التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

وقوم لوط الذين كانوا إخوانه ، وقوم تبع الحميرى ، وقد مضى قبل ذلك قصص هؤلاء في غير موضع ، كل كذب الرسل فيما أرسلوا من أجله ، وخاصة أمر البعث ، فوجب عليهم وعيد ربك ، وحقت عليهم كلمة العذاب.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟) وهذا استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له ، والمعنى : أقصدنا الخلق الأول ـ أى بدء الخلق ـ فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟! إنهم معترفون بذلك ، وأن الله هو الذي خلق الخلق أولا ، فلا وجه لإنكارهم البعث ، بل هم في خلط وشبهة من هذا الخلق الثاني ، أى : البعث ..

تقوى الله والخوف من عذابه يوم القيامة

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ

٥٢١

إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)

المفردات :

(ما تُوَسْوِسُ) الوسوسة : الصوت الخفى ، ومنه وسواس الحلي ، أى : صوت الحلية ، والمراد هنا حديث النفس. (حَبْلِ الْوَرِيدِ) : هو عرق في صفحة العنق.

(يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) : يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان. (قَعِيدٌ) : جالس.

(رَقِيبٌ عَتِيدٌ) الرقيب : الحافظ للأعمال المراقب لها ، والعتيد : الحاضر الذي لا يغيب. (سَكْرَةُ الْمَوْتِ) : شدته التي تذهب بالعقل. (تَحِيدُ) : تنفر وتهرب. (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أى : ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه. (حَدِيدٌ) أى : حاد قوى. (عَتِيدٌ) أى : مهيأ لجهنم. (عَنِيدٍ) : معاند ومجانب للحق. (مُعْتَدٍ) : ظالم متخط للحق. (مُرِيبٍ) : شاك في الله وفي أخباره. (ما أَطْغَيْتُهُ) : ما أوقعته في الطغيان. (وَأُزْلِفَتِ) : قربت.

(أَوَّابٍ) : كثير الرجوع إلى الله. (حَفِيظٍ) : كثير الحفظ لحدود الله.

(مُنِيبٍ) : مقبل على الطاعة. (مَزِيدٌ) : زيادة.

المعنى :

يقول الله ـ جل جلاله ـ : ولقد خلقنا الإنسان وأبدعنا صورته ، وأكملنا خلقته ، ونحن نعلم السر وأخفى ، ونعلم ما توسوس به نفسه ، وما يستكن في ضميره ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فالله يعلم ما يخفيه الإنسان ويكنه في نفسه ، من الخواطر

٥٢٢

وحديث النفس ، ولا غرابة في ذلك ، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وهذا تمثيل لكمال القرب ، مع أن الله منزه عن الحلول في مكان وزمان ، فهو قرب علم به وإحاطة بأحواله كلها فكأن ذاته قريبة منه (١).

ومع كمال العلم بالإنسان ، وتمام الإحاطة بأحواله ، ونفاذ قدرته عليه ، وكل به ملكين يكتبان ويحصيان عليه عمله ، إلزاما للحجة ، وقطعا للمعذرة.

فالله أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان اللذان يأخذان عنه ويحصيان عليه ، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيئات ، ما يلفظ الإنسان من قول ، ولا يعمل من عمل إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان وعتيدان ، فكل منهما رقيب ، أى : حافظ للأعمال متتبع لأمور الإنسان ، يحصيها ويسجلها ، وكل منهما عتيد ، أى : حاضر مهيأ معد لذلك.

وقال بعض العلماء : في هذه الآية رهبة وهيبة وخوف وفزع لقوم ، وسكون وأنس وطمأنينة لقوم آخرين ، فهنيئا للعاملين المؤمنين ، وبؤسا وهلاكا للكافرين والفاسقين!! ويا حسرة على العصاة والمذنبين! حيث ينزل بهم الموت وفزعه ، فتراهم سكارى من هول ما يلاقونه (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) نعم كل إنسان يلاقيه الموت وشدته وتغمره غمرته التي تغلب عقله ، وتلهيه عمن حوله ، ويشغله عن ماله وولده ، وعند ذلك يظهر له الحق ، ويتضح له الأمر ، ويدرك مكانه ، ويرى عمله وأن ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ولا مراء ، تلك مواقف شديدة على غير المؤمنين ، أما المؤمنون فعند سكرات الموت يبشون ويفرحون لما يرون من مقدمات الخير الذي ينتظرهم.

ذلك هو الموت وما فيه ، الذي كنت أيها الكافر منه تحيد وعنه تميل.

ونفخ في الصور النفخة الثانية ليقوم الناس لرب العالمين ، ذلك الوقت الذي أوعد الله به الكفار والعصاة ، وانظر ـ رعاك الله ـ إلى قوله : وجاءت كل نفس معها سائق

__________________

١ ـ فيه إشارة إلى أنه تجوز عن قرب العلم بقرب الذات.

