التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

المفردات :

(كَبائِرَ الْإِثْمِ) : جمع كبيرة ، وهي كل ذنب توعد الله صاحبه بالعذاب الشديد ، أو ذم فاعله ذما كثيرا ، وقيل غير ذلك. (وَالْفَواحِشَ) : جمع فاحشة ، وهي الذنب الذي جعل الله في عقوبته الحد كالزنا مثلا ، وقيل غير ذلك مما هو قريب منه. (إِلَّا اللَّمَمَ) وأصل اللمم : ما قل وصغر ، وعليه ألم بالمكان : قل لبثه فيه ، والمراد باللمم هنا : صغائر الذنوب التي تفعل بلا مداومة عليها. (أَجِنَّةٌ) : جمع جنين وهو الولد ما دام في بطن أمه ؛ سمى بذلك لاجتنانه ، أى : استتاره.

المعنى :

المحسنون الذين لهم المثوبة الحسنى هم الذين يجتنبون كبائر الإثم ، ويجتنبون الفواحش والمنكرات التي ينكرها العقل ويأباها الدين ، من الموبقات والمهلكات التي ورد من الشرع تحذير شديد على اجتنابها ، أو توعد صاحبها بالحد أو بالعقاب الشديد ، وقد اختلف العلماء في عد المنكرات والفواحش ، وذكرت في السنة بطرق مختلفة ، وعلى العموم فالشرك بالله ، والقتل إلا بحق الإسلام ، والزنى والربا وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، والافتراء على الله من الكبائر ، وهكذا كل معصية ذنبها كبير وجرمها خطير.

الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ، وهو صغائر الذنوب التي تعمل بلا قصد ولا مداومة ، أما إذا داومت على الذنب الصغير أصبح كبيرا فقد قيل : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الندم والاستغفار.

وهذا اللمم ذنب بلا شك ، خففه الندم وعدم معاودته ، عند ذلك تدخل المغفرة والرحمة ، وربك واسع المغفرة كثير الرحمة ، وهو أعلم بنا ـ نحن بنى الإنسان ـ وقد خلقنا ضعافا أمام الدنيا ومغرياتها ، وقد خلقنا فهو أعلم بنا ، وقد أنشأنا من الأرض ، وهو أعلم بنا إذ نحن أجنة في بطون الأمهات ، بل وذرات في أصلاب الآباء ، وفي عالم الذر ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تزكوا أنفسكم أبدا ، هو أعلم بمن اتقى ، فرب من يظن نفسه قد عمل صالحا يكون عمله مشوبا بالرياء أو السمعة أو الغرض الدنيوي فيبوء بالفشل والندامة ، والله أعلم بمن اتقى حقا.

٥٦١

حقائق إسلامية

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)

٥٦٢

المفردات :

(تَوَلَّى) : أعرض. (وَأَكْدى) يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ حجرا لا يتهيأ له فيه حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. (صُحُفِ مُوسى) : هي التوراة. (وازِرَةٌ) : نفس حاملة. (وِزْرَ) : حمل. (الْمُنْتَهى) : النهاية. (نُطْفَةٍ) النطفة : الماء القليل ، مشتق من نطف الماء إذا قطر. (تُمْنى) يقال : منى الرجل أو أمنى : إذا أنزل المنى ، والمراد بقوله (تمنى) أى : تصب في الرحم. (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) المراد : إعادة الأرواح في الأشباح.

(أَغْنى وَأَقْنى) أغنى : أعطى المال ، وأقنى : أعطى القنية التي تقتنى كالعقار مثلا.

(رَبُّ الشِّعْرى) : الكوكب المضيء وهو ما يسمى بالعبور. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) المراد : قرى قوم لوط قد قلبها وخسف بها بعد رفعها إلى السماء. (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) : قربت القيامة. (كاشِفَةٌ) أى : كشف وانكشاف ، أو نفس كاشفة.

(سامِدُونَ) : لاهون وغافلون ومعرضون.

لما بين جهل المشركين في عقائدهم الباطلة ، وأنه لا وجه لهم في شيء ذكر واحدا منهم بسوء فعله وكبير جرمه ، وإن قصته لتثبت أن كفر هؤلاء لم يكن عن عقيدة ، وإنما هو عناد وعصبية جاهلية ، وحماقة ما بعدها حماقة.

