التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

يقول : أنا ربكم الأعلى ، وكان قومه قد برعوا في فن الهندسة والعمارة حتى بنوا الأهرام وأقاموا التماثيل والمسلات ، وما أروع التعبير بقوله : (ذِي الْأَوْتادِ) فتلك أبنية ثابتة شامخة ثبوت الأوتاد في الأرض ، وإذا نظرنا إلى الهرم وجدناه أشبه ما يكون بالوتد المقلوب ، هؤلاء جميعا طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد في البلاد ، ونشأ عن ذلك أنهم أكثروا فيها الفساد ، فأنزل الله عليهم من العقوبات والعذاب الدنيوي ما يشبه ضرب السياط المتتابعة المتتالية ، وما أدق قوله تعالى : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) حيث شبه الله ما أوقعه بهم من أنواع المهلكات وأصناف العذاب بضرب السياط الذي يكون في أشد العقوبات والله ـ جل جلاله ـ إنما يعذب الأمم جزاء لما كانوا يعملون (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فهو يجازى المسيء على إساءته ، ولا يفوته واحد منهم ، ولن يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء ، فاطمئنوا أيها المسلمون فغدا يلقى كل جزاءه ، واحذروا أيها المشركون فهؤلاء كانوا أشد منكم قوة وأكثر حجما.

فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥)

٨٦١

وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)

المفردات :

(ابْتَلاهُ) : اختبره بما فعله معه. (وَنَعَّمَهُ) : صيره مكرما يتمتع بالنعم.

(وَلا تَحَاضُّونَ) : لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين. (التُّراثَ) : الميراث. (لَمًّا) : شديدا. (جَمًّا) : كثيرا. (دُكَّتِ الْأَرْضُ) الدك : الدق والهدم ، ومنه : اندك سنام البعير : إذا انغرس في ظهره. (وَلا يُوثِقُ) الوثاق : الشد والربط بالسلاسل والأغلال. (الْمُطْمَئِنَّةُ) : المستقرة الثابتة المتيقنة بالحق فلا يخالجها فيه شك.

المعنى :

هذا هو الرب ـ سبحانه ـ مع المخلوقين ، فإن أردت أن تعرف الإنسان : فأما إذا ما ابتلاه بالخير في الدنيا أصابه الغرور ، وقال : إن الله أكرمنى ، ومن يكرمه الله في الدنيا فلا يعذبه في الآخرة مهما فعل من المعاصي ، وإذا ما ابتلاه بأن ضيق عليه رزقه يقول : ربي أهاننى ، ويظن أن من صغرت قيمته عند ربه لم يبال به ولا بعمله فتراه قد وقع في المعاصي وانخرط مع الجبارين ، فكأن الغنى والفقر امتحان لا ينجو منه إلا قليل ، لم يبتل الله الإنسان بالغنى لكرامته عنده ، وإلا لما رأيت كثيرا من الصالحين المقربين فقراء ليس عندهم ما يكفيهم كلا : لم تكن الدنيا دليلا على هذا وذاك ، وكان العرب يظنون أنهم على شيء يرضى الله ، وكانوا يتوهمون أنهم على دين أبيهم إبراهيم الخليل فرد الله عليهم بأنهم ليسوا على شيء بدليل أنهم لا يكرمون اليتيم بل يأخذون ماله ظلما ، ولا يحسنون إليه ، ولا يحض بعضهم بعضا على إطعام المساكين ، فكرمهم للرياء والسمعة ، لا للإنسانية. وهم يأكلون الميراث أكلا بنهم وشدة ، ويحبون المال أيا كان حبا شديدا كثيرا ، أليس هذا دليلا على أن هؤلاء الكفار المغرورين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، وأنهم ليسوا على شيء يرضى الله ولا يرضى أحدا من أنبيائه.

٨٦٢

كلا وألف كلا!! لا ينبغي أن تكونوا كما وصفكم القرآن ، ومن كان كذلك فإنه إذا دكت الأرض دكا وقامت القيامة قياما ، وجاء ربك ـ والله أعلم بكيفية المجيء ولكن نؤمن به (١) ـ والملك ...!! قاموا وأحدقوا بالناس جميعا ـ وخاصة الكفار ـ صفوفا صفوفا ، وجئ يومئذ بجهنم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (٢) يوم إذ يحصل هذا فقط يتذكر الإنسان أنه أخطأ وأهمل ، وكذب وعصى ، ولكن هل ينفعه ذلك؟! لا. وأنى له الذكرى؟! يقول الإنسان الذي عصى في الدنيا : يا ليتني قدمت عملا ينفعني في تلك الحياة الأبدية.

وكأنها هي الحياة فقط (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣).

