التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

من أقوال بعيدة عن الصواب جدا ، وقد علمت الحق فيها الذي تؤيده الشواهد الكثيرة. والله أعلم بكتابه.

من تأديب الله للمؤمنين وعنايته بهم

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)

المعنى :

يا أيها المؤمنون : اذكروا الله ولا تكونوا كالذين نسوه فأنساهم أنفسهم حتى ضلوا السبيل ، يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله كثيرا في القيام والقعود وعلى جنوبكم ، أى : في كل حال يجب على المسلم أن يذكر ربه ولا ينساه ، يذكره بقلبه ، ويستشعر عظمته ، ويخشى حسابه وعذابه ، ويراقبه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه ، اذكروه على سبيل التعظيم والإجلال ، وسبحوه بكرة وأصيلا ، والذكر والتسبيح أعم من الصلاة وأشمل ، والمراد بالبكرة والأصيل : أول النهار وآخره ، وإن كان المقصود جميع الأوقات (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [سورة الروم الآيتان ١٧ ، ١٨].

هو الذي يصلّى عليكم أيها المؤمنون ، وتصلى عليكم ملائكته ، والصلاة من الله رحمة بنا ، ومن الملائكة استغفار لنا ، كل ذلك ليخرجكم من ظلمات النفس الأمارة بالسوء. ومن ظلمات الدنيا الغرور. ومن ظلمات وسوسة الشيطان. بما يهديكم ويرشدكم ويثنى عليكم ويوفقكم إلى طرق النور والعلم والإسلام والخير ، وكان بالمؤمنين رحيما (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة ٢٥٧].

١٠١

وإذا كان الله يصلى علينا ويرحمنا ويخرجنا من الظلمات إلى النور ، وهو ربنا الرءوف الرحيم أفلا نذكره ذكرا كثيرا؟ وهو القائل : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [سورة البقرة آية ١٥٢].

واذكروا أيها المؤمنون أن الله ـ سبحانه ـ لا ينساكم يوم القيامة بل هو صاحب الفضل عليكم يحيى عباده بالتحية المباركة الطيبة : تحيتهم يوم يلقونه سلام ، سلام من الله وفضل عظيم ، وأعد لهم وهيأ أجرا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه ، وإنما هو أجر كريم يأتى العباد بلا طلب ولا تعب ولا مشقة. نسأله ـ سبحانه ـ أن يوفقنا للعمل حتى نكون مع هؤلاء في ذلك الأجر الكريم!!

بعض الآداب الإسلامية

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)

١٠٢

المعنى :

يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على الناس ترقب أحوالهم ، وتشاهد أعمالهم ، وتتحمل الشهادة على ما صدر عنهم من التصديق والتكذيب ، وسائر الأعمال : تشهد عليهم وتؤدى الشهادة يوم القيامة بعد أن دعوتهم سرا وإعلانا ليؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [سورة البقرة آية ١٤٣].

يا أيها النبي إن ربك أرسلك شاهدا على الناس يوم القيامة ، ومبشرا من آمن بك بالجنة ، ومنذرا من كفر بك أو عصاك بالنار ، وداعيا إلى الله وإلى طاعته بإذنه وأمره ، فلست مدعيا ولا متقولا بل كل هذا أمر الله وإذنه ، وأنت أيها الرسول السراج المنير الذي يهدى الناس إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.

أرسلك ربك لتفتح أعينا عميا وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، والسكينة والوقار لباسك ، والبر شعارك ، والتقوى زادك ، والحكمة قولك ، والصدق طبعك ، والخلق الكريم خلقك ، والحق والعدل شريعتك ، وقد ألفت بهذا أمما متفرقة ، وقلوبا متنافرة ، وأنقذت بهذا فئات من الناس قد ضلوا من قبل سواء السبيل ، حتى أصبحوا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين صادقين مصدقين ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.

