التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

بعض مظاهر قدرة الله تعالى

يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)

١٨١

المفردات :

(يا حَسْرَةً) الحسرة : أن يلحق الإنسان من الندم ما به يصير حسيرا (الْمَيْتَةُ) : التي لا نبات فيها (جَنَّاتٍ) : بساتين من شجر النخيل والأعناب (وَفَجَّرْنا) : شققنا وأنبعنا فيها عيونا كثيرة (سُبْحانَ) : تنزيها لله عما لا يليق به (الْأَزْواجَ) : الأصناف والأنواع المختلفة (نَسْلَخُ) : نفصل منه النهار ونزيله عنه (قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) الأصل : قدرنا له منازل ، ثم حذفت اللام فقيل : قدرناه منازل ، المراد : جعلنا له منازل ، والمنازل : جمع منزل ، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة ، وهي في حسابهم ٢٧ منزلا (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) العرجون : عود العذق ـ القنو ـ ما بين الشماريخ إلى منبته من النخلة (فِي فَلَكٍ) والفلك : هو المدار الذي يدور فيه الكوكب ؛ سمى به لاستدارته كفلكة المغزل (يَسْبَحُونَ) : يسيرون بانبساط وسهولة (الْمَشْحُونِ) : المملوء (فَلا صَرِيخَ) : فلا مغيث.

المعنى :

وما أنزل ربك ـ القادر على كل شيء ـ على قوم الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى من بعد موته ، ما أنزل عند إهلاكهم جندا من السماء؟ وما احتاج الأمر إلى شيء من ذلك فبأى شيء كان إهلاكهم؟ ما كانت إلا صيحة واحدة من جبريل فإذا هم بعدها مباشرة خامدون وميتون لا حراك بهم ، خمدوا كما تخمد النار فتصير رمادا.

يا حسرة (١) على هؤلاء المكذبين!! يا حسرة على هؤلاء وأمثالهم!! ما يأتيهم من رسول يهديهم إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم إلا كانوا به يستهزئون ، فاستحقوا الهلاك من رب العالمين ، نعم إنهم يستحقون أن يتحسر عليهم المتحسرون وخاصة الملائكة والمؤمنون من الثقلين لما رأوا عاقبة أمرهم ونهاية كفرهم واستهزائهم.

عجبا لهؤلاء وأمثالهم من كفار قريش! ألم يروا أن أهلكنا قبلهم كثيرا (٢) من الأمم

__________________

(١) المنادى محذوف والأصل يا قومي تحسروا حسرة على هؤلاء ، وفي قراءة : يا حسرتا ، والأصل : يا حسرتى على أنه من كلام الملائكة أو المؤمنين أو من الله. وقيل : المنادى الحسرة نفسها ، أى : هذا أوانك فاحضرى.

(٢) الاستفهام في (ألم يروا) للتقرير ، وكم خبرية مفعول لأهلكنا ، وأنهم لا يرجعون بدل اشتمال في المعنى لا في اللفظ من أهلكنا ؛ لأن إهلاكهم مشتمل ومستلزم لعدم رجوعهم.

١٨٢

السابقة لما كذبوا وكفروا؟! ألم يروا أنهم بعد الهلاك إليهم لا يرجعون أبدا؟ وما كلهم إلا محشورون (١) ومجموعون ، ولدينا للحساب يوم القيامة محضرون ، فهل يتعظون ويعتبرون؟ ويعلمون أن الله على كل شيء قدير ، وأنه يجازى كل كفور ، وهذا تهديد لهم.

والأرض الميتة التي لا نبات فيها ولا حركة ، آية شاهدة ناطقة لهم على قدرة الله ، وعلى أنه القادر على إحياء الخلائق بعد موتها ، والأرض الميتة أحياها ربك بالنبات والخضرة ، وأخرج منها حبا كالحنطة وغيرها ، فمنه يأكلون ويعيشون ، وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب ، وفجر فيها من العيون ليأكلوا بعد هذا من ثمره الذي تفضل به علينا ، وليأكلوا مما عملته أيديهم من أصناف المأكولات الجافة والمحفوظة والطازجة مما نراه ونشاهده أفلا يشكرون الله؟! سبحان الله! ما أعظم فضله وأجل نعمه! سبحانه وتعالى عما يشركون ، تنزه سبحانه عما لا يليق به مما فعلوه وتركوه ، وهذا أيضا تعليم للمؤمنين وإرشاد لهم ليقولوا : سبحان الله معتقدين مصدقين بهذا التنزيه الإلهى.

سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض من النبات وغيره ، مما عملته أيديهم ، ومما لا يعلمون ، فهو لله سبحانه وتعالى نعم سبحانه خالق هذه الأصناف كلها مما لا يحيط به إلا هو ؛ فكل ما في الكون لا يعلمه إلا خالقه سبحانه وتعالى ..