٥٢٣

وشهيد ، أى : سائق يسوقها إلى نتيجة عملها ، وشاهد يشهد لها بعملها ؛ ويقال لها : تالله لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من هذا الذي نزل بك ـ وكل إنسان وله اشتغال ما عن الآخرة ـ فكشفنا عنك غطاءك ، وأزلنا عنك غفلتك التي كانت عندك في الدنيا ، بانهماكك في المحسوسات ، واشتغالك بالماديات ، وقصر نظرك عليها ، فبصرك اليوم حاد وقوى تدرك به ما غفلت عنه أو أنكرته في الدنيا.

وقال قرينه ـ وهو شيطانه الذي قيض له في الدنيا ـ : هذا ـ والإشارة إلى نفس الشخص الكافر ـ الذي عندي وفي ملكي عتيد لجهنم ، أى : قد هيأته لها بإغوائى وإضلالى (١) ، فيقال للموكل به من الملائكة : ألقيا في جهنم كل كفار معاند للحق مجانب له ، مناع للخير ، معتقد ظالم ، شاك في دينه مرتاب في ربه ، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه ـ والأمر للسائق والشهيد كما مضى ـ في العذاب الشديد.

وحينما يلقى الكافر في جهنم يقول : يا رب أطغانى الشيطان وأضلنى!! فيقول الشيطان (٢) : ربنا ما أطغيته ولا أضللته ولكن كان هو في ضلال بعيد الغور ، فأنا وسوست له وزينت له السوء فقط ، وهو الذي ارتكب الإثم بنفسه بعد اختياره له وقصده ، وبعد ما جاء التحذير له من السماء مرارا ، فيا رب : ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد يستحق معه هذا العقاب ، فيقول الله : لا تختصموا لدى ، والحال أنى قدمت لكم بالوعيد ، وهو القرآن ، وأنذرتكم على ألسنة الرسل ، وحذرتكم من سوء العاقبة مرارا ، ودعوتكم إلى الخير جهارا.

ما يبدل القول لدى ، ولا معقب لحكمي ، وقد حكمت بتخليد الكافر في النار وتعذيب العاصي بها على حسب عمله ، ولن يغير هذا الحكم ، وما ربك بذي ظلم للعباد.

__________________

١ ـ وإعراب هذه الآية «هذا ما لدى عتيد» يجوز في (ما) أن تكون موصوفة و (عتيد) صفتها و (لدى) متعلق به و (ما) هذه خبر اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون (ما) موصولة مبتدأ و (لدى) صلتها و (عتيد) خبرها والجملة خبر اسم الإشارة.

٢ ـ فصلت هذه الجملة لأنها واقعة جواب سؤال مقدر تقديره : ماذا قال الشيطان ردّا على اتهام الكافر له؟ وعطف قوله : (وَقالَ قَرِينُهُ) على ما قبله لأن إرادة الجمع بينها وبين ما قبلها وهي (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها ...) مطلوبة ، ولا مانع من العطف لاتحادهما خبرا وإنشاء.

٥٢٤

واذكر يوم نقول لجهنم : هل امتلأت جوانبك الفسيحة بمن دخلك من المذنبين؟ فتقول جوابا على هذا السؤال : هل من زيادة.

أى : لا أسع أكثر من ذلك فإنى قد امتلأت (١).

ثم لما فرغ من بيان حال الكفار شرع في بيان حال المؤمنين يوم القيامة فقال ما معناه : وأزلفت الجنة وقربت للمتقين تقريبا غير بعيد فهم يشاهدونها ويرون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ويقال لهم : هذا ما توعدون أيها المتقون فهو لكم ولكل أواب كثير التوبة والرجوع إلى الله ؛ محافظ على حدوده ومحارمه لا يقربها ، وهو من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، ويقال للمتقين : ادخلوها بسلام ، أى : سالمين من كل خوف ، ذلك يوم الخلود ، لهم فيها ما يشاءون ، وما يدعون ، ولدي ربك الكريم مزيد من الفضل والإكرام.

«وبعد» : أليس في ذكر أحوال يوم القيامة ، وما يلاقيه الإنسان فيها ، جزاء على أعماله التي تحصيها الملائكة الكرام الكاتبون ، بعد تصدير الآية بما يثبت لله القدرة القادرة والعلم التام بكل شيء أليس هذا كله مما يثبت عقيدة البعث ، ويقوى الإيمان به؟ ويدعو إلى اقتفاء أثر المؤمنين به الذين ينعمون في الجنة التي أعدت لهم ، وعند ربك فوق هذا كله مزيد من الفضل والإحسان لمن يؤمن بالله واليوم الآخر.