فحقا لقد صدق الله إذ يقول : وبشر يا محمد المؤمنين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ، العاملين بكتاب الله وسنة رسوله ، بشرهم بأن لهم من الله فضلا لا يعرف له قدره ، فضلا من الله كبيرا ، وأجرا من عند الله عظيما ، ورزقا من الله كريما. وبعد هذا لا تطع الكافرين والمنافقين ، ولا تأبه بهم ولا تعن بشأنهم ، ودع أذاهم حتى تؤمر بما فيه علاجهم ، وتوكل على الله وحده ناصرك وحافظك ؛ ومن توكل على الله فهو حسبه ، وكفى بالله وكيلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) الآية

قد يقول قائل : وما مناسبة هذه الآية لما قبلها؟ وقد أجاب على ذلك الفخر

١٠٣

الرازي ـ رحمه‌الله ـ : وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله ـ تعالى ـ ذكر في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن الله ـ تعالى ـ أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل ، فكلما ذكر للنبي مكرمة ، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فكما بدأ الله في تأديب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر ما تعلق بجانب الله بقوله : يا أيها النبي اتق الله! وثنى بما يتعلق بأزواجه حيث قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) ، وثلث بما يتعلق بجانب عامة الأمة بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً). كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله حيث يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) ، ثم ثنى بما يتعلق بأزواجهن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) وثلث بما يتعلق بأدب المؤمنين مع النبي حيث قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ).

والمعنى المراد : إذا نكحتم المؤمنات وكذلك الكتابيات ـ وإنما تركهن ليعلم المؤمنون أن الأولى نكاح المؤمنات ـ ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن فليس لكم عليهن من عدة ، إذ المطلقة قبل الدخول بها لا تحتاج إلى براءة رحم ، وإنما المتوفى زوجها عدتها أربعة أشهر وعشر تفجعا على زوجها لا لبراءة الرحم ؛ إذ الرحم تبرأ بشهر أو بحيضة.

والواجب هو أن يمتّعن ، أى : يعطين المتعة وهي نصف المهر إذا فرض لها مهر ، أو أى شيء يستمتعن به جبرا لخاطرهن ، وسرحوهن سراحا جميلا لا ألم فيه ولا تعذيب.

من خصوصيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها

١٠٤

خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)

المفردات :

(أُجُورَهُنَ) : مهورهن (أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) : رده (يَسْتَنْكِحَها) : ينكحها (حَرَجٌ) : إثم وضيق (تُرْجِي) : من الإرجاء وهو التأخير (وَتُؤْوِي) : تضم (ابْتَغَيْتَ) أى : طلبت (عَزَلْتَ) والعزلة : الإزالة والمراد عزلتها من القسمة.

المعنى :

يا أيها النبي إن الله أحل لك أن تتزوج من النساء اللاتي أعطيتهن مهورهن واللاتي تملكهن بيمينك من الفيء والغنيمة. وأحل الله لك من بنات أقاربك ما شئت من بنات عمك ، وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك. وأحل الله لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها إليك. وأردت نكاحها خالصة من دون المؤمنين ، كل ذلك لئلا يكون عليك حرج ولا إثم.

١٠٥

ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ أن الله يبين للنبي الجهة والوصف العام الذي يصح أن يكون أساسا لاختياره نساءه ، فالمرأة التي أوتيت أجرها وقبلت مهرها مهما كان فهي أولى وأفضل ممن لم تأخذ صداقها ، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أفضل من التي اشتراها من غيره. وبنات عمه وعماته وخاله وخالاته أولى إذا هاجرن مع النبي ، فإن من هاجر أشرف وأولى ممن لم يهاجر.

روى السدى عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت : خطبنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذرت إليه ـ لأننى كنت امرأة كثيرة العيال ـ فقبل عذري فأنزل الله هذه الآية. قالت : فلم أكن أحل له ، لأننى لم أهاجر وكنت من الطلقاء.

ويؤكد هذا المعنى ـ أفضلية وأولوية تلك الأصناف ـ قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأراد نكاحها خالصة له حتى تصير له زوجة ، وللمؤمنين أما.

وقد ذكر القرطبي ـ رحمه‌الله ـ في تفسيره لهذه الآية وجهين آخرين : أولهما أن الآية تفيد حل جميع النساء للنبي إذا آتاهن أجورهن ، وعلى هذا فالآية مبيحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التزوج بمن شاء ما عدا المحارم ؛ لأنه لا جائز أن تفهم أن المراد أحل له أزواجه اللاتي هن معه لأن الحل يقتضى تقدم الحظر ، ولا حظر موجود ، وأيضا فلم يكن تحته من بنات عمه ولا عماته. ولا خاله ولا خالاته ، فثبت أنه أحل له التزويج بهؤلاء ابتداء ، وعلى ذلك فالآية ناسخة ـ على رأى من يقول بالنسخ ـ لقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وإن كانت متقدمة عليها.

