التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

وفي هذا الوقت العصيب أغرى حيي بن أخطب كعب بن أسد القرظي على نقض العهد الذي بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وامتنع في أول الأمر ثم مال إلى النقض ، ويا ليته لم ينقض ، ولكنهم اليهود لا أمان لهم ولا عهد ولا ذمة ، وأقام الأحزاب في مكانهم والمسلمون أمامهم مدة ، ذاق فيها المسلمون الأمرين ، مما رأوا من تجمع العرب ، ونفاق اليهود ونقضهم العهد وإظهارهم ما كانوا يخفون حتى قال بعضهم : إن بيوتنا عورة فلننصرف فإنا نخاف عليها ، ومنهم من قال : يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط.

أقاموا على هذا الحال قريبا من شهر ، وليس بينهم حرب إلا الرمي بالنبال والحصى ، ولقد اشتد على النبي ذلك المقام فبعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري ليفاوضهما على ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما ويخذلان قريشا ويرجعان بقومهما عنهم ، ولكن الأنصار أبوا ذلك قائلين : والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فسر الرسول لذلك ووافقهم.

وفي هذا نزل قوله تعالى : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) وهذا تصوير لحالة المسلمين تصويرا دقيقا.

وكره بعض فوارس مكة أن يقفوا معطلين فأخذوا يدورون حول الخندق يتحسسون نقطة ضعف ، وقد وجدوا فضربوا خيلهم فاقتحمت الخندق ، ورأى المسلمون في ذلك خطرا عليهم فأسرع على بن أبى طالب ومعه جماعة من الفرسان ليسدوا هذه الثغرة .. وكانت مبارزة بينه وبين عمرو بن عبد ود انتهت بقتله ، فلما عرف صاحباه عكرمة بن أبى جهل وضرار بن الخطاب فرا وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمين هاربين.

وفي هذه الآونة الشديدة وقع ثقل المقاومة على المؤمنين الخلص الذين كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ونفوسهم في سبيل الدفاع عن الحق أشد من الصخرة صلابة وقوة.

ولما وقف المؤمنون الموقف المشهود ، ودافعوا دفاع الأبطال ، وابتلاهم الله فوقفوا وصبروا وصابروا أراد ربك أن يصرف عنهم السوء ، وأن يتم نعمته عليهم ويكفيهم شر القتال على أحسن صورة وأكمل وضع ، فألقى في قلوب المشركين الخوف وأوقع فتنة بينهم ، وقام نعيم بن مسعود ـ وكان مشركا فأسلم ، وكان محبوبا من الطرفين ـ بدور

٨١

هام بين قريظة من اليهود ، وبين المشركين حتى انصدع الشمل وتفرق الجمع. وأرسل الله ريحا سموما كفأت قدورهم ، وقلعت خيامهم ، وأصابهم منها قر ومطر شديدان عقد القوم عزمهم على الرحيل فرجعوا غير آسفين.

وهذا أبو سفيان يقول : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ؛ قد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإنى مرتحل. وارتحل ..

وطلع النهار وإذا المدينة خالية من معسكر الأحزاب وقد فك الحصار ، ورجعت الطمأنينة إلى النفوس ، ونجح المسلمون في الاختبار بعد أن زلزلوا زلزالا شديدا.

أما موقف اليهود من المسلمين فهذا ملخصه :

لما سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوعد بكنوز كسرى وقيصر عند اشتداد المعركة قال طعمة بن أبيرق ، ومعتب بن قشير وجماعة من اليهود والمنافقين : كيف يعدنا هذا ، ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز؟! وانظر إلى فظاعتهم حيث يقولون : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا!! وفارقوا محمدا فإنه هالك ، وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فارجعوا إلى منازلكم ، واهربوا من جند محمد ، وما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه؟! وفي رواية أن الذي قال هذا هم اليهود ، قالوه لزعيم المنافقين عبد الله بن أبىّ بن سلول.

ومنهم من استأذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا : إن بيوتنا عرضة للهجوم عليها وسرقة ما فيها ، وفي الواقع ليست بيوتهم عورة وإنما هم كاذبون ، وما يريدون إلا فرارا من القتال ، وهربا من الميدان.

ولو انتهكت حرمة المدينة من جوانبها ثم طلب إليهم الفتنة والقيام بطعن المسلمين من الخلف لفعلوا كل هذا ، وما انتظروا إلا قليلا (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) [سورة التوبة آية ٤٧].

ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل أنهم لا يولون الأدبار ، ولا يفرون من القتال وأنهم سيقاتلون مع النبي بإخلاص وعاهدوا الله على ذلك ، ولكنهم لا عهد لهم ولا ذمة ، وكان عهد الله مسئولا ..

٨٢

قل لهم يا محمد : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت وكيف تفرون؟ ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت ولحقكم ، فإن لكل أجل كتابا (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة الأعراف آية ٣٤].

