التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

سورة المرسلات

وهي مكية وعدد آياتها خمسون آية ، وتشمل الكلام على البعث بالقسم عليه ثم ببيان مقدماته ، ثم ذكر بعض مظاهر القدرة لله في خلقه ، ثم ذكر حال الكفار يوم القيامة ، وذكر حال المؤمنين كذلك ، وقد ختمت بلوم الكفار على بعض أعمالهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ

٨٠١

شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)

المفردات :

(وَالْمُرْسَلاتِ) : فسرها بعضهم بالملائكة المرسلة بأمره تعالى فعصفن في المضي وأسرعن في تنفيذ الأمر كما تعصف الريح ، وبعضهم فسرها بالرياح المرسلات بأمره إلى جهات مختلفة ، فالعاصفات : السريعات الهبوب والسير. (عُرْفاً) : إرسالا متتابعا مأخوذ من عرف الفرس ، وهو اسم للشعر المتتابع الثابت في محدب الرقبة.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أى : الرياح التي تنشر السحب في السماء ، أو هي الملائكة تنشر الشرائع في الأرض. (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) : الرياح تفرق السحاب في أجواء الفضاء ، أو هي الملائكة تفرق بين الحق والباطل. (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) : هي الرياح تلقى في قلوب الناس ذكرا لمن أرسلها بالخير ، أو هي الملائكة تلقى على الأنبياء الذكر

٨٠٢

من الوحى. (طُمِسَتْ) : ذهب ضوؤها. (فُرِجَتْ) : تشققت. (نُسِفَتْ) : تفرقت أجزاؤها من نسف الحب بالمنسف : إذا نفضه وذراه. (أُقِّتَتْ) : بلغت الوقت المحدود لها. (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) : يوم القيامة. (ماءٍ مَهِينٍ) : ماء حقير ضعيف. (قَرارٍ مَكِينٍ) : مستقر حصين وهو الرحم. (قَدَرٍ مَعْلُومٍ) : زمان معين. (فَقَدَرْنا) وقدرنا : بمعنى هيأنا وأحكمنا. (كِفاتاً) كفت الشيء : ضمه وجمعه ، كفاتا مصدر له. (رَواسِيَ) : جبالا ثابتات. (شامِخاتٍ) : عاليات مرتفعات. (فُراتاً) : عذبا. (ظِلٍ) المراد به : دخان جهنم. (شُعَبٍ) : فروع وذوائب. (بِشَرَرٍ) : جمع شرارة ، وهي ما يتطاير من النار. (كَالْقَصْرِ) : كالدار ، والعرب تطلق القصر على البناء الكبير والصغير. (جِمالَتٌ) جمع جمال الذي هو جمع جمل ، وهو الحيوان المعروف. (كَيْدٌ) : مكر أو حيلة. (ظِلالٍ) : جمع ظل.

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ على وقوع يوم البعث الذي يكذب به المشركون أقسم بالملائكة التي أرسلن بأمره ـ تعالى ـ وأمرن بإنفاذه فورا حالة كونها متتابعات فعصفن في المضي فيه تنفذه وأسرعن إسراعا كما تعصف الرياح ، وذلك دليل على سرعة الامتثال وأنهم لا يتباطئون في تنفيذ أمره ، وأقسم (١) كذلك بالملائكة التي تنشر الموتى أو : التي تنشر أجنحتها في الفضاء هابطات أو صاعدات ، أو تنشر الشرائع على الأنبياء فتفرق بين الحق والباطل ، فتلقى ذكرا إلى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ على أن الإلقاء ليس مختصا بجبريل وإنما هو رئيسهم ، تلقى هذا لأجل إعذار المحقين في أعمالهم ، وإنذار المبطلين كذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

وبعض العلماء يذهب في تفسير الآية مذهبا آخر يتضمن أن المراد بالمذكورات الرياح وعلى ذلك فيكون المعنى :

__________________

(١) هنا سؤال : لم عطف بالواو في قوله : والناشرات وعطف بالفاء في غيرها؟ والجواب ـ والله أعلم ـ أن الواو تدل على المغايرة في الذات وكأن الله أقسم بطائفتين ، الأولى بالمرسلات فالعاصفات والثانية والناشرات فالفارقات فالملقيات ، والفاء تدل على ترتيب معاني الصفات في الوجود فكان الإرسال فالعصف ، وكان النشر فالفرق فالإلقاء.

٨٠٣

أقسم ـ تبارك وتعالى ـ بالرياح لما لها من الأثر الفعال في حياة العالم بل في وجود هذا الكون ، أقسم بها ليلفت النظر إليها كما أقسم بالكواكب في سورة النازعات ، وبالخيل في سورة العاديات ، على أن الرياح والكواكب والخيل كلها تعدو وتسير وكلها من صنع الجليل القدير جل شأنه.

أقسم بالرياح التي أرسلت بعد ركودها تحمل السحب ؛ وتلقح الشجر ، وتحمل البذر ، وتدفع السفن ، إلى غير ذلك ، وهذه الرياح التي أرسلت متتابعة الهبوب كشعر الفرس الذي ينبت في محدب رقبته ، وهي بعد الإرسال تأخذ في العصف بشدة ، فالعصف عقب الإرسال ، ولذا عطف بالفاء.