فيومئذ لا يعذب عذاب ربك أحد ، بل هو الذي يتولى العذاب وحده بلا شريك ولا يوثق أحدا من خلقه غيره ، وهذا لأن الأمر يومئذ أمره.

هذا شأن الإنسان المادي ، وهذا جزاؤه ونهايته في الآخرة.

أما الإنسان إذا صفت روحه وسمت عن الماديات ، كانت نهايته يوم القيامة سعيدة ، ويقال له : يا أيتها النفس المطمئنة الواثقة في الله وفي لقائه ، والمستيقنة بنور الحق الذي لا يخالجه شك ، أيتها النفس ارجعي إلى ربك ، وأحظي بشرف لقائه ورضوانه ، ارجعي إلى ربك راضية عن عملك في الدنيا مرضية عنك لأن من كان معها قد رضى عنها ، والله قد رضى عنها ، وذلك هو الفوز العظيم ، فادخلي أيتها النفس في عداد عبادي الصالحين المقربين لأنك عملت عملهم ، وادخلى جنتي.

والرجوع إلى الله تمثيل لكرامة بعض خلقه عنده وإلا فالله معنا حيث كنا.

__________________

(١) وأول الخلف فقالوا : هذا تمثيل لعظمة المولى ، أو المراد : جاء أمر ربك.

(٢) سورة النازعات آية ٣٦.

(٣) سورة العنكبوت آية ٦٤.

٨٦٣

سورة البلد

مكية على الصحيح ، وآياتها عشرون آية ، وهي تتضمن القسم على أن الإنسان في كبد. وأن المغرور يظن أن لن يقدر عليه أحد ، ثم بيان بعض نعم الله على الإنسان ، ثم دعوته لاقتحام العقبة ، مع بيان أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

المفردات :

(كَبَدٍ) : تعب ومشقة. (لُبَداً) : كثيرا. (وَهَدَيْناهُ) : دللناه وبينا له.

(النَّجْدَيْنِ) النجد : الطريق المرتفع ، والمراد هنا سبيلا الخير والشر. (اقْتَحَمَ) اقتحم الدار : دخلها بشدة وصعوبة. (الْعَقَبَةَ) : الطريق الصعب ، والمراد المشاق

٨٦٤

التي تصادفك. (فَكُّ رَقَبَةٍ) : عتقها. (ذِي مَسْغَبَةٍ) المسغبة : المجاعة ، والسغب : الجوع. (مَقْرَبَةٍ) : قرابة. (مَتْرَبَةٍ) يقال : ترب فلان : إذا افتقر ، أى : أصبحت يده ملتصقة بالتراب. (بِالْمَرْحَمَةِ) : الرحمة بالناس. (مُؤْصَدَةٌ) وقرئت موصدة ، والمراد : محيطة بهم ومغلقة عليهم.

المعنى :

ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بعبارة تدل على القسم وتأكيده ـ كما بيناه في سورة القيامة وفي سورة التكوير وفي سورة الانشقاق ـ : أقسم بهذا البلد ، والمراد مكة المكرمة التي جعلت حرما آمنا (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (١) فيها الكعبة التي هي قبلة المسلمين ، وفيها مقام إبراهيم ، وفيها ظهور النور المحمدي الذي كان قياما للناس ، وأقسم بكل والد وما ولد من إنسان وحيوان ونبات ، أقسم بهذا كله على أن الإنسان خلق في تعب ومشقة ، ولعلك تسأل ما السر في قوله : وأنت حل بهذا البلد؟ أى مكة ، وقد جعل معترضا بين ما أقسم به من هذا البلد والوالد والولد وبين المقسم عليه ، فأقول لك : هذا تفخيم لمكة ورفع لشأنها ، أى : أقسم بهذا البلد ، والحال أن أهلها قد استحلوا إيذاءك وإيلامك ـ وهذا معنى : وأنت حل ، أى : مستحل لهم ـ فهم لم يرعوا حرمة بلدهم في معاملتك ، وفي هذا إيقاظ لضميرهم ، وتعنيف لهم على فعلهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعلك تسأل : وما العلاقة بين القسم والمقسم عليه؟ والجواب : أنه جاء تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو في مكة وقد ناله ما ناله من تعب ومشقة ، وهذا المتعب مما يخفف عنه أن يعلم أن أفراد الإنسان كلهم في تعب ومشقة ، ولا تنس أن ذكر الوالد والولد مما يبشر أن مكة ستلد ما به تفخر الإنسانية كلها وتعتز : وإن يكن هذا مع تعب ومشقة ، وكلنا يعرف ما يلاقي الولد والوالد في ذلك حتى البذرة في الأرض وعند الحصاد.

