التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)

المفردات :

(أَبَقَ) : هرب بلا إذن ، ومنه : عبد آبق (الْمَشْحُونِ) : المملوء (فَساهَمَ) : قارع أهل السفينة ، من المساهمة وهي الاقتراع (الْمُدْحَضِينَ) : المغلوبين بالقرعة (مُلِيمٌ) في كتب اللغة : ألام الرجل : أتى بما يلام عليه ، أو مليم نفسه (فَنَبَذْناهُ) : ألقيناه (بِالْعَراءِ) : بالساحل (سَقِيمٌ) : عليل (يَقْطِينٍ) اليقطين : شجرة الدباء (حِينٍ) : إلى مدة وأجل معلوم.

لقد ذكر يونس بن متى في القرآن الكريم أربع مرات باسمه ، وذكر بوصفه مرتين : في سورة الأنبياء (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [الآية ٨٧] وفي سورة القلم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [الآية ٤٨].

المعنى :

وإن يونس بن متى لمن المرسلين إلى أهل نينوى ، اذكر وقت أن أبق إلى الفلك المشحون بعد أن ذهب مغاضبا قومه لأجل ربه.

وإن ليونس مع قومه قصة تتلخص في أنه أرسل إليهم ، ودعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام ، ولكنهم لم يستجيبوا لقوله ، ولم يسمعوا لأمره ، فشق عليه ذلك ، وامتلأ قلبه غضبا وغيظا من مواقف قومه ، فرحل عنهم مغاضبا لقومه يائسا من إيمانهم ، وأبق قاصدا الهروب منهم والبعد عنهم فلما وصل إلى شاطئ البحر وجد سفينة مملوءة بالناس فركب معهم ولما جاوز الساحل هاجت الأمواج ، واصطلحت على السفينة

٢٢١

الرياح ، وتوقع الراكبون سوء المصير ، فاضطرب القوم ، واشتوروا فيما يصنعون ، ثم اتفقوا على الاقتراع فيلقون بمن تقع عليه القرعة ، فساهم الجميع ، ووقع السهم على يونس ، فعز عليهم إلقاؤه في البحر ، تكريما لشأنه وعرفانا لفضله ، فعادوا للمساهمة مرة ثانية وثالثة فيقع السهم على يونس وحده وأنه سيكون من نصيب البحر حتى تخف السفينة براكبيها فتسير.

ولما تحقق يونس من هذا أنه اقترف شيئا يغضب الله لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأدراك أن تركه قومه ، وعدم صبره على أذاهم ، وخروجه بلا إذن عمل ما كان ينبغي أن يكون فألقى بنفسه في البحر ، فالتقمه الحوت ، وهو مليم نفسه على ما فرط منها.

وأوحى الله إلى الحوت أن يبتلعه وظل في جوفه في ظلمات ثلاث ، ولقد امتدت يد العناية الإلهية به فكان محفوظا ينادى الله ويدعوه ، ويسبحه ويرجوه (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة الأنبياء آية ٨٧] ، فاستجاب الله دعاءه وأوحى إلى الحوت فألقاه على الساحل ، وتلقته العناية وأنبتت عليه شجرة من يقطين ، قيل : هي الدباء ، أى : القرع.

ثم أرسله ربك إلى مائة ألف أو يزيدون وهم أهل نينوى على الصحيح ، فآمنوا به وصدقوا برسالته ، وتركوا عبادة الأصنام فمتعهم ربك إلى حين معلوم وأجل محدود هو مدة بقائهم في الدنيا ، أو مدة إيمانهم والتجائهم إلى الله في كل أمورهم.

وهكذا كل أمة آمنت بربها فنفعها إيمانها (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [سورة هود آية ٣].

نقاش المشركين في عقائدهم

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ

٢٢٢

شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)

المفردات :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) : استخبرهم واطلب منهم الفتيا (أَمْ) معناها بل ـ الإضرابية ـ مع همزة الاستفهام (إِفْكِهِمْ) الإفك : أشد أنواع الكذب (أَصْطَفَى) : اختار ، والاصطفاء : أخذ صفوة الشيء. (سُلْطانٌ) : حجة قوية. (الْجِنَّةِ) : الملائكة ؛ وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار (نَسَباً) : مصاهرة وصلة (بِفاتِنِينَ) : بحاملين على الفتنة والإضلال (صالِ الْجَحِيمِ) يقال : صلى النار يصلاها : دخلها واحترق بها.

هذه السورة مكية ناقشت المكيين في عقائدهم وخاصة إثبات التوحيد ونفى الشركة ، وإثبات البعث يوم القيامة ، وساق الله فيها البراهين القاطعة على ذلك ، وبين

٢٢٣

ما يلاقيه الإنسان من خير أو شر يوم الجزاء ، وما أعد للمؤمنين من النعيم المقيم ، ثم ذكر ـ سبحانه ـ أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين ، وأنه أرسل إليهم منذرين ، ثم أورد قصص بعض الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بشيء من التفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له ـ عزوجل ـ وما أعد لهم.