وأقسم بالرياح الناشرات (١) نشرا التي تنشر السحب وتبسطها في الفضاء ، وبعد ذلك تأخذ في تفريقها وتوزيعها على من يشاء من عباده (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) [الأعراف ٥٧] وهذه الرياح بعد أن تفرق السحب وتوزعها على من يشاء تلقى في قلوب الناس ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أرسلها ومن عليهم بها ، وهذا معنى قوله تعالى (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) والناس حينما يذكرون الله وقت هبوب الرياح وحملها للسحب ، منهم من يذكر الله مؤمنا به وبصفاته ، ومصدقا بوحيه ورسله وكتبه فيكون هذا عذرا له عند ربه في محو سيئاته ، ومنهم من يكون ذكره بمثابة الإنذار له بسوء حيث ينسب هبوب الرياح وسقوط الأمطار لغير الله كالطواغيت والأصنام أو الأنواء والكواكب كما كانوا يقولون : مطرنا بنوء كذا.

أقسم الله بهذه الرياح على أن ما توعدون به من البعث والثواب والعقاب واقع لا محالة.

مقدمات البعث : فإذا النجوم طمست ، وذهب ضوؤها بعد أن كانت مضيئة ؛ وإذا السماء فرجت وتشققت أجزاؤها بعد أن كانت ملتحمة متينة الوضع والتركيب قوية الجاذبية. (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق ١](وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ ١٩] وإذ

__________________

(١) ويظهر أن العطف بالواو على هذا المعنى لتباين صفة العصف مع النشر ، بخلاف غيرها ؛ فكأن القرآن نزل تغاير الصفة منزلة تغاير الذات على هذا.

٨٠٤

الجبال التي كانت ثوابت ورواسى تقلع من أصلها ، وتفرق أجزاؤها ، وتذرى في الرياح كأنها نسفت بالمناسيف (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [سورة النبأ آية ٢٠](وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [سورة الواقعة آية ٥].

وهذا وصف للعالم يوم القيامة أو قبله بقليل ، وليس هناك أحد يعفى من السؤال حتى الرسل والأنبياء فإنه يوقت لهم وقت لا يتعدونه ليشهدوا على أنفسهم بالبلاغ ، ويشهدوا على أممهم ، مبرئين أنفسهم من تبعة التقصير في التبليغ ، وهذا معنى (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أى : أجلت ليوم خاص ، وكأن سائلا سأل عن ذلك اليوم الموعود؟ فأجيب : ليوم الفصل الذي ليس بالهزل ، وما أدراك؟ أى : ما أعلمك به أيها الإنسان؟ ما يوم الفصل! أى : ما كنهه وحقيقته؟ وإنه لعجيب منك أن تلهو عنه ولا تعمل له.

فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت (١) ، فعندئذ تعلمون صدق الوحى في إثبات البعث ، وتعلمون حينئذ مقدار ضلالكم وأن الويل والهلاك والثبور لكم.

بعض مظاهر القدرة التي تلقى في قلوب الكفار والمكذبين الروع بعد الكلام على يوم القيامة وأهواله : ألم نهلك الأولين من قوم عاد وثمود وغيرهم ممن كذبوا بالرسل ولم يؤمنوا بالله وباليوم الآخر وأنتم تعلمون ذلك! ثم بعد ذلك أتبعناهم قوما آخرين ، كانوا بعدهم في الزمن ، وكذبوا مثلهم ، والمراد أقروا (٢) بذلك فاعتبروا به ، وتنبهوا له ، واحذروا أن تكونوا مثلهم ، فإن مثل ذلك الفعل الذي فعلناه مع غيركم نفعله بالمجرمين الذين يكذبون بيوم الدين ، ويل يومئذ للمكذبين وهلاك لهم وأى هلاك؟! وهذه الجملة كررت هنا عشر مرات لأن السورة تضمنت ذكر نعم ونقم ، فكان إذا ذكرهم الله بنعمة أو خوفهم من نقمة أكد التذكير أو التخويف بذكر الهلاك والثبور المعد للمكذبين يوم القيامة ردعا لهم عن الغفلة وحثا لهم على التصديق وعمل الخير.

ألم نخلقكم من ماء ضعيف حقير؟ فعلى أى شيء تتكبرون عن الإيمان بالله واليوم الآخر؟ ألم يخلق الله الإنسان من منى يمنى؟ ثم كان علقة فمضغة ... إلخ ، كل ذلك ،

__________________

(١) وهذا إشارة إلى جواب إذا.

(٢) وهذا إشارة إلى أن الهمزة للتقرير ، وكذا الاستفهام فيما سيأتى.

٨٠٥

وهو في رحم أمه ، قد وضع في قرار مكين ، وإن الأطباء وعلماء التشريح قد وقفوا على تفسير الآية عمليا ، وأن الرحم بالنسبة للجنين مكان حصين ومستقر أمين ، وكان فيه مع هذا إلى قدر معلوم ، وزمان محدود فإذا حان وقت خروجه تفتحت الأبواب ، ولانت العظام ، واتسع القرار المكين لنزول الجنين ، ألا ترى أن ربك قدر ذلك وهيأه تهيئة العليم الحكيم القوى القادر؟ فنعم القادرون المقدرون بالحمد والثناء ، والمراد الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.