وقيل المراد : أحللنا لك أزواجك اللاتي هن عندك فقط ، وآتيتهن أجورهن لأنهن اخترنك وآثرن البقاء معك على الدنيا وزخرفها ، والذي رجح هذا قوله ـ تعالى ـ آتيت أجورهن : لأن (آتى) فعل ماض ليس للمستقبل ، ويؤيد هذا التأويل قول ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزوج من أى النساء شاء ، وكان يشق ذلك على نسائه. فلما نزلت هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء ، إلا من سمى سر نساؤه ، وهذا رأى الجمهور ، وفيه تضييق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد رجح القول الأول القرطبي لما ذكرناه عنه ، ولقول عائشة ـ رضى الله عنها ـ : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل الله تعالى له النساء. بقي ذكر بنات عمه

١٠٦

وعماته ... إلخ فالجمهور يقولون : أحل الله لك ذلك زائدا على الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، لأنه لو لا أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجتها وآتيتها المهر لما كان لذكرهن فائدة ـ وأصحاب الرأى الأول يقولون إن المراد التوسيع على النبي لا التضييق عليه وتلك خصوصية له ، وإنما ذكرهن تشريفا لهن ولهذا نظير قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [سورة الرحمن آية ٦٨] ـ الله أعلم بكتابه.

وإنما خص المهاجرات من الأقارب بجواز تزوج النبي منهن متى شاء لأن من لم يهاجر لم يكمل ، ومن لم يكمل لا يصلح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كمل وشرف وعظم.

وهل يجوز نكاح الهبة؟ لقد أجمع العلماء أن هبة المرأة نفسها غير جائزة وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح ، وعند أبى حنيفة وصاحبه : إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.

لقد وهب كثير من النساء أنفسهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى عن عائشة أنها قالت : كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقول : أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل؟ حتى أنزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) فقالت : والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

وروى البخاري أن خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله ، وقيل الموهوبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم.

قال الشعبي في قوله تعالى : ترجى من تشاء منهن .. الآية .. هن الواهبات أنفسهن وتزوج رسول الله منهن ، وترك منهن ، وقال الزهري : ما علمنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن. وهذا هو المعقول ، والآية سيقت توسعة على رسول الله.

وقيل : المعنى المراد هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخير مع أزواجه بين أن يقسم بالسوية أو يترك القسم إن شاء أرجأ وأخر بعضهن ، وإن شاء آوى إليه وجمع بعضهن ، ولكنه كان يقسم بالسوية ، ويؤوى إليه الكل ، دون أن يفرض الله عليه ذلك من قبل ، وإنما فعل ذلك تطييبا لنفوسهن وصونا لها عن أحوال الغيرة التي قد تؤدى إلى ما لا تحمد عقباه.

١٠٧

ومن ابتغيتها وطلبتها بعد أن عزلتها وأزلتها فلا جناح عليك في ذلك ، أى : إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك ، وكذلك حكم الإرجاء ، ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى إرضائهن وسرورهن بكل ما تفعل ، وتلك خصوصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الأحكام الشرعية أن الرجل الذي يتزوج امرأتين واجب عليه أن يعدل بينهن بالسوية في كل شيء.

الله يعلم ما في قلوبكم ، وكان الله عليما بكل شيء حليما في كل حكم.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) الآية .. في هذه الآية خلاف بين العلماء تبعا لما قالوا في تفسير قوله تعالى : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) الآية.

فقال بعضهم : لا يحل لك النساء من بعد ما وصفنا وبينا لك من الأوصاف السابقة أما غيرهن من الكتابيات أو غير المهاجرات من أقاربك فلا يحل لك منهن أحد ، وقال بعضهم : هذه منسوخة بالآية المتقدمة ، وتقدمها في التلاوة لا يضر.

وقال بعضهم : لما اختار نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذاته الشريفة جوزين على ذلك بتحريم غيرهن على النبي ، وعدم طلاقهن منه ، وجعلهن أمهات للمؤمنين ، ذلك مكافأة لهن على ذلك.

ولا أن تبدل بهن من أزواج ، أى : لا يحل طلاقهن وتزوج غيرهن ، ولو كنت معجبا بحسنهن إلا ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك.