وهذا الليل وما فيه آية لهم لو كانوا يعقلون ، فهذا الظلام الشامل بعد النور الساطع ، وهذا السكون والهدوء بعد الجلبة والضجيج ، وتلك الكواكب السيارة والأفلاك الدوارة كل ذلك آية على وجود الخبير البصير الذي يسير العالم على وفق نظام محكم دقيق لا يختل أبدا.

وآية عظيمة لهم الليل ، نسلخ (٢) منه النهار ، ونزيل ضوءه عنه ، ونكشفه عن الليل فيبدو الليل بسكونه وظلامه كالشاة بعد السلخ ، فإذا سلخ بك النهار عن الليل فإذا هم

__________________

(١) «وإن كل لما جميع» في مثل هذا إعرابان يرجعان إلى قراءة لما مخففة ومشددة ، فعلى قراءة التشديد إن نافية ولما بمعنى إلا ، وعلى قراءة التخفيف إن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وكل مبتدأ واللام هي الفارقة ، وما زائدة صلة وجميع خبر ، ولدينا ظرف متعلق به ، ومحضرون خبر ثان.

(٢) وفي قوله (نسلخ) استعارة تبعية حيث استعار السلخ لكشف الضوء من مكان الليل ، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على أمر فإنه يترتب ظهور اللحم وظهور الظلمة.

١٨٣

مظلمون ، أى : داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة ، فيكون النوم العميق والهدوء الشامل ، سبحانه من قادر حكيم.

وآية لهم الشمس ذلك الكوكب النهارى الضخم تجرى في فلكها لحد مؤقت مقدر تنتهي إليه ، ولا تتجاوزه أبدا ، فكأنها تجرى لإدراكه حتى إذا ما انتهت إليه توقفت ، والله وحده هو العالم إلى متى تجرى؟ ومتى تقف؟ ذلك تقدير العزيز العليم ، نعم هو تقديره وحده ، ونظامه المحكم الدقيق الذي لو اختل قيد شعرة فلا يعلم إلا الله ما الذي يحصل؟!

فالشمس تجرى وتدور حول نفسها وفي فلكها ، والأرض أمامها تجرى وتدور حول نفسها وحول الشمس فينشأ عن كل ذلك النهار والليل والنور والظلام ، والفصول الأربعة ، أرأيت لو أن هذا النظام اختل في وقت ماذا يكون؟ أمن المعقول أن ذلك يحصل بطبعه بدون إله مدبر؟ تعالى الله عما يقولون.

والقمر قدر له ربك منازل يسير فيها ، فتراه يبدو صغيرا دقيقا ثم يكبر فيصير هلالا فبدرا ثم يعود يصغر شيئا فشيئا حتى يصير كالعرجون القديم في الرقة والانحناء والصغر وانظر يا أخى إلى هذه الكواكب السماوية وإلى أبعادها وأجرامها وكثرة عددها وسرعة حركتها ، ثم هي بعد ذلك كله في نظام دقيق وعمل وترتيب لا عوج فيه ولا خلل لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل يسبق النهار فيفوته ، ولكن يعقبه وإنما جعل الله لهذا كله وقتا محددا ونظاما دقيقا فلا يجوز أن تطغى آية الليل (القمر) على آية النهار (الشمس) بل لكل مدة وزمن ونظام لا يعدوه ، وكل من النجوم والكواكب في فلك خاص به يسبحون ويجرون ، وهذا لا يمنع أن الله يولج النهار في الليل ، وبالعكس في بعض أيام السنة. أليست هذه من أعظم الآيات الدالة على وجود الله وقدرته؟!!

وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في ظهور آبائهم ساعة حملوا في فلك نوح المشحون بالخلق ، وخلقنا لهم من مثل السفن ما يركبون من السيارات والقطارات والطائرات وغير ذلك! وما أروع هذا التعبير ، وما أدق تصويره! وهم في قبضتنا إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ، أى : فلا مغيث لهم ، ولا ينقذون لشيء أبدا إلا لرحمة منا وتمتيع بالحياة الدنيا إلى حين معلوم.

١٨٤

ذكر بعض أحوال الكفار

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)

المفردات :

(يَخِصِّمُونَ) : يختصمون (تَوْصِيَةً) : وصية (الصُّورِ) : القرن وهو كالبوق (الْأَجْداثِ) : جمع جدث ، وهو القبر (يَنْسِلُونَ) : يخرجون مسرعين (مَرْقَدِنا) : مكان نومنا.

