التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

ويناقش بعضهم بعضا في حالهم التي وصلوا إليها ، لو تراهم والحالة هذه لرأيت أمرا عجبا.

ولو تراهم إذ يقول الأتباع والمستضعفون للذين استكبروا وتعالوا عليهم من القادة والرؤساء : لو لا أنتم أيها الرؤساء موجودون لكنا مؤمنين ، فأنتم السبب في كفرنا وعليكم التبعة ، وأنتم تستحقون مضاعفة العذاب. وبما ذا رد الذين استكبروا؟ قالوا لهم : أنحن صددناكم عن الهدى ومنعناكم منه بعد إذ جاءكم؟ لا لم يحصل هذا أبدا. بل كنتم أنتم مجرمين ومرتكبين الإثم والكفر باختياركم وميلكم ، ليس لنا دخل في صدكم وكفركم بالله ، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا يردون عليهم مقالتهم : بل مكركم الدائم ليلا ونهارا هو الذي حملنا على الكفر وأمرنا به ، نعم دعايتكم المسمومة وحيلتكم الفتاكة ووضعكم في موضع القيادة والتبع ، كل هذا أثر فينا حتى كفرنا وأشركنا من حيث لا نعلم ، فكان ما صنعتموه معنا أشبه شيء بالمكر والحيلة حتى وصلنا إليه.

وأظهروا جميعا ـ التابعون والمتبوعون ـ الندامة لما رأوا العذاب محضرا ، وجعلنا الأغلال في أعناقهم فلا يفلتون من عذاب ربك أبدا ، وهل هذا إلا جزاء أعمالهم في الدنيا؟ نعم وهل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟

تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ

١٤١

بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)

المفردات :

(مُتْرَفُوها) : أغنياؤها وقادتها (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) : يوسعه (زُلْفى) وزلفى كقربى في الوزن والمعنى (جَزاءُ الضِّعْفِ) أى : الجزاء المضاعف (مُعاجِزِينَ) : مغالبين (وَيَقْدِرُ لَهُ) يقدر : يضيق (يُخْلِفُهُ) : يجعل له خلفا ..

وهذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن أخلاق الكفار وأعمالهم واحدة في كل زمان ومكان حتى لا يتألم الرسول ، وبهذا نعرف لكفار مكة موقفا آخر.

المعنى :

وما أرسلنا قبلك في قرية من نذير ورسول إلا قال مترفوها وأغنياؤها حسدا من عند أنفسهم وبغيا وغرورا كاذبا قالوا : إنا بما أرسلتم به أيها الرسل كافرون ، إذ لو كان هذا الذي يدعيه الرسول حقّا لكنا أولى به منه (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وقالوا كغيرهم : نحن أكثر أموالا وأولادا (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) وإذا كنا كذلك في الدنيا ، وهذا الرزق من عند الله كما هو معلوم ، فنحن أكرم على الله منكم إذ أنتم فقراء ضعفاء ، وإذا كان الأمر كذلك فما نحن يوم القيامة بمعذبين أصلا ؛ إما لأنه لا بعث ولا جزاء ، أو إن كان هناك جزاء فنحن أصحاب الجزاء الحسن لأن الله أعطانا لكرامتنا ومكانتنا عنده.

عجبا لهؤلاء! ليس الرزق في الدنيا لكرامة صاحبه على الله ، ولكن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقتر الرزق على من يشاء تبعا لحكمة هو يعلمها بقطع النظر عن عمل الصالحين والفاسقين ، أما جزاء العمل الصالح والعمل الفاسد فهو يوم القيامة فقط ،

١٤٢

يعطى العاصي والكافر استدراجا ، ويمنع الطائع ابتلاء واختبارا لتكثر حسناته ويعظم عند الله أجره.

ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فهم يزعمون أن مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار التضييق هو الهوان والذل ، وما علموا أن البسط قد يكون استدراجا ، والتقتير قد يكون للابتلاء ورفع الدرجات.

وما أموالكم بالتي تقربكم عند الله زلفى وقربى ، ولا أولادكم كذلك ، فما الأموال ولا الأولاد تقرب أحدا إلى الله ، لكن المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ، ويعلم أولاده الخير ، ويربيهم على الإسلام وينشئهم تنشئة إسلامية مدارها على حب الله والوطن وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فأولئك لهم الجزاء المضاعف إلى عشر أو إلى سبعمائة بما عملوا ، وهم في غرفات الجنة هم آمنون ، ولا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون.

والذين يسعون جاهدين ومنفقين النفس والنفيس في إبطال آياتنا معاجزين لله على حسب ظنهم القاصر وإدراكهم العاجز أولئك هم في العذاب محضرون ، وفي نار جهنم مخلدون! جزاء بما كانوا يعملون.

