التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

وهذه بعض سيئات الفجار لأنهم فجار ، ولذلك أخرها إلى هنا بعد بيان جزاء الفريقين في الآخرة .. إن الذين أجرموا واعتادوا فعل الشنيع من الأعمال كانوا يضحكون من الذين آمنوا ، ويستهزئون بهم ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، ويشيرون إليهم استهزاء بهم ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم بعد هذا انقلبوا فكهين مسرورين ، لأنهم آذوا المسلمين واستهزءوا بهم ، وكانوا إذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء المؤمنين لقوم ضالون عن الطريق السوى طريق آبائهم وأجدادهم ، وهل أرسل أولئك الفجار حافظين وشاهدين على المسلمين؟ لا ، إنهم ما أرسلوا عليهم حافظين.

ولكن أيترك ربك عباده وأولياءه بدون جزاء؟ إنه جازى كلا على عمله فجازى الكفار بجهنم وسعيرها ، وجازى المؤمنين بالجنة ونعيمها ، فاليوم الذي فيه المؤمنون ينعمون بجنة الخلد ، والكفار يصلون فيه بنار الجحيم : في هذا اليوم يضحك المؤمنون من الكفار لا ضحك الجاهل المغرور بل ضحك الموفق المسرور ، ضحك من وصل إلى نتيجة عمله بعد طول المشقة ، وبعد المسافة ضحك من انكشف له الحق فسر له لأنه حق ، وهم على الأرائك ينظرون صنع الله وفعله المحكم الدقيق.

هل جوزي الكفار على أعمالهم؟ نعم ، هل جوزي المسلمون على أفعالهم؟ نعم وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

٨٤١

سورة الانشقاق

وهي مكية. وآياتها خمس وعشرون آية ، تتضمن ذكر مقدمات يوم القيامة ، ونهاية كل إنسان ، وما يكون عليه يوم القيامة ، ثم القسم بالشفق والليل والقمر لتكونن في حياة ثانية تكون كالأولى ، ثم الإنكار عليهم لعدم إيمانهم ، وتكذيبهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)

٨٤٢

المفردات :

(أَذِنَتْ) : استمعت لأمر ربها وامتثلت له. (وَحُقَّتْ) أى : وحق لها أن تمتثل. (مُدَّتْ) : اتسعت رقعتها. (وَتَخَلَّتْ) : لم يبق في باطنها شيء.

(كادِحٌ) : مجد ساع في طلب الدنيا. (يَسِيراً) : سهلا. (وَيَنْقَلِبُ) : يرجع. (أَهْلِهِ) : إخوانه من المسلمين. (ثُبُوراً) : هلاكا وموتا ، والمراد أنه يقول : وا ثبوراه وا هلاكاه. (وَيَصْلى) : يقاسى ويصطلى. (سَعِيراً) : حر جهنم. (فِي أَهْلِهِ) : في الدنيا. (مَسْرُوراً) : فرحا فرح بطر وترف.

(يَحُورَ) : يرجع إلى الله. (بَلى) : نعم جواب لما بعد النفي ، أى : نعم يرجع.

(بِالشَّفَقِ) : الأثر الباقي من الشمس في الأفق بعد الغروب ، وقيل : هو النهار ، والمادة تدل على الرقة. (وَما وَسَقَ) أى : وما جمع. (اتَّسَقَ) : اجتمع وتكامل وتم واستدار. (يُوعُونَ) : يحفظونه في قلوبهم من شرك أو معصية. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) : غير مقطوع.

المعنى :

إذا أراد الله ذهاب هذا العالم ، وقيام الساعة ، اختل نظام الدنيا ، بأى صورة كانت ، وعلى أى شكل يريده الله ، فترى عند ذلك أن السماء تتشقق وتنفطر ، ويعلو الجو غمام وأى غمام؟ (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) عند ذلك ترى أن السماء قد استجابت لأمر ربها وانقادت له ، وحق لها ذلك الامتثال والاستماع لأمره ، وكيف لا يكون ذلك وهي في قبضته وتحت سلطانه. وهو الذي يمسك السماء والأرض أن تزولا ، عند ذلك تكور الشمس ، وتتناثر النجوم والكواكب ، وأما الأرض فلا يمكن أن تبقى على حالها بل نراها قد اندكت جبالها ، واتسعت سهولها وامتد جرمها ، وألقت ما في باطنها من الكنوز والأجساد والعظام البالية ، وتخلت عن كل ذلك ، ولم يبق في باطنها شيء (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) وإذا السماء انشقت ، وإذا الأرض مدت ، وألقت ما في باطنها وتخلت عن كل شيء. يكون ماذا؟ يكون ما شاء الله مما ذكره في غير موضع من القرآن ، ويقال : إن الجواب محذوف دل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا

٨٤٣

الْإِنْسانُ) وكأن المعنى : إذا السماء انشقت ، وإذا الأرض مدت ... إلخ. كان البعث ولاقى الإنسان ربه فوفاه حسابه.

