التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

ومن هنا نعلم أن الإيمان وحده ـ وهو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله ـ لا يكفى بل نحتاج معه إلى تقوى الله ، وإن كان الإيمان الكامل جامعا لكل شيء ، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يرشدنا هنا إلى أن المؤمنين هم أولى الناس بتقبل الوعظ وأنهم في حاجة قصوى إلى تقوى الله في كل وقت ، فإنى أسمع من بعض الناس يتشدقون بأنهم مسلمون وليسوا في حاجة بعد الذي هم فيه إلى شيء!

وإن تعلل بعض المؤمنين بأنهم من بيئة لا تقام فيها أحكام الله وفي بلد يسير على غير الطريق المستقيم فليس هذا عذرا فأرض الله واسعة (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١) وأنتم أيها المسلمون ستلاقون في حلكم وترحالكم وفي جميع أوطانكم بعض العنت والشدة من إخوانكم المواطنين ، ولا علاج لهذا كله إلا الصبر الذي يقضى على الشدائد ، ولكم الجزاء الأوفى على صبركم. إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

وأمر الله نبيه أن يقول لهم : إنى أمرت أن أعبد الله وحده مخلصا له ديني عبادة خالية من الشرك والرياء وحب السمعة ، أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان ما أمر به من الإخلاص في عبادة الله الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى والإخلاص مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه ، وتمهيدا لما يعقبه.

وأمرت لأن أكون أول المسلمين ، أى : المقدم في الشرف والعمل الكامل.

قل لهم يا محمد : إنى أخاف إن عصيت ربي أخاف عذاب يوم عظيم هوله ، شديد ألمه. وفي هذا تحذير للناس وأى تحذير؟! قل لهم : الله وحده أعبد مخلصا له ديني. وليس هذا تكريرا مع قوله : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) لأنه إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة مع الإخلاص : أما قوله : (اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) فهو إخبار بأنه أمر بألا يعبد أحدا غير الله (٢).

فاعبدوا ما شئتم من دونه. وهذا الأمر المقصود منه الزجر والتهديد ، وكأنه قال بعد هذا البيان السابق : فاعبدوا ما شئتم ؛ فأنتم أعرف بأنفسكم.

__________________

١ ـ سورة النساء آية ٩٧.

٢ ـ إذ تقديم المفعول ـ الله ـ يفيد الحصر.

٢٦١

قل لهم يا محمد : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بالشرك والمعاصي ، وخسروا أهليهم ، أى : أتباعهم حيث أضلوهم ، وأضاعوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. ألا ذلك هو الخسران المبين.

لهم من فوقهم ظلل من النار وطبقات تعلو رؤوسهم. ولهم من تحتهم ظلل. وتسميتها ظللا من باب المشاكلة. على أنها ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من النار.

ذلك العذاب الفظيع يخوف الله به عباده ليخافوا فيجتنبوا ما يوقعهم به. يا عبادي فاتقون ، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى وعذابي.

والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ، وأنابوا إلى الله لهم البشرى. والطاغوت هو الشيطان ؛ لأنه سبب الكفر والعصيان ، أو هو كل معبود دون الله. هؤلاء الذين تركوا عبادة الأوثان ، وخالفوا الشيطان لهم البشرى بالثواب من الله على ألسنة الرسل الكرام. فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله ووفقهم ، وأولئك هم أولو الألباب وأصحاب العقول السليمة.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١) لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على إنقاذ من في النار ، بل المالك والقادر على ذلك كله هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ فأنت ترى أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار يوم القيامة. وقد جعل حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام ، ويبالغ في تحصيل هدايتهم ، بمنزلة حال من ينقذهم من النار (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٥٦].

لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف مبنية من فوقها غرف تجرى من تحتها الأنهار. وعد الله المؤمنين بذلك وعدا كريما محققا. والله ـ سبحانه ـ لا يخلف وعده. ومن أصدق من الله حديثا؟!

__________________

(١) الهمزة للاستفهام الإنكارى ، والفاء للعطف على مقدر تقديره : أأنت مالك أمر الناس فمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟! والهمزة الثانية لتوكيد الأولى.