وإذا فررتم وكان في العمر بقية لا تمتعون إلا متاعا قليلا زمنه ، إذ الدنيا لم تخلق زهرتها للجبناء.

قل لهم : كيف تفرون من حكم الله إلى حكم الله؟ ومن ذا الذي يعصمكم منه إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة من خير ونصر وعافية؟ وهم لا يجدون لهم من دون الله نصيرا ينصرهم ولا وليا يلي أمورهم ويشفع لهم.

روى أن عبد الله بن أبىّ وأصحابه من المنافقين قالوا لإخوانهم من المسلمين : ما محمد وأصحابه إلا قلة وهو هالك ومن معه ، فهلموا وفارقوا محمدا ، وقيل : إن القائل هم اليهود قالوا لإخوانهم من المنافقين : تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فنزل قوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين ـ المثبطين ـ منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ، وهم قوم جبناء لا يأتون البأس ـ القتال ـ إلا قليلا خوفا من الموت ، ولا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة ، وهم قوم بخلاء عليكم أشحاء بالمعونة عند الشدائد لا ينفعون ، وعند الغنائم يحضرون ويطالبون ، فإذا جاء الخوف واشتد لهيب المعركة وحمى وطيسها ، رأيتهم ـ ويا لهول ما ترى ـ ينظرون يمينا وشمالا تدور أعينهم يمنة ويسرة لذهاب عقولهم حذرا من القتل ، وهكذا الجبال الرعديد ، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد وبسطوا إليكم ألسنتهم بالسوء ، وآذوكم بالكلام الشديد. فهم عن الخير ممسكون وفي الشر مجدون أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم حيث لم يقصدوا بها وجهه ، وكان نفاقهم وعملهم على الله هينا ، ألا قاتلهم الله أنى يؤفكون! وهؤلاء المنافقون لشدة جبنهم وسوء رأيهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا ، وهذا شأن الجبان لفرط خوفه إذا رأى شيئا ظنه رجلا ، ولفساد اعتقادهم وسوء طويتهم يودون أن تأتى الأحزاب ، وهم مع الأعراب المتحزبين حذرا من القتل وتربصا بالنبي الدوائر سائلين عن أنبائكم أيها المسلمون ، وهم ليسوا في قليل ولا كثير ، ولو كانوا فيكم وفي جيشكم ما قاتلوا إلا قليلا.

ولقد كان لكم ـ أيها المتخلفون عن القتال ـ أسوة حسنة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان

٨٣

الواجب عليكم أن تتأسوا برسول الله وتقتدوا به في كل أعماله ، والرسول الكريم مثل في الشجاعة والإقدام والصبر والمثابرة على النوازل فهو المؤمن الواثق بالله المتوكل عليه.

لقد كان لكم أسوة حسنة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه يوم القيامة ، وذكر الله كثيرا حبا في ذكره وأملا في ثوابه.

وهذا عتاب للمتخلفين وإرشاد للناس أجمعين حيث يجب عليهم أن يأتموا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل شيء فهو المثل الأعلى : المثل الكامل صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

موقف المؤمنين في هذه الغزوة :

لقد عرفنا موقف من في قلوبهم مرض من المنافقين واليهود الذين غلبت عليهم نزعات الجبن والتردد وبرهنوا بأعمالهم على لؤم في الطبع وسوء في الرأى وفساد في العقيدة.

أما المؤمنون الواثقون الذين خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان وامتلأت نفوسهم بنور اليقين فقد أفادتهم هذه التجربة القاسية وهذا الابتلاء من الله. أفادتهم يقينا على يقينهم ، فهم رأوا الأحزاب قد تجمعوا وتكتلوا ضد الإسلام والمسلمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم ذلك إلا إيمانا بالله وتصديقا لرسول الله وتسليما بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم للمسلمين الصابرين المحتسبين.

نعم لقد وعدهم الله ورسوله بالنصر والظفر والظهور على قصور الحيرة ومدائن كسرى وقيصر ، وهم واثقون بهذا الوعد مؤمنون بأن أية قوة في الأرض مهما تجمعت وتحزبت فلن تعجز الله في شيء ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، وما زادهم هذا الجمع الحاشد وتألب القبائل في الداخل والخارج من اليهود والمشركين ، وما زادهم ذلك كله إلا إيمانا وتسليما.

روى البخاري ومسلم عن أنس قال : «قال عمى أنس بن النضر ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكبر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غبت عنه ، أما والله لئن أرانى الله مشهدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بعد ليرينّ الله ما أصنعه. قال : فشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك. فقال : يا أبا عمرو ، أين؟ قال : واه ـ كلمة تفيد الإعجاب بالشيء ـ لريح الجنة ، أجدها

٨٤

دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية وما عرفته أخته إلا ببنانه».