تهديد لمنكري البعث وختام السورة

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا

__________________

١ ـ الاستفهام الأول للتقرير ، فالله يقررها بأنها امتلأت ، أى : يجعلها تقر بذلك ، والاستفهام الثاني بمعنى النفي ، وهو جواب الاستفهام الأول.

٥٢٥

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)

المفردات :

(قَرْنٍ) القرن : الأمة والجماعة المتقدمة ، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها كالقرن يتقدم الحيوان. (فَنَقَّبُوا) التنقيب : التنقير عن الأمر والبحث والطلب ، وقرئ فنقبوا ، أى : خرقوا في البلاد ودوخوا فيها غيرهم ، والمراد طافوا في البلاد من أقصاها إلى أقصاها طلبا للتجارة أو هربا من الموت. (مَحِيصٍ) : مهرب. (لُغُوبٍ) أى : تعب وإعياء. (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) يقال : أدبر الشيء إدبارا : إذا ولى ، وقرئ : وإدبار جمع دبر ، والمراد بعد السجود ، أى : الصلاة. (الصَّيْحَةَ) أى : صيحة البعث. (تَشَقَّقُ) أصله : تتشقق ، والمراد : تتفتح ، ويخرجون من قبورهم. (يَسِيرٌ) : سهل. (بِجَبَّارٍ) : تجبرهم على الإيمان.

٥٢٦

المعنى :

كثيرا من الأمم السابقة (١) ، والقرون الماضية قبلكم أهلكناهم بعذاب شديد عاجل لما كذبوا الرسل ، وكفروا بالبعث ، وقد كانت تلك الأمم أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، وأصحاب تجارات ومصانع ، هؤلاء اشتد بطشهم فنقبوا البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، وقيل : أكثروا في السفر والترداد والبحث والطلب عن المال والتجارة ، فانظر هل من محيص أو محيد عن الله ولقائه؟ لا مناص منه ولا ملجأ إلا إليه ، فاعتبروا أيها المنكرون وآمنوا أيها المشركون.

إن في ذلك لذكرى وعبرة لمن كان له قلب يعقل به فيرى الحسن حسنا والقبيح قبيحا ، لأن من لا يتعظ بالمواعظ كأنه لا قلب له ؛ لمن كان له قلب يعقل أو أصغى بسمعه إصغاء من يريد أن يعرف الحق من غير تعصب ، وهو شهيد ، أى : حاضر بروحه وعقله لا بجسمه فقط ، وكثيرا ما نعى الله على الكفار عدم استفادتهم لأن على قلوبهم الأقفال ، وأنهم يحضرون بأجسادهم فقط (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما من عجائب في ستة أيام ، وهو القادر على خلقها في لحظة ، وما مسنا بعد ذلك إعياء ولا تعب ، قيل : نزلت ردّا على اليهود الذين يقولون : إن الله استراح يوم السبت واستلقى على العرش بعد أن خلق الدنيا طلبا للراحة ، وإذا كان هذا خلقه فكيف نستبعد عليه البعث؟!!

ولقد ختم الله السورة بعلاج من حكيم خبير ، علاجا لمن يدعو إلى الخير ويصاب بالأذى من قومه. ويجازى على الحسنة بالسيئة ، ليس لهذا علاج إلا الصبر وأن يحتسب أجره عند الله ، ويفوض أمره إليه ، والله بصير بالعباد ، وهو مع المؤمنين بالنصر والتأييد إن كانوا مؤمنين حقا.

اصبر يا محمد على ما يقولون ، واستعن على ذلك بالتسبيح والصلاة ، وتقوية الروح باللقاء المعهود مع خالق هذا الوجود ، في الصلاة والمناجاة والتسبيح والتكبير ، وسبح

__________________

١ ـ «كم» خبرية منصوبة بأهلكنا ، و «من قرن» تمييز لها ، وجملة «هم أشد» صفة لقرن ، والفاء في قوله : «فنقبوا» عاطفة على المعنى مع إفادة السببية.

٥٢٧

حامدا ربك شاكرا له فضله ونعمه ، مهما أصابك من سوء ، سبحه قبل طلوع الشمس في وقت السحر. وقبل الغروب ؛ ومن الليل فسبحه ، وأدبار كل صلاة ، وخصت هذه الأوقات بالذكر لأنها أوقات تظهر فيها عظمة الله ، وجلاله ، وقدرته على إحياء هذا الوجود بعد سكونه ، وعلى إماتته في الغروب بعد هذه الحركة والضجيج والحرارة والنور ، وفي صحيح الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت ، وهو على كلّ شيء قدير ، اللهمّ لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».