٢٦٢

هذه هي الدنيا

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)

المفردات :

(فَسَلَكَهُ) : أدخله (يَنابِيعَ) : جمع ينبوع ، وهو عين الماء (يَهِيجُ) : ييبس ، وقيل : يشتد (حُطاماً) : فتاتا مكسرا ، من تحطم العود : إذا تفتت.

المعنى :

وهذه هي الدنيا الفانية متاعها زائل ، وهي عرض حائل ، الملتحف بها لا يدفأ ، والمعتمد عليها معتمد على أوهى من بيت العنكبوت ، إنما مثلها كماء أنزله الله من السماء فسلكه ينابيع من الأرض وأرسل منه عيونا متفجرة أخرج بها زرعا مختلف الأشكال والألوان والأنواع ، ثم يهيج وييبس فتراه مصفرا ذابلا ، ثم يكون حطاما مكسرا وعصفا مأكولا ، إن في ذلك لذكرى ، ولكن لأولى الألباب.

نعم ، إن العاقل الذي ينظر إلى تلك المظاهر التي يمر بها النبات يعرف أن عمر الحيوان كذلك مهما طال ، وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [سورة القصص آية ٨٨] وهكذا الدنيا.

٢٦٣

النور وشرح الصدور بالقرآن

أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)

المفردات :

(شَرَحَ) : فتح وبسط (صَدْرَهُ) : المراد قلبه (نُورٍ) : هدى (مُتَشابِهاً) أى : يشبه بعضه بعضا في الحسن والدقة (مَثانِيَ) جمع مثنى ، والمراد تتكرر فيها القصص والمواعظ والأحكام (تَقْشَعِرُّ) الاقشعرار : التقبض ، يقال : اقشعر الجلد : إذا تقبض تقبضا شديدا ، والمراد : تضطرب وتتحرك بالخوف (الْخِزْيَ) : الذل والصغار.

٢٦٤

المعنى :

إنما يتذكر القرآن ، ويتعظ بالمواعظ الإلهية أولو العقول الصافية من المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب ، والذين شرح الله صدورهم للإسلام ، وهل هؤلاء الناس كمن انحرف عن الحق ، وضل عن سواء القصد؟ .. ليس كل الناس سواء ، فمن شرح الله صدره للإسلام ، وخلقه مستعدا لقبول الحق فبقى على فطرته السليمة (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فهو بسبب هذا متمكن من نور الحق مستقر على هدى الله ، أفمن شرح الله صدره ـ كما ذكرنا ـ كمن قسا قلبه ، وضاق صدره وغير فطرة الله بسوء اختياره وإعراضه عن آيات الله حتى لا يتذكر بها؟؟ لا يمكن أن يسوى هذا بذاك.

فويل شديد لمن قسا قلبه ، وضاق صدره من أجل ذكر الله ، الويل ثم الويل لهؤلاء الكفرة الذين إذا ذكر الله وحده أو تليت آية من آياته اشمأزت قلوبهم من أجل ذلك أولئك البعيدون في درجات جهنم في ضلال بيّن ظاهر.

عجبا لهؤلاء!! الله نزل أحسن الحديث ، وهو القرآن الكريم ، ولا شك أنه أحسن ما تحدث به الإنسان ؛ لأنه حديث الرحمن ، وهو ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد ، وعزيز عليهم ، وهل هناك أصدق من الله حديثا؟.

وروى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال : قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو حدثتنا؟ فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) فقالوا : لو قصصت علينا؟ فنزل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) فقالوا : لو ذكرتنا؟ فنزل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) فالله نزل على محمد أحسن الحديث وأكمله وأعلاه ، وما أروعه وأصدقه (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ)؟ (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ).

الله نزل أحسن الحديث حالة كونه كتابا موصوفا بصفات هي التشابه ، والمعنى أنه كتاب متشابه الأعجاز والأطراف ، متشابه في المعنى والغرض ، والصحة ودقة الحكم ، وتتبع منافع الناس ، فهو كما قالت الأعرابية في بنيها : هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فالقرآن كذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ كله حسن وجميل وبليغ ودقيق ، وكله من عند الله وكفى.

٢٦٥

وهو كتاب يشبه بعضه بعضا وتثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام ، أى : تعاد وتكرر بمنتهى البلاغة وروعة التصوير ودقة التعبير.