أيحسب (٢) الإنسان المغرور بقوته المتباهى بشدته رغم ما هو فيه من تعب ونصب أن لن يقدر عليه أحد؟! وهذا نوع منه ، وذاك نوع آخر يقول : أهلكت مالا كثيرا ،

__________________

(١) سورة المائدة آية ٦٧.

(٢) هذا الاستفهام للإنكار.

٨٦٥

وإن كان في الشر ، وهذا قول المفتونين بمالهم وغناهم ، أيظن أولئك أن الله لم يرهم ، إن الله يعلم ما أنفق ، ولا يقبل منه إلا الطيب.

يقول الشيخ محمد عبده ـ رحمه‌الله ـ في تفسيره : بعد أن أخبر الله ـ جل شأنه ـ بأن الإنسان قد خلق في كبد لام الجاهل المغرور على غروره حتى كأنه يظن أن لن يقدر عليه أحد. مع أن ما هو فيه من المكابدة كاف لإيقاظه من غفوته واعترافه بعجزه ، وبعد أن وبخ المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة وحبا في الأحدوثة مع حسن النية ، أراد أن يبين لهؤلاء وأولئك أنه مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر.

أما كان الأجدر بالإنسان : وقد خلق الله له العين ليبصر بها ، واللسان والشفة ليتكلم وينطق بهما ، وهداه إلى طريق الخير والشر بما وهبه من عقل مميز ، وبما أرسل له من رسل وبما أنزل عليه من كتب ، وترك له بعد ذلك حرية الاختيار ، أما كان يجدر به أن يختار سبيل الخير ، وينأى بنفسه عن سبيل الشر ، ويصعد بها عن الدنايا ويقتحم العقبة التي في طريقه ـ وللإنسان عقبات من نفسه وشيطانه وهما أدنياه ـ وذلك بأن يكون جودا لله فيفك الرقبة ويعتقها أو يعمل على ذلك بكل قواه ، أو يطعم في المجاعة والشدة يتيما ، والقريب أولى ، أو مسكينا يده ملصقة بالتراب لا يجد شيئا ، ثم كان بعد ذلك من المؤمنين الكاملين الذين يتواصون بالصبر على تحمل المكاره في سبيل الله ، ويتواصون أى : يوصى بعضهم بعضا بالرحمة على خلق الله ، لا تنس أن السورة تدور حول تسلية النبي ليتحمل أذى قومه.

أولئك ـ الموصوفون بما ذكر ـ هم أصحاب الميمنة السابقون السعداء في الآخرة ، أما من كفر بآيات ربه الكونية والقرآنية فأولئك هم أصحاب المشأمة : أصحاب الشمال الأشقياء الخالدون في جهنم كما يشير إلى ذلك قوله : عليهم نار مطبقة من كل جانب ، فلا خلاص لهم منها.

٨٦٦

سورة الشمس

مكية. وآياتها خمس عشرة آية ، وهي تتضمن الحث على تزكية النفس ، والقسم على أن العذاب واقع على المكذبين لا محالة كما وقع على ثمود قديما.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)

المفردات :

(وَضُحاها) الضحى : الضوء ، أو : هو النهار كله ، والأصل فيه أنه انبساط الشمس وامتداد النهار. (تَلاها) : تبعها واستمد نوره منها. (جَلَّاها) : كشفها وأظهرها وأتم وضوحها. (يَغْشاها) : يزيل ضوءها. (طَحاها) أى : بسطها ووسعها. (وَما سَوَّاها) : عدلها وكملها بخلق القوى والغرائز التي بها الحياة. (فَأَلْهَمَها) الإلهام : هو الإفهام أو التمكين والإقدار. (فُجُورَها) الفجور : هو

٨٦٧

الإتيان بما يسبب الهلاك والخسران. (وَتَقْواها) : التقوى (دَسَّاها) : النقص والإخفاء ، ومن سلك طريق الشر والمعصية فقد أنقص نفسه عن مرتبة الكمال. (بِطَغْواها) : بسبب طغيانها. (انْبَعَثَ) : أسرع. (وَسُقْياها) : شربها الخاص بها. (فَدَمْدَمَ) : أطبق عليهم. (فَسَوَّاها) أى : سوى عليهم الأرض ، أو لم يفرق بين واحد منهم وواحد.