ثم أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنا ـ في ختام السورة ـ بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن كل شيء تنكره العقول ، وتأباه الطباع وهو القسمة الجائرة الباطلة حيث كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ، وذلك أن قبائل جهينة وخزاعة. وبنى مليح. وبنى سلمة. وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ)؟ (١) كيف يكون ذلك منهم؟ والحال أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم! يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ويقول : والله ما هي بنعم الولد ـ الولد يطلق على الذكر والأنثى ـ أيمسكه على هون وذل أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون! فهم يجعلون لله ما يكرهون ، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار ، وأنهم قوم مفرطون.

بل أخلقنا الملائكة إناثا؟ وهم حاضرون ذلك؟ وهذا تبكيت وإنكار لهم حيث وصفوا الملائكة وهم قوم أطهار ـ عباد بالليل والنهار ـ بأنهم إناث ، فهم لا دليل لهم على ذلك إلا الحضور وقد نفى ، أما الأدلة العقلية أو النقلية فلا تحتاج إلى بطلان.

ألا إنهم من كذبهم وإفكهم الباطل ليقولون : ولد الله ؛ وإنهم لكاذبون في هذه الدعوى إذ ليس لها مصدر إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير دليل أو شبهة. أصطفى البنات على البنين؟ عجبا لكم كيف تقولون إن البنات أولاد الله ، وكيف يصطفى البنات على البنين؟ وما لكم كيف تحكمون بهذا الحكم الذي تشهد ببطلانه بدائه العقول؟!.

أتلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه؟ مع أن من له أدنى مسكة من عقل ينكره.

بل ألكم سلطان مبين؟ وهذا إضراب انتقالي من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر إلى

__________________

(١) الهمزة هنا للاستفهام الإنكارى وهكذا كل استفهام في هذه الآيات.

٢٢٤

مطالبتهم بالحجة المنقولة على ما يدعون من أن الملائكة بنات الله ؛ إذ الحكم المقبول لا بد له من سند حسى أو عقلي أو نقلي ، وقد انتفى حضورهم ومشاهدتهم خلق الملائكة إناثا (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)؟ ولا دليل لهم عقلي يؤيد دعواهم (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ)؟ فلم يبق إلا الحجة المنقولة فإن كانت فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ، والأمر هنا (فأتوا) للتعجيز ، كقولك : اصعد السماء.

روى أن بعض كفار قريش لما قالت : الملائكة بنات الله قال لهم أبو بكر ـ على سبيل التبكيت والإنكار ـ : فمن أمهاتهم؟ فقالوا : بنات سروات الجن ، فنزل قوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) وقد كان الخطاب معهم فالتفت يتكلم عنهم (بالغيبة) للإشارة إلى انقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب ، وعلى ذلك فالمراد بالجنة هم الشياطين ، وبالنسب المصاهرة ، ولعل المراد بالجنة هم الملائكة وبالنسب النسبة له ـ سبحانه وتعالى ـ حيث قالوا : هم بنات الله.

وبالله لقد علمت الجنة : أن من يقول ذلك لمحضرون ، وفي عذاب جهنم مخلدون فانظروا أين أنتم يا كفار مكة؟

سبحان الله ، وتنزيها له عما يصفون! سبحانه وتعالى عما يشركون ، وتقديسا له وتنزيها عما يدعيه المبطلون المفترون!!

إن من يشرك بالله لفي جهنم محضرون إلا عباد الله المخلصين الذين أخلصوا لله في عبادتهم واصطفاهم ربهم فأخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام ، أولئك في الجنة لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣].

إذا علمتم هذا فإنكم أيها المشركون ومن عبدتموهم ما أنتم على الله ـ عزوجل ـ بفاتنين ، على معنى : ما أنتم ومعبودكم مفسدين أحدا على الله ـ عزوجل ـ بإغوائكم إلا من سبق في علم الله ـ تعالى ـ أنه ممن يدخلون النار ويصلونها ، وبئس القرار ، فالأمر كله لله ، وقد ترك للعبد حرية الاختيار ليجازيه على عمله بالحسنى أو بالنار.