وهذا معنى قوله تعالى : بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفوا عهودهم وأدوا حق الإسلام عليهم فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت وما بدلوا من حكم الله تبديلا ، والآية عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقد يقول قائل : إذا كان المسلمون على حق فلم هذا التعذيب والإيلام في الحرب والقتال؟ ولقد أجاب الله عن هذا بقوله : وإنما يحصل لهم ذلك ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، وليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء الله أو يتوب عليهم فيوفقهم إلى التوبة الصادقة ، إن الله كان غفورا رحيما.

نهاية الغزوة :

ورد الله الذين كفروا بغيظهم كأبى سفيان وعيينة بن حصن ومن معهما لم ينالوا خيرا بل هتكوا سترهم وافتضح أمرهم ورجعوا بخفي حنين ، وأثبتوا للعرب جميعا أن قوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه الذين أخرجوا من ديارهم مطرودين بلا مال ولا زاد أصبحت تلك القوة تضارع قوى العرب مجتمعة متحزبة مع قوة اليهود المالية.

وكفى الله المؤمنين القتال ، فهو الذي أوقع الرعب في نفوس الأحزاب وثبت قلوب المؤمنين على الحق حتى جاءهم النصر من عند الله العزيز الحكيم.

نهاية من ظاهر المشركين من اليهود :

رجعت الأحزاب من قريش وغطفان إلى ديارهم وقد ملئت قلوبهم غيظا وحزنا لم ينالوا خيرا ، وبقي اليهود في المدينة كالمجرم الآثم الذي ظهرت أدلة جرمه وهو ينتظر حكم القضاء فيه.

أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم غيظا وحقدا من أولئك اليهود المنافقين الذين عاهدوهم ونقضوا عهدهم وظاهروا عليهم أعداء من المشركين وخاصة بنى قريظة الذين لم يروا في جوار محمد وصحبه إلا كل بر ووفاء ، لهذا كله اندفع المسلمون ضحوة اليوم الذي ذهب فيه الأحزاب إلى قتال بنى قريظة ونادى النبي في المسلمين محدثا عن الروح

٨٥

الأمين (ما وضعت الملائكة السّلاح بعد) وطلب من المسلمين أن يصلوا العصر في بنى قريظة.

تسابق المسلمون حول الراية التي يحملها على قاصدا بنى قريظة حتى إذا اقترب الجيش من منازل اليهود إذ بهم يسبون رسول الله ونساءه سبا قبيحا وقد بلغ ذلك النبي ، فلما دنا النبي من حصونهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟! فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فهل تجهل علينا؟!

ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة وانتهى الأمر بتحكيم سعد بن معاذ سيد الأوس وحليف قريظة في الجاهلية ، فحكم سعد بقتل الرجال وسبى الذراري من النساء والولدان وتقسيم الأموال ، فأورث ربك المسلمين أرض بنى قريظة الخصبة ، وديارهم وحصونهم وأموالهم الثمينة ، وكان الله على كل شيء قديرا ، وأقر النبي هذا القضاء الحازم ، وفي هذا نزل قوله تعالى :

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)

المفردات :

(صَياصِيهِمْ) : حصونهم (قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) : ألقى في قلوبهم الرعب ، وفي هذا التعبير من البلاغة العربية ما فيه.

أما معنى الآية ـ فيظهر مما قلناه سابقا.

٨٦

من آداب البيت النبوي

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠)

المفردات :

(أُمَتِّعْكُنَ) : أعطيكن المتعة ، وهي مال يعطى نفلا للمطلقة (وَأُسَرِّحْكُنَ) التسريح : الطلاق ؛ لقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)(بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : ظاهرة كالزنا (ضِعْفَيْنِ) أى : مثلين ومرتين ؛ لقوله تعالى : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ).

المعنى :

وهذه الآية متصلة بما تقدم ؛ إذا فيها الحث على منع إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو من أقرب الناس إليه ، وفيها أدب عال لبيت النبوة الأطهار وتربية لنسائه على العفة والكرامة وحب الله ورسوله ، ووصف دقيق لما كان عليه بيت النبي من التقشف.

يا أيها النبي قل لأزواجك مخيرا لهن ليخترن ما يرون : إن كنتن أيها النساء تردن الحياة الدنيا وزينتها الزائلة ، وتفضلنها على قربكن من رسول الله ، والتمتع بجواره الكريم ، ومجلسه الطاهر فتعالين أطلقكن وأعطيكن متعة بعد هذا.

٨٧

روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ـ فأذن لأبى بكر فدخل ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكنا ـ قال : فقال : والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة تسألنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «وهن حولي كما ترى يسألننى النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة كل يريد أن يجأ عنق ابنته ـ يضغط على عنقها ـ قائلا : تسألن الرسول ما ليس عنده؟! فقلن : والله لا نسأله شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن النبي شهرا أو تسعا وعشرين يوما ثم نزلت عليه هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) ـ إلى قوله : (لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).

