التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

لا تنفقوا على من عند رسول الله من المهاجرين حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه. عجبا لهؤلاء ، أما علموا أن في السماء الرزق ، وأن لله خزائن السموات والأرض ، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين ، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك. يقولون : لئن رجعنا إلى المدينة من غزوة بنى المصطلق ليخرجن الأعز منها ـ أرادوا أنفسهم ـ الأذل من المهاجرين وأصحاب رسول الله ، بئسما قالوا ؛ والحال أن العزة والقهر والغلبة لله على أعدائه ، ولرسوله العزة بنصرة دينه وإظهاره على الأديان كلها ، وللمؤمنين العزة بنصرتهم على أعدائهم ، وخاصة من يقول هذا الكلام السابق ، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك.

أرأيت إلى المنافقين وإيمانهم الكاذب ، وأيمانهم ، وشهادتهم؟ ـ والله يعلم إنهم لكاذبون ـ انظر إليهم وقد اتخذوا أيمانهم جنة لهم ، وقد صدوا عن سبيل الله وساء عملهم ، وهم في المجالس كالخشب المسندة ، ويظنون أن كل صيحة واقعة عليهم ، وهم الذين يدعون غيرهم إلى الإمساك والشح لقصر عقولهم ، ويتعاهدون على إخراج المؤمنين معتزين بالباطل والغرور ، ولكن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [سورة النساء آية ١٤٥].

يا أيها الذين آمنوا : لا تكونوا كالمنافقين الذين يغترون بالأموال والأولاد ، ويشتغلون بتدبيرها ورعايتها عن ذكر الله ، ولا شك أن من أهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى النفاق أو التحلل من الدين هو الانشغال بالدنيا وعوارضها ، والانهماك الشديد في تحصيلهما ورعايتهما ، فذلك مما يشغل الإنسان عن ذكر الله وعن عبادته ، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون لأنهم باعوا الباقية بالفانية ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وليس معنى هذا أننا نترك الدنيا بما فيها من الأموال والأولاد ، لا. ولكن المنهي عنه هو الانشغال بهما عن ذكر الله ، أما إعطاء الدنيا حقها مع العبادة وذكر الله فهذا هو مطلوب الشرع الشريف ، وفي هذه الدائرة يتنافس المتنافسون ، وأنفقوا بعض ما رزقناكم ، أنفقوا بعض ما جعلكم الله خلفاء فيه ، وأنفقوا بعضا يكن لكم حصنا ووقاية من عذاب الله ، أنفقوا بعض المال يكن حصنا لكم ولمالكم حتى لا يذهب في الدنيا ، ولا تعاقبوا في الآخرة ، أنفقوا قليلا من المال من قبل أن يأتى أحدكم مقدمات الموت وأماراته فيقول حين يرى ما أعد للمتخلفين عن أوامر الله ، فيقول : رب لولا

٦٨١

أخرتنى ، أى : هلا أمهلتنى إلى أجل قريب وأعطيتنى أمدا قصيرا في الدنيا فأتصدق ببعض مالي ليكون وقاية لي من هذا العذاب وأكن (١) من العباد الصالحين.

ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ، ولن يمهلها طرفة عين (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). [سورة الأعراف آية ٣٤].

وهكذا كل مفرط في دينه ، وعابث في دنياه عند الاحتضار يكون نادما على ما فرط سائلا الرب ـ سبحانه وتعالى ـ طول الأجل ولو مدة يسيرة ليستعتب وليستدرك ما فاته ، ولكن هيهات ثم هيهات! قد كان ما كان. وهو آت آت ، والله خبير بما تعملون.

__________________

(١) قرئ وأكون عطفا على (فأصدق) ، وقرئ وأكن بالجزم بالعطف على موضع (فأصدق) كأنه قيل : إن أخرتنى أصدق وأكن ، وعند سيبويه أنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني.

٦٨٢

سورة التغابن

مدنية عند الأكثرين ، وقال بعضهم : مكية إلا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) إلى آخر السورة. وعدد آياتها ثماني عشرة آية ، وهي في بيان قدرة الله وعلمه.