أما الملائكة الذين تدعون أنهم بنات الله أو تشركونهم مع الله فها هو ذا اعترافهم الصريح ، وها هو ذا موقفهم مع الحق ـ تبارك وتعالى ـ (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ

٢٢٥

مَعْلُومٌ) في العبادة لا يتعداه ، وأما نظام الكون ، وتدبير العالم فموكول إلى الله وحده لا شريك له ، ونحن لنا حد لا نتجاوزه ، ولا نستطيع أن نتعداه خضوعا واستسلاما لقضائه وتواضعا لجلاله ، فمنهم الراكع لا يقيم صلبه ، ومنهم الساجد لا يرفع وجهه ، ولكل منهم مقام معلوم في العبادة لا يتعداه ، والله يحكى عنهم أنهم الصافون أنفسهم للعبادة فلا يتقدم أحد ولا يتأخر عن صفته ، ومن هنا كانت تسوية الصفوف في الصلاة من إقامتها ، وأنهم هم المسبحون والمنزهون الله عما وصفه المشركون ، وها هو ذا إقرار الملائكة عن أنفسهم فكيف تعبدونهم أو تقولون : إنهم بنات الله؟! وكان المشركون قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عيروا بأنهم أميون جهلاء قالوا : لو أن عندنا ذكرا من الأولين ، أى لو بعث لنا رسول لكنا أول المؤمنين ، فلما جاءهم ما تمنوه كفروا به فسوف يعلمون عاقبة ذلك ، يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم من الشرك خالص من الوثنية.

تقوية العزائم

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)

٢٢٦

المفردات :

(كَلِمَتُنا) : وعدنا (وَأَبْصِرْهُمْ) : دلهم وأخبرهم عن أشياء كأنها مرئية (بِساحَتِهِمْ) : بدارهم والساحة في اللغة : فناء الدار الواسع.

المعنى :

لما هدد الله الكفار ، وأوعد المشركين وأنذرهم بسوء العاقبة أكد بما يقوى قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجنده ويشد من عزيمته هو وصحبه.

وتالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، وبالله سبق وتحقق وعدنا لهم بالنصر والغلبة حيث يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١).

وما المراد بالوعد المدلول عليه بقوله : كلمتنا؟ هو : إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون (٢) والنصرة والغلبة تكون بالحجة والبرهان ، أو بالسيف والسنان ، وإقامة الدولة وكمال السلطان ، فالمؤمن وإن غلب في بعض الأوقات بسبب بعده عن دينه ، وضعف نظامه العام وسلوكه في دولته فهو الغالب بالحجة والبرهان ، على أن الله يتكلم عن المسلمين حقا الحاكمين بكتابه العاملين بسنة رسوله المتمسكين بما يدعو إليه الدين والقرآن من العمل والجد والنشاط والاستعداد بدليل إضافة الجند له ـ سبحانه وتعالى ـ هؤلاء المنصورون وهم الغالبون ، وعلينا أن ننظر أين نحن من هؤلاء!

وإذا كان الأمر كذلك يا محمد فتول عن الكفار إلى حين ، وأعرض عنهم إلى زمن معلوم ، وأبصرهم مما ينزل عليهم من العذاب كالقتل والأسر ، وبصرهم عاقبة ذلك وأرشدهم إلى أن هذا واقع لا محالة حتى كأنه مشاهد محسوس يدرك بالبصر ، أبصرهم فسوف يبصرون كل ما وعدتهم به.

وقد كانوا يستعجلون العذاب الذي يهددهم به الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيرد الله عليهم بقوله : أفبعذابنا يستعجلون؟

__________________

١ ـ سورة المجادلة آية ٢١.

٢ ـ وهذا إشارة إلى أن قوله : «إنهم لهم المنصورون» بدل من «كلمتنا» التي هي تفسير لها ، أو هو استئناف بيانى.

٢٢٧

فإذا نزل العذاب ـ الذي هو كالجيش الزاحف ـ بساحتهم وحل بدارهم فبئس الصباح صباح المنذرين بهذا العذاب ، وخص الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه والغارات والهجوم على الأعداء يكون فيه ، وتول عنهم حتى حين ، وأبصر فسوف يبصرون.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين.

وهذا أدب رباني ، وختام إلهى لتلك السورة التي نفت عن الله ـ عزوجل ـ الصاحب والشريك والولد والقرين حتى يتأدب المسلمون بهذا ، ويتحلون به في ختام جلائل أعمالهم فقد ورد عن على ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر جلسته حين يريد أن يقوم (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) إلى آخر السورة.

وهذه الآيات تشتمل على تنزيه الله وتقديسه عن كل ما لا يليق به (سبحانه) ووصفه بكل ما يليق به من جلائل الصفات ، وسمات الجلال (رب العزة) فإن الربوبية تشير إلى التربية مع الحكمة والرحمة والفضل والنعمة ، والعزة إشارة إلى كمال القدرة والعلم وتمام الإرادة والوحدانية.

