التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

على لسان رسلي واستكبرت عن اتباع الحق ، وكنت من الكافرين (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ـ الطريقين ـ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [سورة البلد الآيتان ١٠ ، ١١].

لا إله إلا الله يجزى كلا على عمله

وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)

المفردات :

(مَثْوىً) : مكان إقامة ، يقال : ثوى بالمكان : أقام به (بِمَفازَتِهِمْ) : بفوزهم

٢٨١

بالعمل الصالح (مَقالِيدُ) : جمع مقليد أو مقلد أو مقلاد : وهو المفتاح (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الإحباط : الإبطال والإفساد (بِيَمِينِهِ) اليمين : تطلق على الجارحة ، أو على القدرة والملك ، أو القوة (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) وعليه قول الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

المعنى :

في هذه الآيات الكريمة بيان جزاء الكافرين والمؤمنين يوم القيامة بالإجمال وبيان دلائل التوحيد والألوهية وموقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك .. ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ، والخطاب هنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل من تتأتى منه الرؤية ، ولا شك أن المشركين كذبوا على الله حيث وصفوه بغير صفاته ، وأثبتوا له الشريك والولد ، وهؤلاء الكذابون ، تراهم يوم القيامة قد اسودت وجوههم ، وعليها غبرة ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة الذين كذبوا على الله وعلى رسوله ، لما رأوا ما أعد لهم ظهرت عليهم علائم الخوف والاضطراب.

أليس في جهنم مثوى لأولئك الكذابين الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عنها؟ وهذا تقرير لرؤيتهم يوم القيامة سود الوجوه ، وأما المؤمنون الصادقون فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقد نجاهم ربك لأنهم اتقوا ما أعد للكفار حالة كونهم متلبسين ومقترنين بفلاحهم وظفرهم بطلبهم وهي الجنة قد أعدت لهم ، لا يمسهم فيها سوء ، ولا هم يحزنون.

لا غرابة في هذا ، فالله خالق كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل يتصرف فيه كيفما شاء ، والكل محتاج إليه (١) ، له مقاليد السموات والأرض ؛ وهذه كناية عن قدرته ـ تعالى ـ وحفظه لها بمعنى أنه لا يملك التصرف في خزائن السموات والأرض ـ وهي ما أودع فيها من منافع ـ غيره تعالى.

وأخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ سأل رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال رسول الله

__________________

(١) الفصل بين الجملتين لأن الثانية بمنزلة التوكيد للأولى ، وقيل : هي تعليل لقوله : (وهو على كل شيء وكيل) أو بمنزلة عطف البيان ، ويرجح بعضهم أنها مستأنفة.

٢٨٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما سألنى عنها أحد : لا إله إلا الله والله أكبر. وسبحان الله وبحمده. أستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، يحيى ويميت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير.

والمراد أنه يعطى أجرا على ذلك كبيرا ، ويحرس من كل شر كما ورد في بعض الروايات ، فكأن هذا الدعاء إذا ذكرته صباحا ومساء وكررته تفتح لك خزائن السموات والأرض ولا حرج على فضل الله.

روى أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلم ببعض آلهتنا ونحن نؤمن بإلهك ، فقيل للنبي : قل لهم : أفغير الله الذي اتصف بأنه خالق كل شيء والمتصرف في كل شيء ، وله وحده التصرف الكامل في هذا الكون أرضه وسمائه! أفغير الله الموصوف بهذا أعبد ، ما هو غير الله؟ أصنام وأحجار ، وتماثيل وأوثان ، وجمادات مخلوقة لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغنى شيئا ، بل هي الضرر كل الضرر ، أعبد غير الله الواحد القهار؟ أتأمروني أيها الجاهلون بعبادة غير الله بعد ما وضح الحق وظهر الصبح؟ إن أمركم لعجيب ، وتالله لقد أوحى إليك بالتوحيد وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك : لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك وليفسدن ، ولتكونن من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأضلوا أعمالهم ، وهذا كلام على سبيل الفرض ، أى : لو فرض منك ذلك لكان كذلك ، ولقد سيق لإقناط الكفرة من ترك محمد لرسالته ، وليعلم الكل فظاعة الشرك وقبحه ، فلقد نهى عنه من لا يستطيع الإلمام به ، فكيف بمن يأتيه؟!! بل الله وحده فاعبد يا محمد أنت وكل من آمن بك ، وكن من الشاكرين على هذا التوفيق فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.