من مظاهر قدرته وعلمه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)

المفردات :

(صَوَّرَكُمْ) التصوير : تخطيط وتشكيل ، وهو الذي يكون به صورة الشيء وهيئته التي يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. (بِذاتِ الصُّدُورِ) أى : صاحبة الصدور التي لا تبارحها ، المراد بذلك حديث النفس والسر الذي لم يبح لأحد.

٦٨٣

المعنى :

يسبح لله ما في السموات ، وما في الأرض ، وينزهه عن كل نقص ، تنزيها مستمرّا كل ما فيهما ، وذلك بدلالته على اتصافه بكل كمال ، وسموه عن كل نقص ، له الملك وحده دون غيره ؛ إذ هو المبدئ المعيد الخالق المصور ـ سبحانه وتعالى ـ وله وحده الحمد ؛ إذ هو المولى لكل النعم الرحمن الرحيم ، وأما ملك غيره لبعض الأشياء فاسترعاء منه ـ جل شأنه ـ وتمليك منه له ، وما حمد غيره ـ تبارك وتعالى ـ فلجريان بعض النعم على يديه فهو له في الحقيقة والواقع. وهو على كل شيء قدير.

وها هي ذي بعض آثار القدرة : هو الذي خلقكم وأوجدكم من العدم ، خلقكم من تراب وسواكم ، ثم نفخ فيكم من روحه فكان الإنسان مكونا من مادة وروح ، وفيه نوازع الخير ونوازع الشر ، فمنكم أيها الناس كافر ، ومنكم مؤمن ، والله ـ جل جلاله ـ هو الذي أراد هذا وقدره ، وكفر الكافر من تغلب مادته على روحه ، وهكذا العاصي ، والمؤمن بالعكس ، وسيجازى ربك على الكفر والمعصية ، أو على الإيمان والحسنة لأن صاحبها اختار ذلك ، والله بما تعملون بصير ، وهو بخلقه خبير.

الذي خلقكم ، وكان منكم الكافر والمؤمن خلق السموات والأرض ، وهذا الكون كله الذي عرف بعضه ، وجهل أكثره لم يخلق عبثا بل خلق خلقا ملتبسا بالحق والحكمة البالغة ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ، وهو الذي صوركم فأحسن صوركم (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١) نعم خلقنا فصورنا على أتم صورة ، وأكمل نظام ، وأدق ترتيب ، خلق فينا العقل والفكر ، والنظر والبيان لنعرف مآلنا ونهاية أمرنا إن كنا من المفكرين! صورنا في أحسن صورة وإليه وحده المرجع والمصير ، فالواجب أن نتقي الله وننظر ما قدمناه لغد ، ونعلم أن الله يعلم ما في السموات والأرض ، وهو يعلم الغيب والشهادة ، ويعلم السر وأخفى ، وهو العليم بذات الصدور جل شأنه وتبارك اسمه سبحانه وتعالى!

__________________

١ ـ سورة التين آية ٤.

٦٨٤

إثبات البعث وتهديد الكفار

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)

المفردات :

(نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : خبرهم المهم. (وَبالَ أَمْرِهِمْ) : عاقبته (١).

__________________

(١) أصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر ، ومنه الوبيل : الطعام يثقل على المعدة ، والوابل للمطر الثقيل ، ثم أطلق على الضرر الذي يصيب الإنسان لأنه يثقل عليه ، وعبر عن كفرهم بالأمر إشارة إلى أنه أمر هائل فظيع.

٦٨٥

(زَعَمَ) : ظنوا ، الزعم : هو ادعاء العلم بالباطل. (بَلى) : نعم. (النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أى : القرآن. (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) : هو يوم القيامة تجمع فيه الخلائق كلها. (يَوْمُ التَّغابُنِ) : هو يوم القيامة الذي يغبن فيه أهل الجنة أهل النار.