وكان الله على كل شيء رقيبا.

كلمة عن تعدد أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

لقد تكلم بعض الناس في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكثرتهن يرمون إلى أنه رجل شهوانى لا يعقل أن يكون نبيا!! حقيقة مات النبي عن تسع نسوة لكل واحدة ظرف خاص في زواجها لو عرفناه لحكمنا حكما صحيحا في هذا الموضوع. أما السيدة خديجة فقد تزوجها وسنه خمس وعشرون سنة وسنها أربعون سنة ، ومع هذا الفارق الكبير فقد عاشا عيشة سعيدة حتى توفيت ، وقد أمضى معها زهرة شبابه ، إذ ماتت وهي في سن

١٠٨

الخامسة والستين ، ومع هذا لم يتزوج مع غيرها مع عدم المانع ، ثم تزوج بعائشة مع صغر سنها ، وبحفصة مع عدم جمالها ، وأم سلمة مع كثرة عيالها وكبر سنها كل هذا لإرضاء أصحابه ورجال دعوته ، وجبرا لخاطر امرأة كأم سلمة هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وإلى المدينة لما مات زوجها ، أليس من المروءة أن يجبر خاطرها حتى يطمئن كل قواده وجنوده على أهليهم بعد وفاتهم ، وهذه سودة العجوز ليس الزواج بها لشهوة ، وهذه زينب بنت جحش قد عرفت قصتها سابقا ، وأما النساء الباقيات فأم حبيبة بنت أبى سفيان زعيم قريش أسلمت قبل أبيها وهاجرت إلى الحبشة ثم لما مات زوجها تزوجها النبي إكراما لها وتقديرا لعملها ، وصفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود ، وجويرية بنت الحارث زعيم بنى المصطلق وقد هزمت قبيلتهما فأراد النبي أن يجبر خاطر صفية وجويرية فتزوجهما لأسباب سياسية لا تخفى على قائد جماعة وصاحب دعوة.

ولا يظن أحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعيش عيشة المترفين في بيته ، فهذه عائشة يروى أنها قالت : إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله نار! فقال لها عروة بن الزبير : ما كان يعيشكم؟ قالت : الأسودان : التمر والماء.

فعلى رسلكم أيها النقاد بغير علم ، أو بعلم ، وقد أعماكم هذا التعصب الذي يجعل القلوب في أكنة بعيدة عن نور الحق ، هذه حياة النبي ، وتلك ظروف زوجاته كلهن فما تزوج لجمال أو لشباب ، أو لطلب رفاهية؟ وما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مترفا في مأكل أو مشرب أو مسكن «تقول عائشة : لقد توفى رسول الله وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي» ، وكان الحصير يؤثر في جنبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ما وجب على المؤمنين نحو بيت النبي مع آية الحجاب

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا

١٠٩

يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)

المفردات :

(إِناهُ) : منتظرين نضجه ، وأصل الكلمة من : أنى الشيء يأنى إناه : إذا حان إدراكه ، وفي شرح القاموس : (أنى) بمعنى أدرك وبلغ. (فَانْتَشِرُوا) : اذهبوا حيث شئتم وتفرقوا. (مَتاعاً) المراد : ما يحتاج إليه وينتفع به من سائر المرافق.

هذه الآيات تضمنت أمرين مهمين :

أولهما : الآداب العامة عند الطعام والجلوس له.

ثانيهما : الحجاب وعدم الاختلاط ، وقد نزلت الآيات في بيت النبي ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

أما الأمر الأول : فالجمهور من المفسرين على أن سبب النزول هو : لما تزوج النبي من زينب بنت جحش أولم عليها ودعا الناس ، فلما طعموا جلس بعض الناس يتحدثون في بيت رسول الله ، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط ـ إذ البيت عبارة عن حجرة واحدة ـ فثقلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أنس بن مالك : فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج

١١٠

وخرجت معه لكي يخرجوا وقد تباطأ القوم في الخروج ، قال أنس : وأخبرت النبي أن القوم خرجوا ، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) إلى قوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) روى هذا الحديث بالمعنى ، وأصله موجود في البخاري ومسلم.