وما قدروا الله حق قدره أبدا حيث عبدوا معه شركاء لا تسمع ، ولا تنفع ، والحال أن الأرض في قبضته ، والسموات مطويات بيمينه ، له الأمر كله وإليه ترجعون ، وسبحان الله وتعالى عما يشركون.

وهذا الكلام (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) عند بعضهم تمثيل لحال عظمته ـ تعالى ـ وكمال تصرفه ونفاذ قدرته بحال من يكون له قبضة فيها الأرض كلها ، وله يمين تطوى السموات طيا. ويرى بعضهم أن الكلام على حقيقته.

٢٨٣

أحوال الخلق يوم القيامة

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤)

٢٨٤

وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)

المفردات :

(الصُّورِ) : هو بوق ينفخ فيه قبل قيام الساعة (فَصَعِقَ) صعق الرجل : إذا غشى عليه من هزة أو صوت شديد ، وصعق : إذا مات ، والمراد المعنى الثاني (أَشْرَقَتِ) : أضاءت (بِنُورِ رَبِّها) أى : تجليه للحكم والعدل بين الناس ، وقيل : هو نور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة (وَوُضِعَ الْكِتابُ) المراد : صحائف الأعمال (سِيقَ) : السّوق يقتضى الحث على المسير بعنف وشدة مع الكفار ، ومع المؤمنين بلين ولطف للإسراع بالإكرام.

(زُمَراً) : جماعة قليلة متفرقة مرتبة (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) : وجبت كلمة العذاب ، أى : حكم الله عليهم بالشقاوة (حَافِّينَ) : محدقين ومحيطين حول العرش.

المعنى :

وتلك آية أخرى دالة على كمال قدرته ونفاذ إرادته مظهرها يكون يوم القيامة حيث يكون الأمر يومئذ لله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ونفخ صاحب الصور الموكل به من الملائكة ، نفخ فيه النفخة الأولى فصعق ومات كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله عدم موته ساعة النفخة فيموت بعدها (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [سورة القصص آية ٨٨].

ثم ينفخ فيه نفخة أخرى فإذا الخلائق كلها قيام ينظرون الأمر والتوجيه ، أو ينظرون نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم ، ولا يمنع هذا قول الله في حقهم : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (١). (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٢) أى : يسرعون المشي ، لأن لهم في ذلك الوقت مواقف متعددة.

__________________

١ ـ سورة المعارج آية ٤٣.

٢ ـ سورة يس آية ٥١.

٢٨٥

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) عند ذلك (بِنُورِ رَبِّها) أى : أضاءت بنوره ، ولعل هذا إشارة إلى تجليه ـ عزوجل ـ لفصل القضاء أو الحكم بين الناس بالعدل ، ولا يبعد أن يكون هذا النور هو الذي يعنيه الحديث : حجابه النور. وهو نور يظهر عند ذلك التجلي ، وفي الحق أن الأمر فوق ما تنتهي إليه عقول البشر ، والله أعلم بكتابه ، وأشرقت أرض المحشر بنور ربها جل شأنه ، ووضع الكتاب وبرزت صحائف الأعمال ليتلقاها أصحابها باليمين أو بالشمال ، وجيء بالنبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ ليسألوا عما فعلوا ، وجيء بالشهداء الذين يشهدون على الأمم أو الأفراد (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (١) وقيل : المراد بالشهداء الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢) وقيل : هم الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله.

ووفيت كل نفس ما عملته من خير أو شر ، ولا عجب فالذي يجازيها هو أعلم بما فعلته من خير أو شر (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (٣).