وبدأ النبي يخير نساءه فبدأ بعائشة فقال لها النبي : يا عائشة «إنّى أريد أن أعرض عليك أمرا أحبّ ألّا تعجلي فيه حتّى تستشيرى أبويك» قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها هذه الآيات ، قالت : أفيك يا رسول أستشير أبوى! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة.

وهكذا فعل مع نسائه ، وقال العلماء : إنما أمر النبي عائشة أن تستأمر أبويها وتستشيرهما لمحبته لها ، ولعلمه أن والديها لا يشيران بالفراق أبدا ، وأما أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهن كما ترى ، حتى يعرف الناس جميعا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يتزوج للشهوة أبدا.

١ ـ خديجة بنت خويلد أول من تزوج من النساء تزوجها بمكة ومكثت معه بعد النبوة سبع سنين ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت ، وهي أول من آمن من النساء ، وكان لها فضل وعقل وبصر بالحياة ، وكانت لها مكانتها في قريش.

٢ ـ سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية دخل بها بمكة وتوفيت بالمدينة.

٣ ـ عائشة بنت أبى بكر ، الصديقة بنت الصديق ، حبيبة رسول الله وبنت حبيبه ، ولها مكانتها في العلم والسبق في الدين «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» حديث شريف ، ولم يتزوج النبي بكرا غيرها.

٤ ـ حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية تزوجها رسول الله ثم طلقها فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة.

٨٨

٥ ـ ومنهن أم سلمة تزوجها رسول الله من ابنها سلمة على الصحيح.

٦ ـ أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان تزوجها رسول الله وبنى بها بعد الهجرة بسبع سنين ، والذي أصدقها هو النجاشيّ ، لما مات زوجها تزوجها الرسول.

٧ ـ زينب بنت جحش تزوجها النبي بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة ولها قصة ستأتى.

٨ ـ زينب بنت خزيمة بن الحارث تزوجها النبي ومكثت عنده ثمانية أشهر ثم ماتت.

٩ ـ صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية سباها النبي يوم خيبر وتزوجها بعد أن أعتقها.

١٠ ـ ريحانة بنت زيد تزوجها في سنة ست وماتت بعد مرجعها من حجة الوداع.

١١ ـ ميمونة بنت الحارث الهلالية تزوجها (بسرف) وهي آخر امرأة تزوجها.

فكل نسائه أيم أو مسنة أو بنت زعيم الحي أو لها أولاد وقد قتل زوجها في الحرب فتزوجها إكراما له ولأولاده ، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة ، فلم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزوج لشهوة ، وإنما كان زواجه تأليفا للقلوب ، وسياسة رشيدة لبناء الدولة وتوحيد الكلمة.

وهناك نساء تزوجهن النبي ولم يدخل بهن فمنهن الكلابية. وأسماء بنت النعمان بن الجون ، وقتيلة بنت قيس ، وغيرهن مما هو مذكور في كتب السيرة.

وكان له من السراري سريتان : مارية القبطية وريحانة.

لما اختار نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله شكرهن على ذلك وكرمهن فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) (١). (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (٢) ، وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن مضاعفا. (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) فالله يضاعف لهن العذاب ضعفين لشرف منزلتهن وفضل درجتهن وتقدمهن

__________________

١ ـ سورة الأحزاب آية ٥٢.

٢ ـ سورة الأحزاب آية ٥٣.

٨٩

على سائر النساء أجمع ، وكيف لا يكون ذلك وهن نشأن في بيت النبوة ، ورضعن من لبنها وتمتعن بتلك البيئة الطاهرة فحق عليهن أن يدفعن هذا الثمن غاليا.

وكان ذلك ، أى : مضاعفة العذاب لهن على الله يسيرا ..

٩٠

من آداب أهل البيت وأوصافهم

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)

٩١

المفردات :

(يَقْنُتْ) القنوت : الطاعة في سكون والعبادة في خشوع (مَرَضٌ) : تطلع إلى الفسق والفجور (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) يقال : قررت في المكان أقر به : إذا أقمت فيه (وَلا تَبَرَّجْنَ) التبرج : الظهور مع إظهار ما يجب ستره (الرِّجْسَ) : الدنس الحسى (وَالْحِكْمَةِ) هي حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المعنى :