واستمع ـ أيها الإنسان ـ لما أخبرك به من حال يوم القيامة ، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به ، والمحدث عنه : يوم ينادى المنادى يخرجون من القبور ، يوم يسمعون الصيحة بالحق ، ذلك هو يوم الخروج.

إنا نحن نحيى ونميت في الدنيا ، لا يشاركنا في ذلك أحد ، وإلينا وحدنا المصير ، اذكر يوم تتشقق عنهم الأرض مسرعين إلى مكان الحشر ، ذلك حشر ونشر علينا يسير وسهل.

أيها الرسول : نحن أعلم بما يقولون ، وسنجازيهم على ذلك كله ، فلا يهمنك أمرهم وما أنت عليهم بجبار تجبرهم على الإيمان ، ولست عليهم بمسيطر ، إن أنت إلا رسول عليك البلاغ فقط فذكر إنما أنت مذكر ، ذكر بالقرآن ، فإنه لا ينتفع به إلا من يخاف الوعيد ، ويؤمن بالغيب ، وفيه استعداد للخير.

٥٢٨

سورة الذاريات

وهي سورة مكية عند الجميع ، وعدد آياتها ستون آية.

وعلى الجملة فالسورة تدور حول إثبات البعث بالقسم عليه ، وذكر بعض أحواله مع المؤمنين والكافرين ، ثم قصت قصص بعض الأنبياء ، وخلصت من ذلك كله إلى الأمر بالتوحيد وعدم الشرك ، مع بيان طبائع الناس.

إثبات البعث

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)

المفردات :

(وَالذَّارِياتِ) : هي الريح التي تذرو التراب وغيره ، أى : تفرقه وتبدد ما رفعته عن مكانه. (وِقْراً) الوقر : ثقل الحمل على ظهر أو في بطن. يقال : هذه امرأة

٥٢٩

موقرة : إذا حملت حملا ثقيلا ، وأما الوقر : فهو ثقل السمع ، وهل المراد بالحاملات السحائب يحملن الماء؟ أوهن السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم. (فَالْجارِياتِ يُسْراً) أى : جريا سهلا إلى حيث تسير. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) : هي الملائكة تقسم أمور العباد ، وقيل : هي الرياح تقسم المطر عليهم. (الدِّينَ) : هو الجزاء ، ومنه قولهم : دنته بما صنع ، أى : جزيته ، وعليه قولهم : «كما تدين تدان» ومنه «يوم الدين». (الْحُبُكِ) أى : الطرائق ، أى : والسماء ذات الطرق ، أو ذات الخلق القوى المستوي ، أو ذات الزينة. (يُؤْفَكُ) : يصرف عنه من صرف. (الْخَرَّاصُونَ) الخرص : التخمين والحزر ، وهو سبب الكذب ، فالمراد : لعن الكذابون. (غَمْرَةٍ) الغمرة : ما ستر الشيء وغطاه. (ساهُونَ) أى : لا هون وغافلون. (يُفْتَنُونَ) : يحرقون ، وهو من قولهم : فتنت الذهب : أحرقته.

المعنى :

لقد قال الله ـ تعالى ـ في السورة السابقة : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) وقال : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وفي هذا إشارة إلى إنكارهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن فلم يبق بعد ذلك إلا القسم باليمين المؤكدة إن ما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع.

ولكن أليس من الأفضل أن ندرك بعض السر في قسم الله بهذه الأشياء ، بعد ما نهانا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحلف بغير الله؟

ولعل السر في ذلك أن العرب كانت تعتقد أن النبي رجل قوى الحجة ، غالب في المجادلة وإقامة الدليل ، فأقسم لهم القرآن على لسان النبي بكل شريف ليعلموا صدقه إذ هم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها ، وقد كان إكثار النبي من الحلف مع أنه لم يصب بسوء بل ارتفع شأنه كان هذا كله دليلا على صدقه ؛ على أن الأيمان التي أقسم الله بها دلائل على كامل قدرته على البعث وقد ساقها الله في صورة اليمين لفتا لأنظارهم وإيذانا بخطر ما يتحدث عنه ، وأنه حرى بالبحث التام ، فالإله الذي خلق هذه الأشياء وصرفها حيث شاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق يوم الجزاء.

٥٣٠

وهنا بحث آخر : في جميع السور التي بدئت بالقسم بغير الحروف كالسورة التي معنا نجد أن المقسم عليه واحد من ثلاثة : التوحيد ... الرسالة ... البعث ، تلك أصول الدين العامة ، ويلاحظ أن سورة الصافات وحدها هي التي أقسم فيها على التوحيد فقال الله (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) وفي سورة النجم. والضحى ، أقسم على صدق الرسول حيث قال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) وقال : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وبقية السور كان المقسم عليه فيها هو البعث والجزاء وما يتعلق به ؛ لأنهم أنكروا البعث وبالغوا في إنكاره ، وصدق الله حيث يقول : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ).