هذا وصفه في نفسه ، فإذا سمعه المؤمنون اقشعرت منهم الجلود ، واضطربت منهم القلوب ، ووجلت منهم النفوس ، إذا سمعوا وعيد الله ، ورأوا بعيون البصيرة ما أعد للمكذبين الكفار دمعت عيونهم وخشعت أصواتهم ، واقشعرت جلودهم ، ثم تلين قلوبهم وتسكن حينما يسمعون ذكر رحمة الله بالمؤمنين ، تفرح نفوسهم ، وتنشرح صدورهم إلى ذكر فضله على المؤمنين يوم لقائه.

عن أسماء بنت أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنهما ـ قالت : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرئ عليهم القرآن ـ كما نعتهم الله ـ تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم ، فقيل لها : فإن أناسا اليوم إذا قرئ القرآن خر أحدهم مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ومر ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ برجل من أهل القرآن ساقطا ، فقال : ما بال هذا؟ قالوا : إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط : فقال ابن عمر : إنا لنخشى الله وما نسقط .. ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ذلك ـ والإشارة إلى الكتاب الذي مر ذكر وصفه ـ هدى الله ، يهدى به من يشاء من عباده ومن يضلله الله فما له من هاد يهديه بعده ، ومن هنا ندرك أن القرآن وتلاوته وسماعه هو سر شرح الصدور ، والعامل الأول في جلاء القلوب وإزالة صدأ النفوس.

هل يستوي المهتدى إلى نور الحق والضال عن سواء السبيل؟ لا يستويان بحال (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)؟ بمعنى : أكلّ الناس سواء؟ فمن شأنه أن يتقى ـ بوجهه الذي هو أشرف أعضائه ـ يتقى به العذاب السيئ يوم القيامة لأن يده التي جعلت للاتقاء بها مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ، ولا يصيبه سوء أبدا؟ من يسوى هذا بذاك؟ وكيف يستويان؟! أحدهما كافر بالقرآن متحزب مع الشيطان والآخر قد اهتدى بنور القرآن ، وأفعم قلبه وصدره ببرد اليقين ونور رب العالمين.

ولا يستويان وقد قيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ، وهذا عذاب الكفار يوم القيامة ، وهاك عذابهم في الدنيا : كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب المقدر لهم

٢٦٦

كالخسف والإبادة أو الذل من حيث لا يشعرون ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى ، ولكنهم لا يعلمون.

الأمثال في القرآن

وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)

المفردات :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) : المراد بضرب المثل : تطبيق حالة غريبة على حالة تشبهها (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) : غير ذي اختلاف بوجه من الوجوه. والعوج : ما يدرك بالفكر والنظر ، والعوج : ما يدرك بالحس (سَلَماً) : سالما.

المعنى :

بعد ما تقدم ذكره يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن ـ والإشارة فيه للتعظيم ـ الكامل في كل شيء الأمثال في جميع ما يحتاجون إليه في

٢٦٧

شئون دينهم ودنياهم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) ضربناه لهم لعلهم يتذكرون ويتعظون ، ضربناه في هذا القرآن حالة كونه قرآنا عربيا لا اختلال فيه بوجه من الوجوه فهو المستقيم في كل قصد (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (٢) وإنما كان ذلك كذلك لعلهم يتقون. فأنت ترى أن الأمثال في القرآن تضرب للتذكرة والموعظة لتحصل التقوى التي هي الغرض الأسمى.

ضرب الله للمؤمن الموحد وللكافر المشرك مثلا : رجل مملوك لشركاء متشاكسين مختلفين كل له رأى وحاجة. فكل يطلب من هذا العبد حاجة لا يطلبها الآخر ، فماذا يفعل؟ وقد تقاسمته الأهواء واختلفت به السبل؟

وهذا رجل آخر مملوك لشخص واحد فهو سالم له ، ليس لغيره سبيل عليه ، هكذا المسلم لا يعبد إلا الله ، ولا يسعى لإرضاء غير ربه الرحمن الرحيم ذي الفضل العظيم عليه فهل تراه في راحة أم حيرة وضلال؟

أما المشرك فهو يعبد آلهة ، ويتجه إلى شركاء مختلفين فهو دائما في حيرة وارتباك لا يدرى كيف يرضى الجميع؟

هل يستوي المسلم الموحد بالكافر المشرك؟ لا يستويان بحال .. الحمد لله الذي وفقنا للإسلام ، وهدانا إلى الحق ، ولولاه ما اهتدينا ؛ فالحمد له جل شأنه ، بل أكثر الناس لا يعلمون ذلك.