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالشمس على أنها كوكب سيار مع ضخامتها وكبر حجمها وقوة ضوئها ، وبضحاها ، أى : ضوئها وحرها ، وهما مصدر الحياة ، ومبعث الحركة ، ومنبع نور الكون في النهار والليل ، وأقسم بالقمر إذا تلاها في ارتباط مصالح الناس به ، وتبيين المواقيت ، وإضاءة الكون ، ومن هنا كان حساب السنين إما بالسنة الشمسية أو بالسنة القمرية ، والقمر يتلو الشمس ولأنه يستمد نوره منها ، والغريب أن هذا الرأى لبعض العلماء القدامى ، وجاء العلم مؤيدا له ، وأقسم بالنهار إذا جلاها ، أى : أظهر الشمس وأتم نورها ، والنهار من الشمس ، وكلما كان أجلى كانت الشمس كذلك لأن قوة الأثر تدل على قوة المؤثر فصح بهذا قوله ـ جل شأنه ـ : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) ترى أن الله أقسم بالضوء الذي يعم الكون عن طريق مباشر كما في الشمس أو عن طريق غير مباشر كما في القمر ، وبالنهار الذي هو زمانه ، ثم بعد ذلك أقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويستر ضوءها عنا فالنهار يظهرها ، والليل يسترها ، فسبحان من خلق هذا ، وإذا كانت الشمس يجليها النهار ويسترها الليل هل يعقل أن تعبد وتكون إلها؟!

وأقسم بالسماء وعوالمها وقد بناها الله وأحكم رباطها ، وقوى جاذبيتها فلا ترى فيها خللا ولا عوجا لأنها صنعة الحكيم القادر. وأقسم بالأرض وما طحاها ، أى : بسطها في نظر العين ووسعها ليعيش عليها الخلق ، وأقسم بالنفس (١) والذي سواها وأحكم

__________________

(١) اختلف العلماء في (ما) هذه ، فقيل : مصدرية ، والأحسن أنها موصولة ، والمراد الوصف لا الذات ، ولذا حسن التعبير (بما) دون (من).

٨٦٨

أمرها ومنحها القوى والغرائز التي تستكمل بها الحياة ، فترتب على ذلك أن خلق لها عقلا يميز بين الخير والشر وذلك من تمام التسوية ، وأقدرها على فعل المعصية التي تهلكها والخير الذي ينجيها ويقيها من السوء ، قد أفلح من زكاها ونماها وأعلاها. وقد خاب وخسر من دساها حتى جعلها في عداد نفوس الحيوانات. فإن الإنسان يرتفع عن الحيوان بتحكم العقل والسمو بالنفس عن مزالق الشهوات ، أما إذا انحط إلى المعاصي وحكم الشهوة في نفسه كان هو والحيوان سواء. ويصدق عليه : أنه دسى نفسه وأنقص مرتبتها وجعلها في عداد نفوس الحيوانات التي تحكمها شهوتها لا عقلها.

أقسم الله بذلك كله والمقسم عليه محذوف لتذهب فيه النفس إلى كل مذهب ، وتقديره : لتبعثن ، أو ليحاسبن المسيء على إساءته ، والمحسن على إحسانه ، وربما كان هذا هو الظاهر والدليل عليه هو ذكر قصة ثمود هنا ، وقيل : إن الجواب (قد أفلح من زكاها) واللام حذفت منه ، وقصة ثمود مع نبيهم صالح ذكرت قبل هذا.

كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاهم الذي عقر الناقة ، فقال لهم رسول الله صالح : احذروا ناقة الله وسقياها ، وأطبق عليهم العذاب ، ولم يترك منهم أحدا لأنهم رضوا عن فعل صاحبهم ، والله لا يخاف عاقبة ما فعل بهم ، لأنه عادل في حكمه وقوى قادر في عمله.

٨٦٩

سورة الليل

مكية على الصحيح. وآياتها إحدى وعشرون آية ، وفيها أقسم الله على أن الناس مختلفون في العمل والثواب ، ثم أنذرهم نارا حامية أعدت لمن عصى وحرمت على من أطاع ، وهذه السورة قيل : إنها نزلت في أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)

المفردات :

(يَغْشى) : يستر الكل بظلامه ويواريه. (تَجَلَّى) : ظهر وانكشف (لَشَتَّى) : جمع شتيت ، وهو المتباعد بعضه عن بعض ، والمراد : مختلف نوعا

٨٧٠

وجزاء. (بِالْحُسْنى) : بالخصلة الحسنى. (لِلْيُسْرى) : للخصلة السهلة التي تنتج خيرا. (لِلْعُسْرى) : للخصلة المعقدة والفعلة المتعبة التي لا تنتج إلا شرا. (تَرَدَّى) : هوى وسقط والمراد نزل إلى قبره. (تَلَظَّى) أصلها : تتلظى ، أى : تتوهج وتتقد. (لا يَصْلاها) : لا يحترق بها. (إِلَّا الْأَشْقَى) : كثير الشقاء. (سَيُجَنَّبُهَا) : يبعد عنها. (الْأَتْقَى) : المبالغ في التقوى. (تُجْزى) : تستحق الجزاء.