المعنى :

ألم يأتكم ـ أيها الكفار ـ خبر من كان قبلكم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، هؤلاء كفروا فذاقوا وبال أمرهم ، وكان عاقبة كفرهم خسرا عليهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم لا يقادر قدره. ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا ، وسيذوقونه في الآخرة بسبب أنه كانت تأتيهم رسلهم بالآيات المبينات والمعجزات الظاهرات ، فكانوا يكفرون عنادا وكبرا ، ويقولون ـ أى : تقول كل أمة منهم ـ : أبشر يهدينا؟! منكرين أن يكون الرسول بشرا ولو ظهرت في يديه المعجزات (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟) فكأن الكل قالوا : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) (١)؟ فكفروا ، وأعرضوا عن الآيات ، واستغنى الله عنهم حيث أهلكهم بعذاب من عنده ، ولو لا غناه عنهم لهداهم إلى الإيمان ووفقهم إليه ، والله هو الغنى عن خلقه فضلا عن طاعتهم وإيمانهم ، المحمود في السماء والأرض بلسان الحال لا بلسان المقال.

زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا. ظنوا هذا بلا دليل وحجة ، وادعوا العلم على ذلك بلا برهان ، ولا شك أنه زعم باطل ، قل لهم يا محمد : بلى. وربي لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم ، ولتجزون على ذلك ، وذلك كله على الله يسير ، فإنه على كل شيء قدير.

وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالله ورسوله ، وآمنوا بالنور الذي أنزلنا. وهو القرآن الذي أنزل رحمة للعالمين ، ونبراسا للناس أجمعين يهديهم إلى الصراط المستقيم. ويقودهم إلى سعادة الدنيا والآخرة ، فهو بلا شك نور رب العالمين ، والله بما تعملون خبير.

__________________

(١) البشر هنا اسم جنس فوصف بالجمع ، على أنه مبتدأ ويهدوننا خبر ، وقيل : هو منصوب على الاشتغال.

٦٨٦

اذكروا يوم يجمعكم الحق ـ تبارك وتعالى ـ ليوم الجمع ، يوم تجمع فيه الخلائق كلها ، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، والثقلان أجمعون ، ذلك يوم التغابن ، وهو يوم القيامة سمى بذلك لأنه يوم يظهر فيه غبن كل كافر ترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. ولا شك أن ذلك هو التغابن حقيقة الجدير بهذا الاسم (١).

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ...) وكأن هاتين الآيتين بيان لمعنى التغابن : ومن يؤمن بالله حقا ويعمل صالحا يكفر الله عنه سيئاته ويسترها عليه ، ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار ، خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم ، والذين كفروا بالله ورسوله ، وكذبوا بآياته ـ وخاصة القرآن الكريم ـ أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها وبئس مصيرهم ، فانظر إلى عاقبة المؤمنين. ونهاية الكافرين.

الحياة الدنيا في نظر المؤمنين

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا

__________________

(١) والتغابن تفاعل من الغبن ، وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته ، وهو لا يكون إلا في عقد المعاوضة ، ولا معاوضة في الآخرة فإطلاق التغابن على ما يكون يوم القيامة إنما هو بطريق الاستعارة ، وذلك لأن كلا من المؤمن والكافر جعله الله قادرا على اختيار ما يؤدى إلى سعادة الآخرة فاختيار كل فريق ما يشتهيه مما كان قادرا عليه يدل ما اختاره الآخر فهذا الاختيار منهما مشبه بالمبادلة والتجارة ، وشبه ما يتفرع عليه من نزول كل واحد منها منزلة الآخر بالتغابن ١ ه‍ من حاشية الجمل وزادة.

٦٨٧

لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)

المفردات :

(فِتْنَةٌ) والفتنة : بلاء ومحنة. (مَا اسْتَطَعْتُمْ) : جهد طاقتكم. (شُحَّ نَفْسِهِ) الشح : البخل والحرص الشديدان. (تُقْرِضُوا) المراد : تتصدقوا وتنفقوا.