روى أن الوليد بن المغيرة كان قد اتبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له : أتركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟! قال الوليد : إنى خشيت عذاب الله. فقال من عيره : أنا أضمن لك الجنة إن رجعت إلى الشرك وأعطيتنى شيئا من المال ، فقال الوليد ذلك ، وأعطى بعض ما كان ضمنه له ثم بخل ومنعه ؛ فنزلت هذه الآيات تذمه لرجوعه عن الحق وخلفه الوعد.

المعنى :

أخبرنى عن الذي تولى وأعرض عن الحق ، وأعطى قليلا من المال ، وبعد ذلك امتنع ، إذ أصابته صخرة شح النفس ، فوقع عليها شحيحا بخيلا (١) أعنده علم بالأمور

__________________

(١) «أفرأيت» معناها المراد : أخبرنى ـ على ما سبق تفصيله ، ومفعولها الأول الذي ، والثاني جملة الاستفهام.

٥٦٣

الغيبية ، فهو بسبب ذلك يرى أن صاحبه يتحمل عنه شيئا من وزره؟! أو نزل عليه قرآن من عالم الغيب فهو يرى أن ما صنعه حق.

بل ألم ينبأ بما في صحف موسى ، وصحف إبراهيم الذي وفي ما عليه ، وابتلى بشدائد كثيرة فخرج منها وافى الإيمان سليم العقيدة ، مستحقا هذا اللقب : «خليل الرحمن» ألم يعلم بأن صحف موسى وإبراهيم فيها أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، بمعنى لا تحمل نفس مستعدة للحمل ذنب نفس أخرى ، وفيها أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى يوم القيامة ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، وأن (١) إلى ربك نهاية الخلق ومنتهاهم ، وأنه هو أضحك بعض عباده وأبكى ، أضحكهم لأنه وعدهم السعادة في الدنيا والآخرة ، وأبكى في الحقيقة من حرمهم السعادتين ، وأنه هو أمات وأحيا ، أى : خلق الموت والحياة ، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان ، خلقهما من نطفة إذا تمنى ، وهذه النطفة لا يفرق فيها بين الذكر والأنثى ، فليس هناك شك في أنه وحده هو الخالق للذكر والأنثى ، وأن عليه النشأة الأخرى ، أى : الإحياء بعد الإماتة وأنه هو وحده الذي أغنى وأقنى ، أغنى بالمال والمنقولات وأقنى بالعقارات الثابتة ، وأنه هو رب الشعرى ، وغيرها من الكواكب ، وأنه أهلك عادا الأولى الذين أرسل لهم هود ، وأهلك ثمود الذين أرسل لهم صالح ، فما أبقى منهما شيئا ، وأهلك قوم نوح من قبل هؤلاء ، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى من غيرهم ، وأهلك قرى قوم لوط ، وهم المؤتفكة التي رفعها الله إلى السماء ثم قلبها إلى الأرض فغشيها من الهم والحزن ما غشيها.

فبأى آلاء ربك أيها الإنسان تتمارى ، وتتشكك؟ هذا القرآن الذي أنزل على محمد هو نذير من جنس النذر الأولى التي كانت تنزل على الأمم السابقة ، فما بالكم لا تؤمنون ، ولا تتعظون بما حل بغيركم؟!

أزفت الآزفة ، وقربت القيامة ، ليس لها من دون الله نفس كاشفة تكشفها وتزيلها ، بل الأمر كله لله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) إن هذه تحتمل الفتح والكسر ، ويحتمل مدخولها وما بعده أنه مما في الصحف أو هو خاص بالقرآن.

٥٦٤

أفمن هذا الحديث ـ القرآن ـ تعجبون إنكارا ، وتضحكون استهزاء ، ولا تبكون خوفا من عذاب الله ، وأنتم لاهون بالحديث متشاغلون بأى شيء ، ومن هنا يستحب البكاء أو التباكي عند سماع القرآن ، وقد ورد عن أبى هريرة قال : لما نزلت هذه الآية «أفمن هذا الحديث ..؟» بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال ـ عليه‌السلام ـ «لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى».

وإذا كان الأمر كذلك من إنكار مقابلة القرآن بالتعجب والضحك ، وعدم البكاء مع اللهو وقت استماعه ، إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله على عبده ، ولم يجعل له عوجا ، قيما ، واعبدوه ـ جل جلاله ـ ، وهذه آية سجدة عند الكثير ، وقد سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها ، والله تعالى أعلم.

٥٦٥

سورة القمر

وهي مكية كلها في قول الجمهور ، وهو الصحيح ، وعدد آياتها خمس وخمسون آية وتشمل على كثير من الوعد والوعيد ، وذكر أخبار الأمم الماضية للعبرة والعظة ثم تهديد الكفار بذكر ما يحل بهم يوم القيامة ، وما يلاقيه المتقون من جزاء في جنات صدق.