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالليل إذا يغشى هذا الكون بجحافله ، لا يفلت منه شيء ، والليل الذي يستر الكل بظلامه ، ويواريه تحت جنحه فيسكن الكون ، ويموت الحي ميتة صغرى ، وأقسم بالنهار إذا تجلى وانكشف بطلوع الشمس فانكشف بظهوره كل شيء ، ودبت الحياة في الحي ، واستيقظ الكل يسعى وراء العيش ، بعد طول الهجود والنوم. فسبحانك يا رب جعلت الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، وماذا كان الحال لو أن الليل كان دائما أو النهار؟! وأقسم بالذي خلق الزوجين الذكر والأنثى من المنى مع أن الماء واحد ، والمكان واحد ، ولكنه ـ جل جلاله ـ يهب لمن يشاء إناثا ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ، سبحان الله خلق الليل والنهار ، والضوء والظلام ، والذكر والأنثى ، على أن المادة واحدة في الجميع ، ثم أقسم بهذا كله على أن سعيكم أيها الناس لمختلف نوعا وجنسا وغاية ونهاية ، قل كل يعمل على شاكلته (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١)؟ (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢). (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٣)؟.

__________________

١ ـ سورة الجاثية آية ٢١.

(٢) سورة الحشر آية ٢٠.

(٣) سورة السجدة آية ١٨.

٨٧١

فأما من أعطى بعض ما عنده وبذل ما في وسعه ، واتقى الله ومحارمه ، ونهى النفس عن الهوى ، وصدق بالحسنى والفضيلة تصديقا قلبيا مقرونا بالعمل الخالص فالله يجزيه ويهديه وييسر له الخصلة اليسرى والفعلة الطيبة لأن قلبه قد ملئ بالنور ، واعتاد الخير ، وأما من بخل بما عنده واستغنى به عن الناس ، فلم يعمل لهم خيرا ولم ينظر لهم ، لأنه مغرور بما عنده ، وكذب بالفضيلة فالله يجزيه ولا يهديه ، وييسره دائما للفعلة العسرى التي فيها حتفه وهلاكه ، فكان الأول من أهل الجنة ، وكان الثاني من أهل النار.

من صدق بالحسنى وعمل لها فأعطى واتقى. يسره الله لأيسر الخطتين وأسهلهما في أصل الخلقة وهي خطة تكميل النفس بالكمال وفعل الصالحات لتسعد بمزاياها في الدنيا والآخرة ، وهذا ـ كما يقولون ـ أصل العادة التعود ، فإذا تعودت أولا فعل الخير أصبح عادة لك بتيسير الله وهذا معنى (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) والعكس صحيح (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) لأن من مرنت نفسه على فعل الشر ، واستشرى معها الفساد فإن الله ـ على حسب سنته ـ يسهل له تلك الخطة العسرى وهي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه ويرتمى في أحضان الرذيلة ، أو إذا تردى في قبره وسقط ، فماذا يغنى عنه ماله؟!

ولكن كيف يحاسب الله العبد على ذنب أطلق له الإرادة فيه ومكنه من عمله! والجواب تكفل به القرآن فقال ما معناه : إن علينا وقد خلقنا الإنسان للعبادة ، أى : ليحرز الثواب في الدنيا والآخرة أن نهديه وندله على طريق الخير والشر ، ونطلق اختياره ، ونمكنه من العمل ، وهذا تقويم له وتشريف ، فمن يعمل بعد ذلك خيرا يثب عليه أو شرا يجاز عليه ، وهذا كقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) وإن لله الآخرة والأولى ، والله أنذركم أيها الناس نارا تلتهب وتحترق بشدة فاحذروها. فإنه لا يصلاها ولا يحترق بها إلا الشقي المبالغ في الكفر أو المعصية ولم يتب ، وهو الذي كذب بالله وكفر. وتولى عن الحق وأعرض عنه ، ولم يرجع إليه في لحظة من اللحظات ، وسيبعد عنها التقى المبالغ في التقوى والهداية الذي يؤتى ماله يتزكى به لوجه الله ، وليس لأحد عنده من نعمة أو يد يجازيه عليها لكن كل عمله وصدقته ابتغاء وجه الله ورضوانه وهذا الصنف سيعطيه الله في الدنيا والآخرة حتى يرضى. ألم يبين الله لكم أيها الناس طريق الخير وطريق الشر ونهاية كل ، فمن يعمل بعد ذلك مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذررة شرّا يره ، على أن العقل وحده وطبيعة الإنسان قد تدرك أصل الخير والشر.