سبب النزول :

روى أن الكفار قالوا : لو كان المسلمون مسلمين حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا.

فنزل قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ...) الآيات توضح حقيقة الدنيا ، وما يصيب المسلم فيها من خير أو شر.

المعنى :

لقد سبق بيان نتيجة الإيمان ونهايته ، ونتيجة الكفر وغايته من الفوز العظيم للمؤمنين في الآخرة والمصير السيئ للكافرين فيها.

٦٨٨

أما الدنيا فأمرها سهل هين جدّا إذ هي ليست دار جزاء ولا مثوبة ، ولكنها دار عمل وتعب ، وقد تكون محل ابتلاء واختبار بنزول المصائب والمحن على بعض الناس.

ومن يؤمن بالله ، ويعتقد هذا فإن الله هاديه إلى الحق والصواب من الصبر والثبات ، والرجوع إلى الله ، ولذلك يبيت هادئ النفس قرير العين مستريح القلب ، والله بكل شيء عليم ، وغير المؤمن إذا نزل به حادث أو ألمت به مصيبة ضجر وجزع ، وأصابه الغم والكرب ، وقضاء الله نافذ على الجميع.

وما علينا إلا أن نطيع الله ورسوله في كل أمر ونهى فهذا هو العلاج الناجع ، والدواء الصادق ، فإن تولى البعض وأعرض فإنما حسابه على ربه ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، فالله وحده هو الإله المقصود في كل شيء الذي له الملك وإليه يرجع الأمر كله فعليه وحده يتوكل المؤمنون ...

أما الفهم الصحيح السليم للأزواج والأولاد ، وللأهل والأموال فقد تكفلت الآيات : ١٤ ، ١٥. إلى آخر السورة بذلك ؛ فقد روى أن عوف بن مالك الأشجعى كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا : إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم فنزلت الآية .. وفي رواية أنها نزلت في رجال أسلموا بمكة ، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أتوا النبي ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآيات.

يا أيها الذين آمنوا إن بعض أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم ، حيث يفعلون معكم فعل العدو ، ويكونون حجر عثرة أمامكم يمنعونكم من فعل الخيرات ، وقد يدعونكم إلى ارتكاب الذنوب والآثام في سبيل راحتهم والحرص على سعادتهم ، ألست معى في أن من يفعل معى فعل العدو ، ويمنعني عن الخير الذي ينفعني ، ويحملني على فعل المعاصي يكون عدّوا لي ، ولو كان زوجا أو ابنا أو غيرهما؟ إذا كان الأمر كذلك فاحذروهم ، وقوا أنفسكم من شرورهم وآثامهم إن كانت لهم.

ولكنهم من أهلك وذوى قرابتك فالمطلوب منك أن تحذر ما يوقعك في الشر فقط ، ثم تعفو وتصفح وتغفر ، فإنك إن تعف وتصفح وتغفر يعف عنك الله ، إن الله غفور رحيم.

٦٨٩

إنما أموالكم وأولادكم فتنة وبلاء ، ومحنة واختبار قد يترتب عليهم الوقوع في الآثام والشدائد ، وكثيرا ما رأينا المال والأولاد يدفعان صاحبهما إلى فعل المهلكات ويحملان بعض الناس على الغرور الكاذب ، وارتكاب الآثام والفظائع (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١) والله عنده أجر عظيم ، فانظروا إليه ودعوا المال والولد فإنه لن ينفعكم يوم الحساب.

فاتقوا الله ما استطعتم ، وابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم ، وليكن أحب شيء إلى النفس حب الله ورسوله ، واسمعوا مواعظه وأوامره سماع قبول ، وأطيعوا في كل ما أمر ، وأنفقوا مما رزقكم يكن خيرا لكم وأفضل ، ولا يكن الولد والأهل مدعاة للجبن والبخل ، واعلموا أنه من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، إن تصرفوا (٢) بعض الأموال في سبيل الله وابتغاء رضوانه يثبكم على ذلك ثوابا جزيلا ويغفر لكم ، والله شكور مجاز على الطاعات ، حليم في العقاب على المعصية ، وهو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.