لما كان أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت النبوة ، ومصدر العلم والمعرفة ، ومنبع الحكمة وأساس الهداية كان الذنب منهن كبيرا ، والمعصية الصغيرة في قوة الكبيرة ، لذلك ضاعف الله لهن الجزاء ضعفين إذا أتين بفاحشة مبينة ، ومن يقنت منهن لله ورسوله ، وتعمل صالحا في سكون وخشوع وقنوت ، مع إخلاص في النية وصدق في الطوية لقربهن من رسول الله وشرفهن بصحبته ، وتمتعهن بنور الوحى. من يقنت منهن يؤتها الله أجرها مرتين ، ويضاعف لها الثواب ضعفين ، (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) نعم وقد أعد الله وهيأ رزقا كريما ـ لم يجر على يد أحد ـ في الجنة ، ولا غرابة فهن في منازل رسول الله في أعلى عليين فوق منازل البشر جميعا تكريما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذه آداب إلهية أمر الله ـ تعالى ـ بها نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك ، وكلها تهدف إلى بعد المرأة عن منطقة الخطر ، واجتنابها الطرق التي قد تؤدى بها إلى الوقوع في المعصية ، ونساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى الناس بالبعد التام عن هذا كله ، وإنما جاء الخطاب لهن أولا لأنهن في مركز القيادة وفي بيت النبوة وهن أمهات المؤمنين ، وعندهن الكثير من الأخبار ، والناس في أشد الحاجة لمعرفة سيرة الرسول إذ هو القدوة الحسنة للمسلمين ، فنساؤه معرضات للتحدث معهن وسؤالهن عن الوحى والحديث ، فكان النهى أولا ، وليعلم الجميع أن هذا دواء أعطى أولا لأطهر النساء وأعفهن على الله ، وفي قبوله فليتنافس المتنافسون.

يا نساء النبي لستن كأحد من النساء في الفضل والشرف والقرب من الرسول مصدر الخير والنور ، وهذا كقولهم : إن فلانا ليس كآحاد الناس ، على معنى أن فيه مزية وأفضلية ليست في غيره ، ونساء كذلك.

٩٢

يا نساء النبي لستن كبقية النساء فأنتن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين وليس النبي كالناس بل هو غيرهم كما يقول في الحديث : «لست كأحدكم» وقد تحقق فيكم شروط التقوى ، والأكرم عند الله هو التقى فلستن كغيركن.

وإذا كان الأمر كذلك فلا تخضعن بالقول ، ولا تلن فيه بل ليكن كلامكن مع الناس بجد وحزم وخشونة وقوة فلا يطمع الذي في قلبه مرض الفسق والفجور ، أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا ، وكلامهن فصلا ، ولا يكن على وجه الليونة والطراوة حتى يطمع فيهن ضعاف الإيمان ممن في قلوبهم مرض ، وفي عقولهم قصر.

وليس معنى هذا أن يكون أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حال فيها إيذاء وأن يقلن منكرا من القول! لا. بل أمرهن أن يقلن قولا معروفا عند الحاجة مع الكف والبعد عن مواطن الريبة وأفهام السوقة ومن في قلبه مرض.

وقرن في بيوتكن. ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، والجاهلية الأولى هي الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء التي تردى فيها العرب قبل الإسلام ، وليس هناك أولى وأخرى ، والتبرج المنهي عنه ظهور المرأة على وجه لا يرضاه الشرع تكريما لها وصونا لعفافها ومحافظة على مكانتها في مجتمعها.

نهى الله نساء نبيه عن التبرج ليعلم العالم أجمع ما في التبرج من الخطر الداهم ، وإذا خص الله الخطاب بهن ـ وإن كان المراد العموم ـ وهن أزواج حبيبه المصطفى فقد دل ذلك على أنه علاج وصف لبيت أكرم الخلق على الله وأحبهم وأقربهم لديه ، أفيليق بنا نحن المسلمين ألا نتأسى بأزواج النبي؟ وألا نعالج نساءنا بما عالج به الخبير البصير نساء حبيبه ورسوله المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعل ذلك بعض السر في تخصيص الخطاب بزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأمر الله نساء رسوله أن يقرن في بيوتهن وأن يقمن بها فلا يبرحنها إلا لضرورة ، فالبيت مملكة المرأة ، وهو معهد الطفولة ، ومصنع الرجولة ، وسكن الرجل ومستراحه ، وفيه يقضى نصف وقته ليستريح ، وفي البيت متسع لنشاط المرأة ، وفيه ما يستنفد حيويتها ، وهو في أشد الحاجة لها ولإشرافها حتى تخرج لنا جيلا جديدا ، وتبعث لنا بأزواج وإخوة يعرفون وطنهم وحقه ، ودينهم وواجبه.

٩٣

والشرع حينما أمر نساء النبي بأن يقرن في بيوتهن لم يحرم عليهن الخروج للحاجة مطلقا ولكن المهم إذا خرجن فلا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى فذلك خير لهن وايم الله!!

يا لله من النساء البارزات ، العاريات الكاسيات ، المائلات المميلات ، المتبرجات الكاشفات عن سوقهن ونحورهن ، أستغفر الله ، بل الكاشفات عن كل شيء!! الصابغات وجوههن بالأصباغ التي يندى لها وجه المروءة والرجولة ، الويل ثم الويل لتلك الشعور المكشوفة والسيقان والنحور الظاهرة!!