أقسم الله بالرياح التي تذرو التراب ذروا ، وتبدده في كل مكان ، فالرياح التي تحمل السحب الموقرة بالماء المحملة بالمطر ، فالرياح التي تجرى جريا سهلا فتحمل السحب ، وتدفع السفن ، فالتي تقسم المطر على الأماكن التي يريدها الله ، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير ؛ وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذاريات فقال : هي الرياح ، وسئل عن الحاملات فقال : هي السحاب ، وسئل عن الجاريات يسرا فقال : هي السفن ، وسئل عن المقسمات أمرا فقال : هي الملائكة ، ويقول عمر ـ رضى الله عنه ـ في ذلك كله : لو لا أنى سمعت رسول الله يقول بهذا ما قلته. والله أعلم بكتابه ، أقسم الله بهذا على أن ما توعدون به لصادق ومتحقق الوقوع ، وأن الدين والجزاء لواقع ؛ وفي تخصيص المذكورات بالقسم رمز إلى شهادتها بتحقيق المقسم عليه وهو البعث من حيث إن من قدر على ذلك فهو قادر على تحقيق الوعد بالبعث ، إذ الرياح تذرو ذرات المياه ، وتحملها إلى طبقات الجو العالية ، فتتجمع سحبا بعد تفرقها ، ثم تجرى بيسر وسهولة إلى حيث شاء فتنزل مطرا ؛ أليس القادر على ذلك بقادر على أن يعيد الخلق بعد تفرق أجزائه وانحلاله في التراب أو الجو أو البحار؟!

وأقسم الله كذلك بالسماء ذات الحبك ، أى : الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب أو هي ذات الخلق البديع القوى ، وذات الزينة بالنجوم ، على أنكم ـ يا كفار مكة ـ في قول مختلف متباين ، فتارة تقولون على النبي : إنه شاعر ، وطورا إنه ساحر ، ومرة : إنما يعلمه بشر ، وأخرى : إنه مجنون ؛ وهذا دليل على التخبط وسوء الرأى ؛ ليس الأمر كذلك ؛ وإنما يصرف عن الرأى الحق والإيمان الكامل من صرف

٥٣١

بحسب طبعه وميله النفسي عنه ؛ قتل (١) الخراصون الذين ينكرون البعث عن ظن وحدس لا عن رأى وعقيدة ؛ وهؤلاء هم الكذابون الذين هم في جهل يغمرهم كالماء الكثير ؛ وهم ساهون ولا هون عن الخير الذي ينفعهم.

يسألون سؤال استهزاء قائلين : أيان يحصل يوم الجزاء؟ والجواب : يقع يوم الدين يوم هم على النار يحرقون ، أى : يوم الجزاء هو يوم تعذيب الكفار ، ويقال لهم عند ذلك : ذوقوا فتنتكم ، أى : عذابكم المعد لكم جزاء على كفركم ؛ ويقال لهم كذلك : هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون ؛ وتسألون عنه استهزاء وكفرا به.

من هم المتقون وما جزاؤهم؟

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)

المفردات :

(يَهْجَعُونَ) الهجوع : النوم ، وقيده بعضهم بالنوم ليلا ، وقال آخرون : إنه النوم القليل. (وَبِالْأَسْحارِ) : جمع سحر ، وهو الجزء الأخير من الليل ، أى : قبيل

__________________

١ ـ حقيقة القتل معروفة ، والمراد هنا بالقتل : الدعاء عليهم باللعن ؛ لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك ، وعلى ذلك ففي (قتل) استعارة تبعية.

٥٣٢

الفجر. (وَالْمَحْرُومِ) : هو الذي حرم المال ، والظاهر أنه هنا المتعفف الذي لا يسأل الناس ... وهؤلاء هم المتقون المؤمنون ، وهذا جزاؤهم بعد الكلام على الكفار والمجرمين ، مع ذكر حقائق أخرى تتعلق بالاستدلال على قدرة الله ووحدانيته ، وبالمن على الناس بأن رزقهم من الله ويأتى من السماء.