ألم نجعل الأرض كفاتا؟ أى : تكفتكم وتضمكم حالة كونكم أحياء وأمواتا؟! يا سبحان الله أليس هذا من عجائب قدرة الله أن جعل الأرض مستقرّا للإنسان على ظهرها يحيى ويتقلب ويسير ، وهي ـ إذا مات ـ تضمه في بطنها ، وتوارى سوأته وتكرم جسده. (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) [سورة المائة آية ٣١].

أليس من نعم الله على خلقه أن جعل الأرض تضمهم إليها حالة كونهم أحياء وأمواتا؟ وجعلنا في الأرض رواسى ثابتات ، وأطوارا شامخات ، كان لها أثر كبير في إنزال المطر ولذا جاء بعد هذا : وأسقيناكم ماء عذبا فراتا ، ويل يومئذ وهلاك شديد للمكذبين الذين يكذبون بنعم ربك ، ويكذبون بيوم الدين.

الكفار يوم القيامة : يقال لهم : انطلقوا إلى عذاب كنتم به تكذبون ، فهذه جهنم التي يكذب بها الكافرون ، وانطلقوا إلى ظل!! يا سبحان الله ، الظل الذي يتفيؤه الإنسان ويتخذه مقيلا لراحته هو الظل الممدود الذي لا ينفذ منه حر ولا قر ، ولا نار ولا لهب ، وهذا هو الظل المعد لأصحاب اليمين ، أما الظل المعد للكفار فعذاب أليم ، ودخان من يحموم لا بارد ولا كريم ، هو ظل ذو ثلاث شعب ، فهو يحبس الأنفاس ، ويكوى بالنار ، ويرمى بالشرار ، ظل ليس ظليلا واقيا من وهج الشمس أو لفح النار وليس يقي من اللهب ، ظل ناره ترمى بشرر كالقصر أو الجمالات الصفر ، فهو ظل جهنمى والعياذ بالله فهو نوع من العذاب شديد ، فهو دخان أسود قاتم يملأ الخافقين منعقد من نار تلظى ، وانظر إلى وصف الشرر بأنه كالبيت في الضخامة ثم هو كالجمال في الشكل والخفة وسرعة الحركة واللون ، وإنه لحقا تنزيل رب العالمين!! ويل يومئذ

٨٠٦

للمكذبين ، هذا يوم لا ينطق فيه الكافر بما ينفعه أصلا ، أو عند ذلك لا يتكلم أبدا ، ولا يؤذن له فيعتذر (١) ويل يومئذ للمكذبين.

هذا يوم الفصل ، والقضاء بالعدل ، هذا يوم جمعناكم فيه مع الأولين السابقين لكم في الزمن أو المكانة ، فهل تستطيعون أن تفلتوا؟! فإن كان لكم كيد به تستطيعون شيئا فافعلوا وكيدوني ، يا ويلكم أيها المكذبون! وويل يومئذ للمكذبين!!

حال المتقين : إن المتقين الذين اتقوا ربهم وخافوا يوما كان شره مستطيرا هم في ظلال وعيون ، أى : قريبون من العيون ، تجرى من تحتهم الأنهار فلا يتعبون ، وعندهم فواكه كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، فواكه مما يشتهون ، ويقال لهم تكريما : كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ، ولا غرابة في ذلك ، إنا كذلك نجزى المحسنين ، ويل يومئذ للمكذبين الذين يقال لهم في الدنيا : كلوا كما تأكل الأنعام ، وتمتعوا قليلا فإنا نستدرجكم إلى يوم الدين ، كلوا وتمتعوا بدنياكم ، وغدا حسابكم إنكم مجرمون ، ويل يومئذ للمكذبين ، وكان من سوءاتهم أنه إذا قيل لهم : اركعوا لله ربكم ، واعبدوه وحده ، ولا تشركوا به شيئا لا يركعون ، وقيل : المراد بالركوع ركوع الصلاة.

ويل يومئذ للمكذبين! الويل لهم والهلاك لهم والثبور ، حيث لم يشكروا النعم ولم يخافوا النقم فالويل لهم ثم الويل لهم!!

إذا كان الأمر كذلك وأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث العجيب ، فبأى حديث بعده يؤمنون؟؟ إذ هو الكتاب الكامل الذي جمع فأوعى ، وهكذا المغضوب عليهم يقضون حياتهم لا ينتفعون بحكمة ولا يهتدون بنور.

__________________

(١) قرئت بالرفع لأن نصبها يشعر بأنهم قد يعتذرون لو أذن لهم ، والقرآن يريد لمن يصفهم أنهم لا يعتذرون أصلا أو لم يؤذن لهم.

