التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

سورة لقمان

وهي مكية كلها غير آيتين هما : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ..) الآية ٢٧ ، ٢٨. وهي أربع وثلاثون آية ، هدفها إثبات البعث والوحدانية ، وصدق الرسل في رسالتهم.

القرآن وأثره

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)

وهذا بدء سورة كريمة جاء على وفق ما هو معروف غالبا في السور المكية التي تبدأ بأحرف هجائية ، حيث تكلمت عن القرآن وآياته ، وهو افتتاح شبيه بافتتاح سورة البقرة.

المعنى :

هذه الآيات ـ والإشارة إلى آيات السورة ـ آيات من الكتاب الحكيم الصنع البعيد الغاية ، المحكم الذي لا خلل فيه ولا عوج ، ولا تناقض فيه ولا اختلاف ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١).

__________________

(١) ـ سورة الزمر آية ٢٣.

٤١

هو هدى ورحمة ومصدر خير وبركة للناس جميعا (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة ١٨٥] أما كونه هدى ورحمة فيشهد بذلك الواقع الذي ينطق بأن الرسالة المحمدية كانت فاتحة خير للعالم ، ومبدأ عصر العلم والنور في مشارق الأرض ومغاربها.

ولكن المنتفعين بهدى القرآن والمغمورين برحمته هم قوم أحسنوا العمل والقصد وأخلصوا النية لله ، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه.

ومن دلائل الإحسان وعلاماته إقامة الصلاة علاجا للنفس ، وإيتاء الزكاة علاجا للأمة ، وهم بالآخرة هم يوقنون يقينا لا شك فيه ولا مرية ، فهم يعملون لذلك اليوم ، ويستعدون له استعدادا كاملا ، وهذا من علامات الإنسان الحق ، لما له من الأثر الفعال في الفرد والمجتمع واليقين الكامل ، وخص الصلاة والزكاة واليقين بالآخرة بالذكر لفضل الاعتداد بها ، أولئك ـ والإشارة للتعظيم ـ الذين بلغوا شأوا في الكمال والسمو حتى أصبح يشار لهم بالإشارة الحسية التي للبعيد ، على هدى من ربهم ومتمكنون منه تمكن الراكب من المركوب ، وأولئك هم المفلحون وحدهم إذ لا فلاح إلا بالإحسان ، ولا خير إلا في اليقين والإيمان.

الكافرون بالقرآن والمؤمنون به

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)

٤٢

المفردات :

(لَهْوَ الْحَدِيثِ) اللهو : كل باطل ألهى عن الخير (هُزُواً) أى : مهزوءا بها (وَقْراً) : ثقلا وصمما.

نزلت الآية في النضر بن الحارث ، وكان يتجر إلى فارس فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا قائلا : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأسرة من ملوك فارس. وأحدثكم عن ملوك الحيرة ، وكان بعض الناس يستملح حديثه ، ويترك استماع القرآن ، وقيل : كان يشترى المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنّيه ، ويقول :

هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه.

المعنى :

هذا هو القرآن الذي نزل هداية ورحمة ، وفيه آيات بينات وأسرار بالغات وحكم محكمات ، ومع هذا كله فمن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ، ويتخذ آياته هزوا وسخرية.

لهو الحديث : هو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرافات والخيال الكاذب ، وبفضول الكلام ، وبما لا ينفع في شيء أبدا ، وهو بالحديث كالغناء الخليع وبالوضع المغرى المثير للشباب المحرك للشيطان ، فليس هو من باب اللهو فقط بل الواقع أنه سم زعاف يسقى للناس من حيث لا يشعرون.

والموسيقى المهذبة ، المروحة للنفس ، المجددة للنشاط ، والغناء الرفيع في لفظه ومعناه ، والكامل في شكله وموضوعه لا يأباه الدين ما دام لا يشغل عن حق ، ولا يضيع منك فرضا ، والغناء الذي نسمعه من تلك النسوة بهذا الشكل المزرى حرام بلا شك ، ولا يفهمن أحد أن الدين جاف لا يتمشى مع العصر ، إذ غرضه أن نرتفع بغرائزنا ونفوسنا عن مستوى الحيوانية البهيمية ، وأن نغرس فينا معاني السمو الروحي بحيث نرضى أنفسنا مع العفة والقصد في المغريات المثيرات ، والعناية بما يحبب مكارم الأخلاق ، ويقوى الرجولة فينا ، ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية (أن الغناء المعتاد

٤٣

عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ، ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه .. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة.