١٨٥

المعنى :

هؤلاء الكفار أمرهم عجيب : لقد ساق الله الآيات الظاهرة التي يعرفها كل مخلوق في الليل والنهار والشمس والقمر والأرض الميتة ، وحمل ذرياتهم في ظهور آبائهم فما اتعظوا ، ولا تذكروا. بل ظلوا كما هم.

والآن يخوفهم الله عاقبة أمرهم بعد عرض الآيات عليهم لعلهم يتوبون فيرحمون ولكنهم مع كل ذلك معرضون فالويل لهم.

وإذا قيل لهم : يا أيها الناس اتقوا ما بين أيديكم من أيام الدنيا وحوادثها الجسام واعتبروا بما حل بغيركم ، واتقوا ما خلفكم من أيام الآخرة وأهلها ومواقفها الشداد اتقوا الله واخشوا حسابه وعقابه لتكونوا على رجاء رحمة الله عاملين ، إذا قيل لهم هذا أعرضوا وأصروا على عنادهم واستكبروا استكبارا ، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الكونية أو القرآنية للعبرة والعظة إلا كانوا عنها معرضين ، فدأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) نزلت هذه الآية في مشركي قريش حين قال فقراء الصحابة لهم : أعطونا من أموالكم التي زعمتم أنها لله. يعنون قوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [سورة الأنعام آية ١٣٦] فلم يعطوهم وحرموهم ، وقالوا للذين آمنوا : أنطعم شخصا لو شاء الله لرزقه كما تزعمون.

كان المشركون يسمعون المؤمنين ، وهم يعلقون الأفعال بمشيئة الله فيقولون : لو شاء الله لأغنى فلانا ، لأعطى فلانا ، ولو شاء الله لكان كذا وكذا فأخرج المشركون هذا الجواب (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمر بمشيئته تعالى.

كانوا يفهمون لسوء رأيهم : إنه إذا كان الله هو الرازق فهو قادر أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق؟! وهذه حجة واهية ، ورأى مأفون ؛ فالله قد ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصبر وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [سورة الليل الآيات ٥ ـ ١٠].

١٨٦

ما أنتم أيها المشركون إلا في ضلال مبين حيث تفهمون هذا الفهم العقيم وتقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟!

كان الكفرة يستبعدون قيام الساعة ، وتحقق الوعد للمؤمنين والوعيد للكفار والمشركين!! واسمع الجواب من جهته سبحانه وتعالى : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة هي النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض ، وهل هم ينتظرون ذلك؟ لا ينتظرون بل هم مكذبون ، ولكن لما كان لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها ، هذه الصيحة تأخذهم فيهلكون بعدها فورا ، وهم يتخاصمون ويتنازعون في أمور دنياهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف ٩٥] فالناس عندها لا يستطيعون وصية في أمر من أمورهم إلى أهليهم ، ولا هم يستطيعون الرجوع لهم بل تبغتهم على حين غفلة منهم.

ونفخ في الصور نفخة ثانية فإذا هم قيام من قبورهم ، خارجون منها بسرعة إلى ربهم ليوفيهم حسابهم ، وكان ذلك على الله يسيرا.

وماذا كان قولهم؟ في ابتداء بعثهم من القبور : يا هلاكنا احضر فهذا أوانك ، أو يا قومنا انظروا وويلنا وهلاكنا وتعجبوا منه.

من بعثنا من مرقدنا؟ والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياما ، ولم يدركوا عذاب القبر فاستفهموا عن موقظهم ، ولكنهم أجيبوا من الله على طريقة الأسلوب الحكيم : لا تسألوا عن الباعث والموقظ فلستم نياما وليس الباعث يهمكم وإنما الذي يهمكم حقا أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال؟ وما هذا الموقف الرهيب؟! والجواب إذا : هذا الذي وعدكم به الرحمن وقد صدق المرسلون فيما قالوا عنه.

وما كانت الفعلة التي حكيت قبل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) إلا صيحة واحدة لا أكثر ولا أقل ، وهي نفخ إسرافيل في البوق ، وروى أنها قوله بصوت مرتفع : «أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور الممزقة إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء».

ما كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم مجموعون لدينا محضرون لفصل الحساب ، فاليوم هو يوم الفصل ليس بالهزل ، هو يوم القضاء العدل فلا تظلم نفس شيئا. ولا تجزون إلا بما كنتم تعملون (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء آية ٤٧].

١٨٧

أصحاب الجنة وأصحاب النار

إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)

المفردات :

(فاكِهُونَ) الفاكه والفكه : المتنعم والمتلذذ. ومنه الفاكهة ، لأنها مما يتلذذ بها (يَدَّعُونَ) أصله : يدتعون ، والمراد : يتمنون ، وعليه قولهم : ادع على ما شئت ، بمعنى تمن على بما شئت (وَامْتازُوا) : تميزوا وانفردوا (أَلَمْ أَعْهَدْ) : ألم أوص ، والعهد : الوصية (جِبِلًّا) : جمع جبلة ، والمراد خلقا كثيرا (نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) : نمنعها من الكلام.