وهاك تفصيلا لتوفية كل نفس عملها : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) يا سبحان الله!! أيساقون إليها سوق الأنعام بالشدة والغلظة؟! يساقون إليها زمرا وجماعات مرتبة على حسب شرورها وآثامها حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها لهم كالسجن يفتح بابه للسجين حينما يصله ، وقال لهم خزنتها وحراسها تأنيبا وتقريعا : ألم تأتكم رسل منكم ومن جنسكم تفهمون عنهم ، وتعرفون أمرهم ، يتلون عليكم آيات ربكم ، وينذرونكم يوما عبوسا قمطريرا كهذا اليوم؟ ويخوفونكم لقاء يومكم هذا؟! قالوا : بلى قد جاءتنا الرسل وكثيرا ما وعظتنا وذكرتنا بالله ، وخوفتنا لقاء هذا اليوم ، ولكن حقت كلمة الله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٤) نعم حقت كلمة العذاب على الكافرين ، أى : كلمة الله المقتضية للعذاب ، والمراد بها حكم الله عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل جهنم بسوء اختيارهم وشنيع فعلهم الذي فعلوه مع الأنبياء.

__________________

١ ـ سورة ق آية ٢١.

(٢) سورة البقرة آية ١٤٣.

(٣) سورة لقمان آية ١٦.

٤ ـ سورة السجدة آية ١٣.

٢٨٦

وماذا حصل بعد هذا؟ قيل لهم من قبل الملائكة : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثواكم جهنم ، وهي مثوى المتكبرين الذين تكبروا على قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين لهم ، وهذا يشم منه تعليل دخولهم النار بسبب تكبرهم.

وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة جماعات على حسب رتبهم في الفضل والشرف ، وسوقهم هنا معناه الحث على السير للإسراع في الإكرام بخلافه مع الكفرة فإنه للإهانة والتحقير.

حتى إذا جاءوها والحال أن أبوابها مفتحة (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) كالكريم الذي يصنع مع ضيفه يهيئ له المكان ويعد له النمارق والزرابي ثم تفتح له الأبواب استعدادا لمقدمه ، ويقف الخدم والحشم عليها للتحية .. ويا حظ أصحاب الجنان حيث يفتح لهم ربهم أبواب جناته وتقف الملائكة للتحية والإكرام ، ويقولون لهم مرحبين : سلام عليكم طبتم نفسا وقررتم عينا بذلك النعيم الدائم المقيم فادخلوها خالدين. ونعم أجر العاملين ، وقال الذين اتقوا وعملوا الصالحات : الحمد لله والشكر له صدقنا وعده بالبعث والثواب وأورثنا الأرض ، أى : المكان الذي نستقر فيه ، يتبوأ كل منا في أى مكان أراده من جنته الواسعة الوارفة الظلال ، فنعم أجر العاملين هذا الأجر.

وترى الملائكة حافين حول العرش محدقين ينتظرون الإشارة من صاحب العرش ـ جل جلاله ـ وهم يسبحون بحمد ربهم ، ويستغفرونه ، وقضى بين العباد كلهم بالقسط ، وقيل من المؤمنين : الحمد لله رب العالمين ، حمدوا ربهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم الأرض يتبوءون من الجنة حيث يشاءون ، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق ، والحكم بالعدل بين الناس جميعا .. فالحمد له رب العالمين.

٢٨٧

سورة غافر

وتسمى سورة المؤمن ، وسورة الطول ، وهي مكية كلها في قول أكثر القراء ، وعن ابن عباس : هي مكية إلا آيتين منها هما (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) والتي بعدها ، وهي خمس وثمانون آية.

والسور المبدوءة في القرآن بلفظ (حم) سبع سور وكلها مكية ، وهي عرائس القرآن ، وروى عن أنس قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الحواميم ديباج القرآن. وروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل شيء ثمرة وثمرة القرآن ذوات حم ، هن روضات حسان مخصبات متجاورات ، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم».

وسورة غافر تدور آياتها حول مناقشة المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد وإثبات البعث والرسالة ، ويتطرق الكلام إلى وصف حال المشركين والمجادلين يوم القيامة ، ثم ذكر قصة فرعون وهامان وقارون للمشركين ، وفي خلال ذلك سيقت آيات تثبت وصف الله بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص.