قل لكفار مكة الذين كانوا يفاخرون ويباهون بكثرة الأموال والأولاد : إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقتر عليه ، وقد كرر هذه العبارة للتأكيد ، وقيل : بينهما مخالفة فالأولى لشخصين أحدهما وسع عليه والثاني قتر عليه ، وأما هنا فلشخص واحد في وقتين بدليل ذكر الضمير الذي يعود على (من) في قوله : «له» وهذا مما يؤكد أن التوسيع والتقتير ليس لكرامة ولا لهوان ، فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد ، وليس المقصود من الأموال التباهي بها ، والاعتماد عليها ، وإنما الواجب أن يستغلها صاحبها في الإنفاق ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأبقيت».

فاعلموا أيها الناس أن ما أنفقتم من شيء في سبيل الله ، وسبيل الله هنا موسعة فالنفقة الواجبة من صدقة أو زكاة ، والنفقة المندوبة على الأهل والأولاد كلها هنا في سبيل الله ، ما أنفقتم من شيء في هذا فالله يخلفه ، وهو خير الرازقين. والمراد بقوله : «يخلفه» يعطيه بدله وخلفه ، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وعن أبى هريرة قال : قال

١٤٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهمّ أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهمّ أعط ممسكا تلفا». وعن أبى هريرة أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله قال لي : أنفق أنفق عليك» وهذا إشارة إلى إعطاء البدل في الدنيا إما بالمال أو بالقناعة والرضا ، وهما كنزان ، أو في الآخرة وهو الثواب الجزيل ، وذلك كله إذا كانت النفقة في طاعة الله ، وعلم من هذا أن الخلف قد لا يكون في الدنيا.

بعض مواقف الكفار في الدنيا والآخرة

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ

١٤٤

مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)

المفردات :

(يَصُدَّكُمْ) : يمنعكم (إِفْكٌ) : كذب (مُفْتَرىً) : مختلق لا أساس له (يَدْرُسُونَها) : يقرءونها (مِعْشارَ) المعشار والعشر سواء ، وقيل : المعشار : عشر العشر ، أى : واحد في المائة ، وقيل : هو عشر العشير ، والعشير العشر ، أى : واحد في الألف (نَكِيرِ) المراد : فكيف كان عقابي وعذابي (مَثْنى وَفُرادى) المراد : وحدانا وجماعات (مِنْ جِنَّةٍ) : من جنون (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) المراد : يبين الحجة ويرمى بها الباطل (فَزِعُوا) الفزع : الخوف والاضطراب (فَلا فَوْتَ) أى : فلا هروب ولا نجاة (التَّناوُشُ) أصل التناوش : التناول بسهولة ويسر (وَيَقْذِفُونَ) : يرمون (بِأَشْياعِهِمْ) جمع (شيع) الذي هو جمع شيعة ، وهي الجماعة المتشيعة لمذهب أو لرجل.

١٤٥

المعنى :

وتلك مواقف من مواقف المشركين في الدنيا والآخرة ، ولا غرابة إذا طال نقاش القرآن لهم فيها ، وعرض أمورهم عرضا واضحا مكشوفا مع الرد عليهم في كل جزئية ، إذ السورة مكية والمقام يقتضى ذلك لعلهم يثوبون إلى رشدهم ، ويرجعون عن غيّهم.

واذكر يوم يحشرون جميعا ، ويجمعون للحساب جميعا ، ويا هول ذلك الموقف الشديد موقف الزحام والحساب العسير. ثم يقول ربك للملائكة في هذا الاجتماع وعلى رءوس الأشهاد : أهؤلاء ـ الإشارة للكفار ـ إياكم كانوا يعبدون؟! أهؤلاء الكفار كانوا يخضعون لكم بالعبادة والتقديس وأنتم خلق من خلق الله؟! فتقول الملائكة : سبحانك يا رب وتنزيها لك بعد تنزيه ، أنت ولينا ومتولى أمورنا وأمور غيرنا من خلقك ، يا رب أنت الذي نواليك ونتقرب منك بالعبادة ونواصلك ونرجوك ، وليس بيننا وبينهم موالاة من جهتنا ، وهذا معنى قوله : «من دونهم» ثم بينوا السبب الحامل لهم على عبادتهم فقالوا : بل كانوا يعبدون الجن ، أى : فليس لنا دخل ، وإنما السبب هو الجن ؛ حيث أطاعوهم في عبادة غير الله ، وقيل : إن حيّا من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنهم من الملائكة ، وأنهم من بنات الله (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً).