١٨٨

المعنى :

هذا يوم الفصل والقضاء العدل ، فلا تظلم نفس شيئا ، ولا تجزى إلا بأعمالها ويقال لهم زيادة في إيلامهم : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل عنكم بنعيمهم ومتاعهم فاكهون.

نعم إن أصحاب الجنة الذين هم يتمتعون بها في شغل ، وأى شغل؟ إنه شغل من سعد بالجنة ونعيمها ، وفاز بنيل ذلك النعيم المقيم والملك الكبير ، وتمتع بما أعده الله للمصطفين من عباده الأبرار ثوابا لهم وإكراما ، وجزاء لهم على ما كانوا يعملون ، وما أدق وصفهم بقوله : فاكهون ، أى : متنعمون ومتلذذون بما هم فيه ، فحقّا إنهم لفي شغل عن النار وأصحاب النار ، فيا ويلكم أيها المشركون من النار ومن عذابها!! وأزواجهم وهم في ظلال وارفة ، على الأرائك والسرر متكئون ، يسمرون ويتمتعون ويرزقون رزقا كريما ، لهم فيها فاكهة كثيرة ، ولهم ما يتمنون مما لا يقع تحت حصر ، ومما لا عين رأته ولا أذن سمعته ، ولا خطر على قلب بشر.

تحيتهم سلام يقال لهم .. قولا من رب رحيم ، وهذا السلام بواسطة الملائكة أو من الله مباشرة مبالغة في تعظيمهم ، وزيادة في إكرامهم والحفاوة بهم.

هذا حال المؤمنين العاملين. نعيم مقيم في جنات الخلد مع التحية والإكرام. أما الفريق الثاني فيقال لهم : امتازوا وانفردوا عن المؤمنين أيها المجرمون ، وكونوا على حدة ، وحين يحشر الناس ويذهب بالمؤمنين إلى الجنة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) [الروم ١٤ ـ ١٦].

ثم يقال لهم تأنيبا وتوبيخا على ما مضى من أعمالهم : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) وعهد الله ببني آدم ما ركب فيهم من القوى العاقلة والفطرة السليمة التي تهتدى إلى الخير ، وما أرسل إليهم من رسل مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى عبادة الرحمن ، ويحذرونهم دائما من طاعة الشيطان ، حذرنا الله بواسطة رسله من الشيطان فإنه لنا عدو مبين بين العداوة ، وأمرنا بعبادته وحده والاستعانة به وحده فهو الله لا إله إلا هو.

١٨٩

هذا ـ الإشارة إلى ما عهد به الله من طاعة الرحمن وعصيان الشيطان ـ صراط مستقيم (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام آية ١٥٣].

هذا الدين هو الدين الحق وهو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه لأنه من رب العالمين.

ولقد أضل منكم الشيطان خلقا كبيرا ، ووسوس لهم وزين لهم فعل السيئات حتى وقعوا في المعاصي والعذاب الشديد ، أعميتم فلم تكونوا تعقلون؟ هذه جهنم ـ والإشارة لها لتميزها وظهور آثارها الشديدة ـ التي كنتم توعدون بها فتكذبون ، ويقال لهم مع هذا : اصلوها وذوقوا حرها جزاء لكم بما كنتم تكفرون.

روى أنهم حين يقال لهم ذلك يجدون ما صدر عنهم في الدنيا فيخاصمون فتشهد عليهم جيرانهم وأهلهم وعشيرتهم فيحلفون أنهم ما كانوا مشركين ويقولون : لا نجيز علينا شاهدا إلا من أنفسنا ، فيختم الله على أفواههم ، ويقال لأعضائهم : انطقى فتنطق بما صدر منها ، وهذا يفسر قوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

ولعل سائلا يقول : ما السر في جعل الكلام لليد والشهادة للرجل؟ والجواب كما هو مذكور في كتاب الخازن : أن اليد تباشر والرجل تكون حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى ، وقول الفاعل إقرار على نفسه بما فعل.

فضل الله على الناس كبير

وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)

١٩٠

المفردات :

(لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) الطمس : تغطية شق العين حتى تعود ممسوحة ، والطميس والمطموس : الأعمى الذي ليس في عينه شق (فَاسْتَبَقُوا) : تسابقوا إلى الصراط وبادروا إليه (فَأَنَّى) : فكيف (لَمَسَخْناهُمْ) المسخ : تبدل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة (نُعَمِّرْهُ) : نطل عمره (نُنَكِّسْهُ) من التنكيس ، مأخوذ من نكست الشيء أنكسه نكسا : قلبته على رأسه فانتكس.