القرآن ومن جادل فيه ومن آمن به

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ

٢٨٨

لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)

المفردات :

(حم) تقرأ هكذا : حاميم بالسكون ، وقرأ بعض القراء حاميم ، وفي معناها ما مضى في أول سورة البقرة وغيرها من أنها سر بين الله ورسوله الله أعلم به ، أو هي سيقت للتحدى ، أو هي وغيرها حروف سيقت للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها ، وقد سئل رسول الله عنها فقال : «بدء أسماء وفواتح سور» (التَّوْبِ) : مصدر تاب ، والمراد التوبة (ذِي الطَّوْلِ) : صاحب النعم والفضل ، والطول : الغنى والسعة أيضا (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً). (تَقَلُّبُهُمْ) : تصرفهم وتنقلهم (وَالْأَحْزابُ) أى : الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب كعاد وثمود (وَهَمَّتْ) أى : عزمت (لِيَأْخُذُوهُ) المراد : ليقتلوه ويعذبوه (لِيُدْحِضُوا) أى : ليزيلوا به الحق (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وجبت ولزمت كلمة ربك ، أى : حكمه (وَقِهِمْ) : اصرف عنهم.

٢٨٩

وفي هذه الآيات تكلم الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن نزول القرآن وأنه من عند الله الموصوف بصفات ست ، ثم تعرض للكفار الذين كفروا به وجادلوا بالباطل ومآلهم. ثم تعرض لموقف من آمن به وطمأنهم غاية الاطمئنان حيث جعل الملائكة تدعو لهم وتستغفر للمؤمنين.

المعنى :

هذا القرآن الكريم الذي بين يديك يا محمد تنزيله من الله ، فأنت صادق فيما تدعيه من أنك رسول الله وأن القرآن من عند الله ، هذا القرآن يجب اتباعه ، والسير على طريقته لأنه منزل من عند الله الخالق لكل شيء ، القادر الذي له ملك السموات والأرض ، العزيز الذي لا يغلبه غالب ، العليم الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة ، وهو مع هذا يغفر الذنوب جميعا ويقبل التوبة من عباده لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وهو مع هذا شديد العقاب لمن عصى وبغى ، ولم يرع ذمة ولا عهدا ، ولم يرجع نادما تائبا عما فرط منه ، وهو صاحب الطول ، وواهب الفضل ومجزل العطاء ، وصاحب النعم في السراء والضراء ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ترى أن الله وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل ، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه لما كان جديرا بهذه الصفات ولما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، أما إذا كان واحدا ليس له شريك ولا شبيه ، كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، وكانت هذه الصفات به جديرة. فلذلك قال هنا : لا إله إلا هو ولا معبود بحق سواه ، واعلموا أنه إليه وحده المرجع والمآب فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه. روى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له : تتابع في هذا الشراب وأصبح من أهل المدام ، فقال عمر لكاتبه : اكتب إليه : سلام عليك وأنا أحمد الله إليك ، الذي لا إله إلا هو (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) .. إلى قوله (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر عمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته صحيفة عمر ، جعل يقرؤها ويقول : وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه وذكرني بنعمه فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع نفسه مما هي

٢٩٠

فيه وتاب فأحسن التوبة ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه.

هذا هو القرآن الكريم الذي أنزل على النبي الصادق الأمين ، والذي أنزله رب العالمين غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذو الطول. لا إله إلا هو إليه المصير ، فهل آمن به كل الناس؟ لا : من الناس من كفر بالله وجادل في كتاب الله جدالا بالباطل الذي لا حق فيه ، وقال تمويها وتضليلا : إنه سحر أو شعر أو كهانة أو هو أساطير الأولين ، وإنما يعلمه بشر ، وأمثال هذا كثير مما كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذا يقول الله هنا : ما يجادل في آيات الله جدالا بالباطل لا بالحق ، وإلا فالجدال لإظهار الحق ولتفهم المعنى مطلوب شرعا ، ما يجادل بالباطل إلا الذين كفروا ، وهؤلاء سنريهم آياتنا ، وحسابنا العسير لهم في الدنيا والآخرة ، فلا يغررك ما هم فيه من نعمة ، ولا يهمنك تمتعهم في الدنيا فهو متاع قليل ، مأواهم جهنم وبئس المصير ، انظر تر أن العذاب الذي لحقهم سببه أنهم عزموا على إيذاء الرسول وقتله ، وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق فكانوا بذلك من أصحاب النار.

وهذه سنة الله مع من يكذب رسله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، فقد كذبت قبلهم قوم نوح ، وكذبت عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط ، هؤلاء تحزبوا ضد أنبيائهم ، وتجمعوا للكيد بهم ، وعزمت كل أمة منهم لتأخذ رسولها أسيرا فتهلكه وتقتله ، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، فعلوا هذا ، وما علموا أن الله ينصر رسله ويدافع عنهم وعمن آمن معهم.