يا أيها النساء حافظن على أنفسكن ، واحفظن هذا الجمال لأربابه ، ولا تعرضنه عرضا في السوق فيقل بها بل يضيع ، فأحب شيء إلى الإنسان ما منع.

وليس معنى هذا أن الدين يكره الزينة أو النظافة ، لا : بل هو يدعو النساء إلى التزين ما استطعن ولكن لأزواجهن! أما أن تظل المرأة في بيتها وعند زوجها على حالتها الطبيعية فإذا برزت إلى الشارع وخرجت جمعت المساحيق ووضعت الأصباغ وحاولت إظهار كل جزء فيها ، لمن هذا؟! إن زوجك أولى به ، فإذا خرجت في الشارع لضرورة فليكن ذلك بأدب واحتشام وبعد عن التبرج الممقوت الذي كان يفعل في الجاهلية الأولى من الإماء وبعض الساقطات ، وإذا كان تبرج الجاهلية السابقة مذموما ، ونحن نعلم أن الناس كانوا فيها على جانب من شظف العيش وقلة المدنية وبداوة التفكير فما يكون الوضع الذي نحن فيه الآن والذي نراه في عواصم الأمم الإسلامية؟!

نهاهن الله عن الخضوع في القول والليونة فيه ، وعن التبرج وإبداء ما يحسن إخفاؤه ثم أمرهن بالصلاة المطهرة للنفس والمقومة للشخص والموصلة بالله ، وبالزكاة المنظمة للمجتمع ، المطهرة له من أدران الحسد والحقد ، والباعثة على التعاون ، وبطاعة الله ورسوله في كل شيء ، وليست هذه الأوامر والنواهي لشيء يعود نفعه على الله ـ معاذ الله ـ ولكن الباعث على ذلك كله إنما هو إرادة الله لأن يذهب عنكم (يا آل بيت النبي) الرجس والدنس ، ويطهركم من كل ما يشينكم تطهيرا كاملا يليق بكم.

ومن هم آل البيت؟ هم أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولاده كفاطمة وعلى والحسن. أما دخول أزواجه فيهم فلأن السياق السابق واللاحق فيهن ، وأما دخول على وفاطمة والحسن والحسين فلأن الله قال : ويطهركم بالميم ، ولو كان المراد الزوجات فقط لقال عنهن :

٩٤

ويطهركن ، ولورود أحاديث صحيحة تثبت ذلك ، على أن المسألة بسيطة جدّا للغاية ، والإسلام يكره المغالاة في المحبة والبغض مطلقا ولو كان لآل البيت.

واذكرن يا نساء النبي ما يتلى عليكن من آيات الله القرآنية ، والحكمة التي ينطق بها رسول الله ، واعملن بذلك كله إن الله كان لطيفا بعباده خبيرا بهم ، فكل ما أمر به وحث عليه فهو في منتهى الحكمة فتقبلوه واعملوا به.

يا نساء الأمة الإسلامية لستن كغيركن من نساء العالم أجمع. إن اتقيتن الله : فلا تخضعن في القول حتى يطمع فيكن الطامعون ضعاف الإيمان والعقول.

وقلن قولا معروفا ، فيه خير وبعد عن الشر ما استطعتم ..

وقرن في بيوتكن ولا تخرجن إلا لضرورة ، فإذا خرجتن فلا تتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وتظهرن في الشارع بهذا الوصف المنافى للآداب الإسلامية وأقمن الصلاة التي هي عماد الدين ، وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله في كل أمر ونهى فإن في ذلك كله خيرا لكن وأى خير؟ إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا ، فطهرن النفوس وأصلحن القلوب وأعمرنها بنور الإيمان إن الله لطيف بكن حيث أمركن بهذا خبير بحالكن وبنفوسكن وما ركب فيكن من غرائز تثار عند مخالطة الرجال ، وتندفع لأتفه الأسباب ..

وأما خروج عائشة ـ رضى الله عنها ـ في موقعة الجمل ، فما كان لحرب ، ولكن تعلق الناس بها ، وشكوا إليها ما صار إليه الحال ، ورجوا بركتها وإصلاح ذات البين بها ، وظنت هي فخرجت لتصلح بين الناس (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (١) وانتهى الأمر بطعن الجمل الذي تركبه فأركبها علىّ ـ رضى الله عنه ـ إلى المدينة في ثلاثين امرأة ، وكانت عائشة أم المؤمنين برة تقية مجتهدة مثابة في تأويلها مأجورة على فعلها. والله أعلم.

روى أن بعض النساء شكون إلى رسول الله أن كل شيء للرجال ، وأن النساء لا يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية.

وإن وضعها هنا وهي تحمل علامات الإيمان الكامل إشارة إلى ما يجب أن يعرف به

__________________

١ ـ سورة الحجرات آية ٩.