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ صاحب النعم والفضل الكبير على الناس جميعا مسلمهم ومشركهم ، ولو شاء إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد والسير في الطريق الواضحة المألوفة لهم لفعل ، ولكنه فضلا منه وإحسانا أبقى عليهم نعمة البصر فحق الناس أن يشكروا ولا يكفروا.

ولو شاء ربك لمسح أعين الكفار ، وأذهب أحداقهم وأبصارهم حتى لو أرادوا سلوك الطريق الواضح المعروف لهم لما استطاعوا ، فكيف يبصرون حينئذ؟!

ولو شاء ربك لمسخ الكفار والعصاة قردة أو خنازير أو حجارة ، ولو شاء لمسخهم مسخا يحل بهم في منازلهم فلا يقدرون أن يفروا منه بإقبال ولا بإدبار وما استطاعوا ذهابا ، ولا رجوعا ، ولكنه لم يشأ ذلك جريا على سنن الرحمة وموجب الحكمة ، فكان واجب أن يقابل ذلك بالشكر والعبودية لله ، هذا نقاش للكفار وبيان لموقفهم ، وقطع لأعذارهم ، وبيان لفضل الله عليهم ، وقد كانوا يقولون : لو امتد بنا الأجل ، وطال العمر لفعلنا كذا وكذا. فيقول الله لهم : أعميتم فلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن وتقدمتم في العمر ضعفتم (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) (١) وقد عمركم ربكم مقدارا يمكنكم فيه من العمل والتذكر (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) (٢) على أن الواجب أن تعلموا أنه كلما مر الزمان بكم وطال عمركم ازداد ضعفكم فإنه من يطل عمره انتكس خلقه وبدل سمعه صمما وبصره عمى وقوته ضعفا ، ولذلك يقول الله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) (٣) ، وقد تعوذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر ..

__________________

١ ـ سورة الروم آية ٥٤.

٢ ـ سورة فاطر آية ٣٧.

٣ ـ سورة النحل آية ٧٠.

١٩١

إثبات الوحدانية لله مع نفى الشعر عن رسول الله

وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)

المفردات :

(الشِّعْرَ) : كلام موزون مقفى (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) : يثبت (مالِكُونَ) : ضابطون وقاهرون (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) : سخرناها لهم (مُحْضَرُونَ) : يدفعون عنهم ويغضبون لهم.

تقدم ما يتصل بالوحدانية في قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) وما يتعلق بالحشر في قوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ) وبقي الأصل الثالث وهو الرسالة يتكلم عنها هنا.

المعنى :

الشعر نوع من الكلام العربي له طابع خاص ، ووزن خاص ، وهو يعتمد على وحدة القافية ، يعنى بالخيال الخصب ، والتصوير الرائع والعاطفة المشبوبة ، ولهذا لا يتحرى

١٩٢

الشاعر غالبا في كلامه الصدق ، ولا يلتزم جادة الصواب ، بل تراه كما وصفه القرآن (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (١) ، وقد قيل : أعذب الشعر أكذبه ، وقبيل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر التكسب بالشعر ، وتعرض الشعراء للقول بالحق وبالباطل ، وظهر بعد العصر الإسلامى الأول التكسب بالشعر ، وصار صنعة يتحاشاها الأشراف ؛ لهذا وأشباهه لم يقل النبي الشعر ، وما كان ينبغي له ، وقد رمى الكفار القرآن بأنه شعر مرة ، وأنه سحر مرة أخرى ، أو هو من عمل الكهان.

وهنا يرد القرآن على المشركين هذه الدعوى الباطلة مثبتا أن الله لم يعلمه الشعر وما ينبغي له ـ لما قدمناه ـ والقرآن ليس شعرا ، وإن كان أبلغ كلام وأعلاه ، وكيف يكون شعرا مع أن للشعر طابعا خاصّا في وزنه ومعناه وأخيلته؟ وما القرآن إلا ذكر للعالمين ، وموعظة وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمتقين ، هو جلاء القلوب ، وعلاج الأرواح ، أنزل على النبي المصطفى لينذر به من كان حيّا من الناس.

إنه لتعبير دقيق جدّا ، وتصوير رائع ، فإنه لا يهتدى به ولا يتعظ ولا يقبل إنذار القرآن إلا الأحياء ، والأحياء في عقولهم وتفكيرهم وأرواحهم ، أما الأموات فأنى يسمعون؟ وكيف يبصرون؟ (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٢) وعند ذلك يحق القول الحق لأنه من الحق تبارك وتعالى ، وتجب الحجة بالقرآن على الكافرين الذين لا يعقلون ولا يتدبرون ، بل هم أموات لا يشعرون ، وما لهم ينكرون كون القرآن من عند الله ، أهم في شك من قدرته؟ أم هم في غفلة عن قوة إعجازه ودلالته على أنه من عند الله؟

ألم يعلموا خلقهم ولم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون فالله خلق الحيوانات وذللها فنحن متصرفون فيها مختصون بمنافعها. ضابطون لها مهما كان الإنسان صغيرا ومهما كان الحيوان ضخما كبيرا.