الكافرون وموقفهم من دعوة الحق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)

المفردات :

(مُسْتَمِرٌّ) أى : محكم قوى على أنه مأخوذ من المرة وهي القوة ، أو هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله ، وقيل : المراد سحر ذاهب ، مأخوذ من قولهم : مر

٥٦٦

الشيء واستمر إذا ذهب. (مُسْتَقِرٌّ) أى : منته إلى غاية (١). (مُزْدَجَرٌ) : ما يزجرهم ويكفهم يقال : زجره فانزجر وازدجر ، أى : كفه فانكف. (بالِغَةٌ) : واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها (نُكُرٍ) : فظيع شديد تنكره النفوس. (الْأَجْداثِ) : جمع جدث وهو القبر. (جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) الجراد : حيوان يأكل النبات فيجرد الأرض منه ، والمنتشر : الكثير التموج. (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) : مسرعين إليه. (عَسِرٌ) : صعب شديد.

روى قتادة عن أنس ـ رضى الله عنهم ـ قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال : «ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى» قال الراوي : وما نرى من الشمس إلا يسيرا ؛ وثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود ، وابن عمر وأنس وغيرهم أنه قال : سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فانشق القمر ، ورواية البخاري : انشق القمر فرقتين ، وقد كذبه أهل مكة ، وقالوا : سحرنا ابن أبى كبشة فنزلت الآية : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ .. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

المعنى :

إن الساعة آتية لا شك فيها ، وكل آت قريب ، ومتحقق الوقوع ، وعلى ذلك اقتربت الساعة ، أو صارت باعتبار نسبة ما بقي من الزمن بعد قيام النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة جدا ، ولقد صدق رسول الله حيث يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار النبي بإصبعه السبابة والوسطى ، وأنت تعرف قرب ما بينهما.

اقتربت الساعة وانشق القمر ، فانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب وعلى إمكانه في العقول والأذهان ، وقيل : إنه آية على قرب الوقوع ومعجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما مضى ، وعلى ذلك فانشقاق القمر من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤيده الحديث السابق أول الكلام ، وظاهر الآيات هنا ، فإن قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يقتضى أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها وكذبوا بها.

__________________

(١) وفي قراءة مستقر ، أى : ذو استقرار ، أو له زمان استقرار ، أو مكان ، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان.

٥٦٧

ويرى بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة وقت طلوعه ، لا انفلاقه فلقتين كما روى في البخاري ، وبعضهم يرى أنه كناية عن وضوح الأمر وظهوره ، ولست أرى داعيا إلى إنكار انشقاق القمر على أنه معجزة ؛ فالمعجزة أمر خارق للعادة ، وعدم تواتره لا يقدح ، فإنها آية ليلية ، وقد ذكرت في القرآن ، والصحيح أن منكرها لا يكفر بها لعدم تواترها في السنة ، وليست الآية نصّا فيها.

وإن يروا ـ هؤلاء الكفار كما هو شأنهم ـ أى آية يعرضوا عنها ، ويقولوا : هذا سحر مستمر ، أى : مطرد دائم عرفناه من محمد ، أو هو سحر مستمر ، أى : محكم قوى عرفناه من هذا الساحر القوى ، أو هو سحر سيذهب عن قريب ويضيع كما ضاع غيره ، وتلك أمانيهم الباطلة ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وهكذا كذبوا بآياتنا الظاهرة واتبعوا في هذا التكذيب والإعراض أهواءهم التي زينها لهم شياطينهم فقط ، ولم يتبعوا حجة أو منطقا سليما ، وما علموا أن كل أمر مستقر (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (١) نعم كل أمر لا بد منته إلى غاية يتبين عندها حقه من باطله.

وتالله لقد جاءهم في القرآن من أخبار القرون الماضية ما فيه ازدجار لهم (٢) ومنع عما هم فيه من القبائح لو كانوا يعقلون ، هذه حكمة بالغة قد بلغت الغاية ووصلت إلى النهاية في الإحكام والدقة فكان من المعقول أن ينتفعوا بوعيد هذه الأنباء ووعدها ، فما انتفعوا ، وما أغنتهم هذه النذر (٣).