ولما لم يلتفتوا إلى الحق ، ولم ينتفعوا بضرب الأمثال هددهم ربك بالموت ، وانتهاء هذا الوضع بقوله : إنك ميت يا محمد ، وإنهم ميتون ، فالكل فان ولا يبقى غير وجه ربك ذي الجلال والإكرام.

ثم إنكم يوم القيامة تختصمون ، وسيحكم الله بينكم يوم القيامة فلا تأسوا يا أمة محمد على القوم الكافرين ، واصبروا إن الله مع الصابرين.

__________________

١ ـ سورة الأنعام آية ٣٨.

٢ ـ سورة الأنعام آية ١٥٣.

٢٦٨

من أظلم الناس ..؟ ومن أصدقهم؟

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)

المفردات :

(مَثْوىً) أى : مقاما لهم ، يقال : ثوى بالمكان إذا أقام به (بِكافٍ) أى : يقيه وعيد المشركين.

المعنى :

إنك يا محمد ميت ، وإنهم ميتون ، إذ كل شيء هالك إلا وجهه ، ثم إنكم بعد مفارقة الدنيا عند ربكم تختصمون ، وسيحكم الله بينكم حكمه الفصل ، ويقضى

٢٦٩

قضاءه العدل ، وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم الناس؟ لا أحد أظلم ممن كذب على الله حيث أضاف إليه الشريك والولد ، وكذب بالأمر الذي هو عين الصدق إذ جاءه فلم يترو ولم يفكر ، بل فاجأ بالتكذيب والرد ، والمعنى أن هذا الذي كذب على الله ، وكذب بالقرآن أظلم من كل ظالم ، ولا أحد أظلم منه.

أليس في جهنم مثوى لهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب ، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق ، والمراد أن جهنم أعدت لهؤلاء ، وهي كافية لهم (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) [سورة المجادلة آية ٨] فهي عقوبة لكفرهم.

وأما الذي جاء بالصدق ، والقول الحق ، وهو رسول الله وخاتم أنبيائه وإمام رسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين صدقوا به وآمنوا بأنه من عند الله وفيه تبيان كل شيء والخير لكل كائن حي ، أولئك هم المتقون دون سواهم ، لهم ما يشاءون ويطلبون عند ربهم ، من كل نافع لهم ومفيد يوم القيامة ، لا في الجنة فقط ، ولكن لهم ما يشاءون يوم الحساب يوم الفزع الأكبر ، وعند كل موقف عسير ، ذلك الجزاء المذكور جزاء المحسنين.

وعدهم الله بذلك كله ليكفر عنهم سىء ما عملوا إن كان لهم سىء ، وليجزيهم أجرهم كاملا بأحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها ، وكل عمل لهم فهو أحسن لمزيد إخلاصهم وحسن تقبل الله له.

قد يقول قائل : ما معنى أن الله يكفر عن المتقين أسوأ ما عملوا؟ وهل لهم سيّئ وأسوأ والله يكفر الأسوأ فقط؟ والجواب أن هؤلاء المتقين لشدة تقواهم إذا فرط منهم ذنب صغير فهو عندهم أسوأ الذي عملوا لاستعظامهم المعصية في جنب الله ، فكل ذنب صغير فهو في نظرهم كبير ، بل أسوأ أعمالهم ، فليس لهم سىء وأسوأ في الواقع ، وكذلك الحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن ، لحسن إخلاصهم ومزيد تقواهم فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ ـ في نظرهم كما سبق ـ وحسنهم بالأحسن كما علمت ..

أليس الله بكاف عبده (١) والمعنى أن الله كاف عبده وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومؤيده وعاصمة

__________________

(١) مثل هذا التركيب من كل استفهام دخل على نفى يفيد التقرير بمدخول النفي أو بما يعلمه المخاطب ، كقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ) ، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) إلخ ومنشأ هذا أن الاستفهام إنكارى دخل على النفي فأفاد معنى التقرير والتثبيت بالدليل ؛ إذ نفى النفي إثبات.

