التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

دينهم ، لأنه ملك له دولة وله سلطان ، وله جيش منظم ، وخيل معدة ، وأمر بإحضارها وإمرارها عليه لينظرها ويبدي رأيه فيها ، وهو لا يحب الخيل لذاتها وإنما يحبها لأمر الله ، وتقوية دينه وتثبيت دعائمه.

ثم لما سارت الخيل أمامه وتم عرضها حتى توارت عنه ، وغابت عن بصره أمر قواده أن يردوها إليه فلما عادت طفق يمسح مسحا بسيقانها وأعناقها ، وإنما فعل ذلك تشريفا لها وتكريما ، وليرى رأيه في الخيل لأنه على علم بها وبعيوبها.

ولقد فتنا سليمان ، فتنة الله أعلم بها ، وألقينا على كرسيه جسدا ، ثم أناب ، وهذه الفتنة تكلم فيها القصاص والإسرائيليون كثيرا ، والذي نختاره ما ذكره أئمة التفسير المحققون من أمثال أبى السعود والفخر والآلوسي وغيرهم من أفاضل العلماء ، وكان مرجع آرائهم إلى القول بعصمة الأنبياء ومنع تمثل الشيطان بهم ، وغلق باب زعزعة الناس في معتقداتهم ، وأظهر ما قيل في فتنة سليمان ـ عليه‌السلام ـ ما روى مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال : قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتى كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى ، ولم يقل (إن شاء الله) فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ، هذا الحديث ثابت في الصحيحين البخاري ومسلم ، وروى بعدة طرق ، تلك هي فتنة سليمان كما وردت في الحديث وأما إلقاؤه على كرسيه جسدا فأنه حين الفتنة كان يجلس على كرسي الحكم جسدا لا روح فيه لأنه لما لم يقل : إن شاء الله كأنه ارتكب ذنبا فصار بسببه جسدا ، ثم تاب وأناب.

وأما قول سليمان : رب اغفر لي فلا يصح أن يكون هذا دليلا على صدور الزلة منه كما قال القصاص مستندين إلى أن طلب المغفرة يدل على سبق الذنب.

فالإنسان ولو كان نبيا لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى ، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ألم تر إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة».

وانظر إلى سليمان ، وقد طلب من الله المغفرة قبل طلبه الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، هذا دليل على طلب المغفرة ، والرجوع إلى الله سبيل وطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ

٢٤١

مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) [نوح ١٠ ـ ١٢]

ولقد طلب سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر له ربه الريح حالة كونها جارية بأمره ، لينة لا تعب معها ، وإن كانت في الأصل عاصفة قوية فهي رخاء لينة تجرى بأمره حيث أراد.

وسخر الشياطين له تعمل تحت أمره من كل بناء وغواص يغوص في البحار لاستخراج الدر منها والأصداف ، وآخرين منهم مقرنين في الأصفاد والقيود خاضعين لأمره ، عاملين تحت إذنه.

هذا ـ والإشارة إلى ما تقدم من إعطاء الملك الواسع والتسلط على الرياح والجن والشياطين ـ عطاؤنا الخاص لك فأعط من تشاء وامنع من تشاء غير محاسب على ذلك يوم القيامة.

وإن لسليمان عند ربه لزلفى وقربة وكرامة وحسنى ، وله حسن مآب ومرجع في الجنة ، وإن ختام القصة بهذا لدليل على أن كل ما قيل عن سليمان مما هو ثابت في كتب أهل الكتاب أو عند قصاص الأخبار من المسلمين خرافة وأكاذيب لا تليق بمركز النبوة والله أعلم.

أيوب عليه‌السلام

وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)

٢٤٢

المفردات :

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) اركض : التحريك ، ومنه : ركض الدابة : إذا حرك راكبها رجليه والمراد : اثبت (ضِغْثاً) والضغث : الحزمة الصغيرة من الحشيش.