٨٠٧
٨٠٨

سورة النبأ

وتسمى سورة عم. وهي مكية ، وعدد آياتها أربعون آية ، وهذه السورة تكلمت على البعث وإثباته ، وبيان مظاهر قدرة الله ، ثم تعرضت لمنكري البعث وبينت حالهم يوم القيامة : وحال المؤمنين به ، على أن تهويل يوم القيامة وتفخيم شأنه ، وتخويف الناس من عذابه من عناصر السورة المهمة التي ذكرت في ثنايا الكلام.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا

٨٠٩

لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)

المفردات :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) : عن أى شيء يسألون رسول الله؟ (عَنِ النَّبَإِ) : عن خبر يوم البعث ، والنبأ : هو الخبر المهم. (كَلَّا) : كلمة ردع لهم وزجر. (مِهاداً) المهاد : الفراش الموطأ ، وفي القاموس : المهد : الموضع المهيأ للصبي كالمهاد.

(أَوْتاداً) أى : كالأوتاد ، والوتد : خشبة تغرس في الأرض ويظهر منها جزء.

(أَزْواجاً) : أصنافا ، والمراد ذكر وأنثى. (سُباتاً) السبات : الموت ، والمراد :

جعلنا نومكم كالموت ، والمادة تدل على القطع ؛ فالنوم يقطع التعب والألم ، والموت يقطع الحياة ، والمراد : جعلنا نومكم راحة لكم. (لِباساً) أى : كاللباس في الستر.

(مَعاشاً) : حياة ، ووقتا لطلب العيش. (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أى : خلقنا فوقكم السموات كالقباب. (سِراجاً وَهَّاجاً) : سراجا متلألئا وقادا ، وهو الشمس. (الْمُعْصِراتِ) المراد : السحائب. (ثَجَّاجاً) : منصبا كثيرا. (حَبًّا

٨١٠

وَنَباتاً) الحب : ما يقتات به الإنسان كالذرة والحنطة ، والنبات ما يقتات به الحيوان كالتبن والحشائش. (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أى : جنات ملتفة الأشجار كثيرة الأغصان.

(أَفْواجاً) : جمع فوج ، وهو الجماعة المتميزة عن غيرها بشيء. (سُيِّرَتِ الْجِبالُ) : تناثرت أجزاؤها حتى صارت كالغبار المتطاير. (سَراباً) : وهو ما يظهر في الجو فيظنه الرائي ماء. (مِرْصاداً) : مكانا معدا لرصدهم.

(لِلطَّاغِينَ) : المتجاوزين الحدود في العصيان. (مَآباً) : مرجعا. (لابِثِينَ) : مقيمين فيها. (أَحْقاباً) : جمع حقبة أو حقب ، والمراد : مددا متطاولة لا نهاية لها.

(حَمِيماً) : هو الماء الحار. (غَسَّاقاً) : هو القيح والصديد الدائم السيلان من أجساد أهل النار. (كِذَّاباً) : تكذيبا كثيرا. (كِتاباً) : إحصاء. (مَفازاً) أى : فوزا ، أو مكانا للفوز. (حَدائِقَ) الحديقة : البستان المثمر شجره.

(كَواعِبَ) : جمع كاعب ، وهي الفتاة التي استدار ثديها. (أَتْراباً) : جمع ترب ، وهن من كن في سن واحدة كاللدات. (كَأْساً) : هو إناء من البلور يشرب فيه. (دِهاقاً) : ممتلئة. (لَغْواً) : هو ما لا يعتد به من الكلام. (عَطاءً) : فضلا وإحسانا منه. (حِساباً) : كافيا على قدر أعمالهم. (الرُّوحُ) : جبريل عليه‌السلام. (صَفًّا) : مصطفين. (صَواباً) أى : قولا صوابا. (مَآباً) : مرجعا. (أَنْذَرْناكُمْ) : حذرناكم. (كُنْتُ تُراباً) : لم أخلق.

المعنى :

كان المشركون يتساءلون عن البعث فيما بينهم. ويخوضون فيه إنكارا له واستهزاء بوقوعه ، فرد الله عليهم بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن المسئول عنه وتهويلا ، وإخراجا له عن دائرة علوم الخلق.

عن أى شيء يسألون (١) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين؟! عن النبأ العظيم يتساءلون؟ الذي هم فيه مختلفون فمنهم من هو جازم بعدم وقوعه (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) (٢) ومنهم من ينكره لأنه ينكر وجود الله ... إلخ.

__________________

(١) فالتساؤل متعد ومفعوله في الآية محذوف لظهوره ، على أن المنكر هو السؤال فقط.

(٢) سورة الجاثية آية ٢٤.

٨١١

كلا! وهي كلمة ردع عن التساؤل والاختلاف في البعث مع وضوح الأدلة عليه. كلا سيعلمون ، أى : ليرتدعوا عما هم فيه فإنهم سيعلمون عما قريب حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال. ثم كلا سيعلمون!!