٢٧٠

من الناس جميعا ، وهذا الأسلوب العربي العالي يفيد أن كفاية الله لعبده من التحقيق والظهور بحيث لا يقدر أحد على إنكارها ، بل على التفوه بعدمها ، ولذلك قيل : أمدح بيت قالته العرب :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

فلما سمعه عبد الملك بن مروان من جرير الشاعر وكلاهما عربي بطبعه ، وكان منصرفا عنه التفت وأجزل مثوبته ، والبيت في مدح بنى مروان.

أليس الله بكاف عبده؟ ويخوفونك بالذين من دونه من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ، بل لا تدفع عن نفسها الأذى ، فأبشر بطول سلامة!! ومن يضل الله حتى يغفل عن قدرته الله وكفايته عبده ورسوله فيخوف النبي بما لا ينفع ولا يضر فما له من هاد يهديه إلى الخير أبدا.

ومن يهده الله إلى الحق والصواب فما له من مضل أبدا ، أليس الله بعزيز لا يغلب ، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، ذي انتقام ينتقم من أعدائه لأوليائه.

مناقشة أهل الشرك في عبادتهم الأصنام

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)

٢٧١

المفردات :

(بِضُرٍّ) الضر : الشدة والبلاء (بِرَحْمَةٍ) المراد بها : النعمة والرخاء (مَكانَتِكُمْ) أى : حالكم التي أنتم عليها وعداوتكم التي تمكنتم فيها ، وقد استعمل المكانة بمعنى المكان في الحالة التي عليها الشخص (١).

المعنى :

لما أطنب الله ـ تعالى ـ في ذكر وعيد المشركين وعذابهم في الدنيا والآخرة وفي ذكر ما أعد للمتقين في الفانية والباقية ، لما أطنب في ذلك عاد إلى إقامة الدليل على بطلان الشرك وعبادة الأصنام فقال ما معناه :

ولئن سألتهم يا محمد : من خلق السموات والأرضين؟ ليقولن مجيبين بجواب واحد لا خلاف فيه : خلقهن الله.

عجبا لهؤلاء؟! إذا كانوا يقرون بخلق الله الكون ـ سماءه وأرضه ـ فكيف يشركون معه غيره؟! قل لهم : أإذا كان الأمر كذلك فأخبرونى عن آلهتكم إن أرادنى الله بضر هل هن يكشفن عنى ذلك الضر!! نعم وهذا عجيب حقا إذا لم يكن خالق سواه فهل يمكن غيره أن يكشف ما أراده من خير أو ضر؟!

هل هذه الأصنام تمنع ضرّا أراده الله؟ أو تمسك رحمة أرادها الله؟ لا هذا ولا ذاك ، وقد كانوا يخوفون النبي بالأصنام.

قل لهم وقد وضح الصبح لذي عينين : الله حسبي وكفى ، وعليه أتوكل وإليه ألجأ ، فهو نعم المولى ونعم النصير ، وعليه يتوكل المتوكلون.

قل : يا قوم اعملوا ما شئتم ، اعملوا على مقتضى حالتكم التي أنتم عليها من العداوة السافرة لي ولأصحابى ، إنى عامل على مقتضى ما وضعني الله فيه ، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا ، ويحل عليه في الآخرة عذاب دائم مقيم.

__________________

١ ـ حيث شبه الحال بالمكان ـ بمعنى المكانة ـ القائم فيه الشخص ، أى : ثباتهم في تلك الحال بثبات المتمكن في مكانه ووجه الشبه الثبات في كل.

٢٧٢

إثبات وحدانية الله وقدرته

مع مناقشتهم وبيان جزائهم

إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)

٢٧٣

وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)

المفردات :

(يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) : يقبضها عند انتهاء آجالها (اشْمَأَزَّتْ) الاشمئزاز : انقباض في القلب وضيق في النفس يظهر أثره في الوجه (يَسْتَبْشِرُونَ) الاستبشار : امتلاء القلب سرورا فيظهر أثر ذلك في بشرة الوجه (وَبَدا لَهُمْ) : ظهر ما لم يكن في الحسبان.