يا أيها الإنسان المجد في سعيه ، النشيط في عمله السريع في تحصيل معاشه وكسبه : أنت تكدح في طلب الدنيا ، حتى استبطأت حركة الزمن ، وكم تمنيت نهاية اليوم أو الشهر أو العام لتحصيل على طلبك ، أيها الإنسان ما أجهلك!! ألم تعلم بأن هذا كله من عمرك ، وأنت تكدح صائرا إلى ربك ، وتجد وأصلا إلى نهايتك وموتك :

يسر المرء ما ذهب الليالى

وكان ذهابهن له ذهابا

فأنت تجد في السير إلى ربك فتلاقى عملك هناك أوضح من الشمس ؛ فاعمل في دنياك على هذا الأساس.

أيها الإنسان : ستلاقى ربك يوم القيامة ، وستلاقى عملك يوم يقوم الناس للعرض على الملك الجبار (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (١) وهناك يظهر الحق ، ويعرف كل عمله ، فأما من أوتى كتابه بيمينه ، وهم الصالحون المقربون فسوف يحاسبون حسابا يسيرا سهلا ، ويرجعون إلى إخوانهم من المؤمنين فرحين مسرورين لأنهم لاقوا جزاءهم. (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (٢) وأما من أوتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهم الكفار الفجار ، فسوف يحاسبون حسابا عسيرا ، ويدعون من شدة ما بهم قائلين : ووا ثبوراه ، وا هلاكاه وسيصلون سعيرا ويقاسون حر جهنم الشديد القاسي ، فإيتاء الكتاب باليمين أو بالشمال. أو من وراء الظهر تمثيل وتصوير لحالة المطلع على أعماله المستبشر المبتهج بها ، أو لحالة المبتئس العبوس الحزين بسببها : والعرب تستعير جهة اليمين للخير وجهة اليسار للشر.

وما سبب عذاب هؤلاء؟ إنه كان في أهله ، أى : في الدنيا فرحا مسرورا فرح بطر أو أشر ، ولما كان فيه من ترف وحب للشهوة ، واستمتاع باللذة ، والذي دفعه إلى هذا كله ظنه أنه لن يرجع إلى ربه للحساب ، فيحسب ما اقترفته يداه ، بل سيرجع إلى ربه فيحاسبه حسابا كاملا ، إن ربه كان به بصيرا ، وعليما خبيرا ، ومقتضى علمه بالمخلوق علما كاملا : أنه لا يتركه سدى ، بل يجازى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته

__________________

١ ـ سورة الحاقة آية ١٨.

٢ ـ سورة الإنسان آية ١٢.

٨٤٤

إذ مقتضى العلم الكامل بالخلق ، والعدل التام في الحكم أن الله لا يترك الخلق بلا حساب وثواب وجزاء ، إذ تركهم لا ينشأ إلا من أحد أمرين : إما لأنه لا يعرف حالهم ـ وحاشا لله أن يكون كذلك ـ وهو الذي خلقهم ، وإما لأنه غير عادل في حكمه وهو مستحيل عليه ، فظهر من هذا حسن وجلال قوله تعالى : بلى ـ نعم سيرجع إلى ربه للحساب ـ إن ربه كان به بصيرا.

فلا أقسم بالشفق وحمرته ، ولا بالليل وظلمته ، ولا بالليل وما جمع من خلق كان منتشرا في النهار ، ثم أوى إليه فجمعه تحت جناحيه ، وما جمع من أمهات إلى أفراخها ومن سائمات إلى حظائرها ، ومن نجوم اجتمعت في السماء ، وبالجملة ففي النهار الحركة والانتقال وفي الليل المأوى والسكون ، وأقسم بالقمر إذا اتسق ، واجتمع وتكامل ، واستدار وأنار الكون بنوره الكامل ليلة البدر.

لا أقسم بهذه الأشياء : لتركبن طبقا عن طبق ، لظهوره ووضوحه ، فهو غير محتاج إلى قسم ، أو المعنى : لا أقسم بهذه على إثبات البعث فإنه أمر جليل الشأن عظيم الخطر ، وهذه الأشياء لا يخشى منها أذى ، ولا يخاف منها ضرر. أو : لا أقسم بهذه الأشياء لتعظيمها ، فإنها عظيمة في نفسها من غير قسم ، وأيا كان فهو أسلوب للقسم مستعمل في لسان العرب. وقد أقسم الحق بهذه الأشياء لفتا لأنظار الناس إليها ، وأنها أثر من آثار القدرة الإلهية ، على أن في صفاتها ما ينفى كونها آلهة تعبد.