فالاستفهام في قوله للملائكة : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ)؟ للتفريغ وتوبيخ الكفار على عبادتهم غير الله ، وهو جار على نظام المثل القائل : «إياك أعنى واسمعي يا جارة» وهدا يشبه قول الله للمسيح : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ)؟ [سورة المائدة آية ١١٦] ، فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا كشفاعة ونجاة ، ولا ضرا كعذاب أو هلاك بل الأمر يومئذ لله ، وإليه وحده ترجع الأمور ، ويقال حينئذ توبيخا وتأنيبا للكفار : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.

ذلك موقف لهم شديد من مواقف يوم القيامة ، وما أطوله عليهم! وهذا موقف آخر في الدنيا سيق بيانا لسبب هذا العذاب الشديد :

هؤلاء الكفار والمشركون إذا تتلى عليهم آياتنا بينات واضحات كالشمس أو أشد قالوا : ما هذا الذي يتلو عليكم الآيات إلا رجل ـ كأنه غير معروف ـ يريد لأمر في نفسه أن يصدكم عن عبادة آبائكم وأسلافكم الآلهة التي كانوا يعبدونها ، فهذا رجل

١٤٦

) يسفه أحلام أسلافكم ، ويعيب آلهتكم .. وقالوا في شأن القرآن الذي يتلى : ما هذا إلا كذب واختلاق وزور وبهتان : ولما رأوا أثره في النفوس وفعله في القلوب قالوا : ما هذا إلا سحر مبين ؛ فهم يتخبطون ولا يدرون ما ذا يقولون؟ فتارة قالوا : إنه سحر ، وتارة قالوا إفك وكذب. وهذا شأن المتخبط المتحير الذي أغشى عينه قوة النور ، وبهر نفسه بريق الحق فهو لا يدرى ماذا يقول؟!

يا عجبا لهؤلاء! كيف توصلوا إلى ذلك الحكم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!

هل في سيرته أو في دعوته أو في شخصه ما يدعو إلى ذلك؟ معاذ الله إنه الصادق المصدوق ، الأمين العفيف عن الدنيا وأعراضها الزائلة! الذي أتى بالهدى والرحمة للناس جميعا وما سندهم في هذا الحكم؟ أعندهم كتاب يقرءون فيه ذلك؟! أو أرسل إليهم قبلك يا محمد رسول بلغهم ذلك؟ لا .. لا لم يكن عندهم كتاب ينطق بتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرسل قبلهم رسول يكذبه ، ولم يكن عندهم في الخارج أى دليل على صدق قولهم بأنه ساحر أو كذاب أو به جنون؟!

ولكنهم كذبوا لا عن دليل ، وأعرضوا مع وجود ألف دليل ودليل على صدق الرسول ، ولا غرابة فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة ، وما بلغ أهل مكة معشار ما آتينا تلك الأمم من قوة وسلطان ، أو علم وحجة وبرهان.

فكذبت الأمم رسلي فكانت العقوبة الصارمة. والجزاء العاجل والهلاك المهلك فكيف كان عقابي؟ وفي هذا تهديد لهم شديد.

ثم رجع القرآن بعد هذا يستدرجهم. ويعرض عليهم الدين ويطالبهم أن يحكموا عقولهم ، وينظروا ببصائرهم لعلهم يرشدون فقال : قل لهم يا محمد : إنما أعظكم وأذكركم ، وأحذركم سوء عاقبتكم ، أعظكم بواحدة ، أى : بخصلة واحدة فقط هي أن تقوموا لله وحدانا ومجتمعين منفردين بالرأى أو متشاورين. ومعنى القيام هنا هو طلب الحق لوجه الحق ، وما أقوى هذا التصوير وما أبلغه؟! إنه لتصوير رب العالمين بلا شك. تقومون تاركين القعود والكسل. والخمول والتقليد ، تاركين موت النفس ونوم العقل متسلحين بيقظة الضمير ونشاط العقول ، ناظرين متفكرين في هذه الرسالة وصاحبها ، مجردين أنفسكم من كل ما يعوق البحث الحر ، والفكر السليم الخالي من الهوى والغرض.