وأما ما ابتدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغانى بالآلات المطربة من الشبابات ـ قصبة الزمر ـ والطار والمعازف والأوتار فحرام).

وليت شعري ماذا كان رأيه لو امتد به الزمن حتى رأى وسمع ما يحدث عندنا في المسارح والملاهي وعلى الشاشة؟! لقد حدثني أستاذ فاضل حضر رواية في انجلترا ثم حضر عرضها في القاهرة فوجد العجب إذ أنها في لندن تعرض باحتشام وبأدب مع إبراز معاني القوة والشجاعة والإقدام وحب الدفاع عن الوطن وخلق المثل العليا في الشعب. أما إذ عرضت عندنا نزع منها ذلك كله ، وظهر فيها معاني الحب العنيف ، والدعوة إلى التحليل مع الخلاعة والفجور والرقص الداعر والدعوة السافرة إلى المجون ، واعتذارهم عن هذا كله : إرضاء رغبات الشعب! يا لله من الشعب المسلم الذي تحلل من دينه واتبع نفسه وهواه.

وبعد فلنرجع إلى الآية التي نحن بصددها.

أولئك الذين يشترون لهو الحديث ، ويستبدلون بدل الخير والهدى الشر والإثم ليضلوا عن سبيل الله ، ويتخذوا آياته هزءا وسخرية ، لهم عذاب غاية في الإهانة.

وإذا تتلى عليه آيات الله تدعو إلى الفضيلة ، وتهدف إلى الخير ، وتعمل على خلق أمة عزيرة كاملة ولى مستكبرا ذاما لها لا يعبأ بها معرضا عنها.

وهو في هذا الوضع حيث لم يعمل بها تشبه حاله حال من لم يسمعها وهو سامع كأن في أذنيه ثقلا ولا وقر فيهما ولا ثقل.

ومن كان هذا وصفه فبشره بعذاب أليم موجع غاية الألم.

أما الذين انتفعوا بالقرآن فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم جنات النعيم حالة كونهم خالدين فيها ، وعدهم الله هذا وعدا حقا ثابتا ، ومن أوفى بعهده من الله؟! وهو العزيز الذي لا يعجزه شيء ، الحكيم في صنعه.

٤٤

هذا خلق الله

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)

المفردات :

(عَمَدٍ) : جمع عماد ، وهو ما يعمد به ، أى : يسند ، يقال : عمدت الحائط إذا دعمته ، والدعامة ما يسند به الحائط إذا مال لتمنعه السقوط (رَواسِيَ) : ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) : تضطرب (وَبَثَ) : نشر وفرق (زَوْجٍ) : صنف.

وهذا استئناف مسوق للاستشهاد على عزته تعالى وكمال قدرته ، وسيق تمهيدا لإثبات قواعد التوحيد وإبطال الشرك وتبكيت أهله.

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق السموات بغير عمد مرئية لكم ، وأنتم ترونها كذلك ، وألقى في الأرض رواسى ثابتات ، من الجبال الشامخات التي هي كالأوتاد لئلا تميد بكم الأرض وتضطرب ، وبث فيها ونشر كل دابة تدب على الأرض من إنسان وحيوان وطير ، وأنزل من السماء ماء يسقى الزرع ، وينبت النبات فأنبت فيها من كل صنف من النبات كريم ذي لون بهيج ، ونفع كثير.

٤٥

هذا خلق الله ظاهر متميز ، فأرونى ماذا خلق الذين من دونه من الأصنام والأوثان؟! بل الظالمون في ضلال مبين ، (بل) هذا إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال!!

قصة لقمان ووصيته لابنه

وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ

٤٦

مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)

المفردات :

(الْحِكْمَةَ) : العلم النافع والعمل به ، والعقل والبصر بالأمور (أَنِ اشْكُرْ) الشكر لله : طاعته فيما أمر به (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الظلم : وضع الأمور في غير مواضعها (وَهْناً) الوهن : الضعف (فِصالُهُ) : ترك إرضاعه وهو الفطاعم (أَنابَ) : رجع (حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) المراد وزن حبة خردل ، وهي مثل في الصغر (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) الصعر : الميل ، وأصله داء يصيب البعير يلوى عنقه ، والمراد هنا لا تعرض عنهم تكبرا عليهم (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) القصد : التوسط ، والمراد توسط في المشي بين الإسراع والبطء (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أى : انقص منه ولا تتكلف رفع الصوت عن الحاجة.