وهؤلاء الذين كذبوا رسل الله وهموا أن يأخذوا رسلهم ليقتلوهم ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، ويطمسوا معالمه ، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر ، فكيف كان عقاب؟!

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أى : كما وجب وثبت حكمه ـ تعالى ـ وتحقق هلاك هؤلاء المتحزبين على الأنبياء ، وجب وتحقق حكمه ـ سبحانه وتعالى ـ بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا من قريش لأنهم أصحاب النار (١) فالسبب واحد والعلة واحدة.

__________________

(١) هذا إشارة إلى أن (أنهم) منصوبة بنزع الخافض ، ويجوز إعرابها بدلا ، (وأن وما دخلت عليه) بدل من (كلمة ربك).

٢٩١

هؤلاء الكفار تحزبوا ضد النبي والمؤمنين ، وبالغوا في إظهار العداوة للنبي وصحبه وهم قلة بالنسبة لهم ، فأراد ربك أن يطمئن خاطر المسلمين ويشد أزرهم ببيان أن معهم أشرف الخلق ، من الملائكة الأطهار ، يدعون لهم ويستغفرون ، وذلك بلا شك هو الفوز العظيم ، فقال ما معناه :

الذين يحملون عرش ربك ، ومن حوله حافين به وهم في خدمته ، ورهن إشارته ، والقائمون بحفظه وتنفيذ أمر ربهم هؤلاء يسبحون حامدين منزهين ربهم عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل ، ويؤمنون به إيمانا حقيقيا كاملا بظهر الغيب. ويستغفرون للذين آمنوا قائلين : ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، وإنما عدل عن هذه العبارة إلى ما في النظم الكريم للمبالغة. ربنا فاغفر للذين تابوا إليك ، واتبعوا سبيلك الحق وهو الإسلام ، وقهم عذاب الجحيم ، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ليتم سرورهم ، ويضاعف ابتهاجهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٢١] ، وقهم السيئات ، واحفظهم من المكروه والآلام كلها يوم القيامة ، ومن يتق السيئات يومئذ يقوم الناس لرب العالمين لقد رحمته بدخول الجنة وذلك هو الفوز العظيم.

ومن أهوال يوم القيامة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ

٢٩٢

الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)

المفردات :

(لَمَقْتُ اللهِ) المقت : أشد أنواع البغض ، والمراد به في جانب الله لازمه وهو تعذيبهم والغضب عليهم (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) : مرتفع الصفات منزه عن مشابهة المخلوقات (ذُو الْعَرْشِ) : خالقه ومالكه (الرُّوحَ) المراد به : الوحى ، سماه روحا لأنه كالروح في إحيائه الموات من الناس (يَوْمَ التَّلاقِ) : يوم اجتماع الخلائق للحساب (بارِزُونَ) : ظاهرون لا سبيل إلى إخفائهم.

وهذا حال من أحوال الكفرة يوم القيامة ، وهم في جهنم ، بعد ما بين سابقا أنهم أصحاب النار.

المعنى :

إن الذين كفروا بالله ورسوله ينادون من بعيد ، وهم في النار يتلظون سعيرها فقال لهم : لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، وذلك أنهم حينما يرون ما كانوا يكفرون به حقا لا شك فيه يمقتون أنفسهم أشد المقت لأنهم وقعوا

٢٩٣

فيما وقعوا باتباع هواها ، ويصح أن يكون المعنى أنهم يمقت بعضهم بعضا ، الأتباع والمتبوعين (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١) يكفر بعضكم ببعض ويعلن بعضكم بعضا فيقال لكم عند ذلك رءوس الأشهاد : لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم أنفسكم ، أو المعنى لمقت الله أنفسكم في الدنيا إذ (٢) تدعون من جهة الأنبياء إلى الإيمان فتأبون قبوله فتكفرون اتباعا لأنفسكم ومسارعة في هواها أو اقتداء بأخلائكم المضللين ، لمقت الله هذا أكبر من مقتكم أنفسكم أو أكبر من مقت بعضكم لبعض.