أقسم لتركبن طبقا على طبق ، ولتكونن في حالة شبيهة بتلك الحال ومطابقة لها تماما وهي الحياة الثانية ، أو لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، وأمرا بعد أمر ثم يستقر بكم الأمر إلى الواحد الأحد فيجازى كلا على عمله.

ألا ترى أن القادر على تغيير الأجرام العلوية ، والأفلاك السماوية من حال إلى حال قادر على البعث وإحياء الإنسان بعد مماته؟ فما لهم لا يؤمنون؟ أى شيء ثبت لهم حتى كفروا بالله وباليوم الآخر؟ مع أن الشواهد كلها ناطقة على ذلك ، وأى شيء ثبت لهم حتى جعلهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون لله شكرا ، ولا يسجدون له إعجازا ، بل الذين كفروا يكذبون بلا حجة ولا برهان ، والله أعلم بما يحفظونه في قلوبهم من كفر وحسد وبغضاء ، إذا كان الأمر كذلك فبشرهم بعذاب أليم ، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير مقطوع. والله أعلم.

٨٤٥

سورة البروج

وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية ، وهذه السورة جاءت تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين وتشجيعا لهم على تحملهم أذى قومهم ، ثم ضربت لهم الأمثال بأصحاب الأخدود ، وفرعون وثمود. وتخلل ذلك ما به تقر نفوس المؤمنين ببيان نهاية الكفار ، ونهاية المؤمنين ، على أنها لم تغفل ذكر القرآن في نهايتها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)

٨٤٦

المفردات :

(الْبُرُوجِ) : جمع برج ، وهو في أساس اللغة يطلق على الأمر الظاهر. ثم استعمل في القصر العظيم ، وعلى ذلك فالسماء ذات البروج أى : النجوم ، وقيل المراد بالبروج هنا : منازل الكواكب. (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) : يوم القيامة. (الْأُخْدُودِ) : الشق في الأرض يحفر مستطيلا ، وجمعه أخاديد. (شُهُودٌ) أى : حضور عذاب المؤمنين. (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) : وما عابوا عليهم. (فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) : ابتلوهم بالإحراق. (بَطْشَ رَبِّكَ) : أخذه الكفار. (الْوَدُودُ) : المحب للطائعين.

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالسماء ذات النجوم التي كانت ضياء وزينة ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها المسافرون ، وهي مع ذلك أبنية فخمة عظيمة تدل على قدرة صانعها الحكيم ، وقيل المراد بالبروج : منازل الكواكب في السماء التي ينشأ عنها الفصول الأربعة ، وما فيها من حرارة وبرودة ، والتي ينشأ عنها عدد السنين والحساب ، وتفصيل كل شيء في الوجود ، وأقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ باليوم الموعود الذي وعدنا الله به ، وهو يوم القيامة ، وأقسم كذلك بكل الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود ، فله ـ سبحانه ـ في كل شيء دلالة على وحدانيته ، فكل شيء شاهد بهذا المعنى ، على أن كل شيء في الكون مشهود للناس ، والناس مختلفون في الشهادة ، أى : الرؤية ، أو الفكرة والتأمل.

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذه الأشياء : لقد ابتلى الله المؤمنين والمؤمنات قديما بالعذاب والفتنة والبلاء من أعدائهم الكفار ، ولكنهم صبروا على ما أوذوا واحتسبوا ذلك عند الله ، فكان لهم الأجر الكبير ، ولأعدائهم عذاب جهنم ولهم فيها عذاب الحريق ، فاصبروا أيها المؤمنون ، وسيعوضكم الله خيرا ، ولقد ضرب الله قصة أصحاب الأخدود هنا مثلا ، ودليلا على جواب القسم المقدر وهو ابتلاء المؤمنين.

قتل أصحاب الأخدود : أصحاب النار ذات الوقود ، النار التي أعدوها ليصلاها المؤمنون الموحدون.

٨٤٧

أصحاب الأخدود جماعة من الكفار كانوا في القديم ، ويروى أنهم من أمراء اليمن أو زعماء اليهود ، وقد غاظهم إيمان المؤمنين المعاصرين لهم ، وشق عليهم ذلك ، فانتقموا منهم انتقاما شديدا ، وشقوا لهم أخدودا في الأرض ، أضرموا فيه النيران ذات الوقود الشديد اللهب والدخان وألقوا فيها كل ما يضرمها ويؤججها ثم جاءوا بالمؤمنين وألقوهم في النار ذات الوقود!! وقد كانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد ، فجلسوا يضحكون فرحين بإلقاء المؤمنين في النار ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين من كبائر الإثم وفظائع الجرم شهود وحضور! وما فعل هؤلاء المؤمنون حتى يلقوا في النار؟ لم يفعلوا شيئا أبدا ، وما نقموا ، ولا عابوا عليهم إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد! يا سبحان الله ما كان سببا في السعادة والخير ، يكون سببا في القتل والإحراق والتعذيب بالنيران! ولكن تلك طبيعة البشر قديما وحديثا ، وهذا صراع الحق والباطل ، وتلك هي البوتقة التي يصهر فيها الإيمان ويصفى.