وهذا كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك ، وأن الحكمة في اتباع الحق الذي جاءت به الرسل ، وجاء في صورة وصية حكيم لابنه أحب الناس إليه ليكون أدعى للامتثال.

المعنى :

وتالله لقد آتينا لقمان الحكمة والعقل ، ووهبناه الفهم للأمور ، والعمل بما يعلم وهديناه إلى المعرفة الصحيحة فكان لقمان حكيما ، ولعل هذا السر وهو أن ما دعا إليه لقمان هو من دواعي الحكمة ، ومقتضيات الفطرة السليمة ، ولم يكن عن طريق النبوة ، وهذا بناء على الصحيح من أن لقمان حكيم وليس نبيا.

ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله على ما أعطاك من النعم وقم بطاعته وأدّ فرضه ، ومن يشكر الله فإنما يشكره لنفسه (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ومن كفر فعليه وزر كفره ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وليس شكرك بنافع

٤٧

ربك ، ولا كفرك بضاره في شيء فإنه غنى عن الخلق ، محمود في السماء والأرض بلسان الحال أو بلسان المقال ، وإن لم يحمده أحد من الناس.

هذا هو لقمان الحكيم ، أما وصيته لابنه ، فاسمعها وتدبرها ، فإنها وصية حكيم لابنه ، والأب يحب الخير لابنه جدا ، فإذا كان عاقلا حكيما كانت وصيته أولى بالاتباع وكان في ذكرها تحريض وإلهاب لكل من يسمعها ليعمل بها ، ويتفانى في تحقيقها ، فماذا قال؟ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بنى لا تشرك بالله أحدا غيره من خلقه إن الشرك لظلم عظيم ، وأى ظلم أكثر من هذا! إن الظلم وضع الأمور في غير نصابها ، ولا شك أن من يسوى بين الخلق والخالق وبين الصنم وبين الله ـ جل جلاله ـ لا شك أنه وضع الأمور في غير وضعها الصحيح فهو حرى بأن يوصف بالظلم ، هذا هو الوضع السليم بين الأب وبنيه يعظهم ويرشدهم ، ويجنبهم المهالك فإذا تغير الوضع وصار الأب والأم مدعاة للشرك ، ومصدرا للعصيان فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ولهذا جاءت الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ ..) معترضة بين وصية لقمان لتحديد موقف الابن من أبيه إذا دعاه إلى ما يضله ويرديه فإن الصحيح أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمه حمنة بنت أبى سفيان كما مر في سورة العنكبوت وذكر القرطبي في تفسيره : أن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة ولا ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات.

ووصينا الإنسان بوالديه أمه وأبيه ، وأمه أحق بالعطف من أبيه كما ورد في الحديث «من أحقّ النّاس بالبرّ؟ قال أمّك» كررها ثلاثا ثم قال : ثم أبوك ، لأنها حملته حالة كونها تضعف ضعفا على ضعف ، وفصاله في عامين.

وصيناه أن اشكر لي ولوالديك ، فهما قد ربياك وأوجداك في الظاهر ، والله قد خلقك في الواقع ونفس الأمر ، وإن جاهداك على أن تشرك بي شيئا ليس لك به علم إذ لا وجود له ، فلا تطعهما فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وصاحبهما في الدنيا معروفا أى : عاملهما في أمور الدنيا بالحسنى ، وأما الدين فلله ، واتبع سبيل من أناب إلى وقلد الصالحين المقربين ، وخالط هذا الصنف من الناس فإن فيهم الخير كل الخير ، ثم إلى مرجعكم يوم القيامة ، فأخبركم بما كنتم تعملون ، وسأجازيكم عن هذا كله.

٤٨

يا بنى إنها الفعلة السيئة أو الحسنة إن تك مثقال حبة من الخردل فتكن في جوف صخرة ، أو في أى ركن في السماء أو في الأرض يأت بها الله ، ويعطى عليها جزاءها كاملا ، فإنه يعلمها إذ هو يعلم الغيب والشهادة ، وهو اللطيف الخبير.