المعنى :

إن المتقين الموصوفين بالصفات الآتية في جنات وبساتين يتمتعون بكل ما فيها ؛ ولهم فيها عيون فوارة بالماء الزلال تجرى خلال الجنة ، فلا يرون فيها عطشا ، كما أنهم لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، إنهم في جنات وعيون حالة كونهم آخذين ما آتاهم ربهم من نعيم وقابلين لكل ما أعطاهم بقبول حسن ، وقد كانوا في الدنيا يتقبلون أوامر الله التي تأتيهم على ألسنة الرسل بصدور رحبة ، ونفوس مطمئنة ، وكأن سائلا سأل وقال : هل فعلوا ما يستحقون عليه هذا الجزاء؟ فأجيب : إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا محسنين لأعمالهم ، آتين بها على ما ينبغي ، عابدين الله عبادة خالصة لوجهه (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) (١) أى : كانوا يهجعون زمانا قليلا من الليل ، ولا شك أن هذا وصف للمتقين بأنهم عاملون مخلصون ، فالليل وإن كان وقت راحة ونوم ، فهم لا يهجعون فيه إلا قليلا ، ويكابدون العبادة في أوقات الراحة والبعد عن الناس ، وعند سكون النفس وعدم اشتغالها بالدنيا (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٢) وهم مع ذلك كله يستغفرون الله في الأسحار ، كأنهم أجرموا في الليل أو عصوا الله في النهار ، أليس هذا هو وصف المؤمن التقى دائما يخشى الله ويعمل له ، ويحاسب نفسه ثم يستغفر الله بالأسحار بعد ذلك؟

وهم دائما في خشية من عذاب الله ، ومع ذلك ففي أموالهم حق ثابت معلوم ، للسائل والمحروم ، الذي يتعفف عن السؤال ، ويحسبه الجاهل غنيّا ، وهو في أشد حالات الفقر. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس المسكين الّذى تردّه التّمرة والتّمرتان

__________________

١ ـ هذه الجملة بيان للجملة التي قبلها ولذلك فصلت.

٢ ـ سورة الإسراء آية ٧٨.

٥٣٣

والأكلة والأكلتان ، قيل : فمن هو المسكين؟ قال : الّذى ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدّق عليه فذلك المحروم».

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وهذا دليل على قدرة الله في الأرض وفي الناس (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١) (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (٢) ؛ نعم في الأرض وما أقلت من سهول وجبال ، وأنهار ووديان ، وما عليها من زروع وثمار ، وحدائق ونبات وما في جوفها من ماء عذب فرات ، وماء كالملح الأجاج ، وما فيها من زيوت ومعادن ، وغازات وأبخرة ، في الأرض وحركاتها ، ودوراتها ورياحها ، وحرها وبردها ، آيات ودلائل ولكن للمتقين.

وفي أنفسكم آيات كذلك للمتقين ، أليس في نفسك وما فيها من علوم ومعارف وغرائز وميول واتجاهات للخير تارة وللشر أخرى آيات للمتقين؟ أليس في نفسك التي بين جنبيك وما فيها من حواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق وما فيها من دورة الدم ، وأجهزة التنفس والبول والهضم والإفراز كل ذلك آيات لمن يعقلها ، ولا يعقلها حقيقة ويدرك سرها الخفى ودلالتها على الإله القوى القادر الحكيم الخبير إلا المؤمنون المتقون الله ، أما غيرهم فقد يدرك حقائقها المادية فقط!! ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون ذلك بقلوبكم لا بأبصاركم! وتفقهون أن هذا كله لخالق قادر على البعث وإعادة الحياة.

واعلموا أن في السماء تقدير رزقكم ، وتحديده وأسبابه ، فليس الرزق موقوفا على شيء يتعلق بالكون الأرضى فقط ، بل الأمر كله لله ، والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أى : في السماء رزقكم وما توعدون من خير أو شر ، فعلى المسلم إذا طلب أمرا من مخلوق فليطلبه بعزة مع العمل فإن الأمور تجرى بالمقادير ؛ وبعضهم فسر السماء في الآية بالمطر ، فورب السماء والأرض إن تقدير الرزق وتحديده في السماء لحق لا شك فيه ، ويجوز أن يراد هذا وغيره من كل وعد سابق في هذه السورة ، إنه لحق مثل (٣) نطقكم فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا.

__________________

١ ـ سورة فصلت آية ٥٣.

٢ ـ سورة فصلت آية ٣٩.

٣ ـ مثل حال من الضمير المستكن في قوله : الحق.

٥٣٤

وروى عن بعض الأعراب حينما سمع هذه الآية قال : يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟!

إكرام الله لأوليائه وإهانته لأعدائه

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)

٥٣٥

وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

المفردات :