المعنى :

للناس فيما يقصون عن أيوب طريقان ، أحدهما يقول : إن أيوب مسه الشيطان في بدنه وماله بنصب وعذاب ، ثم يرسلون خيالهم في تصوير المرض الذي أصابه حتى نفر الناس منه إلى أبعد الحدود المعقولة وغير المعقولة ، وهذا بلا شك باطل وأى باطل لا يستسغيه عقل مسلم ، فإنا نعتقد أن النبي يستحيل عليه أن يصاب بمرض جسمي ينفر ؛ فإنه أرسل ليهدى الخلق ويحتك بهم ، فليس من الجائز عقلا أن يكون بحيث ينفر منه الناس ، وهل يقدر الشيطان على البلاء بالمرض إلى هذا الحد ، لو كان كذلك ما الذي منعه من إصابة أعدائه الألداء جميعا كالأنبياء والمرسلين والهداة والمرشدين بهذا أو أشد منه؟ فإنهم أعداء حقيقة. وكيف يتصور مسلم في الشيطان غير ما حدده له ربه حيث يقول : (ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [يوسف ٢٢] فقد صرح الله بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص ٨٢ ، ٨٣].

وعلى هذا الأساس فالمعقول في قصة أيوب هو أن الله أمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر عبده الممتثل لأمره أيوب وقت أن نادى مستغيثا به : أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب. مسه الشيطان بوسوسته وإلقاء الخواطر الفاسدة في ذهنه ، وإبليس وجنده يتحينون الفرص. ويطرقون لكل إنسانا بابا خاصا به. ويدخلون عليه من النقطة الضعيفة عنده ـ والله أعلم ـ هل دخل الشيطان على أيوب من جهة بدنه إذ كان مريضا صابرا ، أو من جهة ماله أو ولده ، أو من جهة قومه ودعوته لهم؟ الله أعلم.

ثم أمر من قبل الله أن يركض برجله وأن يضرب الأرض بها ثابتا مستقرا غير عابئ بما حوله من أعاصير ، فالعلاج الوحيد عنده هو ما أنزله الله عليه وهداه إلى العمل به فهو

٢٤٣

الذي يغسل الأوضار والأدران وهو المغتسل البارد والشراب ، والقرآن كثيرا ما يكنى عن الوحى بالماء والمطر ، ولا شك أن كلام الله هو العلاج لكل داء والدواء لكل مرض (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً). [الإسراء ٨٢].

ووهبنا له أهله وأضعافهم معه ، ولعل المراد بالأهل أتباعه في الدين ، ووهبنا له ذلك رحمة منا وعظة وذكرى لأولى الألباب الذين يعلمون أن الأمر بيد الله ، وأنه يكشف السوء ويجيب المضطر ، ويدافع عن عباده المؤمنين الصابرين.

وأمر أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث. قالوا : إن امرأته خالفته في أمر فأقسم ليضربنها مائة فأرشده الله إلى أخذ (قنو) فيه مائة شمروخ أو يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضرب بها ولا يحنث.

إن ربك وجد أيوب صابرا على البلاء شاكرا على النعماء لأنه العبد أيوب ، وإنما مدحه ربه بهذا لأنه أواب.

وهذه ثالث قصة ذكرت في هذه السورة ، وكلها فيها بلاء وفتنة واختبار وصبر ، ثم نجاح في البلاء والفتنة ، ولأصحابها زلفى ومكانة وحسن مآب عند الله ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

إبراهيم عليه‌السلام ونسله

وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ

٢٤٤

(٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)

المفردات :

(أُولِي الْأَيْدِي) : أصحاب القوة (وَالْأَبْصارِ) : جمع بصر ، أى : بصيرة في الدين (أَخْلَصْناهُمْ) : جعلناهم خالصين (بِخالِصَةٍ) : بخصلة خالصة لا شوب فيها (الْمُصْطَفَيْنَ) : جمع مصطفى ، أى : المختارين (الْأَخْيارِ) : جمع خير (قاصِراتُ الطَّرْفِ) : حابسات نظرهن على الأزواج (أَتْرابٌ) : جمع ترب ، أى : لدات في سن واحدة (نَفادٍ) أى : انقطاع.