يصرفه الصبى بكل وجه

ويحبسه عن الخسف الغرير

وتضربه الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير

وذللناها لهم فمنها ركوبهم ، ومنها أكلهم ، ومنها شربهم ، ولهم فيها منافع أخرى كالأصواف والأوبار والجلود وغيرها. أفلا يشكرون الله على ذلك؟ ما فعلوا من ذلك شيئا.

__________________

١ ـ سورة الشعراء الآيتان ٢٢٥ ، ٢٢٦

٢ ـ سورة الروم آية ٥٢.

١٩٣

واتخذوا من دون الله آلهة راجين منها النصرة ، آملين منها المنفعة ، وما علموا أنهم لا يستطيعون نفعا ولا ضرّا ، وأنهم لا ينصرون أحدا ، بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ، والحال أن المشركين لهذه الآلهة جند محضرون في الدنيا يخدمون ، ويذبون عنهم ، ويغضبون لهم ، والآلهة لا يستطيعون لهم شيئا ولا قدرة عندهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، بل إنهم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم لأنهم وقود للنار ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يهمنك أمرهم ، ولا تحزن لتكذيبهم وأذاهم ، إن ربك عالم بسرهم وعلنهم وسيجازيهم على أعمالهم.

إثبات البعث

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)

المفردات :

(نُطْفَةٍ) المراد : ذرة من المنى (خَصِيمٌ) : مجادل في الخصومة (مَثَلاً)

١٩٤

المراد : ساق أمثلة عجيبة غريبة كغرابة المثل (رَمِيمٌ) من رم العظم : إذا بلى (بَلى) : حرف جواب كنعم : إلا أنه يختص بالاستفهام الإنكارى الذي هو بمعنى النفي (أَمْرُهُ) : شأنه في الإيجاد (مَلَكُوتُ) : هو الملك التام.

المعنى :

هذا كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث وإثباته بالدليل القاطع ، بعد بيان بطلان إشراكهم بالله بالأدلة المشاهدة ، ألم (١) يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم بين الخصومة؟ ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم مع كون العلم بذلك في غاية الظهور والوضوح ، ورجوع الإنسان بنفسه إلى مبدأ خلقه ، وإلى نشأته الأولى ، وأنه خلق من ماء مهين من نطفة قذرة تخرج من مجرى البول ، ومع ذلك يفاجئ بالخصومة والجدل للخالق الكبير المتعال ، إن هذا لشيء عجيب تنكره العقول السليمة.

وقوله تعالى : (فإذا هو خصيم مبين) داخل في حيز الإنكار والتعجب كأنه قيل : أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من أخس الأشياء وأحقرها ففاجأنا بالخصومة في أمر يشهد بصحة مبدأ خلقه شهادة بينة.

وروى أن بعض المشركين كأبى بن خلف والعاص بن وائل السهمي ذهبوا يجادلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعهم عظام بالية قد رمت فقال أحدهم : يا محمد أترى أن الله يحيى هذا بعد ما رم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ويبعثك الله ويدخلك النّار» ونزلت هذه الآية (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أى : ونسى خلقنا إياه من نطفة من منى يمنى ثم صار ذا عقل وتفكير وإرادة.

عجبا لهذا الإنسان وإنكارا لقوله وضربه الأمثال ، أى : إتيانه بقصة غريبة عجيبة تشبه في غرابتها المثل ، وهي قوله : من يحيى العظام وهي رميم؟ أتعجب؟ قل لهم يا محمد : يحييها الذي أنشأها أول مرة ؛ فمن قدر على الإيجاد الأول من العدم قادر بلا شك على الإعادة بل هو أهون عليه ، ولله المثل الأعلى ، وهو بكل شيء عليم.

__________________

(١) الهمزة للإنكار مع إفادة التعجب ، والواو للعطف على مقدر ذكرناه في الشرح.