وعن ابن عباس : أنها نزلت في أناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثمّ يأكلون ولا يخرجون. وقال بعضهم : هذا أدب أدب الله به الثقلاء.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلا في حال قد أذن لكم فيه إلى طعام غير منتظرين نضجه ، أى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا في وقت الإذن لكم إلى طعام ، ولا تدخلوه إلا غير منتظرين إناه ، ولكن إذا دعيتم إلى الطعام وأذن لكم في الدخول فادخلوا فإذا طعمتم فاذهبوا متفرقين ، ولا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل بعضهم في وليمة زينب جحش.

إن ذلكم كان يؤذى النبي ، وأى إيذاء أكبر من بقاء عامة الناس في بيت الزوجية؟ الذي هو حق لها ، وسكن الزوج مع زوجته ، وكان النبي يستحى ويمتنع من إظهار ألمه لكم ، ولكن الله لا يستحيى من إظهار الحق. بل يبين للناس ما به يتأدبون بأدب القرآن فاعلموا أن هذا الانتظار خطأ وحرام عليكم فلا تعودوا لمثله أبدا.

روى أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فنزلت الآية.

وانظر إلى القرآن وهو يعالج أمر الحجاب مبتدئا بأمهات المؤمنين اللائي هن أطهر النساء وأعفهن ، حتى نتبصر في أمرنا حينما يقال لنا : إنا نختلط ولا يحصل شيء أبدا ، ولست أدرى : ما سبب الحوادث التي نقرؤها كل يوم في الجرائد عن الخيانات والقتل والطلاق؟! أليس مرجعها كلها إلى ضعف الوازع الديني وإلى الاختلاط في البيوت والشارع بل وفي المقاهى والمسارح والمصايف؟!

١١١

وإذا سألتموهن ـ نساء النبي ـ متاعا أى متاع في الدين والدنيا فاسألوهن من وراء حجاب.

ذلكم ، أى : ما ذكر من الاستئذان قبل الدخول ، وعدم الاستئناس للحديث ، وسؤال المتاع من وراء الحجاب (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الخواطر التي تعرض لكل رجل وامرأة إذا اختلى بها ، وذلك أنفى للريبة ، وأبعد للتهمة وأمنع في الحصانة.

أليس هذا دليلا على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن وأحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.

وإذا كان هذا حال الرعيل الأول من المسلمين فما بالنا اليوم؟ اللهم نسألك اللطف والهداية والرحمة.

وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ، ولا ينبغي منكم ذلك.

وما كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ، فإنهن أمهات المؤمنين ، ولا يليق بكم أن تفعلوا ذلك أبدا. وهذه الآية رد على من قال : إذا مات رسول الله أتزوج عائشة من بعده ، إن ذلكم المذكور من ألم رسول الله بدخول الناس بدون إذن أو مكثهم لغير حاجة أو طلبهم نكاح أزواجه من بعده ، إن ذلكم كان عند الله عظيما ، فلا ذنب أعظم منه ، وهذا يفيد أن هذه من الكبائر ، واعلموا أن الله يعلم الغيب والشهادة وهو العليم بذات الصدور ، فإن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شيء عليم ، وسيجازى عليه.

ولما نزلت آية الحجاب تساءل بعض أقارب أمهات المؤمنين : أنحن نكلمهم من وراء حجاب؟ فرد الله عليهم بقوله : لا جناح عليهن ولا إثم في أن يكلمن آباءهن أو أبناءهن ، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن ، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد ، وكذا بقية المحارم التي ذكرت في سورة النور كالعم والخال مثلا.

واتقين الله ـ أيها النساء ـ فأنتن سبب الاختلاط ، وعليكن الوزر الأكبر فيه ، إذ المرأة هي التي تستطيع رد الرجل ، ويستحيل عليه أن يتمكن منها إلا برضاها ، ولذا خصهن بالأمر بالتقوى ، إن الله كان على كل شيء شهيدا ورقيبا ، فاحذروه ، واتقوه ، واعلموا أنّه يراكم ويحصى عليكم أعمالكم.

١١٢

مكانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وجزاء من يؤذيه هو والمؤمنين

إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)

المفردات :

(لَعَنَهُمُ اللهُ) : أبعدهم وطردهم من رحمته (مُهِيناً) : غاية في الإهانة (مُبِيناً) : بينا واضحا.