وإذا كان الأمر كذلك فتول عنهم ، وأعرض ، ولا يهمنك أمرهم ، واذكر يوم يدعو الداعي ، وهو إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ يدعوهم ليخرجوا من الأجداث فيرون شيئا منكرا فظيعا تنكره النفوس لعدم عهدها بمثله ، وهو هول يوم القيامة ، يخرجون من القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول كأنهم جراد منتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار ، وقد جاء تشبيههم ـ مرة أخرى ـ يوم يخرجون من القبور كالفراش المبثوث ،

__________________

(١) وهذا استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك حيث إن كل أمر لا محالة ينتهى إلى غاية ، ومن جملة ذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سينتهي إلى غاية يظهر فيها أنه على حق ، وأنهم على باطل.

(٢) (من الأنبياء ما فيه مزدجر) الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال مقدم من (ما) الواقعة فاعلا لجاءهم.

(٣) وعلى هذا فما نافية ويصح أن تكون استفهامية للاستنكار ، والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكم.

٥٦٨

ولا تعارض إذ إن كلا من التشبيهين في وقت ، فهم عند الخروج يكونون هائمين ليس لهم مقصد كالفراش ، وعند نداء الداعي والتوجه إلى المحشر يكونون كالجراد المنتشر حالة كونهم مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه لا يلوون على شيء! يا ويلهم في هذا الظرف! يقول الكافر : هذا يوم عسر شديد لما يشاهد من الأهوال ، وما يرتقب من سوء المصير!!!

عاقبة المكذبين من قوم

نوح وعاد وثمود وآل فرعون وقوم لوط

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً

٥٦٩

مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١)

المفردات :

(وَازْدُجِرَ) أى : زجر عن دعوة النبوة ، وأصل ازدجر : ازتجر ، ثم قلبت التاء دالا لتناسب الزاى ، وهذا أصل معروف في اللغة العربية. (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أى : كثير متدفق. (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أصله : وجعلنا الأرض عيونا متفجرة. (قَدْ قُدِرَ) : على مقدار مقدر لم يزد أحدهما عن الآخر. (ذاتِ أَلْواحٍ) أى : على سفينة ذات ألواح. (وَدُسُرٍ) : هي المسامير التي تشد بها السفينة. (مُدَّكِرٍ) : متعظ ، وأصله : مذتكر ، ثم قلبت التاء دالا ثم قلبت الذال دالا وأدغمت في مثلها ؛ كل ذلك للتخفيف اللفظي. (صَرْصَراً) : شديد البرد أو الصوت. (يَوْمِ نَحْسٍ) : يوم شؤم كله. (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) الأعجاز : جمع عجز ، وهو مؤخر الشيء ، والمنقعر : المنقطع من أصله. (وَسُعُرٍ) أى : جنون ، وعليه ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة. (أَشِرٌ) الأشر : هو المرح والتجبر والنشاط مع التعاظم. (شِرْبٍ) الشرب : الحظ من الماء. (مُحْتَضَرٌ) أى : يحضره من هوله. (فَتَعاطى) أى : تناول عقرها فعقرها. (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) المحتظر : الذي يعمل الحظيرة لغنمه بالشوك والشجر فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم ، والهشيم : هو العصف ، أى : التبن ، وقرئ : المحتظر ، أى : الاحتظار ، أى : هو الشجر المتخذ منه الحظيرة.

٥٧٠

(حاصِباً) أى : ريحا ترميهم بالحصباء. (بِسَحَرٍ) السحر : هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر. (راوَدُوهُ) : أرادوا تمكينهم ممن كان أتاهم ضيفا. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أى : صارت أعينهم مطموسة لا شق لها كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب.

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

وهذه قصص خمسة ، فيها أنباء بعض الأمم الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وآذوهم ، ثم كانت عاقبة أمرهم خسرا ، ولم يكن كفار مكة بأقوى منهم أو أشد ، فكان من الخير أن يعتبر المشركون بقصصهم ويزدجروا ، ولكنهم ما اعتبروا وما أغنتهم النذر (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ* حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) ، وهذا بيان وتفصيل لتلك الأنباء وتقرير لفحوى قوله : فما تغنى النذر.

ولقد بدأ القرآن بقصة نوح ، ثم عاد ، ثم ثمود ، ثم ذكر قوم لوط ، وختم بقصة فرعون.

٥٧١

المعنى :

كذبت قبل مشركي مكة قوم نوح فكذبوا (١) عبدنا نوحا ، ويا ليتهم اقتصروا على ذلك بل قالوا له : هو مجنون ، وكذبوه ، ورموه بالجنون ، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالإيذاء والتخويف.