المعنى :

واذكر عبادنا إبراهيم الخليل أبا الأنبياء ، وإسحاق ابنه ، ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم اذكرهم وقد وصفوا بالعبودية وأنهم أصحاب القوة في الطاعة ، والبصيرة في الدين فهم من أولى العزم الثابت والنظر الكامل في أمور الدين ، ولا غرابة في ذلك فتلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار الحقيقة دار المثوبة. وهذا تعليل للحكم عليهم بأنهم أولو قوة وبصيرة ؛ إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها ، هي تذكرهم دائما الدار الآخرة ، فإن خلوصهم في الطاعة ، وصدقهم في العمل كان بسبب تذكرهم الحياة الباقية فإنها مطمع أنظارهم ، وأمل نفوسهم في جوار الله ـ عزوجل ـ والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا بتذكر الآخرة ، والخوف من الحساب يوم الحساب.

وإنهم عندنا لمن المصطفين المختارين الأخيار.

واذكر إسماعيل ابن إبراهيم وأبا النبي الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليسع وذا الكفل ، وكل الأنبياء والمرسلين الذين ذكروا هنا أو ذكروا في غير هذا الموضع من الأطهار الأخيار.

٢٤٥

هذا ـ والإشارة إلى ما وصفهم به ـ ذكر لهم ، وأى ذكر أبعد من هذا؟

وإن للمتقين وأصحابهم وأتباعهم ـ وهم يدخلون في ذلك من باب أولى ـ لحسن مآب ومرجع في الآخرة ، فهؤلاء لهم شرف وذكرى في الدنيا ، ومثوبة في الآخرة ، هي جنات عدن وإقامة يقيمون فيها ، حالة كونها مفتحة أبوابها لهم ، يدعون فيها بكل فاكهة كثيرة وشراب ، ولهم فيها ما يدعون نزلا من غفور رحيم.

وعندهم الحور العين مقصورات الطرف على أزواجهن ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، حور كاللؤلؤ المكنون ، وهن عرب أتراب.

هذا ما أعد لكم أيها الصابرون المحتسبون في يوم الحساب.

إن هذا ـ ما ذكر من نعيم دائم مقيم ـ لرزقنا لأهل الجنة ماله من نفاد ولا انقطاع (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) لهم أجر غير ممنون.

إن ذلك لحق تخاصم أهل النار

هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)

٢٤٦

المفردات :

(لِلطَّاغِينَ) : للظالمين من الكفار (مَآبٍ) : مصير ومرجع (الْمِهادُ) : ما مهدوا لأنفسهم (حَمِيمٌ) : الماء الحار (غَسَّاقٌ) : اسم لما يجرى من صديد أهل النار (أَزْواجٌ) : أصناف وأجناس (فَوْجٌ) الفوج : الجمع الكثير (مُقْتَحِمٌ) : داخل فيها بشدة (مَرْحَباً بِهِمْ) الرحب : السعة ، ومنه الرحبة للفضاء الواسع في الدار (صالُوا النَّارِ) : داخلوها (الْقَرارُ) : المقر وهو جهنم (ضِعْفاً) : مضاعفا ، ومعناه : ذا ضعف (زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) : مالت عنهم احتقارا لهم.

المعنى :

ما ذكر سابقا كان للمتقين ، وما هنا للطغاة المشركين. الأمر هذا ، وإن للطاغين لشر مآب ومصير. وإن لهم لجهنم يصلونها ، ويدخلونها يصلون حرها ولهيبها فبئس المهاد ما مهدوه لأنفسهم من أعمال العذاب ، هذا ولعل الإشارة إليه (بهذا) ليعلم أنه متميز عن غيره كأنه لا عذاب إلا هو ، وإذا كان الأمر كذلك فليذوقوه ؛ هذا حميم وغساق قد أعد لمن يصلى جهنم.

وعذاب آخر من شكله على شاكلته في الشدة والفظاعة أزواج وأجناس لا يعلم كنهها إلا الله.

هذا فوج وجمع آخر مقتحم النار داخل فيها معكم أيها القادة والمتبوعون ، وتقول الملائكة لهم : لا مرحبا بهم ، إنهم صالوا النار ، وهذا تعليل لدعاء الملائكة عليهم ، ويحتمل أن يكون الدعاء (لا مرحبا بهم) من المتبوعين على التابعين ، وماذا قال الأتباع الداخلون النار؟ قالوا : بل أنتم لا مرحبا بكم أيها القادة والمتبوعون ، أنتم قدمتم العذاب لنا ، وأنتم أغريتمونا على عملنا فاستحققنا ذلك العذاب فأنتم أحق بهذا الدعاء ، فبئس المقر جهنم لنا ولكم قالوا ـ أى : الأتباع ـ : ربنا من قدم لنا هذا العذاب فزده عذابا مضاعفا من النار.