هؤلاء الكفار حينما يشتد بهم العذاب ، ولا يطيقون الصبر يقولون : ربنا أمتنا اثنتين أى : موتتين ، الأولى قبل الحياة ، والثانية في الدنيا ، وأحييتنا اثنتين ، الأولى في الدنيا والثانية يوم القيامة ، فاعترفنا بذنوبنا وآثامنا ، وبدا لنا سيئات ما عملنا ، فارجعنا نعمل صالحا في حياة ثالثة فإنا أدركنا خطأنا وتبين لنا صدق الرسل ـ عليهم‌السلام ـ وأصبحنا موقنين بذلك ، فهل إلى خروج من سبيل (٣)؟ لا .. فإنهم «لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه» ، ذلكم العذاب الدائم المستمر الذي هم فيه بسبب أنه إذا دعى الله وحده كفروا باستمرار ، وإن يشرك به يؤمنوا على أن له شريكا ، وحيث كان الأمر كذلك فالحكم لله العلى الكبير.

هو الذي يريكم أيها الناس آياته الكونية وآياته القرآنية الشاهدة له بالوحدانية والقدرة والاتصاف بكل كمال والتنزه عن كل نقص ، وهو الذي ينزل لكم من السماء رزقا ، ترى أن الله ـ سبحانه ـ جمع في الآية نعمه التي تحيى الأديان والتي تحيى الأبدان ، وتقوى الروح والأجسام ، ولا يتذكر بهذا ، ولا يتعظ إلا من ينيب.

وإذا كان الأمر كذلك فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، هو رفيع الدرجات ، عظيم الصفات ، رافع درجات المؤمنين ، ذو العرش وصاحب الملك وكامل التصرف لا إله إلا هو ، يلقى الروح على من يشاء من عباده ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، فهو الذي ينزل الوحى على الأنبياء ، لينذروا الناس يوم التلاقي ، واجتماع الخلق

__________________

١ ـ سورة الزخرف آية ٦٧.

٢ ـ إذ تدعون إذ ظرف لمقت الأول وإن توسط بينهما الخبر ، واللام في لمقت لام الابتداء وقعت بعد ينادون لأنها في معنى يقول لهم.

٣ ـ هذا استفهام مراد به التمني لأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون.

٢٩٤

للحساب ، ويخوفونهم يوما يبرزون فيه أمام الحق ـ تبارك وتعالى ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام ٩٤] بروزا أمام الله لا حول لهم ولا قوة ولا ساتر ولا وقاية من عذابه لا يخفى على الله منهم شيء.

يا حسرتا على القوم الكافرين!!

يقول الله ـ تعالى ـ بعد فناء الخلق أجمعين ، أى : بعد النفخة الأولى : لمن الملك اليوم؟ فيجيب الله : لله الواحد القهار ، فالسائل والمجيب هو الله ، أو هو على لسان ملك ، أو حال الخلائق ناطقة بذلك.

اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فهو لا يشغله حساب عن حساب.

تخويف الكفار وترويعهم

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)

٢٩٥

المفردات :

(الْآزِفَةِ) المراد : يوم القيامة ؛ سميت بذلك لقربها ؛ إذ كل ما هو آت قريب ، ويقال : أزف الرحيل يأزف أزفا : إذا قرب (كاظِمِينَ) : ممتلئين غما (الْحَناجِرِ) : جمع حنجرة وهي الحلقوم (حَمِيمٍ) : قريب نافع (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) : المراد الأعين الخائنة وهي التي تختلس النظر إلى المحرم وتسارقه (واقٍ) : حافظ يدفع عنهم السوء.

وهذا وصف آخر لأهوال يوم القيامة حتى يرتاع الكفار وتمتلئ قلوبهم روعة ورهبة.

المعنى :

وأنذر الناس وخاصة الذين يجادلون في آيات الله بالباطل ، أنذرهم يوم القيامة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) ، والقيامة وإن بعد زمانها إلا أنها آتية لا شك فيها ، وكل آت قريب (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ* لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) (٢) إذ (٣) القلوب لدى الحناجر كاظمين ، والمراد تخويفهم وترويعهم من ذلك اليوم وقت أن تكون القلوب لدى الحناجر ، وهذه العبارة كناية عن شدة الخوف والوجل إلى درجة أن تخلع القلوب من أماكنها حتى تصل إلى الحلقوم (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (٤) حالة كون أصحاب القلوب كاظمين ، أى : مكروبين وساكتين مع امتلائهم غما وحزنا.