سلام من الله ـ عزوجل ـ ومن عباده المؤمنين على رسل الله الذين بلغوا عن الله التوحيد الصحيح والرسالة الكاملة فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا سلّمتم علىّ فسلّموا على المرسلين فإنّما أنا رسول من المرسلين» وسلام الله عليهم وأمن لهم يوم الفزع الأكبر.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسل الله أجمعين.

٢٢٨

سورة ص

هي مكية عند الجميع ، وعدد آياتها ست وثمانون آية.

وهي تشمل مناقشة المشركين في عقائدهم والرد عليهم ، وذكر قصص بعض الأنبياء التي تؤيد هذا المعنى وخاصة قصة داود وسليمان ، وأيوب ، والتعرض للمشركين ، وبيان حالهم يوم القيامة مع ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة له.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ

٢٢٩

الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)

المفردات :

(ذِي الذِّكْرِ) : صاحب الشرف (عِزَّةٍ) : استعزاز بالباطل واستكبار عن الحق والإيمان به (شِقاقٍ) : خلاف (قَرْنٍ) : أمة من الأمم ، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها من الأمم كالقرن يتقدم الجسم (مَناصٍ) : منجى ومهرب (عُجابٌ) : كثير العجب (الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أى : الأشراف (أَنِ امْشُوا) أى : امشوا ، والمشي : نقل الأقدام عن المكان ، وقيل : هو من مشت المرأة : إذا كثرت ولادتها ، ومنه الماشية (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) المراد : ملة العرب ونحلتهم التي أدركوها (اخْتِلاقٌ) : كذب مختلق لا أساس له (فِي الْأَسْبابِ) : في المعارج الموصلة إلى ما يريدون (جُنْدٌ) الجند : هم الأصحاب والأتباع الممتثلون للأمر (مَهْزُومٌ) وأصل الهزم : غمز الشيء اليابس حتى ينهزم ، كهزم القثاء والبطيخ (ذُو الْأَوْتادِ) المراد : ذو الملك الثابت الذي يشبه البيت المؤسس على أوتاد وعمد (فَواقٍ) الفواق : الوقت بين الحلبتين أو الرضعتين حتى يجتمع اللبن في الضرع (قِطَّنا) : قسطنا أو كتابنا.

المعنى :

صاد ، وأقسم بالقرآن ذي الذكر السامي والشرف العالي إنه لحق ، وإن محمدا لصادق في دعواه ، نعم إنه القرآن كلام الله ذو الذكر الحكيم ، والبيان الجامع لكل ما يهم العالم أجمع ، وما به صلاح الدنيا وقوم الآخرة (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١). (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) (٢) (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ

__________________

١ ـ سورة البقرة آية ١٥٨.

٢ ـ سورة النحل آية ٨٩.

٢٣٠

وَلِقَوْمِكَ) (١) بل الذين كفروا في عزة وشقاق .. وكأن نظم الآيات هكذا : صاد وأقسم بالقرآن ذي الذكر إنه لمعجزة وإنه لحق ، بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق ، وهم في شقاق لله ورسوله وخلاف مستمر معهما ، ثم أتبع ذلك بتهديد لهم ووعيد يزلزل كبرياءهم ، ويحطم عزتهم الجوفاء ـ أما العزة الحقيقة المرتكزة على أسس من الحق والعدل والكرامة فلله ولرسوله وللمؤمنين (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (٢) ـ بقوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) بمعنى : كثيرا من الأمم التي مضت والتي كانت أشد قوة وأكثر مالا وأولادا أهلكهم ربهم لما طغوا وبغوا ، وحينما نزل بهم نادوا واستغاثوا ، ولات الحين حين مناص لهم (٣) ، وليس لهم في هذا الوقت منجى ولا مهرب.

وهذه سيئة من سيئاتهم المتفرعة عن عزتهم الفارغة واستكبارهم بالباطل (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) الآية .. كانوا يرون أن الرسالة تتنافى مع البشرية ، وإذا سلمنا بها فكان الأولى والأجدر أن تنزل على رجل من القريتين عظيم ، فهم عدو رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرا عجيبا خارجا عن نطاق العقل والمألوف فقال الكافرون منهم : هذا ساحر لأنه يأتى بما نعجز عن تفسيره وتعليله ، وكذاب فيما يدعيه ، ويرويه عن رب العالمين.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٤) تعجبوا عجبا كثيرا من أن الرسول يقول : إن ربكم الله وحده لا شريك له ، ويصير الآلهة إلها واحدا ، أى : يصيرها ويجعلها في قوله لا في الخارج ، تعجبوا من ذلك لأنه خلاف ما ألفوه ، وقد أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفكر السليم ، فقاسوا الأمور الحية التي هي في مكنة الفرد من الإنسان فرأوا أنه يستحيل عليه القيام بمطالب هذا الكون ، فقالوا بتعدد الآلهة ، وتعجبوا ممن يقول بوحدة الإله.