المعنى :

وهذه الآية قد أظهرت الرسول ، وأبانت مكانته عند الله وعند ملائكته ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، والصلاة من الله على نبيه رحمة ورضوان ، ومن الملائكة دعاء واستغفار ، ومن الأمة دعاء وتعظيم للنبي ، وصلاتنا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل وصلاة الملائكة بعد هذا الشرف العالي بالصلاة عليه من المتعالي ـ جل جلاله ـ لإظهار مكانته عند ربه. ولننال شرف الصلاة عليه وثوابها الجزيل ، فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من صلّى علىّ صلاة صلّى الله عليه عشرا» ، وكفاه شرفا أن الله وملائكته يصلون عليه ، ولا عجب إذ يوجبها الشافعى في الصلاة ويعد الصلاة على النبي في التشهد الأخير ركنا من أركانها ، وإن خالفه في ذلك أكثر الأئمة.

١١٣

لهذا نادى الحق ـ تبارك وتعالى ـ المؤمنين آمرا لهم بالصلاة على حبيبه وخاتم رسله فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

أما كيفية الصلاة على النبي فصل بأى صيغة شئت ، والوارد أن مالكا روى عن أبى مسعود الأنصارى قال : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلى عليك يا رسول الله فكيف نصلى عليك؟ قال : فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مّجيد. والسّلام كما قد علمتم» أى : في التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

هذه مكانة أشرف الخلق على الله وفضل الصلاة عليه ، وهم كما يقولون : الضد أقرب خطورا بالبال ، فما جزاء من يؤذيه ، ولا يصلى عليه؟

أما من يؤذى الله ورسوله فالويل ثم الويل له ألف مرة ومرة ، إنما جزاؤه لعنة الله وطرده من رحمته ، ويا له من جزاء قاس يناسب هذا الجرم وفي الآخرة أعد له عذاب شديد ذو إهانة وقسوة.

من يؤذى الله بالإشراك به ونسبة ما لا يليق له والكذب عليه ، وعدم الامتثال لأمره ، ومخالفة رسله ، وإيذاء الرسول بوصفه بما لا يليق ، والهجوم عليه ، وعدم الامتثال له وتكذيبه والطعن في آل بيته ، والكلام في حقه وعدم الرضا بفعله ، كل هذا إيذاء لله ورسوله عليه الجزاء الشديد في الدنيا والآخرة.

والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير جرم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه إيذاء بالظلم لا بالحق ، وهم بهذا الوصف وهو الإيمان ، أى : لأجله ، هؤلاء قد احتملوا إثما كبيرا هو كإثم البهتان والكذب على الله.

ولا يدخل في ذلك من يقوم .. بالرعاية والتأديب فيقسو لغرض شريف.

١١٤

ستر عورات النساء

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)

المفردات :

(يُدْنِينَ) الإدناء : التقريب ، والمراد الإرخاء والسدل (جَلَابِيبِهِنَ) : جمع جلباب وهو الثوب الذي يستر جميع البدن.

المعنى :

توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تسع من النساء هن عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة. وسودة ، وأم سلمة ، وميمونة ، وزينب بنت جحش ، وجويرية ، وصفية بنت حيي ابن أخطب الهارونية.

وأما أولاده فسبعة : ثلاثة ذكور ، وهم القاسم ، وعبد الله وأمهما خديجة ، وإبراهيم وأمه مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم القبط بمصر ، وأربع إناث وهن فاطمة الزهراء ـ رضى الله عنها ـ وزوجها على بن أبى طالب وأمها خديجة ، وزينب وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع ، ورقية زوجها عثمان بن عفان ، وماتت والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة بدر ، وأم كلثوم تزوجها عثمان بعد وفاة أختها ولذا سمى بذي النورين وتوفيت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فكل أولاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذكور والإناث من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية ، وقد فارقن الحياة قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا فاطمة الزهراء فماتت بعد النبي وهي أول من لحق به من آل بيته الكرام ـ رضى الله عنهم جميعا ـ فتلك ذرية بعضها من بعض.

١١٥

وقد كانت العرب في الجاهلية منغمسين في التبذل ، وإبداء الزينة ومواضعها والكشف عما يجب ستره كما يفعل الإماء.

وقد جاء الإسلام دين السلام ودعوة الحق والتحرر من قيد التقليد الأعمى ، والانطلاق نحو المثل العليا وتكوين المجتمع الصالح ، المؤسس على تقوى من الله ورضوان.