هؤلاء المؤمنون آمنوا بالله العزيز الذي لا يعجزه شيء ، الحميد في السموات والأرض ، وإن كفر به بعض خلقه ، الذي له ملك السموات والأرض ، وهو على كل شيء شهيد ، فهل يترك المؤمنين نهبا للكفار والمشركين يفعلون معهم الأباطيل ويذيقونهم العذاب ألوانا؟! لن يكون هذا أبدا.

إن الذين فتنوا المؤمنين بالتعذيب ثم لم يتوبوا ـ فإن من يفعل ذلك لن يتوب ـ فلهم عذاب جهنم ، ولهم عذاب الحريق ، والله من ورائهم محيط ، وهو على كل شيء قدير ، أما المؤمنون العاملون فلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وذلك هو الفوز العظيم ، ولا عجب في هذا كله فربك بطشه بالكفار شديد ، وهو القادر على كل شيء الذي يبدئ الخلق ثم يعيد ، وهو الغفور لمن تاب الودود لمن أطاع ، صاحب الملك والسلطان بيده الأمر وهو الفعال لما يريد.

وهذه أمثلة أخرى تؤكد أن العاقبة للصابرين ، وأن الله مع المؤمنين ، فاحذروا يا آل مكة تلك العاقبة ، وهذه النتيجة ، واحذروا أيها الطغاة الظالمون نتيجة أعمالكم!

هل بلغك قصص أولئك الجنود ، أصحاب القوة والبأس الشديد ، مثل فرعون وجنوده وقبيلة عاد وثمود ، وكانوا أكثر منكم أموالا وأولادا ، فلما كذبوا بالرسل

٨٤٨

وكفروا بالبعث ، وآذوا رسلهم ، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر ، أخذهم ربك بظلمهم وما ربك بظلام للعبيد.

لو نظر العاقل في تلك الآيات يسوقها الحق للاعتبار والاتعاظ لاهتدى إلى سنة الله في خلقه ، وأنها لا تتحول ولا تتغير ، ولكن كفار مكة لم يكن فيهم شيء من ذلك بل كانوا في كفر وتكذيب ، وكأن الكفر والتكذيب إطار وهم داخلون فيه لا يتجاوزونه.

والله من ورائهم محيط ، وهو على كل شيء قدير ، فهم لا يعجزونه في الأرض ولا في السماء.

وهل لهؤلاء عذر في تكذيبهم وعدم إيمانهم؟ لا. بل هو قرآن مجيد : قرآن كريم ، قد رفع الله قدره ، وشرف مكانته ، وجعله كاملا في كل شيء ، وهو في لوح محفوظ ، ولذلك هم في ضلال ولا عذر لهم.

ويقول الشيخ محمد عبده ـ رحمه‌الله ـ في تفسيره : واللوح المحفوظ شيء أخبر الله به وأنه أودعه كتابه ، ولم يعرفنا حقيقته ، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود ، وأن الله قد حفظ فيه كتابه إيمانا بالغيب.

٨٤٩

سورة الطارق

وهي مكية. وعدد آياتها سبع عشرة آية ، وقد تكلمت على إثبات أن للنفس حافظا يحفظها وهو الله ، والدليل على ذلك ، ثم على إثبات البعث ، ثم ختمت بالكلام على القرآن ، وكيد الكفار والمشركين ويتبع ذلك تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)

المفردات :

(الطَّارِقِ) : كل ما جاءك ليلا فهو طارق ، والمراد به النجم. (الثَّاقِبُ) : الذي يثقب حجب الظلام بضوئه. (لَمَّا) : قرئت مشددة بمعنى إلا ، وإن على ذلك نافية أى : ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وقرئت لما بالتخفيف فتكون ما زائدة في الإعراب والمراد بالقراءتين واحد. (دافِقٍ) دفقت الماء أدفقه : إذا صببته ، والمراد ماء مدفوق أى : منصب. (الصُّلْبِ) : عظام الظهر ، أى : فقاره. (وَالتَّرائِبِ) :

٨٥٠

جمع تريبة ، وهي عظام الصدر التي يوضع عليها القلادة. (تُبْلَى السَّرائِرُ) المراد : تظهر السرائر وتعلم المكنونات. (ذاتِ الرَّجْعِ) : ذات الماء أو المطر.