وروى أنهم اجتمعوا ، أى : الأشراف منهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند عمه أبى طالب وطالبوه بالكف عن آلهتهم وذمها فرد عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : إنى أريد منكم كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتخضع لكم بها العجم. فقالوا : وما هي؟ قال : لا إله إلا

__________________

١ ـ سورة الزخرف آية ٤٤.

٢ ـ سورة فاطر آية ١٠.

٣ ـ لات حين : أخذت من (ليس حين) زيدت عليها التاء لتأكيد النفي ، ولا تعمل إلا في زمان ، ويحذف أحد معموليها ، والغالب أن المحذوف هو الاسم.

٤ ـ الاستفهام للإنكار والتعجب.

٢٣١

الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم قائلين : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب؟!

وانطلق الأشراف منهم يتحاورون قائلين : أن امشوا واتركوه ، وسيروا على ما أنتم عليه ، واصبروا على عبادة آلهتكم ، وتجمعوا على عبادتها إن هذا ـ الإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصلبه في أمر التوحيد وتشدده في نفى الآلهة ـ لشيء عظيم يراد من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة مهما كانت الظروف .. وقيل المعنى : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا ، فلا حيلة معه إلا الصبر والمثابرة عليه.

ما سمعنا بهذا الذي يقوله في الملة التي عليها العرب أخيرا والنحلة التي رأيناهم عليها فمن أين بهذا؟ ما هو إلا اختلاق وكذب ، وزور وبهتان.

كانت لمشركي مكة شبه ثلاث هي أوهى من بيت العنكبوت :

(ا) تعجبوا من كون الرسول واحدا منهم.

(ب) أنكروا أن تصريف هذا الكون يرجع إلى إله واحد.

(ج) أنكروا إنزال القرآن على محمد دونهم.

وقد تصدى القرآن للرد على الشبهة الثالثة بردود مفحمة ، واكتفى بسرد الشبهة الأولى والثانية لأن إثبات أن القرآن نزل من عند الله على محمد هو الغاية والنهاية ، وبه تزول كل شبهة.

أنزل عليه الذكر من بيننا؟ ولما ذا اختص هو بذلك الشرف العالي والدرجة السامية درجة الرسالة عن رب العالمين ، وهذه شبهة قديمة وسلاح شهرته الأمم في وجه الرسل فها هم أولاء قوم صالح يقولون : أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر؟! وقال المشركون من قريش : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟ أهم يقسمون رحمة ربك؟!

وهذا هو الرد : بل هم في شك من ذكرى ، هؤلاء الناس قد أعماهم التقليد ، وأضلهم الجهل المطبق فلم ينظروا بالعقل المجرد عن الهوى إلى الدلائل الشاهدة على

٢٣٢

صدق محمد وأن القرآن من عند الله فهم في شك وليس عندهم دليل ، ولذلك تارة يقولون : إنه سحر ، ومرة إنه شعر ، وثالثة إنه كهانة.

بل ـ وهذا إضراب عما مضى ـ لما يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه ولمسوه لفكروا وتدبروا ، وأدركوا أن محمدا على حق ، ولا غرابة فمن الناس من لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم ، ومن النفوس نفوس كالحجارة أو أشد قسوة لا تفتح إلا بالحديد الصلب والضرب الشديد. وفي التعبير بلما دليل على أنهم على وشك ذوقان العذاب. وما لهم ينكرون إنزال القرآن على النبي؟ ويرون أنه لا يستحق ، بل أعندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟ حتى ينكروا ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! نعم فهذه النبوة لا تكون إلا ممن عنده مفاتيح الخزائن كلها ، وهو بخلقه رحيم ورحمن. وهو صاحب العزة والسلطان ، كثير الخيرات والهبات ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ عنده مفاتيح خزائن هذا الكون ، وهو صاحب الرحمة والعزة وواهب الوجود لكل موجود ، والعالم بخلقه الحكيم في صنعه. وقد منح النبوة لمن يستحقها ، فلا يليق بكم أن تعترضوا هذا الاعتراض ، أما أنتم فلا حول لكم ولا قوة. ولا تعلمون شيئا من ذلك ، ليرتقوا في الأسباب ، وليبلغوا ما أرادوا ، وما هم ببالغيه ؛ هم جند هنالك مهزوم من الأحزاب ، وسيهزم جمعهم ويولون الدبر (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)! [سورة القمر آية ٤٦].

ولا غرابة في ذلك فهذا قصص من سبقهم : كذبت قبلهم قوم نوح. وعاد. وقوم فرعون ، وقد كانوا ذوى سلطان ثابت الأركان قوى الدعائم ، وكذبت ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقد أرسل إليهم شعيب فكذبوه فحقت عليهم جميعا كلمة ربك ، وحاق بهم سوء العذاب.