وقالوا ، أى : الطغاة بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر : مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار الأرذال الذين لا خير فيهم؟ قال ابن عباس : يريدون

٢٤٧

أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفقراء كبلال وصهيب وعمار ، فيقول : أين عمار؟ أين صهيب؟ .. أولئك في الفردوس ينعمون ، وا عجبا لكم يا زعماء قريش!! أتخذناهم سخرية واستهزاء أم زاغت عنهم الأبصار؟! والمعنى : أى الأمرين فعلنا بهم : السخرية والاستهزاء أم الازدراء بهم وتحقيرهم وأن الأبصار تعلو عنهم وتقتحمهم؟! والمراد إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم فإنهم قد فعلوا كل ذلك معهم. إن ذلك الذي حكى عنهم لحق ثابت لا شك فيه ، هو تخاصم أهل النار ، وفي الإبهام أولا والبيان ثانيا زيادة تقرير وتأكيد ..

من الأدلة على صدق النبي

قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)

المفردات :

(نَبَأٌ عَظِيمٌ) : خبر مهم جدّا (بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) : هم أشرف الخلق الذين يملؤون العيون بهجة ورواء.

وهذا رجوع إلى مناقشة الكفار ، وإثبات النبوة والتوحيد والبعث.

المعنى :

قل لهم يا محمد : إنما أنا منذر من يخشاها ، وما من إله إلا الله الواحد القهار ، وقد أنذرتكم عذابا شديدا وحذرتكم يوما يجعل الولدان شيبا وجئت بالتوحيد ونفى

٢٤٨

الشركاء ، وإثبات أن الله هو الواحد القهار ، رب السموات والأرض وما فيهما وهو العزيز الغفار ، أيها الناس إنما هو نبأ عظيم ما جئتكم به. وهو جد ليس بالهزل ، وأنتم عنه وعن دلائله معرضون ، يا قوم هذه الدلائل ناطقة بصدقى ، وهذه المعجزة الباقية الخالدة شاهدة ، وهي القرآن.

فما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ، والمراد بالملإ الأعلى : ما عدا البشر وقت أن قالوا شبههم في صورة المخاصم : أتجعل فيها من يفسد فيها ، وقول إبليس لآدم : أنا خير منه ، وقول الله على لسان ملك لآدم : أنبئهم بأسمائهم فإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل دليل واضح على صدقه ، وأن هذا القرآن من الله لا من عنده فهو نبي أمى ولم يقرأ ولم يكتب ولم يجلس إلى معلم ، وإنما هو وحى يوحى ، وما يوحى إلى إلا أنما أنا نذير لكم من بين يدي عذاب شديد ، فاعتبروا يا أولى الأبصار.

قصة خلق الإنسان وإكرام الله له

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ

٢٤٩

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)

المفردات :

(سَوَّيْتُهُ) : أكملت خلقه (فَقَعُوا لَهُ) : فاسقطوا له ساجدين (اسْتَكْبَرَ) : عد نفسه كبيرا بغير استحقاق (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) : تمثيل لكونه ـ عليه‌السلام ـ معتنيا بخلقه (الْعالِينَ) : المستحقين للعلو. (رَجِيمٌ) : مرجوم ومطرود. (فَأَنْظِرْنِي) : فأمهلنى (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) : لأزينن لهم المعاصي (نَبَأَهُ) : خبره المهلك (حِينٍ) : مدة من الزمن.

وهذا تفصيل لأخبار الملأ الأعلى إذ يختصمون ، فهو بيان لما أجمل من الاختصام ، وإن ختام هذه السورة ذي الذكر العالي بهذا الختام الرائع لبيان فضل الله على آدم وبنيه ، ومعاملة الملائكة له ، ومعاملة إبليس لأبينا ، وليعلم الناس بعض السر في عناد المشركين وشركهم حتى يحذروا من إبليس وجنده إنه لختام رائع حقا.