٨٧٢

سورة الضحى

مكية. وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يقسم الله ، أنه ما ودع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قلاه ، وأن آخرته خير من أولاه ، وأنه يعطيه حتى يرضيه ، ثم يطلب منه الإقرار ببعض النعم عليه ، ثم إرشاده إلى بعض الفضائل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)

المفردات :

(وَالضُّحى) : ضوء الشمس في شباب النهار. (سَجى) : سكن.

(وَدَّعَكَ) : تركك. (ما قَلى) يقال : قلاه يقلاه ، ويقليه : إذا أبغضه وكرهه.

(فَآوى) : أسكن ورعى. (ضَالًّا) : حائرا ، فليس من الضلال بل من الحيرة.

(فَهَدى) : فوفقك إلى أحسن طريق. (عائِلاً) : فقيرا. (فَلا تَقْهَرْ) : فلا تذله. (فَلا تَنْهَرْ) : لا تزجر.

٨٧٣

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالضحى ساعة ارتفاع الشمس أو النهار ، وساعة امتلاء الكون بالحياة والضوء والحرارة ، وأقسم بالليل إذا سكن (١) وهدأ كل ما فيه بعد حركة واضطراب. أقسم بهذا وذاك على أنه ما تركك يا محمد وما كرهك ، وكيف ذلك وأنت الحبيب المختار والرسول الأمين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين.

ولقد اتصل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمين جبريل حينما بعث ، وهذا الاتصال لأنه بين ملك وبشر كان شديدا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) لهذا فتر الوحى وانقطع لتطمئن نفس الرسول ويتجدد عزمه ، وتقوى نفسه على ملاقاة جبريل ، فيبحث عنه ويطلبه ، فكانت فترة الوحى تأديبا وتطمينا وإصلاحا.

ولقد تاقت نفسه الشريفة إلى ملاقاة ربه عن طريق جبريل واشتاق إلى ذلك. ومع الشوق قلق وخوف. فأراد الحق أن يطمئن الرسول على ما يطلب بذكر ما صنعه معه. وتبشيره بمستقبل زاهر ، وأن هذه الفترة لم تكن عن ترك ولا بغض وأقسم له على ذلك. ولعلك تسأل عن العلاقة بين القسم بالضحى والليل وبين المقسم عليه؟ والجواب أن الوحى وانقطاعه للاستجمام والتقوية والاطمئنان كان أشبه بالضحى وما فيه من حركة وحياة ثم ما يعقبه من ليل يسكن فيه الكون ليستجم ويستعد لكفاح وحياة أخرى سعيدة.

والضحى والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما تركك عن غضب عليك. واعلم أن الآخرة ـ أى : الأيام المستقبلة الآتية ـ خير بلا شك من أيامك هذه ، فثق أن دعوتك وحياتك تنتقل من طور إلى طور أحسن ، وإن يكن في ذلك نوع من التعب والمشقة ، ولسوف يعطيك ربك من توارد الوحى الذي تطلبه لإرشاد قومك ، وهداية العالم ما به ترضى وتطمئن ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة ، ألم يجدك (٢) يتيما فآواك

__________________

(١) عبر هنا بالماضي ، وفي سورة الليل بالمضارع لأن الماضي يدل على اللزوم والمضارع بدل على التجدد وسكون الليل لازم ، وغشيانه الوجود بالظلمة متجدد إذ قد يتخلله نور القمر.

(٢) الاستفهام هنا للتقرير.

٨٧٤

وأيدك ورعاك ، وقد ولد النبي يتيما إذ مات أبوه وهو في بطن أمه ، فلما ولد عطف الله قلب جده عليه فرعاه وحنا عليه حنوا كثيرا ، ثم لما مات جده عبد المطلب كفله عمه أبو طالب بأمر من جده ، وكان شديد الحرص عليه كثير العطف والحماية له.

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذا روح قوية نقية طاهرة فكان يرى أن قومه على ضلال ، وأن الأديان المحيطة بهم كاليهودية ، فأصابته حيرة من أمره ، وفر من هذا المجتمع ، وحبب إليه الخلاء والمكث في الغار حتى أنقذه الله من حيرته ، وهداه إلى أسمى شريعة وأعظم دين : وهذه الحيرة التي كان فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي التي عبر عنها القرآن بالضلال ، وإلا فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نشأ طاهرا مطهرا لم يدنس نفسه بالسجود إلى صنم ، ولم يقترف فاحشة أبدا ، بل ذهب مرة ليستمع إلى حفل فيه غناء فنام حتى أيقظته الشمس ، وهو الملقب بالأمين ، وقد كان فقيرا ـ لم يرث عن أبيه إلا ناقة وجارية ـ فأغناه الله بالقناعة ، وجعله عزوفا عن الدنيا ، وأدر عليه بعض المال من تجارته في مال خديجة ، إذا كان الأمر كذلك وقد غمرك الله بفضله يا محمد ، فأما اليتيم فلا تقهره أبدا ، وأنت سيد الأيتام وزعيمهم ، وأما السائل فلا تنهره ، وقد كنت ضالا فهداك الله ، وأما بنعمة ربك فحدث بالإنفاق ، وقد كنت فقيرا فأغناك الله.