(ضَيْفِ) أى : ضيوف. (مُنْكَرُونَ) : غير معروفين. (فَراغَ) المراد : ذهب إلى أهله على خفية من ضيفه ، وأصل الروغ : الميل على سبيل الاحتيال ، ومنه روغان الثعلب. (سَمِينٍ) : ممتلئ الجسم بالشحم واللحم. (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) : أضمر في نفسه منهم خوفا. (فِي صَرَّةٍ) : في صوت وجلبة. (فَصَكَّتْ وَجْهَها) : ضربت وجهها بأطراف أصابعها عجبا. (عَقِيمٌ) : عاقر فكيف ألد؟ وأصل العقم : اليبس. (فَما خَطْبُكُمْ) : ما شأنكم الخطير. (مُسَوَّمَةً) : معلمة. (لِلْمُسْرِفِينَ) : المتجاوزين الحدود. (آيَةً) : علامة دالة على ما أصابهم. (بِرُكْنِهِ) أى : بجانبه وهذا كناية عن الإعراض التام ، وقيل : الركن القوة والسلطان ، أو القوم. (فَنَبَذْناهُمْ) : طرحناهم بلا مبالاة. (مُلِيمٌ) أى : أتى بما يلام عليه. (الْعَقِيمَ) : التي لا تلقح شجرا ولا تأتى بخير بل تهلك الحرث والنسل.

(ما تَذَرُ) : ما تمر على شيء وتتركه. (كَالرَّمِيمِ) : كالشىء البالي من عظم أو نبات أو غيره. (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) : استكبروا عن امتثال أمره. (الصَّاعِقَةُ) أى : المهلكة التي صعقتهم.

المعنى :

ألم يأتك يا رسول الله حديث ضيف إبراهيم المكرمين (١) ، وهذا الأسلوب فيه تفخيم

__________________

(١) في هذا إشارة إلى أنه استفهام تقريرى ، وقيل : إن هل بمعنى قد ، كقوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر أى : قد أتى.

٥٣٦

لشأن القصة ، ورفع لمكانة الحديث ، ولفت لأنظار الناس إليه وتنبيه على أن مثل هذا الحديث مما لا يعلمه رسول الله إلا عن طريق الوحى (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) (١) وقد سبقت هذه القصة في سورتي هود والحجر ، ولا شك أن ضيوف إبراهيم مكرمون عند الله ، لأنهم من الملائكة. (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢) وإبراهيم أكرمهم غاية الإكرام فهم مكرمون من الله ومن المضيف ، هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه (٣) فقالوا : نسلم عليك سلاما ، فأجابهم إبراهيم بأحسن مما حيوا حيث قال : عليكم سلام من الله ورحمته ، وعلماء البلاغة يقولون : (الجملة الاسمية كما في قولك : السلام عليك ، أبلغ من قولك : أسلم عليك ، لأن الأولى تفيد الدوام والثبوت ، والثانية تفيد التجدد والحدوث).

ثم قال إبراهيم في نفسه أو قال مظهرا لهم : أنتم قوم منكرون غير معروفين وهيئتكم العامة غير معهودة لنا ، وعقب هذا ذهب إلى أهله في خفية منهم وطلب إليهم إعداد طعام للضيفان ، فجاء بعجل سمين مشوى ، فقربه إليهم ، قال لهم : ألا تأكلون؟ ولكنهم أعرضوا عن الأكل ، فلما أعرضوا أوجس منهم خيفة ، وأضمر في نفسه خوفا منهم على عادة الناس يظنون أن الامتناع عن الطعام لشر مبيت ، وأكل الضيف يزيل هذا الظن ، وماذا قالت الملائكة عندئذ؟ قالوا : يا إبراهيم لا تخف إنا رسل ربك ، وبشروه بغلام عليم عند استوائه وبلوغه الرشد ، وهو إسحاق على الصحيح.

فلما سمعت امرأته تلك البشارة ، وكانت يائسة من الحمل أقبلت على أهل بيتها في صوت وجلبة ، فضربت جبهتها بأطراف أصابعها كما تفعل النساء عند ظهور أمر عجيب وقالت : أألد وأنا عجوز عقيم؟!! ماذا قالت الملائكة لها؟ قالوا : لا تعجبي من أمر الله ، مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرناك به قال ربك ذلك ، وإنما نحن مبلغون فقط ، ونحن رسل الله إليك ، إنه هو الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها وهو العليم بكل خلقه ، فلا تعجبي من أمر الله ، وذلك تذييل موافق لما قبله.

__________________

١ ـ سورة يوسف آية ١١١.

٢ ـ سورة الأنبياء آية ٢٦.

٣ ـ في هذا إشارة إلى أن (إذ دخلوا عليه) ظرف للحديث أو معمول ل (اذكر) محذوفة.

٥٣٧

قال إبراهيم لما علم أنهم رسل الله حقا : ما شأنكم الخطير وما خبركم؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، وهم قوم مجرمون كذبوا لوطا وعصوا أمر ربهم فحقت عليهم الكلمة ، إنا أرسلنا إلى هؤلاء لنقلب قراهم رأسا على عقب ، ونجعل عاليها سافلها ، ونرسل عليهم حجارة من طين ، معلمة من عند الله ، ومعدة من عنده لهؤلاء القوم المسرفين المتجاوزين الحدود.