المعنى :

أنا رسول رب العالمين ، وها أنذا أبلغكم عن ربي ما كان حاصلا مع الملأ الأعلى إذ يختصمون ـ وما كان لي ولا لقومي علم بذلك ـ إذ (١) قال ربك للملائكة ، ويدخل معهم إبليس للمجاورة والملازمة ، إذ لم يكن منهم على التحقيق (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٢) إذ قال لهم : إنى خالق بشرا من طين (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)

__________________

(١) إذ قال ربك بدل من إذ يختصمون.

٢ ـ سورة الكهف آية ٥٠.

٢٥٠

[الحجر ٢٦ ، ٢٨ ، ٣٣]. فإذا سويته ، وأتممت خلقه المادي ، ونفخت فيه من روحي ، والنفخ تمثيل لإفاضة ما به الحياة ، فليس هناك نافخ ولا منفوخ ، وإنما المعنى : فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة التي هي من أمر الله وشأنه فقعوا له ساجدين سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتأليه.

فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، و (كل) للإحاطة ، و (أجمع) للاجتماع إلا إبليس اللعين فإنه أبى واستكبر واستعظم ولم يكن من الساجدين ، وكان من الكافرين المستكبرين المتعاظمين على أمر الله.

وماذا قال الله له عند ذلك؟ قال ـ عزوجل ـ على سبيل الإنكار والتوبيخ :

يا إبليس أى شيء منعك من السجود لما خلقته بيدي؟ ما الذي منعك من السجود لآدم وقد خلقته بيدي ، وصنعته بنفسي ، وقولك : فعلت هذا بيدي مثلا ، وصنعته بنفسي : تمثيل لكونك معنيا بفعله عناية تامة.

يا إبليس أستكبرت أم كنت من العالين ..؟! أى : أتكبرت ادعاء من غير استحقاق أم كنت من العالين المستحقين لذلك؟ والمراد إنكار هذا وذاك.

وقال إبليس مدفوعا بطبعه المفهوم من طبيعة النار التي خلق منها ـ فإن طبعها الحماقة والاندفاع والتعالي والإضرار ـ قال إبليس : أنا خير منه ، لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين.

قال الله له ـ ردّا على عمله القبيح ـ : فاخرج من الجنة فإنك رجيم مطرود من كل خير وبركة ، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين.

قال إبليس : إذا جعلتني يا رب رجيما مطرودا من رحمتك فأنظرنى وأمهلنى إلى يوم يبعثون عند النفخة الثانية ، فلا تمتنى في الدنيا بل أمهلنى مع آدم وذريته إلى يوم البعث ، طلب هذا الطلب ليظل يوسوس لآدم وذريته فيأخذ ثأره من آدم فإنه هو السبب في طرده من رحمة الله ، فاتعظوا يا بنى آدم واحذروا ..

قال الله ـ سبحانه ـ : إنك من المنظرين إلى ذلك اليوم المعلوم ، وهكذا اقتضت إرادة الله أن يظل إبليس وجنده في وضع يتمكن معه من الوسوسة.

٢٥١

قال إبليس : فبعزتك وجلالك لأغوينهم أجمعين بتزيين المعاصي لهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين الذين أخلصتهم لعبادتك ، وأصفيتهم لنصرة دينك ، وعصمتهم من الغواية. وقرئ المخلصين الذين أخلصوا لله في العبادة والطاعة.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١).

قال ـ عزوجل ـ : فالحق منى ، وأنا الحق ، وإنى أقول الحق. لأملأن جهنم منك يا إبليس ومن ذريتك الشياطين ومن تبعك في الغواية والضلالة من ذرية آدم أجمعين.

يا كفار مكة هذه آيات شاهدة ناطقة على صدقى ، وقد أخبرتكم خبرا صدقا عن الملائكة ، وعن إبليس وطبيعته ، وعن الإنسان وغريزته ، والواقع يؤيد ذلك كله ، أليس هذا دليلا على صدقى؟! أيها المشركون : أنا لا أسألكم على القرآن ، وهذا النور الذي أسوقه لكم لا أسألكم على ذلك شيئا أبدا من حطام الدنيا الفاني. وما أنا من المتكلمين الذين يدعون ويتصنعون ويتحلون بما ليس فيهم وأنتم تعلمون عنى ذلك فإنى أنا منكم ونشأت بينكم.