أولئك المكذبون هم الأحزاب المتحزبون على الرسل ، المهزومون ، إن كل إلا كذب الرسل فحق عقابي ، فأغرق قوم نوح ، وأهلك فرعون وجنده في البحر : وقوم هود بالريح ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف ، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة.

وما ينتظر المشركون من قريش إلا صيحة واحدة هي النفخة الثانية ، وما لها من فواق أى : ما لها من توقف مقدار فواق ، والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر لحظة واحدة ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا إكراما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وجعل عذابهم في الآخرة قالوا : ربنا عجل لنا قطنا وحقنا في العذاب قبل يوم الحساب!

٢٣٣

قصة داود

اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)

٢٣٤

المفردات :

(ذَا الْأَيْدِ) : صاحب القوة والجلد (أَوَّابٌ) : كثير التوبة والرجوع إلى الله (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أى : في وقت صلاة العشاء وصلاة الضحى (مَحْشُورَةً) : مجموعة (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) : قويناه حتى ثبت (الْحِكْمَةَ) يمكن تفسيرها هنا بالنبوة والعلم بكتاب الله ، أو العدل في الأحكام (وَفَصْلَ الْخِطابِ) : البيان الفاصل بين الحق والباطل (الْخَصْمِ) المتخاصمين (تَسَوَّرُوا) : أتوا من أعلى السور ، يقال : تسور الحائط : تسلقه (الْمِحْرابَ) قيل : هو الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها. أو صدر المجلس ومنه : محراب المسجد (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) : خاف منهم (وَلا تُشْطِطْ) : ولا تجر ولا تمل (أَكْفِلْنِيها) أى : انزل لي عنها حتى أكفلها ، والمراد : أعطنيها (وَعَزَّنِي) : غلبني (الْخُلَطاءِ) : جمع خليط وهم الشركاء (فَتَنَّاهُ) ابتليناه (لَزُلْفى) لقربة إلى الله بعد المغفرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) : وحسن رجوع إلى الله.

بعد ما ذكر أحوال المشركين وعنادهم وأذاهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر النبي بالصبر على ما يقولون وأن يذكر إخوانه الأنبياء الذين لا قوا ما لاقوا وصبروا محتسبين أجرهم عند الله مقدما في الذكر داود ـ عليه‌السلام ـ

وهنا قصته ، وقد ذكر فيها عناصر ثلاثة (ا) ما آتى الله داود من فضل (ب) الحادثة التي وقعت له (ج) مسألة استخلافه في الأرض.

المعنى :

اصبر على ما يقوله هؤلاء المشركون ، واذكر عبدنا داود إنه أواب ، وفي وصفه بالعبودية الدالة على حسن امتثاله لربه تشريف له وتكريم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ...) [سورة الإسراء آية ١].

وقد ذكر لداود هنا عشر صفات ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بداود فيها : الصبر ، وأن الله وصفه بالعبودية ، وأنه صاحب الأيد والقوة في العبادة ، وأنه أواب كثير التوبة والرجوع إلى الله ، وأن الله سخر له الجبال حالة كونها تسبح معه (١) وتردد تسبيحه

__________________

(١) يسبحن : حال من الجبال ، والطير : معطوفة عليه ، ومحشورة حال من الطير ، وجاء (يسبحن) فعلا للدلالة على التجدد والحدوث ، ومحشورة : اسم مفعول للدلالة على الدوام وعدم التجدد لأنه أبلغ.

٢٣٥

حتى يسمعها الله بالعشي والإشراق ، أى : في صلاة العشاء وصلاة الضحى ، وأنه سخر الطير معه محشورة كل له أواب ، وشددنا ملكه ، أى : أقويناه بالقوى المادية والأدبية ، وآتيناه الحكمة ووهبناه النبوة ، وأرشدناه إلى فصل الخطاب وإصابة الغرض والعدل في الأحكام (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ..)؟ ولما مدح الله داود وذكر له صفات عشرا كلها ثناء عليه أتبع ذلك بذكر حادثة له. وبدأها باستفهام للتنبيه على القصد وسمو الغرض ولفتا للنظر ، ألا ترى إلى قوله : «نبأ» والنبأ : هو الخبر المهم ، وهذه القصة كانت مثار نقاش كثير من قديم الزمن ، وخب فيها وأوضع القصاص ونقلة الأخبار ، وقد ساعدهم على ذلك أن في التوراة والإنجيل ما يثبت لبعض الأنبياء ـ كداود ـ ما يترفع عنه عامة الناس ، فكيف الحال مع الأنبياء والمرسلين؟

ونحن ـ المسلمين ـ نقول بعصمة الأنبياء ، أى : ترفعهم عن الدنايا وبعدهم عن سفساف الأمور ، فإنا نرى أن زعماء الإصلاح قوم غير عاديين يكونون غالبا بعيدين عن الدنايا والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أولى بذلك منهم ، وهم قوم اصطفاهم الله واختارهم ، وصنعهم على يده فأرواحهم طاهرة ، ونفوسهم عالية ، يستحيل عليهم ما قاله الإسرائيليون في حقهم ونقله بعض علماء المسلمين ودونوه في كتبهم ، وإن كنا رأينا كثيرا من العلماء نفى مثل هذه الأقوال بشدة كالفخر والبيضاوي وغيرهم.