(الصَّدْعِ) : هو الشق ، وقيل : هو النبات الذي يصدع الأرض ، أى : يشقها.

(فَصْلٌ) : فارق بين الحلال والحرام. (يَكِيدُونَ كَيْداً) الكيد : المكر ، وهو إذا أسند إلى الله لا يعقل أن يكون على حقيقته وإنما يكون المقصود منه الوصول بالإنسان إلى جزاء عمله من حيث لا يشعر. (فَمَهِّلِ) : فتأن عليهم وتريث. (رُوَيْداً) : إمهالا يسيرا.

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالسماء وما فيها من أفلاك وأجرام لا يعلمها إلا هو ، وبالطارق الذي يطرق ليلا ، وهذا توجيه ولفت لأنظار الناس إلى عالم السماء وما فيها. ولكنا لم نعرف الطارق فأراد الحق أن يبينه فقال : وما أدراك ما الطارق؟ وهذا أسلوب تفخيم للطارق ، كأنه لفرط فخامته لا يحيط به وصف ، إلا ما سيذكره الله عنه ، هو النجم الثاقب الذي يثقب الظلام بشعاعه اللماع ، أقسم بالنجم لما له من أثر كبير في الهداية الحسية والمعنوية والشئون الحيوية الأخرى.

والله ـ جل شأنه ـ يقسم على أن كل نفس من النفوس عليها رقيب وحفيظ ، وليست في النفوس نفس تترك هملا بلا حساب ولا رقابة ، ومن هو الحفيظ؟ هو الله (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١) وقيل : هو الملك الموكل بالإنسان.

فإذا كنت في شك من ذلك فلينظر الإنسان إلى نفسه وكيف خلق؟! إنه خلق من ماء دافق : ماء مصبوب ، يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وهذا الماء السائل كيف يتكون منه خلق سوى؟ وإنسان كامل في كل شيء! لا يعقل أن يكون ذلك بمحض الصدفة أو بفعل الطبيعة ، وإلا لكانت كل الخلائق سواء.

هذا الخلق بهذا الشكل ، وعلى تلك الصورة دليل على أن لكل نفس رقيبا وحفيظا يراقب ذلك كله ويدبره ، وينقله من حال إلى حال ، ولا يعقل أن تترك تلك النفوس سدى بلا ثواب أو عقاب ، الإنسان خلق من ماء دافق خارج من صلب الرجل وترائب

__________________

١ ـ سورة يوسف آية ٦٤.

٨٥١

المرأة وهذا الماء من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء من النبات ، ثم هذا الماء لا يصلح إلا إذا كان الأب مع الأم على وضع خاص. فمن الذي جمع كل هذا؟ أظن أن القادر على ذلك قادر على إرجاع الإنسان وإحيائه يوم تكشف السرائر ، وتظهر مكنونات الضمائر ، والإنسان عند ذلك ما له من قوة يدفع بها العذاب أو يجلب بها الثواب ، وليس له ولى ولا ناصر.

والسماء ذات المطر الذي يحيى الموات ، وينبت النبات ، والأرض ذات الصدع والشق ، أقسم الله بهذا إنه ـ أى : القرآن ـ لقول فصل ، يفرق بين الحق والباطل ، وما هو بالهزل ، إنه قول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين ، ليس بالشعر ولا بالسحر وإنما هو تنزيل رب العالمين ، ذلك هو القرآن المجيد.

أتراه تكلم عن الحفيظ ـ سبحانه وتعالى ـ ثم على البعث وتلك دعامتان ، أما الثالثة فهي القرآن ومن أنزل عليه.

ثم ختم السورة بتهديد الكفار والمشركين تهديدا يهد كيانهم مثبتا لهم أنهم يكيدون ويمكرون ، ولكن الله يمهلهم ولا يهملهم ثم يأتى عذابه من حيث لا يشعرون.

إذا كان الأمر كذلك فمهل الكافرين يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تستعجل لهم : إن عذاب ربك واقع بهم ، وأمهلهم إمهالا يسيرا.

٨٥٢

سورة الأعلى

وهي مكية ، وعدد آياتها تسع عشرة آية ، وتشمل الأمر بالتسبيح والتنزيه ، ثم الأمر بالتذكير وبيان أن الفلاح لمن تطهر من دنس المعاصي ، وخلص من حب الدنيا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)

المفردات :

(سَبِّحِ) التسبيح : تنزيه وتمجيد الله عما لا يليق. (فَسَوَّى) أى : جعله متساويا في الإحكام والإتقان. (قَدَّرَ) : جعل الأشياء مقدرة على مقادير مخصوصة.