١٤٧

ثم تتفكروا ما بصاحبكم؟! هل جربتم عليه كذبا؟ لا : إنه الصادق ، هل جربتم عليه خيانة؟ .. لا. إنه الأمين ، هل رأيتم فيه ميلا إلى الدنيا حتى يقال إنه يطلب المال أو الملك؟ لا : إنه العفيف عن الدنيا وأهلها ، هل رأيتم عليه فسادا أو تحللا أو نشوزا أو سوء خلق؟ لا : بل هو الرجل الحكيم المتزن في كل أفعاله ، تفكروا في رسالته هل يدعوكم إلى فسق أو فجور أو يدعوكم إلى حق ونور وعلم وعرفان؟ هل يدعوكم إلى أسر التقليد ، وحمى الجاهلية وسوء العمل أو يدعوكم إلى الحرية المنظمة وإلى الحضارة المقدسة وإلى العلم النافع ، وإلى تكوين المجتمع الصالح ، وخلق الفرد الكامل الذي يسعى لخير الدنيا والآخرة؟!

نعم إنه يدعو إلى بناء الفرد والمجتمع والدولة ، ويحارب الرذيلة ، والاستبداد ويمنع جور الحكام وظلم الأقوياء والأغنياء ، إنه يدعو إلى نصرة الفقير ، وإعانة المظلوم ، وإغاثة الملهوف ، إنه نذير بين يدي عذاب شديد.

إنه يدعو إلى كل خير ، ويحرم كل شر فتفكروا بصائركم عسى أن يهديكم ربكم إلى الحق ونوره.

قل يا محمد لهم : لست رجلا طالبا للدنيا وعرضها ، ولست أبغى من دعوتي أجرا ولا مالا ولا جاها ولا سلطانا ، إن أجرى إلا على الله ، وهو على كل شيء شهيد.

قل لهم تطمينا لقلوب المؤمنين أتباعك ، وتثبيتا لهم على دعوتك ، وتهديدا للمخالفين : إن ربي يقذف بالحق ليدمغ الباطل ، وهو علام الغيوب ، ولله ما أقوى هذا التعبير جعل الحق كالقنبلة التي تقذف من حكيم عليم بارع يعلم خفايا مهنته أتراها لا تصيب الهدف؟ فصبرا أيها المسلمون ثم صبرا ، قل : جاء الحق ، وزهق الباطل ، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ إنه لا ثبات له ولا قرار ، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

قل لهم يا محمد : إنه ضللت فإنما أضل على نفسي لأنها هي التي أمرتنى بالسوء ، وإن اهتديت فبسبب ما يوحى إلى من ربي إنه سميع قريب.

ومن هنا نعلم أن طريق الضلال هو النفس الأمارة بالسوء ، وما يحيط بها من مجتمع فاسد موبوء ، وأن الهداية والخير ، والنور والفلاح من طريق الوحى والقرآن .. ألم يأن

١٤٨

للذين آمنوا وادعوا أنهم من أتباع الرسول ومن أمة القرآن؟ ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم لنور الحق ، وأن تخضع نفوسهم لحكم القرآن؟ ألم يأن لهم أن يرفعوا رءوسهم عالية مجاهدين طالبين مستميتين في طلب الحكم بالقرآن ، والسير في ركاب الرحمن ، وترك الهوى والشيطان؟!!

ألم يأن للشعوب الإسلامية أن ترجع إلى دينها ، وتثوب إلى رشدها؟! فلا هداية ولا سعادة إلا في ظل الدستور القرآنى ، ومن يتبع غير حكم الله فأولئك هم الضالون (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة ٥٠].

نحن لا نطالب بحكم القرآن إلا لخير المسلمين وقطع دابر الفتن وعبث العابثين مؤتسين بقول الحق على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

وهناك موقف آخر :

ولو ترى يا أيها النبي ـ أو من يتأتى منه الرؤية ـ إذ فزعوا وخافوا واضطربوا يوم لقاء الله لرأيت أمرا عظيما ، وشاهدت أحوالا هائلة يستريح لها قلب من عضه الألم ، وحز في نفسه الحزن من أفعالهم.

لو تراهم إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة ، وكيف النجاة وهم بين يدي القوى القادر؟ وقد أخذوا من مكان قريب ؛ فهم لم يرموا عن بعد بل أخذوا عن قرب فكيف يفلتون؟

وعند ذلك يقولون : آمنا بالقرآن والنبي ، فهل ينفع الذين ظلموا إيمانهم في هذا الوقت؟ كلا! وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ تمنوا أن ينفعهم إيمانهم في هذه الظروف كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، وأنى لهم ذلك؟. وهل يسوى بين من يتناول الشيء من مكان بعيد جدّا بيده كمن يتناوله تناولا سهلا من مكان قريب وبلا حاجز ، وكيف يستويان؟

وهم قد كفروا بالقرآن والنبي من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد كقولهم في النبي : إنه ساحر ، وشاعر ، وكذاب ، وهذا تكلم بالغيب ورجم به من جهة بعيدة جدا عن الحقيقة ؛ لأن ما جاء به أبعد شيء عن السحر والشعر والكذب ، فهم أشبه ما يكون بمن يقذف الغرض من جهة بعيدة جدا ، وهو غائب عنه غير مشاهد له ، فهل يصيبه؟

١٤٩

وحيل بينهم وبين ما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا والفرار من العذاب والخلوص من الموقف كما يفعل بأشباههم ونظرائهم من الأمم السابقة ، ولا تعجب من هذا لأنهم كانوا في شك من البعث ، ومبدأ الثواب والعقاب كانوا في شك منه مريب!!