وها هي ذي بعض مظاهر القدرة وآيات الرحمة الدالة على قدرة الله على البعث وأنه صاحب النعم : ألم (١) نجعل الأرض فراشا ممهدا ليعيش عليها الإنسان عيشة سعيدة؟ والمعنى : قروا واعترفوا بأن الله قد جعل الأرض مستقرا ومهادا لكم ، وجعل الجبال في الأرض كالأوتاد لإرسائها كما يرسى البيت من الشعر بالعمد والأوتاد. وقد خلقناكم ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل والتوالد. وينتظم أمر الحياة فيها. وقد جعلنا ـ أى : الذات الأقدس ـ نومكم كالموت يقطع طول العناء وكثرة التعب : فالنوم أحد الموتتين ، على أنه نعمة من نعم الله الكبرى ، فإن نوم ساعات يريح القوى ، ويجدد النشاط ، ويعيد القوة والحيوية للإنسان ، وقد جعلنا الليل كاللباس لأنه يستر الأشخاص بظلمته. يا سبحان الله في الظلمة خير!! وفي النور خير ، إذ للناس في ظلام الليل مصالح وفوائد فكما أن اللباس يقي من الحر والبرد ، ويستر العورات ، كذلك يستتر فيه الفار من العدو ، أو الحيوان المفترس ، ويستعد فيه الكامن للوثوب : وربما كان فرصة لقضاء بعض حوائج الناس ، وقد جعلنا النهار حياة ، ووقتا لتحصيل المعاش ؛ فيه يستيقظ الناس لمعاشهم ، وفيه يتقلبون لقضاء حوائجهم ومكاسبهم ففي النهار الحياة ، وفي الليل النوم والسكون ، وقد خلقنا فوقكم سبعا شدادا ، أى : سبع سموات قوية محكمة لا يختل نظامها ، ولا يضعف بناؤها ، وقد جعلنا الشمس فيها سراجا وهاجا ، سراجا قويا ، متلألئا وقادا ، وقد أنزلنا من السحب ماء منصبا كثيرا ، ليخرج بسببه الحب من حنطة وأرز وغيرهما ، والنبات من عشب وحشائش وغيرهما ، ولتخرج بسببه الجنات الملتفة الأغصان ، والحدائق الملتفة الأشجار لتقارب أغصانها وطول أفنانها ، إن يوم الفصل كان ميقاتا.

أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يحيى الموتى يوم الفصل؟! أمن من على الناس بتلك النعم يعجز عن يوم يكون فيه الفصل والقول الحق ، والميزان العدل بين الخلائق

__________________

(١) الاستفهام هنا للتقرير.

٨١٢

فيفصل المحسن عن المسيء ويجازى كلا على عمله؟! إن يوم الفصل كان ميقاتا معلوما ينتهى إليه الناس فيجتمعون فيه ليرى كل عاقبة عمله ، ونهاية أمره (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) فيوم الفصل مؤقت بأجل محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يعلمه إلا الله.

كيف حال ذلك اليوم؟! وما حال المكذبين به؟! إنه هو يوم الفصل ، ليس بالهزل. إنه يوم الفزع الأكبر ، يوم ينفخ في الصور ، النفخة الثانية التي يأتى بسببها الناس أفواجا ، تأتى كل أمة بإمامها ، وتأتى كل جماعة منفردة من غيرها ، قد فتحت السماء فكانت أبوابا (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) فالقرآن يفسر بعضه بعضا ، والمراد : انشقت السماء انشقاقا يشبه فتح الباب في السهولة والسرعة وقد سيرت الجبال في الجو على صورتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها ، فتصبح كأنها سراب ، فهي سراب غليظ يرى من بعيد كأنه جبل وما هو بالجبل.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) نعم كانت جهنم في ذلك اليوم مكانا وموضعا لرصد الكفار للعذاب لأنهم الطغاة المتجاوزون الحدود ، كانت لهم مآبا ومرجعا يؤوبون إليه ، حالة كونهم لابثين فيها أحقابا ، أى : ماكثين فيها أزمانا غير محدودة ، أزمانا متعاقبة متلاحقة لا يعلمها إلا الله ، حالة كون الماكثين فيها لا يذوقون شيئا إلا ماء حميما. وصديدا يقطر من جلود أهل النار!! جزاهم ربك على أفعالهم جزاء وفاقا!! وما السبب؟ إنهم كانوا لا يرجون حسابا على أعمالهم ، وكذبوا بآياتنا الناطقة على إمكان البعث وكمال القدرة تكذيبا مفرطا ، وكل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم حفظناه وضبطناه في كتاب وأحصيناه إحصاء ، إذا كان الأمر كذلك فيقال لهم : ذوقوا هذا العذاب ، فلن نزيدكم بعده إلا عذابا مثله أو أشد.

وهذا بيان لحال المؤمنين يوم القيامة بعد بيان حال الكافرين والمكذبين : إن للمتقين فوزا عظيما بما عملوا في الدنيا ، وإن لهم في الجنة موضع فوز ومكان نجاة ، بعضه حدائق غناء ، ذات بهجة ورواء ، وأن لهم فيها فواكه وأعنابا ، وكواعب أترابا ، أى : نساء حسانا في سن واحدة فهن لدات ، والتمتع بهذا الصنف من النساء أمل الناس في الدنيا فكان لهم في الآخرة على وجه ونظام لا يعلمه إلا الله ، وليس لنا أن ندقق النظر في أمثال هذا ، بل نؤمن به إيمانا كما نطق القرآن ، وإن لهم فيها كأسا مملوءة بالمشتهى من

٨١٣

المشروبات والمستلذ من الطيبات ، وهم لا يسمعون لغوا ولا كذابا ، وقد جزاهم الله على أعمالهم جزاء ، قد تفضل به وأحسن ، جزاء من صاحب الفضل والنعمة رب السموات والأرض ، وكان جزاء كفاء لما قدموا ، وهذا وصف آخر ليوم القيامة يملأ القلوب خشية ، والنفوس روعة ورهبة ، كل الناس يوم القيامة لا يملكون من الحق ـ تبارك وتعالى ـ رب السماء والأرض الرحمن لا يملكون منه خطابا ، ولا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١) في هذا اليوم يقوم الروح جبريل والملائكة بين يدي الرب ـ سبحانه وتعالى ـ صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا!!