__________________

(١) سورة العلق الآيتان ٦ و ٧.

(٢) سماه الله قرضا من حيث التزام الله ثوابه فهو يشبه القرض من هذه الناحية فيكون استعارة.

٦٩٠

سورة الطلاق

مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، أو اثنتا عشرة آية.

وتشتمل على أحكام تتعلق بالعدة وأحكامها ، ثم تهديد بذكر عاقبة المخالفين.

أحكام تتعلق بالعدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ

٦٩١

وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)

المفردات :

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) : اضبطوها ، وأصل معنى الإحصاء : العد بالحصى كما كان أولا ، ثم صار حقيقة في العد مطلقا. (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : بسبب ارتكاب ذنب ظاهر كالزنا مثلا. (حُدُودُ اللهِ) : أحكامه. (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) : قضين عدتهن ، والمراد : شارفن على انقضائها. (ذَوَيْ عَدْلٍ) : أصحاب عدل وذمة. (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) : أدوها لوجه الله بلا تحريف. (مَخْرَجاً) : طريقا للخروج من المآزق والأزمات العائلية. (حَسْبُهُ) : كافيه. (بالِغُ أَمْرِهِ) المراد : يبلغ ما يريده عزوجل. (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : من جهة لا تخطر له على بال. (قَدْراً) : تقديرا لا يتعداه أصلا. (يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) : أصابهن اليأس من الحيض لتقدم سنهن. (إِنِ ارْتَبْتُمْ) : إن شككتم أو ترددتم في عدتهن. (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) : أصحاب الأحمال ، جمع حمل والمراد النساء الحبليات. (أَجَلُهُنَ) : انقضاء عدتهن

٦٩٢

بالوضع. (مِنْ وُجْدِكُمْ) أى : مما تجدونه ، ويكون في وسعكم وطاقتكم. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) : ائتمر وتآمر بمعنى واحد ، والمراد : تشاوروا في إرضاع الطفل ، والمعروف : المسامحة والروح الكريمة. (تَعاسَرْتُمْ) : أصابكم إعسار واختلاف. (قُدِرَ) : قتر عليه في الرزق.

المعنى :

يا أيها النبي : إذا أردتم طلاق النساء فالواجب أن تطلقوهن لعدتهن ، نادى الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خاطب الجميع بقوله : إذا طلقتم للإشارة إلى أنه إمام أمته. وسيد جماعته كما يقال : يا فلان افعلوا كذا فهو المتكلم عنهم ، والآمر لهم وهم لا يصدرون إلا عن رأيه فكان هو وحده سادا مسد الجميع ، ولعل اختيار لفظ النبي في هذا يؤيد هذا المعنى ، وقيل : نودي أولا ثم خوطبت أمته لأن أمر الطلاق مما لا يصح توجيهه للنبي الكريم.

الطلاق جعل سلاحا في يد الزوج ، ولكن يجب أن يستعمل في أضيق حدوده ، ولا يشرع إلا إذا كان لا بد منه. فهو كما يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الحلال إلى الله الطّلاق» وروى عن أبى موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تطلّقوا النّساء إلا من ريبة ـ أى : بسببها ـ فإنّ الله عزوجل لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات» وعن أنس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حلف بالطّلاق ولا استحلف به إلّا منافق» هذا الطلاق المبغوض عند الله يجب ألا يوقعه الزوج في حالة يزداد بها ضرر المرأة ، ولذا قال الفقهاء : إن الطلاق نوعان سنى وبدعى ، أما السنى فهو الذي يقع في طهر مسبوق بحيض لم تجامع فيه المرأة ، والبدعى غير ذلك ، والمراد في الآية أن يكون الطلاق لعدتهن أى : في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة ، وهو في أى طهر لم تجامع فيه ، وهذا ما يسمى بالطلاق السنى.