لا يزال القرآن الكريم يسوق الدليل تلو الدليل على وحدانية الله ـ سبحانه وتعالى ـ ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص ، مع مناقشة هؤلاء المشركين في عقائدهم الفاسدة ، تارة بلفت أنظارهم إلى معبوداتهم من حيث ضررها ونفعها ، وتارة ببيان آثار القوى القادر ، وتارة بالتهديد لهم وتسفيه أحلامهم وبيان عاقبتهم يوم القيامة ؛ لعلهم يرجعون عن غيهم ، ويثوبون إلى رشدهم.

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي أنزل عليك الكتاب هدى للناس وتبيانا لكل ما يحتاجون في دينهم ودنياهم ، أنزله ربك مقرونا بالحق متلبسا به ، فمن اهتدى به فلنفسه بغى الخير ، ومن ضل عنه وحاد عن طريقه فإنما يضل وضلاله على نفسه ، إذ عاقبة خسارته عليها وحدها ، وأما أنت يا محمد فلست عليهم بوكيل ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، فلا يهمنك أمرهم ، ولا تحزن عليهم.

الله ـ سبحانه ـ هو الذي يتوفى الأنفس ويقبضها عن أبدانها حين موتها بحيث لا يستقدمون عنه ساعة من الزمن ولا يستأخرون ، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في نومها والمعنى أنه ـ سبحانه ـ يتوفى هذه الأنفس في وقت نومها فالله ـ سبحانه ـ يقطع تعلق الأرواح بالأبدان حتى لا تتصرف فيها إلا بقدر ، فتوفيها حين الموت قطع لتصرفها

٢٧٤

في البدن ظاهرا وباطنا دائما لا رجوع فيه ، وتوفيها حين النوم قطع للتصرف فيه ظاهرا فقط ، وإلى وقت محدود ، ثم تعود الروح بعده إلى الجسم كما كانت. وتظل معه إلى أجل معلوم محدود الله يعلمه ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

فالنوم ـ كما يقولون ـ موت أصغر ، والموت نوم أكبر ، والأمر كله لله ، وما أشبه النوم والموت بجهالة المشركين ، وما أشبه الحياة واليقظة بنور الإسلام وهدى القرآن ، والكل من الله ـ سبحانه ـ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون بعقولهم فلا يحيلون البعث بعد الموت ، فيها أنت إذ تصحو بعد النوم ، وتحيا بعد الموت في كل يوم مرة أو مرتين «لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون» ، وكان الكفار إذا لزمتهم الحجة ، وانقطع بهم السبيل قالوا ـ وبئس ما قالوا ـ : الله خالق كل شيء هو الحكيم العليم ، وهذه الأصنام نبعدها لأنها تشفع لنا وتقربنا من ربنا! عجبا لهؤلاء! بل اتخذوا من دون الله شفعاء لهم ، يشفعون عند ربهم بدون إذنه ولا علمه؟! قل لهم يا محمد : أيشفعون والحال أنهم لا يملكون شيئا ولا يعقلون؟ عجبا لكم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله ـ تعالى ـ وهم لا يعقلون.

قل لهم : لله الشفاعة جميعا ، فلن يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه ، والسبب في هذا أنه له وحده الملك التام للسموات والأرض ، ثم إليه وحده الأمر والمصير يوم القيامة ، فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه.

وتلك سيئة من سيئاتهم التي لا تحصى إذا ذكر الله مفردا عن الآلهة اشمأزت قلوب المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وامتلأت قلوبهم غيظا وغما حتى يظهر ذلك في وجوههم (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء ٤٦].

وإذا ذكر الذين من دونه من الآلهة إذا هم يستبشرون ، أى : فاجأهم وقت الاستبشار.

ولما ذكر عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد بدائه العقول ببطلانه أردفه بأمرين أحدهما دعاء الله مع وصفه بالقدرة التامة والعلم الشامل ، ثم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت

٢٧٥

يا رب تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، وهؤلاء المشركون بعد ظهور الأدلة ووضوحها ينفرون من التوحيد ويستبشرون بالشرك ، وأنت يا رب وحدك القادر على إزالة هذا منهم وصدهم عن عبادتهم هذه. ثانيهما أنهم يوم القيامة في حال يودون أن لو كان لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أنفسهم من عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ، وفيه ظهر من أنواع العذاب التي أعدها الله لهم ما لم يكن في حسابهم ولا تقديرهم ، ونظير ذلك قول الله في جانب المؤمنين : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) وقد ظهر لهم سيئات ما كسبوا من سىء الأعمال ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.