ولما اشتد عليه الإيذاء دعا ربه بأنى مغلوب على أمرى فانتصر لي ، وانتقم من هؤلاء (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [سورة نوح آية ٢٦].

فاستجاب الله دعاء نوح ، وحقت عليهم الكلمة ، وفتح عليهم أبواب السماء بماء متدفق كثير (٢) ، وفجر الله عيون الأرض ، وفتحها لينساب الماء منها بتدفق غزير ، فالتقى الماء النازل من السماء والماء النابع من الأرض حالة كونه على قدر قدره الله لم يتجاوز واحد منهما قدره.

وكان نوح قد أمر بصنع السفينة ، وصنعها بين استهزاء قومه وسخريتهم ، فلما ازداد الماء ركب نوح ومن معه السفينة ونجا من الغرق ، فانظر إليه وقد حمله ربك على السفينة وصارت تجرى بعناية الله وتحت رعايته! حتى نجا وغرق من كفر به ، فعل ذلك ربك إكراما لنوح ـ عليه‌السلام ـ وجزاء لمن كفر به وبرسالته من قومه ، ولقد تركناها آية وعبرة لمن يأتى بعدها ، فهل من معتبر؟!

فانظر كيف كان عذاب ربك للعصاة الكافرين ، وكيف كان إنذارهم؟! (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ وهذه جملة ذكرت عقيب كل قصة تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) ولعلها كررت لبيان أن كل قصة كافية في الاعتبار والاتعاظ.

__________________

(١) الفاء فاء تفصيل وتفريع ، وقيل : إنها للسببية ، على معنى : كذبوا بالأنباء جميعا ؛ فتسبب عن ذلك تكذيب نوح.

(٢) في الكلام استعارة تمثيلية حيث شية تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء ، وبعضهم يرى أن الكلام على حقيقته وأن السماء تحت أبوابها بالماء بدون سحاب.

٥٧٢

المعنى :

وبالله لقد يسرنا القرآن وسهلناه بأن أنزلناه بلسان عربي مبين ، وملأناه بالحكم والمواعظ والقصص التي تفيد العبرة ، فعلنا ذلك للذكر والاتعاظ فهل من مدكر؟!! وقيل المعنى : سهلنا القرآن للحفظ فهل من طالب للحفظ فيعان عليه؟ والمعنى الأول هو الأنسب بالمقام.

وهذه قصة عاد : لقد كذبت رسولها هودا فانظر كيف كان عذابي وإنذارى بهم؟! إنا أرسلنا (١) عليهم ريحا صرصرا عاتية ، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما لا خير فيها أبدا ، وكان هلاكهم في يوم نحس وشؤم عليهم ، يوم مستمر حتى أهلكهم ، ولا شك أنه يوم مرّ كريه ، وهذه الريح كانت تنزع الواحد منهم وتقلعه إذا دخل حفرة أو كهفا في جبل كأنهم والحالة هذه أعجاز نخل منقطع عن مغارسه ساقط على الأرض.

فانظر كيف كان عذابي للكفار المكذبين وإنذارى؟! ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر!

وتلك قصة ثمود : لقد كذبت بالرسل جميعا ؛ إذ تكذيب صالح ـ وهو واحد منهم ـ تكذيب للكل ، كذبت ثمود بالنذر ، فقالوا منكرين رسالة نبيهم صالح : أبشرا منا واحدا منفردا لا تابع معه. وليس من الأشراف نتبعه؟! إن اتبعناه لنكونن في ضلال وجنون.

عجبا لهذا الرجل! أألقي عليه الذكر ، وأنزل عليه الوحى من بيننا؟ وفينا من هو أحق منه لغناه وعلو شرفه وكثرة أتباعه! ليس الأمر كما يدعى صالح. بل هو كذاب شديد البطر كثير الفرح والمرح يتعاظم علينا بهذه الدعوة ، والله سبحانه يرد عليهم بقوله لصالح : سيعلمون غدا ـ وإن غدا لناظره قريب ـ من هو الكذاب الأشر.

وكانوا قد طلبوا من صالح آية لهم ، وأراد الله إبرازها فتنة لهم ، فأخرج الناقة من الهضبة (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) إنا مخرجوها لهم فتنة وابتلاء وآية فانتظر يا صالح واصبر على أذى قومك ، فقد قرب اليوم الموعود ؛ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ، أى :

__________________

(١) جملة استئنافية لبيان ما أجمل أولا في قوله : كيف كان عذابي ونذر.

٥٧٣

بين آل ثمود ، وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) روى ابن عباس : كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء ، وتسقيهم لبنا.

وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا ، ونبئهم يا صالح : أن الماء مقسوم بينهم : لها يوم ، ولهم يوم ، كل شرب ونصيب محتضر ، أى : يحضره صاحبه في نوبته لا يتعداه كما روى عن ابن عباس.

ولكن ثمود ملوا هذه القسمة ، وطغوا وبغوا ، وعزموا على عقر الناقة فنادوا صاحبهم الجريء في الباطل ، قيل : اسمه قدار بن سالف ، فتعاطى هذا الفعل الشنيع واجترأ على قتل الناقة فعقرها ، فاستحقوا غضب العزيز الجبار ، فانظر كيف كان عذابهم وإنذارهم؟ إن ربك أرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل ، فصاروا بسببها كالشجر الجاف الذي يجمعه صاحب الغنم ليعمل حظيرة تمنع عن غنمه عوائد البرد والسباع.

ولقد يسرنا القرآن للذكرى والموعظة ، فهل من متذكر أو متعظ بما حل بغيره؟

وأما قوم لوط فقد كذبوا بالنذر وعصوا أخاهم لوطا ، وارتكبوا من الفواحش أحقرها ـ كما عرفنا سابقا عنهم ـ ولذا أرسل الله عليهم ريحا حاصبا أهلكتهم وأبادتهم جميعا إلا آل لوط الذين آمنوا به فقد نجاهم ربك بسحر ، فعل بهم ذلك إنعاما من عند الغنى الحكيم ، مثل ذلك يجزى ربك من شكر ، ويعذب من كفر ، ولا غرابة في ذلك فلقد أنذرهم لوط بطشتنا وشدتنا ، فجادلوه وكذبوا بالنذر ، ولقد راودوه عن ضيوفه ، وما علموا أنهم من الملائكة وأنهم جاءوا لتنفيذ الوعيد بهم فطمس الله عيونهم ، وقال لهم على لسان الملائكة : ذوقوا عذابي ونذر ، ولقد نزل بهم العذاب في الصباح الباكر ، فذاقوا عذاب البطش الشديد ونذره ، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟!

ولقد جاء آل فرعون النذر الكثيرة والآيات المادية التسع ، ولكنهم كذبوا بالآيات كلها ، فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر حيث أغرق فرعون وجنده ، ونجى موسى ومن آمن معه ، وكذلك ينجى ربك المؤمنين ، ويعذب الكفار المكذبين فهل من مدكر؟!

٥٧٤

تهديد المشركين مع بيان عاقبة المتقين

أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)

المفردات :

(بَراءَةٌ) المراد : سلامة من العذاب مكتوبة. (فِي الزُّبُرِ) : في الكتب.

(أَدْهى) مأخوذ من الداهية ، وهي الأمر الفظيع الذي لا يهتدى للخلاص منه.

(وَأَمَرُّ) : أشد مرارة ، والمراد أكثر صعوبة على النفس ، وقيل المراد : أقوى.

(وَسُعُرٍ) المراد هنا : النيران المستعرة. (مَسَّ سَقَرَ) والمراد : ألمها وعذابها (١).

(بِقَدَرٍ) : بمقدار معين مكتوب. (أَشْياعَكُمْ) والمراد : أشباههم في الكفر من الأمم السابقة. (مُسْتَطَرٌ) أى : مسطور ومكتوب. (مُقْتَدِرٍ) أى : قادر عظيم.

__________________

(١) فالمس مجاز مرسل من الألم وعلاقته السببية ، فإن مسها سبب للألم ، وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في اللغة العربية.

٥٧٥

المعنى :

لقد كذب الكفار بالنبوة ، وكانوا كلما رأوا آية يعرضون ويقولون : سحر مستمر ، فخوفهم الله بذكر أخبار الذين كذبوا بالآيات وأعرضوا عنها من الأمم الماضية ، وطالبهم بالعبرة والموعظة مرارا ، ثم أنحى عليهم باللائمة قائلا ما معناه : لم لا تخافون أن يحل بكم ما حل بغيركم؟ أأنتم أقل كفرا وعنادا من قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط؟! حتى يصح لكم أن تأمنوا مكر الله بكم؟! بل أأعطاكم الله ـ عزوجل ـ براءة من عذابه مكتوبة حتى تكون حجة في أيديكم؟ بل أيقولون واثقين بشوكتهم : نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ، ونحن جماعة جمعنا منصور لا يضام (١).