ما هو إلا وحى من الله يوحى إلى. وما هو إلا ذكر للعالمين ونور. وهدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فيه الشفاء والذكرى والموعظة والعلاج والدواء من كل داء.

ولتعلمن نبأه حقيقة بعد حين من الزمان (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢). وقد ذكرت هذه القصة وكررت قبل ذلك في سورة الحجر وغيرها.

__________________

١ ـ سورة الحجر آية ٤٢.

٢ ـ سورة فصلت آية ٥٣.

٢٥٢

سورة الزمر

وبعضهم يسميها سورة الغرف ، وهي مكية. قيل : كلها ، وعند بعضهم كلها إلا آيتين نزلتا بالمدينة (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) وهي خمس وسبعون آية.

وكأنها امتداد لآخر سورة (ص) حيث ذكر فيها خلق حواء من آدم ، وخلق الناس كلهم ، ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر أحوال القيامة من حساب وجنة ونار ، وختم بالقضاء العدل بين الناس فالحمد لله رب العالمين ، ترى أن الله ذكر أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد مع اتصال ذلك كله بقصة آدم ـ عليه‌السلام ـ ذلك هو مجمل ما جاء في السورة ، وزيادة على ما فيها من التعرض إلى نقاش المشركين وغيره مما هو معروف في السور المكية ، وستعرفه في شرحها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)

٢٥٣

المفردات :

(زُلْفى) : قربة (لَاصْطَفى) : لاختار.

وهذه سورة مكية تكلمت أولا عن القرآن الذي أنزل على محمد بن عبد الله بالحق وناقشت المشركين في عقائدهم ، ونفت عن الله اتخاذ الولد.

المعنى :

ذلك الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت ، تنزيل من الله العزيز الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض ، الحكيم صاحب الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه ، والله سبحانه حكيم حقا لأنه عالم بكل الجزئيات ، لا يعجزه شيء من الممكنات ، ومستغن عن كل الحاجات ، وإذا كان هذا كلامه وجب أن نتبعه في كل شيء وأن نؤمن به ، وقد شرع الله في الكلام على ما أنزل عليه بعد الكلام على القرآن نفسه فقال : إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن ملتبسا بالحق الذي لا شك فيه ، وبالصدق الذي ليس معه باطل ولا هزل ، فكل ما فيه حق لا ريب فيه ، موجب العمل به حتما ، وإذا كان الأمر كذلك فاعبد الله أيها الإنسان مخلصا له الدين عبادة ليس فيها رياء ولا سمعة عبادة خالصة لوجه الله ليس معها شرك ولا وثنية.

ألا لله الدين الخالص ، نعم لله وحده الدين الخالص فلا شريك له ولا ند ، فالاشتغال بعبادة الله على سبيل الإخلاص أفادته الآية الأولى ، وأما نفى الشريك والبعد عن عبادة غير الله فقد أفادته الآية الثانية (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) وعلى ذلك فلا تكرار ، القرآن يحثنا على عبادة الله وحده مع الإخلاص والصدق في العمل ، والذين اتخذوا من دون الله آلهة عبدوها وأشركوها بالله ويقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا زلفى .. كانوا إذا قيل لهم من ربكم؟ ومن خلقكم؟ ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا : الله! فيقال لهم : ما معنى عبادتكم غيره؟ قالوا : عبدناهم ليقربونا إلى الله زلفى. ويشفعوا لنا عنده (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً). [الأحقاف ٢٨]

كأنهم يقولون : إنا نتخذهم وسطاء وشفعاء لله ، والله ـ سبحانه ـ ليس في حاجة إلى ذلك إذ هو العليم الخبير بخلقه البصير بهم ، واسع الفضل والرحمة فليس في حاجة إلى

٢٥٤

واسطة أو شفيع ، وفرق شاسع بين الخالق والمخلوق ، وقياس فاسد جدا أن تقيس الرئيس من بنى الإنسان على الرحمن العليم الخبير.