وأحصوا ـ أيها الأزواج والزوجات ـ العدة ـ فإن المرأة المدخول بها إذا طلقت طلاقا واحدا أو اثنين كان لزوجها حق مراجعتها في العدة ، فإن فاتت العدة كانت خطبة من جديد إن أراد ، فإن طلقها ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

واتقوا الله ربكم ، نعم أمرنا بالتقوى وسط هذه الأوامر التي يطل فيها الشيطان برأسه ، وتسرع فيها الفتنة إسراعا كثيرا قد يدعو إلى تغيير الذمة ، لهذا أمرنا بتقوى الله

٦٩٣

في الطلاق وهدم البيوت ، وتقوى الله في إحصاء العدة ، وتقوى الله في القضاء على آمال امرأة ، وربما كان لها أطفال. اتقوا الله أيها الناس ولا تخرجوهن ، أى : المطلقات من بيوتهن التي هي ملك للزوج ، ولكنها أضيفت لهن لتأكد النهى عن إخراجها من مسكنها الذي كانت تسكن فيه قبل الطلاق ، ولا يخرجن ، أى : النساء من تلك البيوت إلا أن يأتين بفاحشة ظاهرة تدعو إلى الإخراج كالزنا أو السرقة أو سبها لمن في البيت من الأهل والأبوين ، فلو اتفق الزوجان على الخروج جاز عند بعض الأئمة.

وتلك حدود الله وأحكامه ، ومن يتعد حدود الله بأن أخل بشيء منها فقد ظلم نفسه وأضر بها ، إذ حدود الله لمصلحة الإنسان ، وأنت لا تدرى ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، نعم أنت لا تدرى فربما كان بقاء المرأة في مسكنها مدة العدة يدعوك إلى أن تراجع نفسك وترجع عما فعلته فتراجعها في العدة ، وهذا كثيرا ما يحصل ، بخلاف ما لو خرجت من البيت وكثر القيل والقال. وتدخل الناس بالإفساد انقطع غالبا حبل الصلة ، والمشرع حريص جدّا على عدم انقطاعه.

فإذا شارفن على آخر العدة فإما إمساك بمعروف بأن تراجعها لا للإضرار ، أو تسريح بإحسان ومفارقة بمعروف ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا ضرر ولا ضرار».

ويندب أن تشهدوا رجلين عدلين على الطلاق أو الرجعة حتى لا يحصل خلاف فإن الذاكرة قد تخون ، والنفس قد تسول لك أمرا لا يحبه الله ، والواجب على الشهود أن يقيموا الشهادة لله ، ويؤدوها خالصة لوجهه.

ذلكم ـ الأحكام ـ يوعظ بها المؤمنون بالله واليوم الآخر حقا ، أما غيرهم فلا يؤمنون ولا يوعظون بها.

ومن يتق الله يجعل له مخرجا من كل شدة ، ومتسعا من كل ضيق ، وغنى من كل فقر ، وسعادة من كل بؤس ؛ فالتقوى هي الطريق الأقوى ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يدرى ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه ، والتقوى والتوكل ليسا باللسان وإنما هما بالقلب ، ولا يعرفهما إلا الخالق العالم فلا يطلع عليهما سواه ، والله يقول ذلك ، وهو أصدق القائلين ، ولكن من ذاق عرف ، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده. قال الربيع بن خيثم : إن الله ـ تعالى ـ قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب

٦٩٤

له ، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن ١١](وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق ٣](إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن ٦٤](وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران ١٠١](وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة ١٨٦] وكيف لا تتوكل على الله ، والله بالغ ما يريده ، قد جعل الله لكل شيء قدرا وتقديرا لا يتعداه بحال ، فلا يبقى إلا التسليم والتوكل على الله حق التوكل ، وهذا تأكيد وتقرير لقبول أحكام الله.

عدة الآيسة من الحيض : عرف الله الناس عدة المطلقة التي تحيض بقوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وبين هنا حكم الطلاق والرجعة فيه. أما عدة الآيسة التي لا تحيض لكبر سنها فعدتها ثلاثة أشهر إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن ، وقيل : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض ، أو لم يجر على الطريق المألوف وعند ذلك تسمى بالمستحاضة.