ولقد رد الله عليهم هذا الزعم الفاسد بقوله : سيهزم الجمع ويولون الدبر ؛ وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه ما كان يعرف معنى هذه الآية وهو في مكة حتى وقعت غزوة بدر وسمعت النبي يقرأ هذه الآية ، فعرفت تأويلها ، وقد كانت من دلائل النبوة ، فهزمت جموعهم ، وولوا الأدبار ، وليس هذا تمام عقوبتهم ، بل الساعة موعد عذابهم ، والساعة أدهى من ذلك العذاب الدنيوي وأمر.

ولا عجب أن يعذب الله الكفار في الدنيا والآخرة ، فإن لله قانونا حكم به عباده لن يتخلف وهو : إن المجرمين المكذبين في ضلال عن الحق ونيران حامية مسعرة وهم يعذبون يوم يسحبون في النار على وجوههم إهانة لهم حالة كونهم يقال لهم تبكيتا وإيلاما : ذوقوا مس سقر. إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، أى : بتقدير منا وإحكام وعلم فكل فعل أو أى شيء يصدر في هذا الكون خيرا كان أو شرا إنما هو بقدر الله ، وواقع بعلمه ، وسيجازى عليه جزاء وافيا ، ويدخل في ذلك أفعال العباد كلهم.

وليس هذا بكثير على قدرة الله وعلمه وإرادته ، فما أمره ـ سبحانه وتعالى ـ إلا فعلة واحدة ، وعلى نهج لا يختلف ، وهو الإيجاد لجميع الأشياء بلا معالجة ولا تعب

__________________

(١) الاستفهام في الآية إنكارى وجميع خبر نحن ، ومنتصر خبر لمحذوف تقديره : أمرنا أو جمعنا.

٥٧٦

ولا مشقة بل بقوله للشيء : كن ، فيكون كلمح البصر في السرعة والتنفيذ ، وفي الحقيقة هذا تقريب للعقول في سرعة تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية ، ولقد أهلكنا أشياعكم وأشباهكم من الأمم السابقة فهل من مدكر؟ وكل شيء فعلوه في الدنيا مسجل عليهم في الزبر وصحائف الأعمال ، وكل صغير وكبير من الأعمال مسطور ومكتوب في اللوح وعند الحفظة من الملائكة (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً!!) (١).

وهذه حال المتقين بعد حال الكافرين المذنبين ليظهر الفرق جليا بين الفريقين ، وبهذا يتم الترهيب والترغيب.

إن الذين اتقوا الله فابتعدوا عن الكفر والمعاصي في جنات عظيمة الشأن ، وأنهار تجرى في وسطها وهم في مقعد صدق ، أى : مكان مرضى ، روى أن جعفر الصادق ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال في هذه الآية : مدح الله المكان بالصدق ، فلا يقعد عليه إلا أهل الصدق ، وهو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه ، ويتمتعون فيه بالنظر إلى وجهه الكريم ، يقعدون فيه عند مليك مقتدر قادر عظيم القدرة ، وما أروع هذا التعبير حيث أفهم العندية والقرب ، وذكر مليكا مقتدرا للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته لا تدركها الأفهام ، ولا تحيط بها العقول والأبصار.

__________________

١ ـ سورة الكهف آية ٤٩.

٥٧٧

سورة الرحمن

وهي مكية كلها على الصحيح ، وعدد آياتها ثمانية وسبعون آية ، ولقد صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلى الصبح بنخلة ، فقرأ سورة «الرحمن» ومر النفر من الجن فآمنوا به ، وفي الترمذي عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليهم سورة «الرحمن» من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال النبي : «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد». وروى عن على ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرحمن».

وتشتمل هذه السورة على ذكر النعم مبتدئة بذكر القرآن الذي هو أكبر نعمة على الإنسان ، ثم بذكر النعم الكونية في السماء والأرض ، ثم خلق الإنسان والجان ، ثم صفة يوم القيامة ، ثم صفة أهل النار ، ثم ختم السورة ببيان الجنة وما فيها من نعيم أعد للسابقين وأصحاب اليمين.