١٩٥

يحييها الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ، وكان أهم شيء يدور في أذهانهم ، ويعمى بصائرهم أن العظام البالية أصبحت باردة يابسة لا تقبل الحياة ، والحياة لا بد لها من حرارة فمن الذي يحيى هذه العظام؟

والله يضرب الأمثال لهم بأنه يجعل من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون. والمشاهد أن الرجل يأتى بشجر (السنط) وهو أخضر مورق فيوقد فيه النار فتلتهب. وصدق الله الذي جعل من الشجر الأخضر نارا. وهم يقولون : إن المشهور بذلك شجر المرخ والعفار. كان يتخذ من المرخ الزند الأعلى ومن العفار الزند الأسفل فإذا ما احتكا بشدة أوقدا نارا مع أنهما أخضران يقطران ماء.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أو ليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بقادر على أن يخلق مثل الإنسان في الصغر والضعف بالنسبة لهما؟

بلى ـ نعم ـ وهو جواب من الله تعالى يقرر قدرته على الخلق. وهو الخلاق كثير الخلق. العليم كثير العلم. ومن كان كذلك فلا عجب أن يخلق الإنسان وغيره ، إنما أمره وشأنه إذا أراد إيجاد شيء أن يقول له : كن فهو يكون ، وهل هناك لفظ (كن)؟

ذهب إلى هذا السلف مفوضين أمره وحقيقته إلى علام الغيوب. وقال الجمهور من العلماء : ليس هناك لفظ (كن) وإنما المراد تمثيل لقدرة الله في مراده يأمر الأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة الحصول من غير امتناع ولا توقف ، وإذا كان الأمر كذلك فسبحان الله الذي بيده الملك التام لكل شيء. وإليه وحده ترجع الخلائق.

وهذا تنزيه لله ـ سبحانه وتعالى ـ عما وصفوه ؛ إذ بيده الملك وهو القادر على كل شيء وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبدوه وقدسوه ووحدوه سبحانه وتعالى عما يشركون.

١٩٦

سورة الصافات

مكية بالإجماع وآياتها ثنتان وثمانون ومائة.

وهي كباقي السور المكية فيها الكلام على التوحيد وإثبات البعث. والتعرض للمشركين وأحوالهم في الدنيا والآخرة والتعرض لإثبات النبوة. والكلام على المؤمنين وأحوالهم في الدنيا والآخرة. مع ذكر قصص بعض الأنبياء وأممهم ، ثم كان ختام السورة مع مشركي مكة. وتقوية عزيمة المسلمين. وتوهين عضد الكافرين.

إن إلهكم لواحد مع إثبات البعث

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ

١٩٧

(١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)

المفردات :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) الصف : أن يجعل الشيء على خط مستقيم ، يقال : صففت القوم فاصطفوا : إذا أقمتهم على خط مستقيم لأجل الصلاة أو الحرب مثلا (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) : الزجر الدفع بقوة الصوت ، يقال : زجرت الغنم أو الإبل : إذا فزعت من صوتك (فَالتَّالِياتِ) : القارئات قرآنا (الْمَشارِقِ) : جمع مشرق ، وهو مطلع الشمس (الْكَواكِبِ) : هي النجوم والأجرام السماوية التي لا يعلمها إلا خالقها (مارِدٍ) : عات عار عن الخيرات ، مأخوذ من قولهم : شجر أمرد : إذا تعرى عن الورق ، ورجل أمرد لتجرده من الشعر. والشيطان من شاط : إذا احترق ، (لا يَسَّمَّعُونَ) : لا يتسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى من الملائكة (وَيُقْذَفُونَ) : يرمون ويرجمون (دُحُوراً) : طردا وإبعادا (واصِبٌ) : دائم (خَطِفَ) الخطف : الاختلاس والأخذ بسرعة وخفة على غفلة من المأخوذ منه (شِهابٌ) الشهاب : الشعلة الساطعة من النار الموقدة ، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يظهر كأنه كوكب منقض من السماء ، وهو الذي يسمى بالشهب والنيازك (ثاقِبٌ) أى : مضيء ، أو يثقب ما ينزل عليه (فَاسْتَفْتِهِمْ) : فاستخبرهم (لازِبٍ) : شديد متماسك ، يقال : لزب يلزب : إذا اشتد ولزق (يَسْتَسْخِرُونَ) : يبالغون في السخرية (داخِرُونَ) : صاغرون وذليلون ، يقال : دخر : ذل وصغر.

المعنى :

يقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالملائكة المصطفين صفوفا للعبادة ، أو الصافات أجنحتها في الهواء انتظارا لأمر الله ، وقيل : المراد بها الطير تصف أجنحتها في الهواء (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) فالملائكة التي تزجر ما نيط بها من الأجرام العلوية والسفلية

١٩٨

وغيرها على وجه يتناسب بالمزجور ، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بالإلهام وزجر السحاب ، أى : سوقها إلى مكانها ، زجر الشيطان عن الوسوسة والإغواء ، فالملائكة التاليات ذكرا على العباد ، إذا هم الذين يجيئون بالكتاب من عند الله ـ عزوجل ـ إلى الناس.