٩٥

أهل بيت النبوة ، وما يجب أن يكونوا عليه رجالا ونساء ، وأن يعملوا جاهدين على تحقيق تلك الأصناف ، وألا يتكلوا على قربهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله أعلم بكتابه.

إن المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، والقانتين والقانتات ، والصادقين والصادقات ، وهذا ترتيب حسن ، فالإسلام قول باللسان وعمل بالجوارح ، ثم إذا ثبت ورسخ كان الإيمان والاعتقاد والتصديق الكامل ، ثم بعد هذا عمل متواصل ، وقنوت لله وخضوع وإخلاص ، ثم بعد أن كمل نفسه بالشهادة والإيمان والعمل يدعو غيره صادقا في دعواه ، وأنها لله لا للدنيا ولا لشيء.

والصابرين والصابرات ، والخاشعين والخاشعات ، والمتصدقين والمتصدقات ، والصائمين والصائمات ، والحافظين فروجهم والحافظات.

نعم فبعد الصدق في الدعوة لله إيذاء وإيلام ، ولا ينفع صاحبها إلا الصبر ، وهل هو يكون متواضعا أم لا؟ فقال : والخاشعين والخاشعات ، ثم بعد هذا يتصدق بما تجود به نفسه ، جذبا للقلوب ، وإرضاء للنفوس.

وهو دائما يؤدب نفسه ويهذبها بالصيام حتى يكبح جماحها ، ويردها عن غيها ، ويحفظ فرجه من ثورات الشهوة الجامحة ، وهل هم في هذا كله يذكرون الله أم لا؟ فقال : هم يذكرون الله ، ولا ينسونه أبدا ، يذكرونه بقلوبهم ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب!!

هؤلاء الذين تحقق فيهم هذا الوصف الجامع أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما جزاء بما كانوا يعملون ..

قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ

٩٦

أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)

المفردات :

(الْخِيَرَةُ) : الاختيار (مُبْدِيهِ) : مظهره (وَطَراً) الوطر : كل حاجة المرء له فيها همة ، والمراد ، بلغ ما أراد من حاجته منها (حَرَجٌ) : ضيق وإثم.

المعنى :

زيد بن حارثة بن شرحبيل كان عبدا لخديجة فوهبته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقه وتبناه فكان يدعى زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فقيل : زيد بن حارثة.

وزينب هذه بنت جحش ، وأخوها عبد الله بن جحش ، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي من ذؤابة قريش.

٩٧

روى أن رسول الله خطب زينب بنت عمته فظنت أن الخطبة لنفسه ، فلما تبين أنه يريدها لزيد كرهت ذلك وامتنعت وامتنع أخوها عبد الله لنسبها ومكانتها من قريش وأن زيدا كان بالأمس عبدا ، فلما نزل قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) رضيا وقال أخوها : مرني بما شئت ، فزوجها رسول الله لزيد.

نعم ليس لمؤمن ولا مؤمنة ـ بهذا الوصف ـ إذا أمر الله ـ عزوجل ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر أن يعصياه بحال ولا ينبغي منهم ذلك ، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهو حريص عليهم وبهم رءوف رحيم ، ومن يختر خلاف أمر الله ورسوله فقد عصى وضل ضلالا مبينا يستحق عليه إثما كبيرا.

هذه المرأة التي أكرهت على الزواج من زيد لأنها شريفة وهو عبد أعتق ، ولم تقبل إلا امتثالا لأمر الله ورسوله ، ماذا تنتظر منها؟ مهما كان إيمانها! إنها إنسانة ومعها نفس لوامة ، فلم تعاشر زيدا معاشرة الأزواج ، وكانت له كارهة وعليه متعالية ، وزيد رجل عزيز بالإيمان يعتقد أن أكرم الناس عند الله الأتقياء ، وأنه لا فضل لإنسان على آخر إلا بالتقوى ، لهذا كانت حياتهما الزوجية غير سعيدة ، وكان زيد يشكو منها لرسول الله كثيرا.

روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد أوحى إليه : أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها ، فلما تشكى زيد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلق زينب وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد طلاقها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جهة الأدب والوصية : «اتّق الله في قولك هذا وأمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها زيد ويتزوجها هو ـ وهذا ما أخفاه النبي في نفسه ـ ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها وخشي الرسول من كلام المنافقين وقولهم : إن محمدا تزوج زينب بعد زيد وهو مولاه.

وقد عاتبه الله على هذا القدر حيث خشي الناس في شيء قد أباحه الله له لحكمة عالية وعلة سيذكرها القرآن (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) وعاتبه ربه حيث قال لزيد : أمسك عليك زوجك واتق الله مع علمه بأنه سيطلق ، وحيث خشي الناس والله أحق بالخشية في كل حال.