يا بنى أقم الصلاة فإنها عماد الدين ، وأمر بالمعروف. وانه عن المنكر ، أمره بما يقوم نفسه ، وهو الصلاة ، وما يقوم مجتمعه وبيئته وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإن أصابك شيء في سبيل ذلك ـ ولا بد أن يأتيك ، على أن الإنسان في الدنيا غرض لسهام الأحداث والمنايا ، والسهام إذا انطلقت لا ترد ـ فاصبر على ما أصابك إن ذلك من مكارم الأخلاق ، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة ، ولا تصعر خدك : لا تمله عن الناس تهاونا بهم ، وتكبرا عليهم ، بل أقبل عليهم بوجهك مستبشرا منبسطا من غير كبر ولا علو ، ولا تمش في الأرض مرحا ، وتمشى بخيلاء فإن ذلك كله يغضب الله إنه لا يحب كل مختال فخور ، وتوسط في مشيك فلا تمش مشى المتماوتين ، ولا تثب وثب الشطار قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن». وأما قول عائشة ـ رضى عنها ـ : كان إذا مشى أسرع في مشيته ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوتين.

واغضض من صوتك ، أى : انقص بعضه واخفضه حتى لا يصل إلى الصوت الأجش الذي يؤذى الجليس ، ويقرع الصماخ بقوته ، وربما يخرق طبلة الأذن ، على أن ارتفاع الصوت دليل على شيء من الغرور والاعتداد وعدم الاكتراث بالغير ، والمراد التوسط حتى لا يجهر جهرا ممقوتا ، ولا يخافت مخافتة مرذولة ، وخير الأمور أوساطها.

فإن من يرتفع صوته في الحديث حيث لا مبرر أشبه بالحمار ، وصوته كالنهاق إن أنكر الأصوات وأوحشها لصوت الحمير ، وكانت العرب تجعل الحمار مثلا في الذم والغباوة ، وكذلك نهاقه.

انظر إلى لقمان الحكيم وهو يوصى ابنه بعدم الشرك بالله ، الظاهر والخفى ، ويوصيه بأن الله عالم الغيب والشهادة وهو يعلم السر وأخفى وسيجازى على ذلك كله فراقبه وأحسن في العمل ، ثم يوصيه بإقامة الصلاة ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مهما تحمل في سبيل ذلك ، ثم يوصيه بالصبر على المكروه فإنه من عزم الأمور ، وعالج فيه أدواء النفس الإنسانية فقال له : لا تصعر خدك ولا تتكبر ، ولا تمش مرحا مختالا

٤٩

فخورا ، وتوسط في مشيك وغض صوتك .. حقا إنه لحكيم ، وإنه المخلص لابنه جدا ، وهكذا وصايا الدين كلها في مصلحة الفرد والأمة والجماعة.

كيف تكفرون بالله وهو صاحب النعم؟!

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)

المفردات :

(سَخَّرَ) : ذلل (وَأَسْبَغَ) : أكمل وأتم (يُجادِلُ) : يخاصم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : بغير حجة.

وهذا رجوع إلى ما مضى قبل قصة لقمان من خطاب المشركين ، وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد.

المعنى :

ألم تروا أيها الناس دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله ـ سبحانه ـ في كل شيء فهو الذي سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ، وذلل لكم كل شيء ، وخلق لكم ما في هذا الكون ، وآية ذلك ما نرى من استخدام قوى الطبيعة وتسخير الماء والهواء والبخار والمعادن والذرات لمصلحتك أيها الإنسان ، وهو الذي أسبع عليكم نعمه وأتمها

٥٠

ظاهرة وباطنة ، ونعم الله لا تعد ولا تحصى ، ومنها الظاهرة والمعروفة وكثير منها لا يعلم ، وقد يكشف عنها العلم في يوم من الأيام.

ومع هذا كله فمن الناس من يجادل في الله ويخاصم في شأنه بغير علم ولا حجة ولا هدى من رسول أو نبي ، ولا كتاب أنزله الله عليه ينير له الطريق الحق ، وإنما مصدر هذا الخصام ، ومبعث هذا الجدل المؤدى إلى الشرك بالله هو التقليد الأعمى واتباع الهوى والشيطان.

وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله بالهدى ودين الحق قالوا : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا! أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟ أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟

المؤمن والكافر

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)

المفردات :

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) : يخلص عبادته إليه (مُحْسِنٌ) الإحسان : الإتقان (نَضْطَرُّهُمْ) : نلجئهم ونسوقهم.

٥١

المعنى :

وهذان فريقان : فريق في السعير ، وفريق أسلم وجهه إلى الله ، وأخلص عبادته وقصده ووجهه إليه ، وعبد الله لم يشرك به شيئا ، وهو محسن في عمله ، يراقب ربه مراقبة من يراه ويشاهده ، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه ويعلم ما يخفيه صدره ، وهذا هو الإحسان كما نطق بذلك الحديث «الإحسان : أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لّم تكن تراه فإنّه يراك».