ثم قاموا من عند إبراهيم ، وجاءوا لوطا ، فضاق بهم ذرعا لأنه أنكرهم أول الأمر ، وقال : هذا يوم عصيب ، قالت الملائكة : يا لوط إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك من هؤلاء الظالمين ؛ فأسر بأهلك في ظلام الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ، وإن موعدهم الصبح ، وليس الصبح ببعيد ، فباشرت الملائكة ما أمروا به. وأخرجوا من كان في القرى من المؤمنين ، فما وجدوا فيها غير بيت من المسلمين ، وهو بيت لوط ، وجاء الصبح ، وقد جعلوا عاليها سافلها ، وأمطروا عليهم حجارة من سجيل ، مسومة عند ربك ، وما هي من الظالمين أمثالهم ببعيد ، فانظروا يا آل مكة أين أنتم من قوم لوط؟ واعتبروا بما حل بهم ، وما ربك بظلام العبيد.

وهذه أمثال يضربها الحق تبارك وتعالى للطغاة المتكبرين ، والكفار الظالمين ، لعلهم يثوبون لرشدهم ، ويكفون عن تكذيبهم وكفرهم بما يجب الإيمان به وخاصة يوم البعث.

المعنى :

وجعلنا في قصة موسى عبرة وعظة ، إذ أرسلناه (١) إلى فرعون بمعجزات ظاهرة ، وآيات بينة كالعصا وغيرها فتولى بركنه ، أعرض عن الإيمان مصاحبا قومه معتزا بهم ، وقال : إن موسى ساحر أو هو مجنون ، فأخذه ربك أخذ عزيز مقتدر ، أخذه هو وجنوده فنبذه في اليم نبذ النواة بلا مبالاة ولا اعتداد به ، والحال أنه أتى من أفعال الكفر والطغيان ما يلام عليه ، فهو مليم بهذا المعنى.

وفي قصة عاد آية كذلك إذ أرسل ربك إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الإيمان

__________________

(١) الظرف بدل من موسى.

٥٣٨

فكذبوا وكفروا ، فأرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية ، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية ، أرسل عليهم الريح العقيم التي لا تنبت كلأ ، ولا تنزل غيثا. ولا تلقح شجرا (١) فهي لا تدع شيئا تمر عليه وقدر الله إهلاكه إلا جعلته كالشىء البالي الذي لا خير فيه.

وفي قصة ثمود آية كذلك إذ أرسل إليهم ربك أخاهم صالحا فكفروا ولم يؤمنوا فقيل لهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ، ذلك وعد غير مكذوب ، فعتوا عن أمر ربهم واستكبروا عن امتثاله ، فأخذتهم الصاعقة ، وأهلكتهم نار من السماء أتت على الأخضر واليابس ، وهم ينظرون إلى أنفسهم ، وقيل : وهم ينتظرون العذاب ، ما أصبرهم على ذلك؟ وما كانوا منتصرين بغيرهم إذ لا ناصر لهم ، وأهلكنا قوم نوح من قبل لما استحقوا ذلك ، إنهم كانوا قوما فاسقين.

وهكذا حكم الله مع الأمم قديما وحديثا ، وتلك سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا فهل من معتبر؟!.

أليس إهلاك الكافرين مع كثرتهم وشدة قوتهم ، ونصرة المؤمنين على ضعفهم وقلة عددهم آية على قدرة الله؟! وأى آية أقوى من هذه؟!

من آيات الله الكونية

وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ

__________________

(١) في هذا إشارة إلى أنه شبه عدم تضمن النفع والإهلاك بالعقم ، واشتق منه عقيم بمعنى فاعل أو مفعول فهي استعارة تصريحية تبعية.

٥٣٩

(٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)

المفردات :

(بِأَيْدٍ) : بقوة وقدرة. (لَمُوسِعُونَ) : لقادرون ومطيقون. (فَرَشْناها) : بسطناها كالفراش. (الْماهِدُونَ) يقال : مهدت الفراش مهدا : بسطته ووطأته ، وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها. (زَوْجَيْنِ) : صنفين ونوعين.

(أَتَواصَوْا) : أوصى أولهم آخرهم. (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : أعرض. (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) : الشديد القوى. (ذَنُوباً) : أصل الذنوب يطلق في اللغة على الدلو العظيمة المملوءة ماء ، وكانوا يستقون الماء به فيقسمون به على الأنصباء ، ثم قيل للذنوب : نصيبا ، من هذا قال الشاعر :

لنا ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب (١)

تلك آيات الله الكونية الظاهرة للعيان ، التي يراها كل إنسان ، في كل زمان ومكان بعد الآيات التي مضت في طيات الزمن مع عاد وثمود وقوم نوح وإخوان لوط.

__________________

(١) أى : البئر.

٥٤٠