إن الله يحكم بين الخلائق الموحدين والمشركين. إن الله لا يهدى من هو كاذب في اتخاذ الشركاء كافر بالله وبحقوقه وصفاته.

وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، عجبا لهم!! لو أراد الله أن يتخذ ولدا لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهو الابن ، فكيف نسبتم إليه البنات؟! تجعلون لكم البنين ، ولله البنات ، تلك إذا قسمة ضيزى؟!

سبحانه وتعالى عما يشركون ، سبحانه هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وإذا كان الله واحدا في ذاته وصفاته وأفعاله لم يكن من المعقول أن يكون له ولد ؛ لأن الولد من الصاحب والصاحبة ، وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد ، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟! وكيف يحتاج إلى ولد وهو القهار الذي يقهر غيره فلا يحتاج إلى شيء أبدا ، والمحتاج إلى الولد مقهور ، أما القاهر فهو الواحد الأحد الغنى عن الشريك والصاحبة والولد ، تبارك اسمه وتعالى جده ، سبحانه له الملك وله الحمد ..

من دلائل عظمة الله وكماله وقدرته!

خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ

٢٥٥

الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)

المفردات :

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) : يلقى هذا على هذا ؛ فإن التكوير في اللغة : طرح الشيء بعضه على بعض ، ومنه كور المتاع والعمامة ، أى : ألقى بعضه على بعض (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) : لأجل معين محدود (أَزْواجٍ) : جمع زوج وهو اسم لكل واحد معه غيره ، فإذا انفرد فهو فرد ، والمراد الذكر والأنثى (وِزْرَ) حمل.

ثبت مما تقدم في الآيات السابقة أن الله منزه عن الصاحبة والولد لأنه إله واحد قهار غالب لكل شيء. ومن كان كذلك فهو كامل القدرة غنى عن كل شيء ، وهنا بين بعض مظاهر القدرة.

المعنى :

ذلكم الله خالق كل شيء ، القادر على كل كائن حي ، المنفرد بالوحدانية والملكوت ، الغنى عن الصاحبة والولد والشريك ، الذي خلق السموات وعوالمها ، والأرض وما عليها ، خلقها بالحق الذي لا يأتيه باطل ولا عبث ولا لهو. يكور الليل على النهار ، ويكور النهار على الليل ، سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة يخلف بعضه بعضا ، فهو يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل. فالتكوير. وجعل كل من الليل والنهار خلفة. وإيلاج زمان أحدهما في الآخر ، كل هذا بمعنى واحد. فإن هذا الليل بجحافله وهدوئه وسكونه مع الظلام الدامس. إذا طرح شيء من هذا وألقى. ثم جيء بدله بالنهار وضوئه وضجيجه وشمسه وحره. فيه ما فيه من دلائل العظمة وكمال

٢٥٦

القدرة ، وهو الله الذي سخر الشمس والقمر. وذللهما. كل يجرى لأجل مسمى. وزمن معلوم ونظام محدد ، وبعده تنفطر السموات والأرضين. ويجمع الله الشمس والقمر. ويتبدل الحال غير الحال. وهذه مظاهر القدرة التي تدل على كمال العزة والسلطان فناسب أن تختم الآية بما يدل على الرحمة وسعة الرضوان. ألا هو العزيز الغفار.

ثم تعرض القرآن لذكر الإنسان والحيوان فقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ هي آدم ـ (ثُمَ) (١) (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها. وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ) أصناف من الإبل والبقر و ، الغنم والمعز كل ذكر وأنثى منها زوج ، فتلك أزواج ثمانية أنزلها ربك من عنده. وتفضل بها من لدنه.

ثم ذكر حالة عامة تشمل الإنسان والحيوان فقال : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ). وحالا من بعد حال : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ... الآية .. فتلك أطوار الخلق وهم في بطون أمهاتهم حالة كونهم في ظلمات ثلاث : ظلمة المشيمة ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة البطن ، ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فاعبدوه. وهو على كل شيء وكيل. له الملك وحده. لا إله إلا هو فكيف تصرفون عبادته إلى عبادة غيره؟ ذلكم الله ربكم الغنى عن عبادتكم لا تضره معصيتكم. إن تكفروا فالله غنى عنكم. وليس محتاجا إلى إيمانكم ، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر فإنه ظلم. والرضا غير الإرادة.