ومن يسلم وجهه إلى الله بهذا الشكل فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وتعلق بأوثق ما يتعلق به ، وهو تمثيل للمتوكل على الله المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يرتقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلى منه ، وإلى الله عاقبة الأمور فيجازى كلا على عمله خير جزاء.

وفريق آخر كفر فلا يحزنك كفره فإنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب ، وإلى الله المرجع والمآب ، فسينبئهم بما عملوا ويجازيهم على ما اجترحوا ، إن الله عليم بذات الصدور ، هؤلاء نمتعهم في الدنيا زمنا قليلا لأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة ثم نضطرهم إلى عذاب جهنم ، وبئس القرار.

الله هو الخالق وما دونه هو الباطل

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ

٥٢

وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)

المفردات :

(يُولِجُ) : يدخل الليل في زمن النهار (أَجَلٍ مُسَمًّى) أى : معلوم مقدر (الْفُلْكَ) : السفن (صَبَّارٍ) : كثير الصبر (كَالظُّلَلِ) : جمع ظلة ، وهي الجبال التي تظل من تحتها (مُقْتَصِدٌ) : متوسط (خَتَّارٍ) الختر : أسوأ الغدر (كَفُورٍ) جاحد لنعم الله كافر به.

المعنى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق السموات بغير عمد ترونها وأسبغ نعمه الظاهرة والباطنة على الناس جميعا ، وهنا بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له لوضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به ، قل الحمد لله على أن جعل دلائل التوحيد من الظهور

٥٣

بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون. بل أكثرهم لا يعلمون أن ذلك يلومهم وأنه حجة عليهم وأنهم لم ينتبهوا مع زيادة التنبيه.

لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ، وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله لله ، إن الله هو الغنى عن الكل ، والكل محتاج إليه ، محمود مشكور في السماء والأرض ، وإن لم يحمده أحد ، فهو غنى عن حمد الحامدين ، ولا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين.

إن في قدرته ـ تعالى ـ وعلمه عجائب لا تنفد وأسرار لا نهاية لها ، فلو أن ما في الأرض من شجرة أقلام يكتب بها ، والبحار مداد لها ، ما فنيت عجائب صنع الله ، وما نفدت كلمات الله ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بكلمات الله كلماته التكوينية ـ كن فيكون ـ وقال بعضهم : إن المراد بكلمات الله هو الكلام الأزلى القديم إذ هو الذي لا نهاية له ، والغرض من الآية الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وأنها ليست متناهية وأنها لا تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور ، أى : لا تنفد مطلقا ، إن الله عزيز لا يعجزه شيء حكيم لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.

وهذه آيات قدرته وكمال علمه تبطل إنكارهم للبعث ، إذ ما خلقكم أيها المشركون ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وقد علمتم أن كلمات الله التكوينية لا تنفد أبدا ، إنه سميع لما يقولون ، بصير بما يعملون.

وهاتان آيتان تدلان على أن الله سخر لكم السماء والأرض وما فيهما.

ألم تر أن الله يولج الليل في زمن النهار؟ أى : يجعل الليل في الزمان الذي كان فيه النهار ، فمثلا إذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة والنهار كذلك ثم زيد الليل ساعتين كانتا على حساب النهار فيصبح الليل أربع عشرة ساعة والنهار عشر ساعات ، وهذا معنى قوله : يولج الليل في النهار ، وكذلك يولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وزمن معلوم ، إن الله بما تعملون خبير ، فليس بعد هذا وجه لمن يعبد الشمس أو القمر أو غير هما من الكواكب ويترك عبادة من سخر هما وذللهما لمنافع الناس ، وكذلك من يعبد الظلام والنور ويترك من أوجد الظلام والنور!! ذلك الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته والذي تلى من الآيات السابقة بسبب أنه تعالى هو الحق الثابت الألوهية وأنه لا معبود بحق إلا هو ، وأن ما يدعون من دونه من أصنام

٥٤

وأوثان هو الباطل الواضح البطلان ، وأن الله هو العلى الشأن الكبير السلطان المتعالي عن أن يشرك به.