ونحن نسوق القصة على أساس أن داود نبي الله وهو معصوم من الزنا والقتل والدس والوقيعة ، فإن ذلك غير مقبول بحال من الأحوال ، وسياق القصة يثبت ذلك فالقرآن قد ذكر لداود صفات كلها مدح وثناء فإنه تواب أواب وله زلفى ومكانة عند ربه ، وصاحب قوة وفضل في عمله ثم ذكر القصة وأردفها بذكر مدائح له وهذا كله يتنافى مع وصفه بالفعل المنكر والعمل القبيح.

بعض الناس أثبت لداود أنه فعل الكبيرة كالزنا والقتل ، وبعضهم أثبت له بعض الصغائر التي لا تليق.

وفي الواقع تتلخص الحادثة : أن داود كان ملكا له سلطان ، وله أتباع وخدم ، وله مصالح مادية مع الناس ، وهذا كله يوجد له أعداء. واتفق أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن ينالوا من نبي الله داود ، وكان له يوم يخلو فيه للعبادة ، وانتهزوا الفرصة وتسوروا عليه المحراب ، فلما دخلوا عليه ووجدوا عنده ما يمنعهم من ذلك ، اختلقوا كذبا وزورا

٢٣٦

سببا لدخولهم فقالوا : نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ، ولا تجر ، واهدنا إلى سواء السبيل ، ويجوز أن يكونا متخاصمين حقيقة ، ولما دخلوا على داود بلا إذن ، وتوجس منهم خيفة وظن بهم الظنون ، وهم بذلك أن يصيبهم بسوء كانت هذه الواقعة فتنة وابتلاء لداود ، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام ، وتاب عما دار بخلده من ظن ، وخر راكعا فتاب الله عليه وغفر له.

أما قصتهما كما أخبر فهي : إن هذا أخى ، أى : في الدين والإنسانية له تسع وتسعون نعجة ـ هي الواحدة من الغنم أو بقر الوحش ـ ولى نعجة واحدة ، فقال صاحب الغنم الكثيرة أعطنى نعجتك أكفلها لك وأضمها لغنمي وغلبه في المخاصمة والمجادلة.

قال داود متسرعا قبل أن يسمع جواب الخصم الثاني ـ ولعل هذا هو الذنب الذي ألم به داود ـ : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وإن كثيرا من الخلطاء والشركاء ليبغى بعضهم على بعض حبا في الدنيا ، وشحا في النفوس إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يبغى بعضهم على بعض وقليل ما هم.

وظن داود أنما فتناه بهذه الحادثة فاستغفر ربه مما ألم به وتاب ، وخر راكعا وصلى لله قائما وساجدا وأناب ، فغفر له ربه ذنبه ـ لا تنس أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ـ وإن لداود عند ربه لقربى ومنزلة كريمة ، وحسن مآب ، أليس وصف داود بعد القصة بأن له زلفى وحسن مآب يدل على أنه عبد صالح أواب يستحيل عليه الإلمام بمعصية تغضب الله.

أما خلافته في الأرض فيقول الله عنها : يا داود إنا جعلناك خليفة لله في أرضه ، خليفة لله على عباده تقيم حكمه ، وتدعو إلى شرعه. وتثبت دعائم عدله وتقضى بين الناس ، فاحكم يا داود بينهم بالحق. ولا يحملنك شنآن قوم على عدم العدل فأنت خليفة أحكم الحاكمين ، وأعدل العادلين ، يا داود لا تتبع الهوى فإن من اتبع هواه ضل ، ومن انحرف عن الصراط وقع في الهاوية ، لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) وهذا تعليل لما قبله ، إن الذين يضلون عن سبيله لهم عذاب شديد وقعه بسبب أنهم نسوا يوم الحساب ، ولم يعملوا لذلك اليوم ، أولئك الذين نسوا الله فأنساهم العمل لخيرهم فكان جزاؤهم النار وبئس القرار.

٢٣٧

لا بد من ثواب وعقاب

وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)

المفردات :

(باطِلاً) : هزلا ولعبا (فَوَيْلٌ) : عذاب شديد ، أو هو واد في جهنم (كَالْفُجَّارِ) : هم الأشقياء (مُبارَكٌ) : كثير الخير والبركات.