ومن هنا فهمنا أن الكفار يوم القيامة يخافون خوفا شديدا يجعل قلوبهم لدى حلقومهم وأنهم من شدة الهم والخوف ساكتون فلا يستطيعون الكلام ، ليس للظالمين ـ وهم أو لهم ـ حميم يدافع عنهم من صديق أو قريب ، وليس لهم شفيع يشفع لهم ويجادل عنهم ، وكانوا يعبدون الأصنام على أنها شفعاء عند الله.

__________________

١ ـ سورة القمر آية ١.

٢ ـ سورة النجم الآيتان ٥٧ ، ٥٨.

٣ ـ (إذ) بدل من (يوم الآزفة) و (لدى الحناجر) خبر ، و (كاظمين) حال من القلوب ، على معنى قلوبهم.

٤ ـ سورة الواقعة الآيتان ٨٣ ، ٨٤.

٢٩٦

وهذا الذي يحاسبهم يوم القيامة يعلم الأعين الخائنة التي تسرق النظر إلى المحرم وتختلسه اختلاسا حتى لا يشعر بها أحد من الجالسين ، ويعلم ما تخفيه الصدور من الرغبات والحاجات والنوايا ، والإنسان يصدر عنه عمل نفسي قلبي أو عمل بالجوارح ، فإذا كان الله يعلم أدق شيء عن جوارح الإنسان وهو النظر خلسة فمن باب أولى أن يعلم اليد التي تبطش والرجل التي تسير واللسان الذي يتكلم ، ويعلم كذلك خطرات القلوب وما تخفيه الصدور وهو يعلم السر وأخفى ، ويا ويلنا إذا كان يحاسبنا وهو من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور!!

والله يقضى بالحق ، لا ظلم اليوم ، فلا تظلم نفس شيئا ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها الله وكفى به خير الحاسبين.

والذين يدعونهم من دونه لا يقضون بشيء ، وكيف يقضون ، وهم لا يعلمون شيئا ، إن الله هو السميع لكل قول ، والعليم بكل فعل ، وسيجازى على ذلك كله.

نرى أن القرآن ملأ قلوبهم خوفا ورعبا من ذلك اليوم لو كانوا يعقلون ، فذرك أنه قريب ، وأن القلوب تنخلع فيه لهول ما ترى ، وأن المجرمين لا يستطيعون الكلام مع امتلاء قلوبهم غيظا ، وليس لهم صديق ولا حميم ولا شفيع يطاع ، والحاكم يومئذ عالم بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وهو يقضى بالحق فلا محاباة عنده ، وهؤلاء الأصنام لا تنفع عنده بشيء ، وهو وحده السميع البصير.

ولما بالغ الحق ـ تبارك وتعالى ـ في تخويفهم من يوم القيامة أردفه بإنذارهم وتخويفهم في الدنيا ، وبيان ما عمله الله مع من كفر وعذب الرسل السابقين لعلهم يتعظون فقال ما معناه :

أغفلوا ولم يسيروا (١) في الأرض التي هي حولهم وفي طريقهم فينظروا نظرة اعتبار وموعظة ما حل بالأمم السابقة لما كذبت رسلهم كعاد وثمود وغيرهما ، وهؤلاء السابقون كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، وقد مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وقد أثاروا الأرض وزرعوها ، وأصبحت لهم مدن وحضارة ، وزراعة وصناعة ولكنهم

__________________

(١) الاستفهام إنكارى ، و (كيف) خبر مقدم لكان ، و (عاقبة) اسمها ، والجملة من كان واسمها وخبرها في محل نصب على المفعول لينظروا ، وقوله تعالى : (كانوا هم أشد منهم قوة) جواب (كيف).

٢٩٧

كذبوا وكفروا فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر بسبب ذنوبهم ، وما كان عند ذلك من واق يقيهم العذاب.

ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات والحجج الواضحات فكفروا بها ، فأخذهم الله بسيئات أعمالهم ، إنه قوى شديد العقاب.