(فَهَدى) : فوجه كل كائن إلى وجهته. (غُثاءً) : باليا هشيما. (أَحْوى) :

٨٥٣

مائلا إلى السواد. (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) : نوفقك إلى الخير. (فَذَكِّرْ) : بلغهم رسالتك وعظهم. (يَخْشى) : يخاف ربه. (الْأَشْقَى) الشقي : الكافر.

(تَزَكَّى) : تطهر. (فَصَلَّى) : خشع وخضع لله. (تُؤْثِرُونَ) : تفضلون.

(الصُّحُفِ الْأُولى) : الكتب التي أنزلت قبل القرآن.

المعنى :

سبح اسم ربك ، ونزهه من كل نقص ، واسم به عما لا يليق به من شبه المخلوقات أو اتخاذ الشركاء والأنصاب ، والاسم : ما به يعرف الشيء ، والله يعرف بصفاته ، أما ذاته المقدسة فتعالت عن الأوهام والعقول ، فالبشر يعرفون الله بأنه هو العالم القادر المريد الواحد الأحد ، الفرد الصمد المنزه عن كل نقص ، المتعالي عن الشريك والصاحبة والولد ، جل شأنه وتقدس اسمه ، وهذا الاسم ـ أى : الصفات التي بها يعرف ـ هو الذي وصف بأنه ذو الجلال والإكرام ، وهو الذي يجب علينا تنزيهه وتقديسه لأنه هو الذي خلق الخلق ، فسواه ووضعه على نظام محكم متقن ، لا تفاوت فيه ولا خلل ، حتى ما في هذا الكون من سموم وآفات وجراثيم ، كل ذلك لكمال النظام وتمام العمل وحسن التقدير ، وهو الذي قدر لكل كائن ما ينفعه وما يصلحه ، فهداه إليه وأرشده إلى الانتفاع به ، أرشده إليه بطبعه وما أودع فيه من غرائز واتجاهات ، وهو الذي أخرج المرعى ، وأنبت النبات ، الذي هو الغذاء للإنسان والحيوان ، ثم بعد أن أنبت النبات جعله هشيما باليا مائلا إلى السواد ليكون غذاء للحيوان ، وفي هذا إشارة إلى جواز الحياة بعد الموت ، وهو الذي تفضل فأنعم على البشر كله بإنزال القرآن ، على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعده بأنه سيقرئه القرآن وأنه لا ينساه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) إلا إذا شاء الله فالكل منه وإليه ، وخاضع لأمره إنه يعلم الجهر والإعلان وما هو أخفى من الخفاء ، وهو يوفقك للشريعة السمحة السهلة التي لا يصعب قبولها (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى).

إذا كان الأمر كما ذكر من وجوب تنزيه الحق ـ تبارك وتعالى ـ عن كل نقص لأنه خلق الخلق فسواه ، وقدر له كل ما يصلح به وهداه إليه بطبعه وغريزته ، وأنعم بالنبات أخضره ويابسه ، وأنزل القرآن هدى للناس ، ووعد بحفظه ، وأنه يسر لنا شريعة سهلة سمحة.

٨٥٤

إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد الناس بالقرآن وعظهم واعلم أن الناس نوعان فريق تنفعه الموعظة ، وفريق لا تنفعه ، وسيذكر بها ويتعظ من في قلبه نوع من الخشية لله ، والإيمان بالغيب ، وسيتجنبها الشقي المغلق القلب الذي لا يؤمن بالله ولا بالغيب. وهذا سيصلى نارا ذات لهب ، النار الكبرى التي تكون يوم القيامة : أما نار الدنيا فمهما كانت فهي صغرى! ثم هو فيها لا يموت بل يظل معذبا عذابا شديدا ولا هو فيها يحيى حياة سعيدة : حياة يحبها.

ولا عجب في ذلك ، قد أفلح من تطهر من دنس المعاصي ورجس عبادة الهوى والأصنام (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (١) قد أفلح من زكى نفسه ، وقد خاب من دساها ودنسها بالمعاصي ، قد أفلح الذي طهر نفسه ، وذكر اسم ربه فخشع له وخضع ، ذكر ربه فوجل قلبه ، واضطربت نفسه ، وفاضت عينه ، فقام بالعمل الصالح الذي ينفعه (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) وهذا إشارة إلى الداء الكامن ، والسبب الحقيقي في معصية العاصي وكفر الكافر ، والسبب هو إيثار الدنيا على الآخرة ، وحب العاجلة الفانية ، فحسب الدنيا رأس كل خطيئة حبها ، بمعنى أنك تعبدها وتتفانى في خدمتها ، مع أن الآخرة خير بلا شك منها ، وهي أبقى لك ، فلن تأخذ من دنياك إلا ما قدمته يداك من صالح الأعمال ، والآخرة خير وأبقى.