ولقد ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ آية سماوية تدل على أنه سخر لكم ما في السموات بقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ..) [فاطر ١٣] وهنا ذكر آية أرضية تدل على أنه سخر لنا ما في الأرض جميعا بقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ).

والمعنى : ألم تر أيها المخاطب أن السفن تجرى في البحر وتمخر عبابه بإحسان الله ونعمته وفضله ورحمته ليريكم بعض آياته إن في ذلك كله لآيات لكل صبار في الشدة شكور في النعمة ، وإذا غشيهم موج مرتفع كالجبال الشاهقة التي تظل من تحتها ـ وهذا يكون عند اضطراب البحر ـ إذا غشيهم هذا الموج وعلاهم رجعوا إلى الفطرة ودعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد في الكفر متأثر بما رأى ومنهم كفور جاحد ، وما يجحد بآياتنا الكونية والقرآنية إلا كل ختار كثير الغدر سيئه ، كفور بنعم الله. يا عجبا لك أيها الإنسان! هذه الآيات الناطقة الشاهدة بوحدانية الله ، وأنه القادر المريد ، وأنه لا معبود بحق إلا هو ، ثم مع هذا يكفر بالله ، وإذا أصابه ضر أو وقع في شدة لجأ إلى الله وحده ، ثم إذا كشف عنه الضر إذا هم به يشركون.

وعظ وإرشاد

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)

٥٥

المفردات :

(لا يَجْزِي) : لا يغنى فيه أحد عن أحد (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ) : فلا تخدعنكم (الْغَرُورُ) : هو الشيطان ، وقيل : هو تمكينهم مع المعصية من المغفرة.

لما ذكر ـ سبحانه ـ من أول السورة إلى هنا ما يثبت لله الوحدانية ، وينفى عنه الشريك مع إثبات البعث في القيامة للحساب ، وهذا ما يغرس في النفوس التقوى والخوف والإيمان ، نادى الناس إلى التقوى والخوف من الله ومن حسابه في يوم القيامة ، وكان ختاما رائعا دقيقا لتلك السورة.

المعنى :

يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم فسواكم وعدلكم ، وخلق لكم كل ما في السموات والأرض ، وسخر لكم هذا الكون ، اتقوه حق تقواه ، وخذوا لأنفسكم الوقاية من عذابه الشديد ، واخشوا يوما شديدا هوله ، لا يقضى فيه إنسان عن إنسان ولا يغنى فيه والد عن ولده ، ولا مولود هو نافع والده شيئا ، بل كل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، واعلموا أن وعد الله ـ البعث ـ حق لا شك فيه ولا مرية ، فلا تخدعنكم الدنيا بزخارفها وزينتها فتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة ، والآخرة خير وأبقى ، ولا يغرنكم بالله الغرور من الشيطان الذي أقسم ليغوينكم أجمعين ، فهو يعد الناس ويمنيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، وقيل : الغرور هو الأمور الباطلة التي تخدع كثيرا من الناس كمن يغتر بشفاعة شافع أو انتسابه إلى أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا ، وهذا داء قديم كان عند أهل الكتاب وعالجه القرآن بقوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١) ، وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه : الغرور بالله : أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة.

وفي قوله تعالى : (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسّه النار إلّا تحلّة القسم» وقال : «من ابتلى بشيء من

__________________

(١) ـ سورة النساء آية ١٢٣.

٥٦

هذه البنات فأحسن إليهنّ كنّ له حجابا من النّار» :

قال القرطبي : المعنى في هذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده ، ولا مولود ذنب والده ولا يؤخذ أحدهما عن الآخر ، والمعنى بالأخبار التي مرت بك أن ثواب الصبر على الموت ، والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار ، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة.

هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون لا يعلم وقته إلا الله ، فلا يطمعن أحد في معرفته أبدا إذ الله هو العالم به ، وهو يعلم كذلك متى ينزل الغيث ، الذي يحيى الأرض بعد موتها ، وكذلك يحيى الله الناس لهذا اليوم ، وهو الذي يعلم ما في الأرحام أذكر هو أم أنثى؟ ومالك تطلب معرفة هذا اليوم؟ وأنت لا تدرى أمس الأشياء بك وأقربها إليك (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).

إن الله عليم حقا خبير بعباده ، فهو يجازيهم ويحاسبهم على هذا الأساس.