يا سبحان الله!! يقوم الروح والملائكة بين يدي الجبار المتكبر المتعالي ، لا يسمح لأحد بالنطق إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا بأن تشفع لمن يستحق الشفاعة!

أين الأصنام والشركاء الذين يظنون أنهم شفعاء لله؟!! أين الناس جميعا؟! وقد وقف جبريل والملائكة بين يدي الجبار ينتظرون الإشارة منه؟!

ذلك اليوم الحق ، نعم هو اليوم الحق الذي لا شك فيه ، ولا مرية.

إذا كان الأمر كذلك فمن شاء فليتخذ مآبا إلى ربه ، وليعمل عملا صالحا يقربه إليه.

ثم عاد إلى تهديد الكفار المكذبين بيوم القيامة الذين يتساءلون عنه محذرا لهم من عاقبة عنادهم وتكذيبهم. إنا أنذرناكم عذابا قريبا حصوله (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً) (٢) يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فقط ، يوم لا يرى فيه أبدا إلا عمله ، يوم يقول الكافر : ليتني كنت ترابا لم أخلق ، يقول ذلك من شدة هول ما يلقى ، ويتمنى أن لو كان جمادا أو حيوانا غير مكلف.

__________________

(١) سورة هود آية ١٠٥.

(٢) سورة المعارج الآيتان ٦ و ٧.

٨١٤

سورة النازعات

وهي مكية. وعدد آياتها ست وأربعون آية ، والسورة الكريمة تضمنت القسم بالنجوم أو الملائكة على إثبات البعث ، وأنه سهل ميسور ، ثم هددت المشركين بذكر قصة فرعون ونهايته ، ثم بينت بعض مظاهر القدرة وأن خلق الناس أقل من غيره ، وبينت حالهم يوم القيامة. ثم ختمت السورة ببيان بعض الحقائق المتعلقة بيوم البعث.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها

٨١٥

(٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)

المفردات :

(وَالنَّازِعاتِ) : الكواكب الجارية على نظام خاص ، وقيل : الملائكة التي تنزع النفوس وتخرجها من الأبدان. (غَرْقاً) يقال : أغرق إغراقا ، وغرقا في الشيء : بالغ فيه وجد. (وَالنَّاشِطاتِ) : الكواكب تخرج من برج إلى برج ، أو هي الملائكة تخرج الأرواح من الأجساد ، مأخوذ هذا من نشط الدلو من البئر ، إذا أخرجها برفق. (وَالسَّابِحاتِ) : الكواكب تسبح في أفلاكها أو تسير سيرا هادئا ، أو هي الملائكة تسبح بأمر ربها بين السماء والأرض. (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) : للكواكب يسبق بعضها بعضا ، أو هي الملائكة تتسابق في تنفيذ أمر ربها. (تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) : تتحرك الأرض والجبال وتضطرب. (الرَّادِفَةُ) : التابعة أو الواقعة التي تردفها ، وكل شيء جاء عقيب شيء فهو رديف له. (واجِفَةٌ) : مضطربة قلقة. (خاشِعَةٌ) : خاضعة ذليلة. (فِي الْحافِرَةِ) : في الحياة التي كنا فيها ، يقال : رجع فلان في

٨١٦

حافرته أى : طريقه التي جاء منها فحفرها بقدميه. (نَخِرَةً) العظام النخرة : البالية التي لو لمستها لتفتتت. (كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) : رجعة يخسر فيها أصحابها. (زَجْرَةٌ) : صيحة. (بِالسَّاهِرَةِ) : بالأرض التي كانوا يسهرون عليها بعد أن كانوا في جوفها ، وقيل : سميت ساهرة والمراد أصحابها. (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) : الوادي الطاهر المطهر.

(طُوىً) : هو اسم للوادي ، أو المراد بورك فيه مرة بعد مرة. (طَغى) : تجاوز الحد. (تَزَكَّى) أى : تتزكى وتطهر نفسك من الآثام والعيوب. (الْآيَةَ الْكُبْرى) : هي معجزة انقلاب العصا حية. (فَحَشَرَ) : جمع ما في استطاعته.

(نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) المراد : عقوبتها في الآخرة بالإحراق وفي الأولى بالإغراق والإذلال. (بَناها) أصل البناء : ضم شيء إلى شيء برباط وإحكام ليكون شيئا واحدا ، والمراد أن السماء وما فيها من كواكب قد جمعت وضمت بإحكام وإتقان حتى صارت كأنها واحد. (رَفَعَ سَمْكَها) السمك : مقدار الارتفاع من أسفل إلى أعلى ، وقد رفع الله سمكها ، أى : جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى جهة العلو مديدا. (فَسَوَّاها) : جعلها مستوية محكمة. (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أى : جعله مظلما. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) : أبرزه ، والمراد بالضحى : النهار. (دَحاها) : بسطها ومهدها للإنسان. (الطَّامَّةُ الْكُبْرى) : الداهية الكبرى ـ والمراد هنا يوم القيامة لأن كل من فيه يذهل عن كل شيء سواه. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) : ظهرت بارزة للعيان. (الْمَأْوى) : المكان الذي يأوى إليه الشخص ويقر فيه. (أَيَّانَ مُرْساها؟) : متى إرساؤها وإقامتها. (مُنْتَهاها) : نهايتها. (عَشِيَّةً) : طرف النهار من آخره. (أَوْ ضُحاها) : أوله.

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالكواكب السيارة التي تجرى على سنن مقدر ونظام معين لا تتعداه ، تنزع مجدة في سيرها ، مسرعة فيه بلا توان ، وأقسم بها وهي تخرج من برج إلى برج وتسبح في الفضاء سبحا ، وتسير فيه سيرا هادئا ، كل في فلك يسبحون ، والمراد بذلك وصف الكواكب بالجري السريع والانتقال من حال إلى حال ، سابحة في الفضاء ، ومع هذا فعالم السماء محكم لا اضطراب فيه ولا تصادم ، ألا يدل ذلك على قدرة قادرة ، وعلى علم كامل تام ، لا يحيط به إلا هو؟

٨١٧

(فَالسَّابِقاتِ) (١) أى : فبعض الكواكب تسبق بعضها في الجري. فالمدبرات أمرا للعباد في معاشهم وحياتهم كتوقيت المواقيت ، وتكوين الفصول ، وما يتبع ذلك من نظام الحياة البشرية ، وليس المراد تدبير أمر الخلق تدبيرا كاملا على ما يعتقد بعض عبدة الكواكب فهذا كفر صريح ، بل المراد : بها يكون ذلك.

وبعضهم يرى أن الله أقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد نزعا. فهي تنزع قلوب الكفار نزعا بشدة وإغراق ومبالغة ، وهي تنزع قلوب المؤمنين برفق وهوادة وهذا معنى الناشطات نشطا ، وذاك معنى النازعات غرقا ، والمراد بالسابحات الملائكة تسبح في الفضاء نازلة بأمر ربها ، وأما السابقات فالملائكة تتسابق في تنفيذ الأمر ، والمدبرات هم الملائكة ، وقد وكل الله لكل طائفة تدبير أمر والقيام عليه بإذنه وعلى العموم فالله أعلم بسر كتابه ، أقسم الله بالنازعات والناشطات فالسابقات فالمدبرات لتبعثن بعد الموت. ولتنبؤن بما عملتم يوم ترجف الراجفة ، وتضطرب الأرض والجبال بسبب النفخة الأولى. تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية ، أو المراد تتبعها الرادفة وهي السماء يوم تمور مورا. وتنشق انشقاقا.

يوم ترجف الأرض والسماء تكون قلوب الكفار يومئذ قلقة خائفة لأنهم أبصروا ما كانوا ينكرون. ورأوا ما به يوعدون ، أبصارهم خاشعة ذليلة ، أرأيتهم وهم يضطربون عند ما رأوا العذاب يوم القيامة؟!

انظر إليهم وهم يقولون في الدنيا ساعة ينذرون بالبعث يقولون منكرين : أنرد إلى حياتنا الأولى؟! بعد أن متنا وكنا ترابا ، إن هذا لعجيب! وقد حكى القرآن عنهم قولهم ثانية : أإذا كنا عظاما بالية متفتتة ليس فيها حياة ولا حرارة أنرد ونبعث!! إن هذا لعجيب!

أما القول الثالث : فقد قالوا مستهزئين بالنبي وبوعده بالبعث : تلك إذا كرة خاسرة على معنى : إن صح ما يقوله محمد ، وأن هناك حسابا وثوابا وعقابا وحياة بعد أن صرنا ترابا فنحن إذا خاسرون ، وتلك رجعة خاسر أصحابها حيث لم نعمل لها!

__________________

(١) عطف بالواو ثم بالفاء مع أن المراد إما الكواكب أو الملائكة فالموصوف واحد ، وإنما نزل تغاير الصفة منزلة تغاير الذات فجاء بالواو التي تدل على المغايرة وكانت الفاء في قوله : (فَالسَّابِقاتِ) ، (فَالْمُدَبِّراتِ) للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة.

٨١٨

وقد رد الله عليهم دعواهم الباطلة في قولهم : أإذا كنا عظاما نخرة نبعث؟ ببيان أن إعادة الحياة للبشر أمر سهل ، وأن الله القادر على البدء قادر على الإعادة ، وأنه خلق في الكون ما هو أشد وأكبر من البشر (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [سورة غافر آية ٥٧] فقال ما معناه :

لا تستبعدوا البعث بعد الفناء فإنما هي صيحة واحدة يكلف بها ملك (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١) فالمراد بالصيحة النفخة الثانية. فإذا أنتم بعدها جميعا لدينا محضرون تنتظرون ما يفعل بكم. وإذا أنتم أحياء على وجه الأرض بعد أن كنتم أمواتا.