وهذه كالروضة وسط الصحراء ، ورجوع إلى الأصل الأول الذي هو إثبات البعث وسط القصص للإشارة إلى أنه هو المقصود المهم للشارع.

المعنى :

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا لا حكمة فيه ، ما خلقنا هما لاعبين ، بل خلقنا هما لأسرار وحكم عالية فيها الاستدلال على كمال القدرة وتمام العظمة وهذه الدقة المحكمة في خلقهما دليل على أن الله لن يترك الناس سدى إذا ماتوا ، بل يعيدهم ويحاسبهم ويعطى كلا جزاءه ، ذلك أن خلقهما باطلا ظن الذين كفروا ، فإنهم ينكرون البعث ، وإنكاره معناه نفى عظم القدرة ، وتعطيل للحكمة (أَمْ) (١) (نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ)؟ بل أنجعل المؤمنين الصالحين كالكفرة المفسدين في الأرض؟ وكيف نسوى بين هؤلاء وهؤلاء؟ فلو قلنا بعدم البعث ، وأنه

__________________

(١) هذه هي (أم) المنقطعة تقدر ببل التي للإضراب الانتقالى ، والهمزة استفهامية ، ويراد بها الإنكار.

٢٣٨

لا حياة إلا في الدنيا لاستوى الفريقان في التمتع بالدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا من أكثر المؤمنين في الدنيا ، لكن ذلك النظام محال مخالف للحكمة فتعين أن هناك حياة يظهر فيها عدم التساوي بين المؤمن والكافر هي في دار الجزاء.

(أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)؟ بل أنجعل المتقين كأشقياء الكفرة؟ لا يعقل هذا وإذا ثبت أن هناك فرقا كبيرا بين المؤمن وغيره ، وأن المؤمن له حياة دائمة ، فيها السعادة والنعيم فما الطريق إلى ذلك؟

الطريق هو اتباع القرآن الذي نزل تبيانا لكل شيء ، وهدى ورحمة للمؤمنين ، كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخيرات عظيم البركات فيه شفاء للناس ونور وموعظة للمؤمنين ، أنزلناه ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب.

سليمان عليه‌السلام

وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)

٢٣٩

المفردات :

(الصَّافِناتُ) القائمات ، أو الصافن من الخيل : الذي يرفع إحدى رجليه ويقف على مقدم حافرها (الْجِيادُ) : جمع جواد ، وهو الذي يجود في سيره ، أى : يسرع مع الخفة (تَوارَتْ) : اختفت وغابت (بِالْحِجابِ) : بالحاجز وقيل : بالليل (بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أى : بسيقانها وأعناقها (رُخاءً) لينة مع قوتها وشدتها. (أَصابَ) : أراد (الْأَصْفادِ) : جمع صفد ، وهو القيد.

المعنى :

ذكر بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن سليمان عرض عليه خيل جياد في وقت العصر فألهاه ذلك عن صلاة العصر فغضب ، وطلب من الله أن يرد عليه الشمس بعد غروبها ليصلى العصر فردت إليه ، ثم غضب على الخيل التي كانت سببا في فوات الصلاة فقطع أعناقها وسوقها ، والضمير في قوله : (حتى توارت بالحجاب) للشمس ، ثم قالوا في قوله تعالى : «أحببت حب الخير عن ذكر ربي» إنه أحب هذه الخيل معرضا عن ذكر ربه ، وهو الصلاة.

وهذا تأويل فاسد ، يدل على فساده بداهة أسلوب القرآن ، ومكان القصة هنا ، وسياق الآيات.

إن هذه القصص إنما ذكرها الله ـ تعالى ـ بعد قول المشركين : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) وقد بلغوا مبلغا من السفاهة عظيما ، حتى قال الله للنبي : اصبر على ما يقولون. واذكر عبدنا داود ، ثم ذكر بعد ذلك قصة سليمان وهذا الوضع والسياق يفيد أن القصص سيقت لبيان جلائل الأعمال ، وفضائل الخلال التي قام بها هؤلاء الأنبياء وأصحابهم ، وعلى هذا فداود وسليمان ليس من الحق أن نفهم فيهما أنهما أتيا أعمالا تتنافى مع مركز النبوة وشرف الرسالة ، وخاصة بعد قول الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اصبر واذكر داود وسليمان ، أى : تأس بهؤلاء ، وعلى هذا فيمكن أن نلخص ما يمكن فهمه من هذه الآيات بما يأتى : أن الله وهب لداود سليمان وكان نبيا من المرسلين ، وهو نعم العبد الصالح ، إنه أواب ومطيع ، واذكر وقت أن عرض عليه بالعشي الخيل المطهمة ، والصافنات الجياد ، ويمكن أن نقول : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في

٢٤٠