جاء الإسلام فخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا في شأن أزواجه وبناته ونساء المؤمنين عامة ليعلم الكل أن هذا علاج مر. وأنه لا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال ، وحقا لا يستطيع تأديب زوجته وأخته وبنته ، وكبح جماح الغريزة التي تدعو إلى التبرج والظهور إلا كل رجل! وكفى!! ..

يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن فيسترن أجسامهن كلها حتى وجوههن إلا ما به ترى الطريق ، ويرى بعضهم أن ستر الوجه إنما يكون عند الفتنة ، ولا يبدين زينتهن ، أى : موضعها إلا لمحارمهن التي ذكرت في سورة النور ، آية ٣١.

أمر الله تعالى جميع النساء بالستر وإن ذلك لا يكون إلا بما يستر بدنها ، إلا إذا كانت المرأة مع زوجها وفي بيتها ، فلها أن تلبس ما تشاء لأن لزوجها أن يستمتع بها كيف شاء!

يا نساء المؤمنين اسمعن ما نصح به النبي بعض أصحابه :

روى أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبطية فقال : «اجعل صديعا ـ نصفا ـ لك قميصا ولصاحبتك صديعا تختمر» ثم قال له : «مرها تجعل تحتها شيئا لئلّا يصف ..».

وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ، رءوسهنّ مثل أسنمة البخت ـ نوع من الإبل ـ لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها».

وقال عمر ـ رضى الله عنه ـ : ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها وأطمار جارتها مستخفية لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها.

١١٦

ذلك الذي يأمركم به ربكم من الستر أدنى وأقرب أن تعرفن وتتميزن بأنكن المؤمنات القانتات العابدات الحافظات فروجهن ، فلا تؤذين بقول من ساب أو جاهل ، ويعرفكن الأبرار الصالحون فيتكون البيت المسلم الكامل.

أيتها المؤمنات : إن الدين حينما يفرض الحجاب ، ويوصى بالستر التام للجسم كله إنما يهدف إلى عدم الإيذاء لكن ، فكم من امرأة عفيفة ظهرت في الشارع سافرة فلاقت من الأذى ما لاقت!

وإنى لأعجب حينما نرى بعض نساء المؤمنين في الشارع قد برزن بروزا يلفت النظر ، خرجن كاشفات عن مواضع في أجسامهن لا يليق بهن أبدا كشفها.

أفيليق من المرأة المؤمنة أن تخرج كاشفة عن وجهها ورأسها وثديها وساقها وإبطها ، وتستر الباقي بثوب شفاف يظهر ثديها؟ .. وايم الحق قد ترى حلمة الثدي وموضع السرة!! ..

يا لله للمسلمين والمسلمات!!

يا نساء المسلمين إن جاز هذا من غيرنا فليس يجوز أبدا منا!!

يا نساء المؤمنين ليس في الكشف عن العورة فائدة أبدا بل هناك الضرر كل الضرر .. يا نساء المؤمنين كل بدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها.

يا نساء! إن في ستر العورة منعا للفتنة ، ومدعاة للعفة وبعدا عن مظان التهمة ، وحفظا لكن من تعرض الفساق وإيذائهم بالرفث وفحش القول.

يا أيها المؤمنون اعلموا أنكم المطالبون بستر عورات نسائكم ، فأنتم مع الرسول مخاطبون (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية .. فلا يعتذرن أحد ، ولا يلقين أحد تبعة هذا على النساء وحدهن!!

أيتها الأخت المسلمة : كوني مثلا أعلى للمسلمات ، واحذرى الشيطان وفتنة المجتمع المنحل الذي تعيشين فيه ، وتذرعى بالصبر ، واعلمي أنه لا يزال في الأمة من يقدر العفاف والأدب وحسن السيرة!

وإنى أختتم هذا بأن أدعو الله أن يرزقنا التوفيق والسداد فهو ربنا الرحمن الرحيم بنا ،

١١٧

فموضوع الاختلاط والتبرج والانحلال الخلقي العام في طبقات الشعب داء استشرى ، وفساد عم ، لم يعد يكفيه وعظ وإرشاد ، وإنما هو في حاجة إلى قوة السلطان وصولة الحاكم الذي يدين بعلاج القرآن ، ويؤمن أن فيه خير الشعب والدولة ، وما ذلك على الله بعزيز ، وهو نعم المولى ونعم النصير.