عدة الصغيرة التي لم تحض : واللائي لم يحضن من الصغار فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك.

عدة الحامل : وأصحاب الحمل من النساء عدتهن بوضع الحمل مطلقا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها ، وسواء كان الحمل علقة أو مضغة أو سقطا أو جنينا كاملا ولو كان الوضع بعد الوفاة بلحظة.

ومن يتق الله حق تقواه يجعل له من أمره يسرا ، ذلك الذي ذكره من الأحكام أمر الله أنزله إليكم ، وبينه لكم ، ومن يتق الله باجتناب كل نواهيه ، وامتثال كل أوامره يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجره في الآخرة.

حق السكنى : أسكنوهن ـ أى : المطلقات البائنات من أزواجهن واللاتي لا رجعة لهم عليهن ـ كالمطلقة مع الإبراء وليست حاملا ؛ وهذه المرأة لها حق السكنى دون النفقة والكسوة لأنها بائن منه لا يتوارثان ولا رجعة لها ، ولذا أوجبت لها السكنى فقط ، أما الحامل فلها السكنى والنفقة والكسوة حتى تضع ، أما المرأة التي لم تبن من زوجها فهي امرأته ترثه ويرثها ، ولا تخرج من البيت إلا بإذنه كما أمر ، لأنها مطلقة طلاقا رجعيا فهي ملحقة بالزوجة لها كل ما لها ، وأما المطلقة ثلاثا فمذهب مالك والشافعى أن لها السكنى دون النفقة كالبائن ، وأبو حنيفة يقول : لها السكنى والنفقة.

٦٩٥

أسكنوهن بعض مكان سكناكم (١) من وجدكم ، أى : مما تجدونه ومما تطيقونه ، ولا تضاروهن في شيء فلتجئوهن إلى الخروج.

نفقة الحامل : والحامل المطلقة تجب لها النفقة والسكنى حتى تضع ، وأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقيل : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع ، وقيل : ينفق عليها من نصيبها فقط.

رضاع الطفل : إذا طلقت المرأة وهي ترضع طفلها ، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة الرضاع ، وهل للمرأة أن تأخذ الأجرة على الرضاع مطلقا وهي في عصمة الزوج أو لا يجوز لها إلا إذا كانت مطلقة بائنة أو غير بائنة؟ أقوال للفقهاء ، وعلاج القرآن في هذا هو : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) والمراد هو التشاور بالمعروف والقول الجميل بلا شدة ولا إضرار ، فهو يقوم بطلباتها : وهي تقوم بإرضاع طفلها بلا معاكسات ومحاكمات. فإنها مهما كانت أم أولاده ، وهو أب أولادها فمن الخير الإبقاء على الصلة : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

وإن تعاسرتم في أجرة الرضاع ، أو اشتطت الأم في الأجرة ، أوشح الرجل في دفعها فسترضع له امرأة أخرى ، على أن المرأة المطلقة ليست ملزمة بالإرضاع للطفل إلا إذا أبى ثدي غيرها.

النفقة : لينفق الزوج على زوجته المطلقة وعلى ولده الصغير على قدر وسعه بالنسبة لحاله ؛ فإن كان غنيا أنفق نفقة الأغنياء ، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) ، (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (٢) وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهند : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها وما في وسعها. واتقوا الله فلا تظلموا غيركم ، ولا تدعوا ما ليس فيكم ، اتقوا الله في ادعاء الفقر أو الغنى ، واعلموا أن الله سيجعل بعد عسر يسرا ، وبعد الضيق فرجا ، وبعد الفقر غنى وهو على كل شيء قدير.

__________________

(١) يقولون : إن جملة (أسكنوهن) وقعت جوابا على سؤال تقديره : كيف يتقى الله فيهن؟ وقوله : (من وجدكم) بيان : أو بدل من قوله : (من حيث سكنتم).