٥٧

سورة السجدة

وهي مكية غير ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة : وهي قول الله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) إلى قوله تعالى : (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) الآية ١٨ : ٢٠ ، وعدد آياتها ثلاثون آية ، روى البخاري عن ابن عباس وأبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة (الم تَنْزِيلُ) السجدة ، و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينام حتى يقرأ سورتي (السجدة وتبارك).

وهي تهدف إلى تقرير توحيد الله بما تعرض من صفحة الكون وما فيه من عجائب ونشأة الإنسان ، وما سيكون من مشاهد القيامة ، وما لقيه السابقون ، وكذلك تقرر صدق الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر. وكذلك تقرر البعث والحساب بما يقطع حجتهم ويزيل شكهم.

القرآن من عند الله

الذي خلق ودبر وأحسن كل شيء صنعا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا

٥٨

تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩)

المفردات :

(لا رَيْبَ) : لا شك (افْتَراهُ) : اختلقه (أَيَّامٍ) : جمع يوم. والعرب تطلقه على جزء من اليوم ، وقال النحاس : اليوم في اللغة بمعنى الوقت (الْعَرْشِ) : الملك (وَاسْتَوى) : بمعنى استولى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أى : أمر الدنيا (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) : يرجع ويصعد (نَسْلَهُ) : ذريته ، وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه ، أى : تنفصل (مَهِينٍ) أى : ضعيف ، وهو النطفة (ثُمَّ سَوَّاهُ) أى : سوى خلقة وأتمه.

المعنى :

وهذا افتتاح لسورة السجدة وهي سورة مكية كما قدمنا ، جاء افتتاحها على نسق السور المكية من الكلام على القرآن الكريم والرد على المشركين ، وذكر الآيات الكونية دليلا على وحدانية الله ، وعلى إمكان البعث ، وفي القرآن الكريم إثبات لرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودليل على صدقه ، وهذه السور المكية جاءت لفتح القلوب وتنوير البصائر وتكوين النفوس.

٥٩

الم. تنزيل الكتاب الذي أنزل على محمد ـ حالة كونه لا ريب فيه ولا شك ـ من رب العالمين ، وانظر إلى قوله : الكتاب وما فيه من معنى الكمال في كل شيء حيث جعل أساسا لنفى الشك عنه (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) بل أيقولون افتراه؟! واختلقه محمد من عنده؟! وهذا استفهام إنكارى ، على معنى : لا يصح ولا يليق منهم هذا القول بعد قوله تعالى : تنزيل من رب العالمين وبعد ما ثبت عجزهم عن الإتيان بمثله مع التحدي السافر لهم (وبل هنا للإضراب والانتقال من عنصر في الكلام ، وبل الثانية للإضراب وإبطال الكلام السابق قبلها).

لا بل هو ـ أى : القرآن الحق الثابت فيه ـ من ربك جل شأنه وهو الحق لما فيه من حق وصدق ولما فيه من تفسير للكون ، وما فيه من ربط محكم بين الإنسان وهذا الكون وهو الحق لخلوه من ظلم في الدنيا أو في الآخرة ، أنزله عليك لتنذر قوما ـ ما أتاهم من نذير من قبلك ـ رجاء الهداية لهم والتوفيق ، وهل العرب لم يأتها نذير قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أتاهم نذير كبقية الأمم؟ (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر آية ٢٤] والتاريخ يؤيد أنه لم يكن بين إسماعيل ومحمد نبي.

أنذرتهم رجاء الهداية والتوفيق لهم ، وهذا أسلوب محكم دقيق حيث أثبت أن القرآن منزل من عند رب العالمين وأنه لا شك فيه ، وهذا يستلزم صدق النبي فيما يدعيه ثم أضرب عن ذلك لينكر قولهم : إنه مفترى على الله حيث ثبت عجزهم بعد التحدي ثم أضرب عن إنكارهم هذا إلى إثبات أنه الحق الثابت من عند الله.

وما رب العالمين الذي أنزل القرآن على رسوله؟ هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، عرفهم الله كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه ، وليعلموا أنه صادر من حكيم قادر عليهم ، بعباده خبير بصير ، الله الذي خلق السموات والأرض ، وأبدعهما ، وفطرهما لا على مثال سابق في ستة أيام الله أعلم بمقدارها ، أيام عند الله لا كأيام الدنيا المقدرة بدورة الأرض أمام الشمس ، هذه إشارة إلى التدبير والإحكام في الخلق.

ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله ، وأنه لا يحده زمان ولا مكان ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وهذا رأى من يفوض أمثال

٦٠