١٥٠

سورة فاطر أو سورة الملائكة

مكية عند الجميع ، وآياتها خمس وأربعون آية ، نزلت بعد الفرقان.

ويدور الكلام فيها حول العقيدة السليمة من وصف لله بما يستحق ، ومن خطاب الرسول بما يثبت قلبه. ومن لفت أنظار الناس إلى الكون وما فيه من آيات تدل على قدرة الله على البعث ، وفي خلال ذلك هدد المشركين وتوعدوهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)

المفردات :

(فاطِرِ) أصل الفطر : الشق ، وقد شق العدم بإخراج السماء والأرض منه ، والمراد خلقهما ابتداء (أُولِي أَجْنِحَةٍ) : أصحاب أجنحة (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) والمراد اثنين اثنين ، فعدل عن هذا التركيب إلى قوله : مثنى ، وكذا ثلاث ورباع ، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية (ما يَفْتَحِ) المراد : ما يرسل من رحمة (تُؤْفَكُونَ) هذا اللفظ إن أخذ من الأفك بمعنى الصرف كان معناه : كيف تصرفون

١٥١

عن الإيمان إلى الكفر ، وإن قلنا : إنه مأخوذ من الإفك بمعنى الكذب كان المعنى : من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله.

المعنى :

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، الحمد لله حمدا كما حمد به نفسه ، تعظيما لها وتشريفا ، وتعليما لعباده وتأديبا ، فهو المستحق وحده الثناء الجميل ، لأنه صاحب الفعل الجليل ، تبارك اسمه وتعالى ، سبحانه وتعالى ، خالق السموات والأرض ، ومبدعهما لا على مثال سابق ، فهو صاحب الخلق الأول ، ومن قدر على البدء فهو قادر بلا شك على الإعادة.

وهو الذي جعل الملائكة أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، والمراد كثرة الأجنحة التي لا يعلمها إلا الله ، ليتصور الخلق بإدراكهم قوة الملائكة على الحركة ، وقدرة الله التي لا تحد ، يزيد في الخلق ما يشاء ، ويزيد زيادة غير محدودة ولا معروفة ، وكيف نعرفها ، ونحن أجهل الخلق بأنفسنا بل بأمس الأشياء بنا ، فكيف نعرف زيادة الله في خلقه؟ وفي كل يوم يكشف لنا العلم والواقع زيادات وزيادات لم تكن معروفة ، وما نعرفه جزء من أجزاء كثيرة لا نعرفها ، وسبحان علام الغيوب.

ولا تعجبوا لأن الله على كل شيء قدير ، وبخلقه بصير وخبير.

ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، الله أكبر ، ولله الحمد!! نعم ما يرسل الله من نعمة في السماء أو في الأرض فلا ممسك لها موجود ، ولا مانع لها معروف ، إذ لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه. وعلى هذا المبدأ يعيش المسلم في حياته سعيدا مطمئنا.

ولعلك تسأل : ما الحكمة في التعبير بالفتح «ما يفتح» بدل ما يرسل؟ إذا كان المراد هو الإرسال بدليل قوله تعالى : (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ) وقد أجاب عن ذلك الزمخشري وتبعه أبو السعود فقال : «عبر عن إرسالها بالفتح إيذانا بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون ، وأعزها منالا ، وتنكيرها للإشاعة والإبهام ، أى : أى شيء

١٥٢

يفتح الله من خزائن رحمته أيا كانت من نعمة أو صحة أو أمن أو علم أو حكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به» فلا ممسك لها.

وأى شيء من نعمة يمسكه فلا مرسل له من بعده ، وما أدق ختام الآية بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو العزيز لا يغلبه غالب ، ولا يعجزه شيء ، الحكيم في كل فعله فيرسل لحكمة ، ويمسك لحكمة ، وهو العزيز الحكيم.

يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم التي لا تعد ولا تحصى. اذكروها باللسان واذكروها بالقلب ذكرا مصحوبا بالشكر والثناء على صاحب النعم الرحمن الرحيم جل شأنه ، هل هناك خالق يرزقكم غير الله؟! تعالى عما يشركون! هل في هذا الكون إله يرزقكم من السماء؟! معاذ الله ، لا إله إلا هو ، ولا معبود بحق في الوجود سواه.