ولعلك تسأل كيف يقسم الله بالملائكة أو غيرها مع أن الشرع ينادينا بألا نقسم إلا بالله أو بصفة من صفاته؟ ولهذا قيل : إن المراد ورب الصافات صفاّ .. استنادا إلى أنه صرح بهذا في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (١) ويظهر ـ والله أعلم ـ أن الله يقسم بهذه الأنواع إظهارا لعظمتها ، وبيانا لجميل صنعها ، وهذا بالتالى يشعرنا بعظم الخالق وجلال قدره ، وكمال قدرته إذ هذه آثاره : (٢) (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) وهذا جواب القسم السابق ، ولا يقال : إنه كلام مع منكر فماذا يفيد القسم؟ والجواب أنه قسم متبوع بالبرهان الذي يثبت الوحدانية لله ـ تعالى ـ رب السموات والأرض ، وما بينهما من خلق ، ورب مشارق الشمس والكواكب كلها ، فإن وجود هذه الكائنات على ذلك التقدير البديع والنظام المحكم أوضح دليل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى كمال قدرته.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

وللشمس مشارق بعدد أيام السنة الشمسية ، فإن للشمس كل يوم مشرقا خاصا ، ولها في كل عام مشرقان (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (٣) باعتبار أقصى مشرق في الشمال وأقصى مشرق في الجنوب ، واكتفى بالمشرق عن المغرب لأن عظمة الله في المشرق أظهر وأوضح.

إنا زينا السماء الدنيا التي هي أقرب السموات من أهل الأرض بزينة هي الكواكب فإن الكواكب بذاتها وأوضاعها زينة وأى زينة؟ زيناها وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد ، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الكواكب زينة للسماء وحفظا لها من كل شيطان مارد عات خارج عن الطاعة. متعر عن الخيرات. لئلا يسمعوا (٤) مصغين إلى الملأ

__________________

١ ـ سورة الشمس آية ٥.

٢ ـ أما الفاء في قوله : والصافات صفا ، فالزاجرات زجرا فإنها للترتيب الرتبي.

٣ ـ سورة الرحمن آية ١٧.

٤ ـ ثم حذفت أن فرفع الفعل ، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا.

١٩٩

الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها وهم الملائكة ، وكانوا أعلين بالنسبة إلى ملأ الأرض ، وكانت الشياطين يتسمعون ، ولكن لا يسمعون ، ويقذفون ، أى : الشياطين ترمى وترجم من كل جانب من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها ، أى : كل من صعد من جانب رمى منه الدحور والطرد والإبعاد. ولهم في الآخرة عذاب آخر غير عذاب الرجم بالشهب ، عذاب دائم إلى ما شاء الله.

لا يسمعون إلى أخبار السماء ، إلا من اختلس من كلام الملائكة مسارقة تبعه شهاب يثقب ما ينزل عليه.

ومن الثابت أن الشياطين كانت قبل البعثة ترمى وقتا ، ولا ترمى وقتا ، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب ، وبعد البعثة صاروا يرمون واصبا من كل جانب ، كانت الجن قبل البعثة كالمتجسسة من الإنس قد يبلغ الواحد حاجته ، وقد لا يبلغ ، وقد يقبض عليه ويعاقب ، وقد ينجو.

فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد في حفظ السماء. وأعدت لهم الشهب في كل مكان ليدحروهم عن جميع جوانب السماء ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانوا يقعدونها فصاروا لا يسرقون السمع ، ولا يقدرون على سماع شيء مما يجرى فيها إلا أن يختطف أحد منهم بخفة وحركة سريعة خاطفة فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل على الأرض فيلقيها إلى إخوانه ، وبهذا بطلت الكهانة ، وثبتت النبوة والرسالة. وقد كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع حتى إذا قضى الله أمرا وتحدث به أهل السماء استرقوه وأخبروا به بعض الكهان فيضيفون إليه الكثير فتصدقه الناس في الحق وفي الباطل ، حتى إذا بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدت الشياطين في السماء الشهب مرصودة لكل من يحاول السمع (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [سورة الشعراء آية ٢١٢] [سورة الجن الآيتان ٨ ، ٩].

فانظروا أيها الناس إلى عظم ملكوت الله وإلى مظاهر قدرته وقدس نوره ـ جل جلاله ـ انظروا واعتبروا لعلكم تهتدون .. وإذا كان الأمر كذلك فاستفتهم ـ الخطاب لأهل مكة ولكل مشرك بالله ـ أهم أشد خلقا؟ بل أم من خلقنا من عوامل السماء وما فيها من ملائكة وأفلاك وعوالم الأرض ـ وما تقل من بحار وجبال وأشجار وأنهار؟! ـ

٢٠٠