يا أهل الشرك ، ويا أصحاب الفسق : احذروا هذا اليوم وخافوه واتعظوا بمن سبقكم ، فالعاقل من اتعظ بغيره ، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وهذه قصة موسى مع فرعون وملئه ، ذكر معها موقف رجل آمن من آل فرعون وكتم إيمانه ، وقد تخللها حكم ومواعظ ، وعبر وآيات ، وإنما يتذكر بهذا وأمثاله أولو الألباب ، وهي في جملتها بيان لعاقبة بعض الأمم التي سبقتهم ، وكانت أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا .. وتتلخص القصة في :

١ ـ موقف فرعون من دعوة موسى وما رد به عليه قولا وفعلا.

٢ ـ مارد به موسى على تهديد فرعون.

٣ ـ دفاع الرجل المؤمن عن موسى.

٤ ـ تحذير لآل فرعون من عاقبة فعلهم في الدنيا والآخرة وتذكيرهم بما حل بقوم نوح وعاد وثمود.

٥ ـ تذكيرهم بما حصل أيام يوسف ـ عليه‌السلام.

٦ ـ إنكار فرعون وجود إله واحد كما يقول موسى بدليل حسى.

٧ ـ وعظ الرجل المؤمن لقومه وبيانه حقيقة الدنيا والآخرة.

٨ ـ نجاة موسى منهم ونهاية أمره وأمرهم.

تلك هي عناصر القصة التي سيقت هنا ، وسنذكرها بالتفصيل ، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

٢٩٨

موسى مع فرعون وهامان وموقف الرجل المؤمن

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)

المفردات :

(وَسُلْطانٍ) : وحجة قوية ظاهرة (وَاسْتَحْيُوا) : أبقوهم أحياء (ضَلالٍ) : ضياع وخسران (ذَرُونِي) : اتركوني.

المعنى :

وتالله لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع التي أهمها اليد والعصا (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أرسلناه بآياتنا وبحجة قوية واضحة على أنه رسول من عند الله ، أرسلناه إلى فرعون ملك مصر وهامان وزيره ، وقارون وكان صاحب أموال وكنوز ،

٢٩٩

وكان مدار العداوة على هؤلاء الثلاثة وغيرهم تابعا لهم ، فقالوا لما عجزوا عن معارضته ودفع الحجة بالحجة : إنه ساحر كذاب ، ولكن موسى لم يعبأ بقولهم ، وظل يقوم بدعوته ، فلما جاءهم الحق من عند الحق ـ تبارك وتعالى ـ قالوا : اقتلوا من الآن أبناء الإسرائيليين الذين معه ، واتركوا البنات يعشن ؛ فإن خطر الذكور كبير ، ونخشى أن يتجمعوا ويكثروا ، وفي هذا الضرر ، ويظهر أن فرعون كان قد امتنع عن هذا مدة من الزمن ، ولكن أنى لهم ذلك وعين الله لا تنام عن أوليائه وأحبائه؟ فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم حتى شغلهم ذلك عن استئصال بنى إسرائيل ، فهم قد مكروا ومكر الله ، وكان كيدهم في ضلال وخسران ، ونجى الله المؤمنين وأغرق قوم فرعون أجمعين.

وقال فرعون في أثناء ذلك : ذروني أقتل موسى وانتهى من أمره ، وليدع ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض ورب المشارق والمغارب وأنه الذي خلق كل شيء ثم هدى ، ذروني أقتله وليدع ربه ليخلصه ، يريد بذلك إنكار وجود الإله ، إنى أخاف أن يبدل دينكم الحق ـ في اعتقاده ـ أو أن يظهر في الأرض الفساد إن لم يبدل دينكم.

هذا ما كان من أمر فرعون وآله ، أما ما كان من أمر موسى إزاء هذا التهديد فها هو ذا : (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) وقال موسى : إن ربي وربكم الذي خلقنا ورزقنا ، ورعانا في بطون الأجنة وفي ظلمات ثلاث ، والذي وهب لنا الوجود وعمنا بالخير والبركات أستعيذ به من كل متكبر جبار تعاظم عن الإيمان ، وكان لا يؤمن بيوم الحساب ، ومن كان كذلك فهو إلى الوحشية أقرب ، بل أشد طغيانا وظلما من الحيوان المفترس ، ولنا في موسى وهو يستعيذ بالله من كل متكبر طاغ أسوة حسنة والله معنا يحرسنا ويرعانا إن شاء الله.

دفاع الرجل عن موسى

وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ

٣٠٠