٩٨

وليس في أمر النبي لزيد بالإمساك وعدم الطلاق ـ مع علمه بأنه مطلق حتما ـ شيء ، فالله يأمر الناس جميعا بالإيمان ، وقد علم أن منهم المؤمن المستجيب والكافر الذي يستحيل عليه أن يجيب ، وإنما أمره ليقطع عذره ، ويقيم عليه حجته.

ولما انقضت عدة زينب خطبها رسول الله ودخل بها بغير إذن ولا عقد ولا صداق لأن الله زوجها له من فوق سبع سموات.

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) ـ مواليهم ومن تبنوهم ـ (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) وكان أمر الله في كل شيء مفعولا لا محالة إذ هو صاحب الأمر ، وإليه يرجع الأمر كله.

ما كان على النبي من حرج وليس عليه إثم ولا ضيق في كل شيء فرضه الله وسنه له وهكذا الأنبياء جميعا ، وتلك سنة الله في الذين خلوا من قبله من الأنبياء ، وكان أمر الله قدرا مقدرا من لدن الحكيم الخبير ، والعليم البصير ، هؤلاء الأنبياء هم الذين يبلغون رسالات ربهم متوكلين عليه لا يخشون أحدا غيره ، وهذا شأن المؤمن الصادق ، فما بال الأنبياء والمرسلين؟! وكفى بالله حسيبا ورقيبا ، وهو على كل شيء شهيد.

أيها الناس : ليس محمد أبا أحد من رجالكم حتى تقولوا : كيف يتزوج محمد زوجة ابنه ومولاه؟ ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين وإمام المرسلين لا نبي بعده به ختمت الرسالات ، وإليه انتهى الوحى من السماء ، وانقطعت الأوامر الإلهية اكتفاء بالأمر الدائم والدستور المحكم الذي أنزل من لدن حكيم خبير على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان الله بكل شيء عليما فجعل محمدا خاتم الأنبياء ورسالته عامة شاملة كاملة فيها الخير إلى يوم القيامة.

ومن المؤسف أن تندس في كتب التفسير أقوال تنسب إلى أكابر العلماء ، والله يعلم أنهم برآء ، أو هي في الواقع سموم إسرائيلية ، وضعها من أسلم من اليهود عن حسن قصد أو عن سوئه ، ومنها ما قيل في تفسير هذه الآيات من نسبة أمور لا تليق بأى رجل عادى فضلا عن أشرف الخلق المشهود له من كافة الناس أنه رجل صادق ذو خلق. (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم آية ٤].

قالوا : إن محمدا رأى زينب فأحبها ثم كتم هذا الحب ، ثم لم يجد بدا من إظهاره

٩٩

فأظهره ، ورغب في زينب فطلقها زوجها وتزوجها ، وزعموا أن العتاب في الآية لكتمان حبه لزينب.

ونظرة بسيطة إلى تاريخ زينب وظروفها في زواج زيد تجعلنا نؤمن بأن سوء العشرة التي كانت بين زينب وزيد إنما هو من اختلافهما اختلافا بينا في الحالة الاجتماعية فزينب شريفة ، وزيد كان بالأمس عبدا. وقد أراد الله امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ العصبية القبلية والشرف الجاهلى ، وجعل الشرف في الإسلام والتقوى فخضعت زينب مكرهة ، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان الألم والضيق.

ومحمد هذا كان يعرف زينب من الصغر لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه؟ وكيف يقدم إنسان امرأة لشخص وهي بكر ، حتى إذا تزوجها وصارت ثيبا رغب فيها؟

لا يا قوم : تعقلوا ما تقولون. وتفهموا الحق لوجه الحق تدركوه بلا تلبيس ولا تشويش.

وانظر إليهم وهم يقولون : إن الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ؛ ولهذا عوتب ، وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره؟!

ولكن الحق هو أن هذا الزواج كان امتحانا في أوله لزينب وأخيها حيث أكرها على قبول زيد ، وفي النهاية كان امتحانا قاسيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يؤمر به ، ويعلم نهايته ، وزينب تحت مولاه زيد ، والحكمة ـ كما نطق القرآن ـ هو تحطيم مبدأ كان معمولا به ومشهورا عند العرب هو تحريم زواج امرأة الابن من التبني كتحريمها إذا كان الابن من النسب ، ولتغلغل العادة في النفوس جاء هدمها على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى يد زيد بن حارثة مولاه.

فالذي كان يكتمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه تأذيه من هذا الزواج المفروض وتراخيه في إنفاذ أمر الله به وخوفه من لغط الناس ـ وبخاصة المنافقين ـ عند ما يجدون نظام التبني قد انهار بعد ما ألفوه ، ولهذا فقد عوتب.

هذه الحادثة تلقفها المستشرقون ومن على شاكلتهم من المسلمين ، وخبوا فيها ووضعوا وأباحوا لأنفسهم الخوض في الأعراض ، والتكلم في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصويره بصورة يترفع عنها كثير من الناس ، وكان سندهم في ذلك كله ما نقلته كتب التفسير

١٠٠