فهذا هو جزاؤهم ، وقد كانوا من قبل يستهزئون بالنبي وينكرون وعيده لهم ، وها هم أولاء قد لمسوه وعرفوه ، وندموا ولات ساعة مندم ..

هكذا الإنسان

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)

٢٧٦

المفردات :

مسه : أصابه (خَوَّلْناهُ) : أعطيناه وملكناه (فِتْنَةٌ) : اختبار وابتلاء (بِمُعْجِزِينَ) : بسابقين الله وبفائتيه.

المعنى :

وتلك سيئة أخرى من سيئاتهم المتكررة ، وهذه كلها تنشأ من أنهم لا يؤمنون حقا بوجود إله قوى يصرف هذا الكون ، فهم ينظرون إلى الدنيا نظرة سطحية خاطئة ، فإذا مسهم الضر ، ووقعوا في الشدة لجئوا إلى الله ، ودعوه منيبين إليه ، ثم إذا كشف الضر عنهم ، وخولهم ربك نعمة من عنده نسوا ما كانوا يدعون من قبل وقالوا : إن هذا الخير وصل إلينا لعلم عندنا بأمور الدنيا (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص ٧٨].

وهكذا الإنسان يلجأ إلى الله في الشدائد حتى إذا نجا وأدرك ساحل السلامة وآتاه الله بسطة في مال أو جاه قال : إنما حصل لي هذا بسبب نشاطي وجدي وكمال عقلي وقوة حدسى ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم دائما يذكرون الله في السراء والضراء ، فإن مسهم خير شكروا الله لأنه صاحب النعمة ، وإن مسهم ضر صبروا ولجئوا إلى الله لأنه وحده هو الذي يكشف الشر ، أيها الناس : لا تغتروا بما أوتيتم ، بل النعم فتنة وابتلاء ؛ ليعلم أتشكرون أم تكفرون ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم بلاء واختبار!

قد قال مقالة الكفار هذه الذين من قبلهم من كفار الأمم السابقة ، وهذا دليل على أن ذلك طبع في الإنسان ، إنه كثير النسيان ، مغرور بما أعطى من مال أو جاه ، قد قالها من قبلهم ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله ، فأصابهم سيئات ما كسبوا ، والذين ظلموا من هؤلاء ـ أى : كفار مكة ـ سيصيبهم سيئات ما كسبوا فإنهم مغرورون بأموالهم ، وكثيرا ما قالوا : أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟! أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء له ذلك ولو كان كافرا جاهلا ، وله في ذلك حكم تخفى على كثير من الناس ، والله يقتر الرزق على من يشاء ولو كان مسلما عاقلا حكيما ؛ لحكم هو وحده يعلمها ، فليس الرزق

٢٧٧

الواسع دليلا على محبة الله ، وليس الفقر دليلا على بغض الله ، وليس واحد منهما يرجع إلى عقل صاحبه وتفكيره فقط ، فكثيرا ما نرى أن المال يأتى لمن لا حيلة له حتى يتعجب صاحب الحيلة ، إن في ذلك لآيات ناطقة بأن الكل من الله ، والأسباب الظاهرة ملغاة في غالب الأحوال ، ولا يعقل ذلك كله إلا القوم المؤمنون.

وعظ وإرشاد

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)

٢٧٨

المفردات :

(أَسْرَفُوا) : تجاوزوا الحد (لا تَقْنَطُوا) : لا تيأسوا (وَأَنِيبُوا) : ارجعوا (وَأَسْلِمُوا) : من الاستسلام والخضوع (بَغْتَةً) : فجأة (يا حَسْرَتى) الحسرة : الندامة (فِي جَنْبِ اللهِ) : المراد طاعة الله وطلب مرضاته (السَّاخِرِينَ) : المستهزئين (كَرَّةً) : رجعة.