٨٧٥

سورة الانشراح

مكية. وآياتها ثمان آيات ، وهي كسابقتها في تعداد النعم التي من الله بها على نبيه ، مع تطمينه ، وحثه على العمل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)

المفردات :

(نَشْرَحْ) الشرح : التوسعة والبسط ، وشرح الصدر : كناية عن السرور وانبساط النفس. (وِزْرَكَ) الوزر : الحمل الثقيل. (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) : أثقله. (الْعُسْرِ) : الصعوبة والشدة. (يُسْراً) : سهولة ولينا. (فَانْصَبْ) : فاتعب في تحصيل غيره. (فَارْغَبْ) : فاتجه إلى الله وحده.

هذه السورة كأنها امتداد للسورة السابقة ، ولذا تراها مرتبطة معها أشد ارتباط حتى قال بعضهم : إنهما سورة واحدة.

المعنى :

قر يا محمد واعترف ـ بهذه الحقيقة التي لا ينكرها أحد ـ بأنا شرحنا لك صدرك ، وجعلناه يتسع لكل ما يصادفه ، شرحنا صدرك للقيام بالدعوة خير قيام وتحمل أعبائها

٨٧٦

بنفس راضية وقلب مطمئن ، وقد كان الرسول يضيق صدره بما يقولون. ويتألم مما يفعلون (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١). وهذه الدعوة العامة الشاملة التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو بها العرب الجاهلين والناس أجمعين ، هذه الدعوة عبء ليس بالخفيف بل عبء من أشد ما يكون ، وحمل تنوء به كواهل الفطاحل ، وينقض لأجله ظهور الأكابر ، ولكن الله بما تعهد به لنبيه المصطفى من الآيات والإرشادات ، والتوجيهات قد وضع عنه وزره الذي أثقل ظهره لو لا لطف الله.

ولقد رفع له ذكره ، وهل هناك رفعة أعلى من اقتران اسمه باسم الله في الأذان والتكبير ، والدعاء والصلاة ، ألم يجعل الله طاعة رسوله من طاعته ، وحبه من محبته؟ وأى مكانة أرفع من أن يكون له في كل ركن في الأرض أتباع وأنصار يدينون للنبي بالطاعة والولاء؟

ألم تر إلى الصحابة وهم يتسابقون إلى مجلسه والتمتع بحلو حديثه ، والاستشفاء بمخالفاته؟ تلك بعض نعمه على رسوله ، والله أعلم بغيرها.

نعم ما قد شرح الله صدره ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ليس في الأرض فقط ، بل عند سدرة المنتهى ، عند جنة المأوى ، وكان هذا كله بعد أن لحق بالنبي ما لحق من أذى قومه وعنتهم ، حتى ضاق صدره ، ولا عجب في ذلك ، فإن مع العسر يسرا : وانظر إلى قوله : مع العسر ، ثم إلى قوله : يسرا ، أى : بالتنكير ، وكما يقول الرسول : لن يغلب عسر يسرين (٢) أما العسر الذي كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة فهو الفقر وقلة الصديق ، وقوة العدو وشدة مقاومته ، وقد جاءهم اليسر فكثر المال والصديق ، وضعف قوة العدو ، وأما قوة المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم

__________________

(١) سورة الحجر الآيات ٩٥ ـ ٩٨.

(٢) هذا المعنى مأخوذ من أن العسر ذكر معرفا فهو يدل على عسر واحد ، وذكر اليسر منكرا فتراه يدل على أكثر من واحد.

٨٧٧

خصاصة ، يحبون إخوانهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، إن قتلوا فهم الشهداء ، وإن عاشوا فهم السعداء ، فقد كانت ـ ولا تزال ـ مضرب الأمثال.