وإن تشكروا الله ـ سبحانه وتعالى ـ يرض لكم ذلك ويثبكم عليه (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [سورة الفتح آية ١٨] بمعنى أنه أثابهم.

واعلموا أنه لا تحمل نفس عن نفس حاملة للأزوار والأثقال من الذنوب شيئا بل كل نفس بما كسبت رهينة (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) يوم القيامة يجازى كلّ على عمله بالعدل والقسطاس المستقيم لأنه خبير بما تعملون. وهو العليم بذات الصدور ومكنونات النفوس.

__________________

(١) ثم كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي كذلك لمطلق الترتيب والمعطوف عليه هو خلقكم.

٢٥٧

المؤمن والكافر

وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)

المفردات :

(ضُرٌّ) : شدة (مُنِيباً) : راجعا إليه (خَوَّلَهُ) : أعطاه وملكه (أَنْداداً) : جمع ند والمراد : قرناء وشركاء (قانِتٌ) : مطيع خاشع (آناءَ اللَّيْلِ) المراد : في جوف الليل.

المعنى :

هؤلاء المشركون أمرهم عجيب! الأدلة على وحدانية الله وأنه قادر أظهر من الشمس في رابعة النهار. ومع هذا يشركون به غيره من صنم ووثن. وإن تعجب لهذا فعجب حالهم إذا مسهم ضر وشدة في مال أو ولد أو نفس دعوا الله منيبين إليه مستغيثين به. ثم إذا كشف الضر عنهم وخولهم نعمة سابغة لهم نسوا دعاءهم الذي كانوا يدعون به ربهم (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [سورة يونس آية ١٢].

٢٥٨

وهكذا إن الإنسان دائما (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (١). يجعل لله أندادا وشركاء من دونه ، وكانت العاقبة أن يضل بعمله هذا غيره عن سبيل الله. قل : تمتع أيها الإنسان بكفرك زمنا قليلا إنك من أصحاب النار ، تمتع بالدنيا الزائلة وبمتاعها الفاني المصحوب بالألم والتعب والتهديد بالفناء ، هذا هو الكافر بنعمة ربه. أما المؤمن الصالح فهذا وصفه :

بل أم من هو قانت في جوف الليل ساجدا وقائما يدعو ربه ، ويحذر حسابه ويخشى عقابه ، ويرجو رحمته كمن تقدم ذكره من العصاة؟! هل يستوي المؤمن والكافر والطائع والعاصي؟ لا يستويان أبدا ؛ فإنه لا يستوي الذين يعلمون الحق فيتبعوه ، ويعملوا به ، والذين لا يعلمون الحق ولذلك فإنهم يتخبطون تخبط العشواء ، ويسيرون في ضلالة عمياء ، وإنما يتذكر أولو الألباب والعقول الصافية من المؤمنين.

التقوى والإخلاص واجتناب الطاغوت

قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ

__________________

١ ـ سورة العاديات آية ٦.

٢٥٩

وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠)

المفردات :

(ظُلَلٌ) : جمع ظلة وهي ما أظلك ، والمراد : طبقات النار التي تعلو (الطَّاغُوتَ) من الطغيان : وهو الظلم ، والتاء فيه مزيدة للتأكيد ، والمراد : كل ما عبد من دون الله (وَأَنابُوا) : رجعوا (حَقَ) : ثبت ووجب (غُرَفٌ) : جمع غرفة ، وهي الحجرة (وَعْدَ اللهِ) : وعدهم الله بذلك وعدا (الْمِيعادَ) : الوعد.

المعنى :

أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لعباده من المؤمنين مذكرا لهم وواعظا ، أمره أن يأمرهم بتقوى الله ولزوم طاعته ، وتقوى الله أخذ الوقاية من عذابه ، وامتثال أو امره واجتناب نواهيه ، لم ذا؟ لأن الله قد حكم بأنه للذين أحسنوا في هذه الدنيا بامتثال أمر الله وتنفيذ أحكامه حسنة عظيمة ، حسنة في الدنيا بالعزة والسلطان والغنى والجاه ، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير.

٢٦٠