(٢) سورة البقرة آية ٢٣٣.

٦٩٦

وعد ووعيد

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)

المفردات :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) : وكثير من القرى (عَتَتْ) : من العتو ، والمراد : أعرضت. (نُكْراً) : شديدا منكرا. (وَبالَ أَمْرِها) : عاقبته. (أُولِي الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول. (ذِكْراً) : هو القرآن. (رِزْقاً) : جزاء حسنا. (الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) المراد : أمر الله وقضاؤه.

لقد سبقت أوامر لله وأحكام تتعلق بالأسرة والبيوت والطلاق والزواج والعدة والنفقات ، وكانت في أول العصر الحديث مثار نقد شديد وطعن من علماء الغرب على

٦٩٧

الإسلام ، ثم انتهى الأمر إلى أن أخذوا بمبدأ الإسلام في الطلاق والزواج. (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (١) والله ـ جل جلاله ـ يهددنا إن تركنا أحكام القرآن بأنه سيغضب علينا ويذيقنا سوء العذاب في الدنيا والآخرة جزاء إهمال أحكام الإسلام ، وقد كان ذلك.

المعنى :

كثير (٢) من القرى ـ والمراد أصحاب كل قرية ـ عتت عن أمر ربها ، وأعرضت عنه ، وأهملته وخرجت عن أمر رسولها ، ولم تمتثل له فكان الجزاء أنها حوسبت على أعمالها حسابا شديدا على ذلك ، وعذبت عذابا منكرا في الدنيا والآخرة ، فهي قد ذاقت وبال أمرها وعاقبته ، وكانت عاقبة أمرها خسارة هائلة. أعد الله لها عذابا شديدا بعد ذلك في الآخرة غير ما مضى ، ألست معى في أن من يترك أحكام الله ، ويهمل أمر الدين يكون جزاؤه العذاب في الدنيا والآخرة؟!

وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ـ أعنى بهم الذين آمنوا بالله ورسوله ـ وكأن سائلا سأل وقال : لم هذا؟ فكان الجواب : قد أنزل الله إليكم أيها الناس ذكرا لكم هو القرآن ، وأرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ، تبين لكم كل شيء وتهديكم إلى كل خير ، وقد بينها لكم ؛ ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ، والمراد بهم من أراد الله لهم هذا ، وسبق في علمه أنهم من أهل الجنة.

ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله ربك جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وقد أحسن الله له رزقا فيها ، ووسع له في جنات النعيم.

ولا غرابة في ذلك كله فهي تشريعات الحكيم الخبير بكل شيء ، فاحذروا مخالفة أمره

__________________

(١) سورة فصلت آية ٥٣.

(٢) في هذا إشارة إلى أن (كأين) بمعنى كم الخبرية وهي تفيد التكثير ، وأعربت مبتدأ و (من قرية) تمييز ، و (عتت) خبر لها.

٦٩٨

فإنه من يخالفه يذقه عذابا شديدا ، فهو الله الذي خلق السموات السبع. وخلق من الأرض مثلهن ، أى : سبعا وإن تكن مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات ، وقيل : المثلية في خضوعها لله وأمره وإرادته ، الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه بينهن ، فالكل خاضع له جل جلاله ، ومن كان كذلك كان قادرا على إيقاع العذاب على العصاة والمخالفين لأمره ـ جل جلاله ـ ، ولتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ، فاتقوا الله يا أصحاب العقول ، واحذروا عقابه الشديد ، واعتبروا بمن سبقكم من الأمم ، واعلموا أن علاج القرآن لمشاكلكم إنما هو علاج الخبير البصير.

٦٩٩

سورة التحريم

مدنية بالإجماع ، وعدد آياتها اثنتا عشرة آية ؛ وتسمى سورة النبي ، ولذا تعرضت إليه كزوج وإلى بعض ما حدث من زوجاته ، وذكرت مع بعض توجيهات مواعظ وأمثلة.

ما حدث من بعض زوجاته من خصومة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)

٧٠٠