هؤلاء المنافقون وهذا جزاؤهم

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)

المفردات :

(مَرَضٌ) المراد : مرض الفسوق والعصيان (وَالْمُرْجِفُونَ) : الإرجاف والرجفان الاضطراب الشديد ، والمراد المتلمسون الفتنة المشيعون للأكاذيب والأباطيل (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) : لنسلطنك عليهم.

المعنى :

وهذه آية نزلت في المنافقين كاشفة حالهم ، هاتكة سترهم ، مهددة لهم ، وأى تهديد أكثر من قوله : لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا؟!

وقد أجمع المفسرون تقريبا على أن هذه الأوصاف الثلاثة ـ النفاق ، ومرض القلب والإرجاف ـ لشيء واحد ، ولا شك أن من لوازم النفاق مرض القلب فهما

١١٨

متلازمان ، والإرجاف بالفتنة ، وإشاعة السوء نهاية النفاق ، والمنافقون جمعوا بين هذه الأوصاف الثلاثة.

على أن المنافقين قوم برزوا في إظهار مرض القلب الذي ينشأ عنه كل إثم وفسوق وعصيان ، وخاصة تتبع النساء والتعرض لهن بالسوء ، وإغرائهن على الفاحشة ، وفيهم قوم برزوا في الإرجاف وإذاعة السوء ، وإذاعة الأكاذيب التي تفت في عضد الجماعة ، وتقتل فيهم روح الإقدام ، وكانوا ينتهزون فرص الحرب والقتال فيذيعون كل ضار ومفسد.

ولقد أقسم الله بنفسه مهددا لهم : لئن لم يكف هؤلاء المنافقون عن نفاقهم ، وينتهوا عن أعمالهم القبيحة التي تنشأ عن مرض القلب وسوء القصد ، وفساد النفس ، ولئن لم يبتعدوا عن الإرجاف في المدينة بالسوء ، لئن لم ينتهوا عن ذلك لنغرينك بهم!! إنه لتصوير بديع جدا حيث أبرز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه أسد مفترس أمامه فريسته ضعيفة مهينة ، وهو ممنوع منها.

ثم هم بعد ذلك لن يجاوروك في تلك المدينة التي جئتها مهاجرا إلا زمنا قليلا ، وقد كان ذلك كذلك.

وهم ملعونون ومطرودون من رحمة الله ومنبوذون من الناس حيث عرفوا (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) [سورة التوبة آية ٨٤].

أينما ثقفوا ووجدوا أخذوا بالضرب والتنكيل والاحتقار ، وهذا جزاء النفاق وهم يقتلون تقتيلا حيثما وجدوا ، ولا غرابة في ذلك ، فالأمم الحديثة الآن لا تعرف الرحمة مع الجواسيس والخارجين على الدولة الذين يطعنون من الخلف ، ويتعاونون مع العدو مع تظاهرهم بالإخلاص.

وتلك سنة الله مع المنافقين في كل زمن ، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ولا تغييرا.

يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية : «وفي الآية جواز ترك إنفاذ الوعيد ، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات ، أى : النبي».

ولعل السر في وضع هذه الآية هنا للإشارة إلى أن إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول أو الفعل ، والتعرض بالسوء لنسائه وبيته ، وعدم امتثال أمر الله مطلقا وخاصة في ستر

١١٩

عورات النساء كل هذا من لوازم النفاق العملي الذي يأباه الله ويتنافى مع حقيقة الإسلام ، ونرجو أن يمتثل المسلمون اليوم للأمر بستر عورات نسائهم حتى لا ينطبق علينا وصف النفاق.

وهذا جزاء الكافرين

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)

المفردات :

(سادَتَنا) : جمع سيد ، وهو كبير قومه (ضِعْفَيْنِ) : مثلين.

المعنى :

كان النبي يتوعد الكفار والفساق بعذاب شديد يوم الساعة ، فكانوا يسألون عن الساعة استبعادا لها وتكذيبا ، لأنهم كانوا ينكرون البعث ويقولون : ما يهلكنا إلا الدهر.

فيرد الله عليهم آمرا نبيه أن يقول لهم : قل لهم : إنما علمها عند الله فهو الذي يعلم

١٢٠