أمهات النعم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠)

٥٧٨

فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣)

المفردات :

(الْبَيانَ) : المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. (بِحُسْبانٍ) : بحساب دقيق. (وَالنَّجْمُ) : النبات الذي ينجم ، أى : يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له. (يَسْجُدانِ) المراد ينقادان. (الْمِيزانَ) المراد : شرع العدل وأمر به. (بِالْقِسْطِ) : بالعدل. (وَلا تُخْسِرُوا) أى : تنقصوا. (لِلْأَنامِ) أى للخلق جميعا ، أى : الإنس والجن. (الْأَكْمامِ) : جمع كم ، والمادة تدل على الستر ، والكمة والكمامة : وعاء الطلع وغطاء النّور ، والجمع كمام وأكمة وأكمام ، ومنه : كم القميص لستره الذراع ، والكمة : القلنسوة لتغطيتها الرأس ، وأكمام النخل : أوعية التمر ، أعنى الطلع أو كل ما يغطى من ليف وسعف وطلع. (ذُو الْعَصْفِ) : ورق الزرع الجاف. (وَالرَّيْحانُ) : هو كل مشموم طيب الرائحة من النبات ، وقيل : المراد به الرزق الخاص بالإنسان. (آلاءِ) : جمع إلى وهو النعمة.

المعنى :

ربنا الرحمن ، المتصفة ذاته بالرحمة ، وهذه نعمه ظاهرة ، وآثار رحمته بادية ، ولقد أخذ القرآن الكريم في تعدادها ، وقدم مصدر الدين ، وأساس الهداية ومنبع النور ألا وهو القرآن ، ثم أتبعه بذكر الإنسان وخلقه ليعلم أنه إنما خلقه للعبادة والدين ثم ذكر ما يتميز به عن سائر الخلق ، وهو البيان الصريح والمنطق الفصيح المعرب عما في الضمير ، المبين لآثار القرآن الموضح لأغراضه وأسراره ثم بعد ذلك ذكر بعض نعمه في الأكوان العلوية ، ثم في الأكوان السفلية ، وهكذا.

الرحمن على القرآن (١) أى : علم الإنسان القرآن ، نعم : القرآن وتعليمه مصدر

__________________

(١) في هذا إشارة إلى أن الرحمن مبتدأ وما بعده خبر ، ويجوز أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف كما شرحنا أولا.

٥٧٩

السعادة الدينية والدنيوية ، وهو مصدق للكتب السماوية ، وحارسها وراعيها والمهيمن عليها ، وفيه الخبر الصدق ، والتشريع المحكم ، والقضاء العدل ، والقصص المملوءة عبرة وعظة ، والإرشادات إلى الخلق الكامل والمثل العليا ، والدعوة الصريحة لتنظيف القلوب من أدران الدنيا وأكدار النفس ، والدعوة إلى خلق المسلم الصحيح والإنسان الكامل السعيد في الدنيا والآخرة ، ومع هذا فأكثر الناس لا يعقلون.

وإذا نظرنا إلى هذا النور الذي نبه العالم في القرن الحديث ، وأيقظه من غفوته لم نجد له مصدرا إلا القرآن والرسالة المحمدية ، حقيقة لم تبلغ الحضارة الحديثة الدرجة العليا والغرض السامي لأنها لم تنهل من تعاليم القرآن ، ولم تجر على نظامه المحكم ، فكانت المذاهب والنظريات في السياسة والاقتصاد والاجتماع فيها الإفراط أو التفريط ، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا إلى نوره ، ولكن حكمته اقتضت ذلك ، إذا لا غرابة أن يبدأ تعداد نعمه بذكر تعاليم القرآن أولا ، ألست معى في أن أول نعمة هي القرآن؟! (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً).

[النحل ٨٩ ـ الإسراء ٨٢ ـ الكهف ١ و ٢]

الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان ، أى : أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة ، والغرائز الموجهة ، ولقد كان خلق الإنسان بهذا الشكل الدقيق ، وما أودع فيه من غرائز وميول ، واتجاهات وأفكار ، وقوى عاقلة مدركة ، وهذا فضلا عن تركيبه المادي الدقيق ، كان خلقه على هذا الوضع من أجل النعم وأرقاها ؛ (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) نعم قد علمنا الله البيان ، وأودع فينا قوة الإفصاح عما في الضمير ، ولذا نرى أن علماء التفسير وضحوا لفظ البيان في الآية بأنه الحلال والحرام ، أو سبيل الهدى والضلال أو هو علم الدنيا والآخرة ، أو أسماء الأشياء كلها ، وبعضهم ذهب إلى أن المراد بالإنسان هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبيان خصوص بيان القرآن ، وفي الواقع : البيان اسم جامع لكل هذا ، وهو أغلى ما يمتاز به الإنسان على سائر الحيوان.

الشمس والقمر ، وكذلك سائر الكواكب والأفلاك يجريان بحساب دقيق ، ونظام رتيب ، فلا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ، والشمس والقمر آيتان من آيات الله الكبرى ، وهما من نعم الله علينا

٥٨٠