وهل كل عسر يعقبه يسر كما هو ظاهر في القرآن؟ الظاهر ـ والله أعلم ـ أنه كذلك متى سار صاحب العسر على سنن الله الكونية ، فتذرع بالصبر ، واستعد للمقاومة وصابر نفسه وصبر على المكروه ، وعمل على التخلص منه ، عند ذلك يرزق اليسر ، بأى شكل وعلى أى وجه ، أما إذا حقت كلمة الله فإن صاحب العسر يتخبط في سيره ، فينطبق عليه قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) والأمر كله أولا وأخيرا لله ، والمشاهد أن مع العسر يسرا ، ولكن اليسر يختلف تبعا لحكم يعلمها الله ، وانظر إلى التربية القرآنية ، وإلى النصيحة الإلهية للحبيب المصطفى ، وكذلك كل فرد يريد أن يهتدى بنور القرآن. فإذا فرغت من أى عمل خير فانصب في غيره واعمل على تحقيقه بتوفيق الله ، وإلى الله وحده فارغب ، وعليه وحده فتوكل ، فإنه نعم المولى ، ونعم النصير.

__________________

(١) سورة القصص آية ٨٨.

٨٧٨

سورة التين

مكية. وآياتها ثمان آيات ، وفيها يقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بأنه خلق الإنسان فعدله ، ثم رده حتى كان أسفل سافلين ، إلا المؤمنين فلهم الثواب الكبير ، والله أحكم الحاكمين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)

المفردات :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) : هما الشجرتان المعروفتان ذات الثمر المعروف ، أو هما مكانان في الشام. (طُورِ سِينِينَ) : الجبل المسمى بهذا الاسم في طور سينا ، والذي ناجى موسى عليه ربه. (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أى : مكة. (تَقْوِيمٍ) يقال : قومت الشيء تقويما : إذا جعلته على أعدل وجه وأكمل صورة. (أَسْفَلَ سافِلِينَ) المراد : جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل من كل سافل. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) : غير مقطوع. (بِالدِّينِ) : بيوم الجزاء.

المعنى :

أقسم الله بالتين والزيتون ، وبطور سينين التي ناجى فيها موسى ربه ، وبهذا البلد الأمين ، وهو مكة التي يقاسى فيها النبي الأمرّين من قومه ، مع أنها البلد الأمين الذي

٨٧٩

يأمن صاحبه ومن دخل فيه من كل صوب ، بل يأمن فيها الطير والوحش والقاتل المطلوب ، ولكن ما المراد بالتين والزيتون؟ هل هما الشجرتان المعروفتان؟ وأقسم الله بهما لمزيد فضلهما ، ولمكانتهما الطيبة المعروفة ، غير أن النسق العام للقرآن البليغ يأبى ذلك ، ولهذا قيل : المراد بهما مكانهما ، وهما يكثران في الشام التي كان فيها السيد المسيح عليه‌السلام ، وعلى ذلك يكون القسم بهما للإشارة إلى المسيح وبطور سيناء للنبي موسى كليم الله ، وبهذا البلد الأمين لخاتم الأنبياء والمرسلين ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وبعض العلماء يقول : التين والزيتون موضعان في الشام ، وهذا يحتاج إلى تصديق الواقع له.

قد أقسم الله بهذه الأمكنة المقدسة لشرف من حل بها من الأنبياء والرسل لقد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، أى : على أحسن حال وأكمل صورة ، ألا تراه وقد خلقه مستوى القامة مرفوع الرأس ، يأكل بيده ، قد وهبه العقل والتفكير ، والقدرة على تسخير غيره من الحيوان والنبات ، بل امتد عقله ، واتسع تفكيره إلى أن سخر الطبيعة وذللها لأغراضه ومنافعه ، والشواهد على ذلك كثيرة الآن.

ولعل السر في هذا القسم لفت أنظار الناس إلى أنفسهم ، وما ركب فيها من قوى وإدراك وعقول وتمييز ليصلوا بهذا إلى توحيد الله القوى القادر ، هذا الإنسان الذي خلقه ربه فأكرمه ونعمه ، وجعله يستولى على جميع العوالم ، قد كان في أول أمره ساذجا قليل الأطماع ، لم تتنبه فيه غرائز الشر ، ثم تنبهت فيه عوامل الشر ، وغرائز السوء حتى ظهر الحقد والحسد والتنازع والإفساد ، وكان القتال والنزاع والحروب. وأصبح الإنسان كالحيوان المفترس.

وضريت نفسه حتى صار أعظم اغتيالا لأخيه الإنسان من السباع ، وهذا معنى قوله : ثم رددناه أسفل سافلين ، ففطرة الله التي فطر الناس عليها تدعو إلى التراحم والتعاون وإيثار العدل والخلق الكامل ، ولكن الإنسان قد ينزع إلى الشر بعوامل البيئة التي تحرك فيه مصادر السوء. وحينئذ ينسى فطرته ، ويعود إلى حيوانيته. ويعمل عمل أهل النار ، فيكون أسفل من كل سافل وأشد من كل حيوان ضار.

٨٨٠