ولا تظنوا أن محمدا أتى بالجديد. لا. إن هذا ـ الشرع المحمدي ـ لفي الكتب الأولى ، كتب إبراهيم وموسى ، إذ الكل متفق على توحيد الله ، وتنزيهه وإثبات البعث وتصديق الرسل.

__________________

١ ـ سورة المؤمنون الآيات ١ ـ ٣.

٨٥٥

سورة الغاشية

وهي مكية. وآياتها ست وعشرون آية ، وقد تكلمت عن الغاشية وأن الناس بها فريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير ، ثم لفت الأنظار إلى بعض الآثار ، ثم مرت بالنبي وتذكيره مع بيان أن المرجع إلى الله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)

٨٥٦

المفردات :

(الْغاشِيَةِ) المراد : يوم القيامة ؛ لأنه يغشى الناس بعذاب أليم. (خاشِعَةٌ) : ذليلة. (تَصْلى ناراً) : تقاسى حرها. (آنِيَةٍ) : شديدة الحرارة. (ضَرِيعٍ) : شائك لا خير فيه. (لاغِيَةً) : لغو لا فائدة فيه. (عَيْنٌ جارِيَةٌ) : ينبوع لا ينقطع. (سُرُرٌ) : جمع سرير. (وَأَكْوابٌ) : جمع كوب وهو ما نسميه الآن «كباية». (وَنَمارِقُ) : جمع نمرقة وهي الوسادة ، أو ما نسميه الآن مسندا أو مخدة. (وَزَرابِيُ) : جمع زربي وهو البساط ، وأصله : النبات إذا كانت فيه حمرة وصفرة وخضرة. (بِمُصَيْطِرٍ) : بمتسلط. (إِيابَهُمْ) : رجوعهم.

المعنى :

هل سمعت قصة ذلك اليوم العظيم (١)؟! إنه يوم يغشى الناس بالعذاب ، ويغشى فيه وجوههم النار ، يوم يفترق فيه الناس إلى الفريقين ، فريق وجوهه يغشاها العذاب خاشعة ذليلة مما رأته من الإهانة والذل وقد كانت في الدنيا تعمل وتتعب ، ولكنها لم تأخذ شيئا (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢) ثم هي تقاسى النار وحرها بما قدمت من سيّئ الأعمال ، وهي تسقى من عين شديدة الحرارة ، إذا عطشت ، حتى إذا خوت بطونهم وأحسوا بالجوع والحرمان جيء لهم بطعام من ضريع ، لا يسمن لحما ، ولا يدفع جوعا ، فلا غناء فيه ولا فائدة.

ـ وقانا الله شرها ـ فهي فوق ما يتصور العقل ، نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

وأما الفريق الثاني ، فهو فريق أهل الجنة ، وجوه ـ يومئذ تدخلها ناعمة ـ ذات بهجة وحسن نادر ناضرة ، وهي ـ أى : أصحابها ـ لسعيها في الدنيا راضية ، فرحة مستبشرة لأنها أدت عملها ، وقامت بواجبها ، وهي في جنة عالية المكان والوصف أو

__________________

(١) هذا استفهام أريد به التقرير ولفت النظر إلى هذا الحديث حتى كأنه الحديث المنفرد في بابه ، وقيل : هل بمعنى قد.

(٢) سورة الفرقان آية ٢٣.

٨٥٧

عالية البناء والركن ، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ، بل هو الحديث العذب ، والفاكهة الحلوة ، التي لا عبث فيها ولا مجون.

انظر إلى وصف أهل الجنة بالسرور والرضا عن أعمالهم في الدنيا ، وأنهم في جنة مرتفعة ، ثم هم لا يسمعون لغوا فيها ، كما نرى عند الأغنياء والمترفين ، في تلك الجنة العالية عيون لا ينقطع ماؤها ولا ينضب معينها. وفيها سرر مرفوعة قد أعدت للجلوس عليها أو النوم ، وفيها أكواب موضوعة لاستخدامها وتناول المشروب بها وفيها نمارق ووسائد قد صفت على الأرائك والمقاعد ، وفيها البسط الجميلة المنقوشة كالزرابى المبثوثة ، وفي الواقع فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.