فكيف تصرفون عن الإيمان والتوحيد الخالص إلى الشرك وعبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر؟! عجبا لكم وأى عجب؟!

وإن يكذبوك يا محمد فتأس بمن تقدمك من الرسل أولى العزم فقد كذبوا ونالهم ما نالهم فصبروا على ما كذبوا به وأوذوا في سبيل الله ، وإلى الله وحده ترجع الأمور فيجازى المكذبين والكفار ، والمعتدين على الرسول بما كانوا يعملون ، وهل يجازى إلا الكفور!!

والله وحده هو الذي يتولى أموركم وأمور دينه ، وإليه يرجع الأمر وحده ، فسيجازيكم على صبركم وأعمالكم نعم الجزاء.

وعظ وإرشاد مع إثبات مبدأ الثواب والجزاء

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ

١٥٣

مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)

المفردات :

(تَغُرَّنَّكُمُ) : تلهينكم (الْغَرُورُ) : الشيطان (حِزْبَهُ) : صحابه المتحزبين له المجتمعين حوله (سُوءُ عَمَلِهِ) المراد : عمله السيئ (حَسَناً) : صوابا (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) : فلا تتعاط أسباب ذهاب النفس ، أى : هلاكها (حَسَراتٍ) : جمع حسرة وهي هم النفس على فوات أمر ، بمعنى التلهف الشديد على الشيء الفائت (فَتُثِيرُ سَحاباً) فتزعجه وتحركه (الْعِزَّةَ) المراد : العز والجاه (يَصْعَدُ) صعود الكلم الطيب فيه تجوز والمراد قبول الله له ، أو علمه به (يَبُورُ) : يهلك ويضيع.

وهذا كالدليل على ما سبق بيانه إجمالا من إثبات البعث والثواب.

المعنى :

يا أيها الناس إن وعد الله بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأعراضها الزائلة ، وزخارفها الفانية ، فالآخرة خير وأبقى ، ولا تشغلنكم الدنيا بنعيمها ولذاتها عن العمل للآخرة حتى لا تكونوا في موقف الذي يقول : يا ليتني قدمت لحياتي!!

١٥٤

ولا يغرنكم بالله الغرور ، فيقول لكم الشيطان وأتباعه : اعملوا ما شئتم فإن الله غفور ، يغفر السيئات ، ويعفو عن الخطيئات ، أيها الناس لا تغرنكم الأمانى الكاذبة التي نسمعها من بعض الناس الذين يقولون : نحن أتباع النبي محمد فلن نصاب بسوء ، تلك أمانيهم ، وليس الإيمان والثواب عليه بالتمني الكاذب.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أخبرنا الله ـ عزوجل ـ بأن الشيطان يبدو لنا من قديم الأزل فهو الذي أخرج أبانا آدم من الجنة ، وأوقعه في الزلة ، وهو الذي أقسم على إغوائنا وإضلالنا (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) [سورة النساء آية ١١٩](لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) [سورة الأعراف آية ١٦].

وإنه لعجيب أن نتولاه ونطيعه فيما يأمر به ويريده ، مع أن فيه هلاكنا! ولذا يقول الله : (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) في كل أعمالكم وأحوالكم الظاهرة والخفية ، وناصبوه العداء في سركم وجهركم ، واعلموا أن لوسوسة الشيطان علامة ، ولإلهام الملك علامة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للشّيطان لمّة وللملك لمّة ـ خطرة ـ تقع في القلب ، فأمّا لمّة الشّيطان فإيعاد بالشّر وتكذيب بالحقّ وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ .. الحديث» ، وهو مروى عن عبد الله بن مسعود.

احذروا الشيطان ، ولا تتبعوا خطواته ؛ فإنه إنما يدعو حزبه وأتباعه ليوردهم موارد الهلكة ، وليوقعهم في حبائله التي تقذف بهم في نار جهنم يتلظون بسعيرها وما لكم لا تسرعون في البعد عن حزب الشيطان والدخول في حزب الرحمن والقرآن؟!.

إن الذين كفروا واتبعوا الشيطان لهم عذاب شديد ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك حزب الله لهم مغفرة ورزق كريم ، وأجر كبير ، ولما ذكر الفريقين الكافر والمؤمن قال لنبيه : أفمن زين له عمله السّيئ فرآه عند نفسه حسنا وصوابا كمن لم يزين له السوء بل اهتدى واتبع الحق؟!

وكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا. فقال الله : فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء على معنى هذا الذي عمل السوء حتى أظلم قلبه وفرغ من خشية الله حتى أصبح عنده القبيح حسنا والحسن قبيحا ، هذا الصنف لا يعبأ به الله يخذله ويتركه ، ومن تاب فالله يهديه ويوفقه ويساعده على ذلك.

١٥٥

وإذا كان الله يعامل الذي يتبع الشيطان والهوى هكذا فعليه أيها الرسول ألا تهتم بأمرهم ، وألا تعنى بشأنهم ، وألا تحزن من أجلهم ، وألا تتحسر عليهم حتى تذهب نفسك وتهلكها عليهم متحسرا على عدم إيمانهم وطاعتهم .. إن الله عليم بما يصنعون وسيجازيهم على ذلك كله يوم القيامة.

وهاك دليلا حسيا على إمكان البعث وأنه تحت قدرة الله : والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا وتحركه فيتحرك إلى حيث شاء الله ، أى : فساقه الله إلى بلد ميت لا نبات به ولا زرع فأحيا الله به تكل الأرض حتى أصبحت ذات زرع وشجر بعد أن كانت قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، أى : صحراء جرداء لا شيء فيها ، مثل ذلك ـ أى : إحياء الأرض بالخضر بعد موتها ـ نشر الأموات وإحياؤها للبعث والثواب والعقاب.

عن أبى رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله : كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال : «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضرا؟» قال : نعم يا رسول الله : قال : «فكذلك يحيى الله الموتى وتلك آيته في خلقه».

كان المشركون يعبدون الأصنام يطلبون بها العزة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [سورة مريم آية ٨١].

فبين الله أن العزة لله ولأوليائه ، ومن كان يريد العزة فلله العزة جميعا ، من كان يريد العزة والجاه فليطلبهما عند الله فإنهما لله وحده ولرسوله وللمؤمنين.

العزة ـ أيها الناس ـ لله ولرسوله وللمؤمنين ، وليست لمصر أو الشام أو غير هما؟ العزة لله يعز بها من يشاء ويذل بها من يشاء ، فمن أراد عز الدارين فليطع الله العزيز الحكيم.

ثم بين الله أن ما يطلب به العزة في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعمل الصالح ، إليه يصعد الكلم الطيب ، وصعوده : قبوله وعلمه والمجازاة عليه : والكلم الطيب : كل كلام يتصف بأنه طيب كذكر الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتعليم الخير والحث عليه ، وتعليم النافع في الدنيا والآخرة.

١٥٦

والعمل الصالح الله يرفعه ويثيب عليه. ويجازى صاحبه بالخير والحسنى والذين يمكرون المكرات السيئات ، ويحتالون الحيل التي لا تخفى على علام الغيوب لهم عذاب شديد ، ومكرهم بائر وهالك ، ولا خير فيه ، فإن الناقد بصير وخبير.

الآيات الدالة على قدرة الله وإمكان البعث

وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)

١٥٧

المفردات :

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أى : يزداد في عمره (فُراتٌ) : شديد العذوبة ، يقال : فرت الماء فروتة : عذب (أُجاجٌ) : شديد الملوحة ، يقال : أج الماء أجوجا : إذا اشتدت ملوحته (حِلْيَةً) : ما يتحلى به من سوار أو خاتم (مَواخِرَ) : تمخر الماء ، أى : تشقه شقاّ في إقبالها وإدبارها (قِطْمِيرٍ) : هو لفافة النواة ، أى : القشرة الرقيقة التي تكون على النواة.

وهذا دليل آخر على قدرة الله وفضله ونعمه علينا ، وهذا مما يجعل البعث أمرا ممكنا من صاحب هذه القدرة.

المعنى :

والله خلقكم يا بنى آدم من تراب ؛ خلق أباكم منه ، ثم خلقكم أنتم من نطفة من ظهور آبائكم ، ثم جعلكم أزواجا وأصنافا وأشكالا متباينة لا يكاد يتفق إنسان مع أخيه ، أليس في هذا دليل قاطع على إمكان البعث؟ فإنهم كانوا يفهمون إحالته لبعد ما بين الحياة والموت ، فبعد أن نكون ترابا كيف تعاد لنا الحياة؟ وبين التراب البارد المتفرق ، والحياة وما فيها من حرارة وتجمع بون شاسع ، ولذا يرد الله عليهم بأنه لا غرابة في ذلك ، فقد خلق آدم ـ وهو إنسان حي ـ من تراب وبينهما بون شاسع : وخلقناه من نطفة ، وهل بين الذرة من منى الرجل والمرأة ، وبين الإنسان منا الذي يعقل ويسمع ويتحرك ويمشى بون شاسع أم لا؟!