وتلك قصة موسى مع فرعون الطاغية سيقت كالتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديدا للمشركين ، فليس هم أقوى وأشد من فرعون وقومه ، فلما كفروا بالله واليوم الآخر عاقبهم عقوبتين في الأولى والآخرة ، فاحذروا يا آل مكة أن تكونوا مثلهم : هل أتاك حديث موسى؟ وهذا أسلوب بديع في التشويق إلى استماع الحديث والحرص عليه كأنه أول نبأ عن موسى ، هل أتاك حديثه إذ ناداه ربه ـ جل وعلا ـ وهو بالوادي المقدس المطهر ـ واد في أسفل جبل طور سيناء من جهة الشام ـ الذي قدسه الله مرة بعد مرة فقال له : اذهب إلى فرعون إنه طغى وجاوز الحد المعقول في تعذيب بنى إسرائيل وفي الكفر بالله ، فقل له مع الملاينة والملاطفة لتتم الحجة وينقطع العذر : هل لك إلى أن تطهر نفسك من أدرانها باتباع شرع الله الذي أوحى إلى؟ وأهديك إلى ربك فتؤمن به وتعلم صفاته ، فيترتب على ذلك أنك تخشاه ، ولكن فرعون كذب ولم يؤمن وطلب آية على صدق موسى ، فأراه الآية الكبرى التي هي انقلاب العصا حية ، فكذب وعصى أيضا ، ثم أدبر عن الحق وأعرض عن موسى وعن دعوته ، وأخذ يسعى في الأرض بالفساد ومكايدته هو ومن معه ، فجمع السحرة من جميع البلاد وقال لهم : أنا ربكم الأعلى فليس هناك سلطان بعد سلطاني ، وظل فرعون سادرا في غلوائه لاهيا في عتوه وجبروته حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر. وهم يخرجون من مصر (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) (٢) وهكذا حكم الله على فرعون

__________________

١ ـ سورة الزمر آية ٦٨.

٢ ـ سورة يونس آية ٩٠.

٨١٩

بالإغراق ، وكان آية لمن بعده ، وهو في الآخرة في جهنم وبئس القرار ، فأخذه الله ونكل به نكال الآخرة والأولى ، وكان عقابه نكالا له ولغيره ، إن في ذلك لعبرة ولكن لمن يخشى ، فاعتبروا يا أولى الأبصار!!

وهذا فرعون مصر الجبار العنيد لم يعجز الله في شيء ، فأين أنتم يا كفار مكة منه! وهكذا سنة الله في خلقه يكذبون الرسل ، ولا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، فصبرا يا رسول الله. وبعد ذلك خاطب المشركين موبخا لهم ومبكتا على إنكارهم البعث بعد ما بين لهم سهولته على الله وأنها صيحة واحدة فإذا هم قيام أحياء يحاسبون ، خاطبهم بقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء؟ فكأنه يقول لهم : إنكم خلقتم من ماء مهين ، وأنتم مع هذا ضعاف عاجزون لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضررا. ولا موتا ولا حياة ، وهذه هي السموات بديعة الخلق ، حسنة الشكل ، قوية التركيب ، متينة البناء ، محكمة لا عوج فيها ولا اضطراب رغم كثرة الدوران وسرعة السير ، أليس عالم السماء وما فيه آية على قدرة الله ، وعلى أن خلقه أعظم منكم خلقا؟!

فالله بنى السماء بناء محكما ، ورفع سمكها إلى حيث شاء! فسواها حيث وضع كل جرم سماوي في وضعه لا يتعداه ، وله فلك يسبح فيه لا يتخطاه ، وبين كل الأجرام تجاذب وترابط بحيث لم يند عن المجموعة جرم ، وإذا أراد الله شيئا انتهت الدنيا وبطل هذا النظام. وانظر إلى ذلك الكون العجيب وإلى وضعه الدقيق ، فهذه الشمس والأرض ودوران كل في مداره بحكمة ودقة ، كيف ينشأ عنهما الليل والنهار (أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) والأرض بعد ذلك دحاها وبسطها ومهدها للحياة بحيث يستطيع الحيوان السير عليها ، والمعيشة فوقها. وقد أخرج منها ماءها ومرعاها ، وقد أرسى عليها الجبال الرواسي الشامخات لئلا تميد وتضطرب ، ولتكون مصدرا للمنافع ، كل ذلك خلقه الله متعة لكم ومنفعة لكم ولأنعامكم.

وهذا وصف عام لبعض أهوال يوم القيامة لعلهم يعتبرون!

فإذا وقعت الواقعة ، وجاءت الداهية الكبرى التي يصغر أمامها كل حدث ، وينسى صاحبها كل شيء إلا هي ، تلك هي الطامة الكبرى تكون يوم القيامة ، يوم يتذكر الإنسان أعماله حيث يراها مكتوبة أمامه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، يوم تبرز جهنم بصوتها المزعج ، وهي تفور تكاد تميز من الغيظ.

٨٢٠