روى عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة ، اتعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السهمي ، وعياش بن أبى ربيعة بن عتبة ، أى : تواعدنا فقلنا : الموعد أضاة بنى غفار ـ أى : غديرهم ـ وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه ، فأصبحت أنا وعياش بن أبى ربيعة وحبس عنا هشام ، وإذا به قد افتتن فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله ـ عزوجل ـ وآمنوا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم افتتنوا لبلاء لحقهم ألا نرى لهم توبة؟! وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ في كتابه (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ..) الآيات. قال عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام ، قال هشام : فلما قدمت علىّ خرجت بها إلى (ذي طوى) مكان بمكة فقلت : اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ورويت روايات أخرى في سبب النزول ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

المعنى :

قل يا محمد مبلغا عنى الذين أسرفوا على أنفسهم ، وأفرطوا في المعاصي : يا عبادي لا تيأسوا من رحمة الله فإنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون ، لا تقنطوا من مغفرة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم ، وهو تعليل للنهى عن اليأس والقنوط ، وهذه الآية في كتاب الله ، فهي تفتح باب الأمل للعصاة من المؤمنين حتى لا يظلوا سادرين في غيهم راكبين رءوسهم في طاعة أنفسهم وشياطينهم.

والنفس كثيرا ما تشعر بذنبها ، وتندم على فعلها ، وتذكر ماضيها ، وتود لو أنها كانت من المؤمنين الذين عملوا الصالحات ، فلو سد باب التوبة والرجوع إلى الله لظل

٢٧٩

أغلب الناس يتخبطون في ظلمات المعاصي ، ولكن فتح باب التوبة يسد على إبليس كثيرا من النوافذ ، وقد تكون توبة العاصي عند الله أحسن من عبادة العابد ، والذي يرجع عن السوء ، وينخرط في سلك التوابين قد يكون عند الله من المقربين ، لأنه يعمل عن عقيدة عملا صادرا من نفس أدركت خطر المعاصي ولذة الطاعات.

الله ـ سبحانه وتعالى ـ ينهانا عن اليأس ويفتح أمامنا باب الأمل ، ويأمرنا بقوله : وأنيبوا إلى ربكم الذي رباكم وتعهدكم وأنتم ضعاف حتى قوى ساعدكم ، وأسلموا له واخضعوا لحكمه وامتثلوا أمره ، وبادروا إلى ذلك بسرعة من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة ساعة الموت وطلوع الروح ثم لا تنصرون ، ومن ينصركم من الله ويمنعكم منه؟ (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) الآية (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ..) [سورة النساء الآيتان ١٧ ، ١٨].

واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ، والله ـ سبحانه ـ أنزل على الأنبياء كتبا كالتوراة والإنجيل ، وأحسنها وأوفاها وأكملها هو القرآن ؛ لأن ما تقدمه كان تهيئة لنزوله وإعدادا لقبوله ، والله أعلم بأسرار كتابه ، وقيل غير ذلك ، وسارعوا إلى ربكم ، وأسرعوا في امتثال أمره واجتناب نهيه وأنتم الآن في فسحة من العمل من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة ، وأنتم لا تشعرون به ، اتبعوه كراهة أن تقول نفس يوم الحساب : يا حسرتى احضرى فهذا أوانك ، يا حسرتى على ما فرطت في طاعة الله وأهملت في كل ما يوصلني إلى جواره ، ويدخلني جنته ، ولات ساعة مندم.

ويا ليتني فرطت في العمل فقط بل كنت من المستهزئين الذين استهزءوا بدين الله ، وبمن آمن به ، ولعله يخبر بذلك متحسرا على ما قدم.

أو تقول نفس حينما ترى المؤمنين وقد جوزوا على عملهم أحسن الجزاء : لو أن الله هداني لكنت من المتقين كهؤلاء.

أو تقول نفس حين ترى العذاب الذي أعد لها : لو أن لي كرة ورجوعا إلى الدنيا فأعمل صالحا وأكون من المحسنين ، كلا إنها كلمة هو قائلها ، بلى (١) قد جاءتك آياتي

__________________

(١) بلى حرف جواب من الله تعالى لما تضمنه قول القائل : «لو أن الله هداني» من نفى ، لأنه لا يجاب بها إلا بعد نفى.

٢٨٠