأجداده ـ ولتصبأن معه قريش ، وتفرق الجمع وكلهم حزين أسيف.

ولكن أبا جهل ذهب لدار الوليد يحتال عليه وأخذ يكلمه بكلام يثير فيه الحمية الجاهلية ، والنخوة الكاذبة فقال له : لقد تركنا قريشا تجمع مالا حتى تكفيك تعرضك لمحمد وماله ، فقال الوليد : لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا ، فهل أنا محتاج لكسر محمد اليتيم؟ قم بنا إلى دار الندوة ، ولأقول كلاما أصحح به وضعي.

اجتمع الناس فقال الوليد : إن محمدا ليس بشاعر ، ولا كاهن ، ولا كاذب ـ لقد وصف القرآن الوليد في تلك اللحظة الرهيبة وصفا دقيقا جدّا ـ فقال :

٧٧٩

إن الوليد فكر وقلب وجوه الرأى فيما يقوله ، وقدر الرأى وقلبه على وجوهه ثم قاطعه الوحى بقوله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) معجبا من أمره ناعيا عليه سوء فعله ، ثم نظر الوليد في القوم بعد تفكيره ، ثم عبس وبسر ، أى : قطب حاجبيه تقطيبا شديدا ، وقال لهم : إنه ساحر ؛ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، ففرحت قريش بذلك فرحا شديدا. واغتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحزن ورجع إلى بيته ، وتدثر بدثاره وجلس ، فكانت هذه السورة ، وأمره الله أن يدع الوليد ومن على شاكلته فالله يكفيكه في الدنيا ، وليعذبنه عذابا شديدا في الآخرة بنار هي سقر تسود الوجوه وتشوى اللحم ... إلخ ما في الآيات.

سقر ومن فيه

كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ

٧٨٠