وإذا كان الأصل واحدا فما هذا الاختلاف في الشكل واللون والخلقة والطبيعة والعادة في كل شيء؟ أليس هذا دليلا على القدرة ، وعلى إمكان إعادة الخلق يوم القيامة للحساب؟

ولا يدورن بخلدك أن جمع الأجزاء المتفرقة غير ممكن لاستحالة الإحاطة بالجزئيات التي تفرقت في التراب أو في جوف المياه أو بطون السمك والسباع ، لا تظن هذا .. فالذي يجمعها هو الذي يعلم الغيب والشهادة ، وهو الله الذي يعلم ما تحمل كل أنثى ، وما تغيض الأرحام وما تزداد ، وكل شيء عنده بمقدار ، وما تحمل كل أنثى ، ولا تضع

١٥٨

إلا بعلمه ، وإن من يعلم تركيب الجهاز التناسلى ، وعملية الحمل والوضع ، وكيف يتم ذلك ، يعرف حقا القدرة الإلهية والعلم الشامل الذي لا يحيط به إلا هو ، ولا يعمر من شخص معمر ، ولا ينقص من آخر إلا في كتاب ، فليست زيادة الأعمار أو نقصها أمورا مرتجلة تخضع لحوادث الكون لا : بل كل شيء عند ربك بمقدار. حقيقة من أراد أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أجله فليصل رحمه ـ كما نطق بذلك الحديث الشريف ـ فهذا محمول على زيادة البركة في العمر ، وإلا فالقرآن صريح في قوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة الأعراف آية ٣٤].

إن كتابة الآجال وتثبيت الأعمار ، وتدوين كل ما هو كائن على الله يسير ، وبه جدير.

وانظروا إلى المياه التي حولكم : هذا عذب شديد العذوبة سائغ شرابه سهل تناوله يزيل العطش أو يجلب الري ويمنع الظمأ ، وبجواره مياه ملحة شديدة الملوحة لا يستساغ شربها ، وإن كانت هي أصل المياه العذبة فهل تصدق أن جميع المياه العذبة أصلها ماء البحر الملح؟ وما ذلك على الله بعزيز ، لا يستوي البحران أبدا ، هذا ملح أجاج ، وهذا عذب فرات ، ومن كل واحد منهما تأكلون لحما طريا ، وتستخرجون من البحر الملح حلية تلبسونها (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (١) وترى الفلك الموقرة بالأحمال الثقال في البحار تمخر العباب جيئة وذهابا ، سخر ذلك لكم لتبتغوا من فضل الله عليكم بالتجارة والانتقال ، ولتشكروا ربكم الذي سخر لكم البحر بقدرته.

أليس في العذوبة والملوحة مفارقات؟ وفي الحلي التي تخرج من البحار والسمك الذي يعيش في جوفه مفارقات. أليس في جرى السفينة على الماء ، ولا ترسب في قاعه مفارقات؟ ولكنها القدرة فلا تنكروا البعث لأن فيه مفارقات.

هو الله الذي يولج الليل في زمن النهار : ويدخل النهار في زمن الليل إن هذا بلا شك لعجيب! وهو الذي سخر الشمس والقمر ، كل يجرى لأجل مسمى عنده ذلكم الله صاحب القوى والقدر ، والعالم بكل ما غاب وما حضر ، والمتفضل بكل نعمة ما عظم منها وما صغر ، ذلكم الله ربكم وحده له الملك ، وإليه وحده الأمر ، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ، وآمنوا به وبرسله وباليوم الآخر.

__________________

١ ـ سورة الرحمن آية ٢٢.

١٥٩

وأما الذين تدعونهم من دون الله فأولئك لا يملكون شيئا مهما صغر ، فهم لا يملكون نقيرا ولا قطميرا ، ولا صغيرا ولا حقيرا.

إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ، وكيف يسمعون وهم أصنام وأحجار؟ ولو سمعوا فرضا ، ما استجابوا لكم! ويوم القيامة يوم الفزع الأكبر يكفرون بشرككم ، ويتخلصون منكم ، انظروا إلى قول الحق مخبرا عن عيسى بن مريم : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [سورة المائدة آية ١١٧](ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [سورة المائدة آية ١١٦].

ولا ينبئك عن هذا كله مثل خبير ، وهو الله ـ سبحانه ـ فهو العالم بخلقه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟ [سورة الملك آية ١٤] والمراد تحقيق وتأكيد ما أخبر به عن آلهتهم ونفى ما يدعون لها من الألوهية.

وعظ وإرشاد

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ

١٦٠