ولا عجب في هذا!! أنسوا فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (١) إنها خلقت على شكل بديع يدل على أن خالقها عليم بها بصير ، أرأيت إلى عنقها وطوله وإلى خفها وحافرها كيف أعد للسير في الصحراء وإلى معدتها وكيف وضعت على شكل يسهل معه حفظ الماء أياما ، أو لم ينظروا إلى السماء وما فيها كيف رفعت وعلقت في الهواء مع سرعة دورانها وشدة تجاذبها ، أو لم ينظروا إلى الجبال كيف نصبت كالأعلام يهتدى بها السارى ، ويلجأ إليها الخائف ، ويقصدها المتنزه والمصطاف ، أو لم ينظروا إلى الأرض كيف سطحت وبسطت ، ومهدت للعيش عليها ، أما جمع الإبل والسماء والجبال والأرض في سلك واحد فتلك هي أهم المرئيات عند العربي المخاطب بالقرآن الكريم ألا يدل ذلك كله على أنه قادر على كل شيء ، إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد هؤلاء الناس ، واحملهم على النظر في ملكوت الله لعلهم يتفكرون ، ولا تأس عليهم ، إنما أنت مذكر فقط ، لست على قلوبهم مسيطرا ، إنما الذي يملك القلوب هو الله وحده ، فهو الذي يقدر على إلجائهم إلى الإيمان ، ولست عليهم مسلطا إلا من تولى وأعرض فسيسلطك الله عليه : أو المعنى : لست مستوليا عليهم لكن من تولى وأعرض فإن الله معذبه العذاب الأكبر ، لأن إليه إيابهم ، ثم إن عليه حسابهم.

__________________

(١) (كيف) حال مقدم من ضمير خلقت ، وجملة (خلقت) : بدل اشتمال من الإبل.

٨٥٨

سورة الفجر

مكية. وآياتها ثلاثون آية ، وقد تضمنت القسم على أن الكفار سيعذبون حتما ، كما عذب غيرهم من الأمم السابقة ، وبيان الإنسان وطبعه وما جبل عليه في الدنيا ، وبيان موقفه يوم القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)

المفردات :

(وَالْفَجْرِ) : هو الوقت المعلوم الذي ينبلج فيه النور متتابعا ويظهر ليبدد حجب الظلام. (وَلَيالٍ عَشْرٍ) : هي الليالى الأولى من كل شهر التي يغالب فيها النور الظلام ـ وهي غير معينة ولذلك نكرت. (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) : الزوج والفرد من تلك الليالى. (يَسْرِ) أى : يسرى ، بمعنى يجيء ويقبل. (حِجْرٍ) : عقل. (بِعادٍ) : قبيلة من العرب البائدة كان نبيها هودا ، وكانت تسكن الأحقاف جنوبي جزيرة العرب. (إِرَمَ) : لقب لها. (ذاتِ الْعِمادِ) : رفيعة العماد ، وهذا كناية

٨٥٩

عن الغنى والبسطة. (ثَمُودَ) : قبيلة من العرب البائدة كانت تسكن الحجر بين الشام والحجاز وكان نبيها صالحا. (جابُوا) : قطعوا الصخر ونحتوه. (فِرْعَوْنَ) : ملك مصر. (ذِي الْأَوْتادِ) : الأبنية الثابتة ثبوت الوتد ـ الذي يدق في الأرض.

(طَغَوْا) : تجاوزوا الحد. (فَصَبَ) : أنزل عليهم العقوبة. (سَوْطَ عَذابٍ) أصل السوط : الجلد الذي يضفر ليضرب به ، والمراد به العذاب الذي ينزل بهم.

(لَبِالْمِرْصادِ) المرصاد : المكان الذي يقوم فيه الرصد. والرصد من يرصد الأمور ويراقبها ليقف على ما فيها من خير وشر ، ويقال للحارس : رصد.

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالفجر ساعة يظهر فيه الضوء مطاردا للظلام بجحافله ، وقت ينفسخ الصبح وإسفاره ، لينشق النهار فينتشر الناس والحيوان ، والطير والوحوش يبتغى الكل رزقا من عند الله وفضلا ، وأقسم كذلك بالليالي العشر من كل شهر ، ولا يزال الظلام فيها يغالب القمر وضوءه حتى يغلبه فيسدل على الكون حجبه وأستاره ، وأقسم بالشفع من الليالى والوتر منها ، وأقسم بالليل بأستاره التي تستر الكون فيختفى النهار ، ويظهر الشفق في الأفق ، أقسم بهذا كله ليلفت النظر إلى عجائب الكون وآثار قدرة الله لعلهم يتفكرون ، أقسم ليقعن الكفار في قبضة القوى القادر ، وليعذبهم عذابا شديدا كما عذب غيرهم من الأمم التي كذبت وكفرت ، وكان عاقبة أمرها خسرا ، وها هي ذي أخبارهم بالإجمال. ألم تر كيف فعل ربك بعاد بعد أن أرسل لها هودا فكذبته وكفرت بالله. وإرم لقبها (١) ، وكانت تسكن الخيام وتتخذ البيوت من الشعر إلا أنها كانت رفيعة العماد ، قوية الجناب ، لم يكن يضاهيها أحد ، ولم يخلق مثلها في البلاد قوة وعددا. وقد ذكر الله أخبار عاد ، وثمود ، وفرعون ، بالتفصيل في سور أخرى كالحاقة وغيرها.

أما ثمود فكانوا ينحتون من الجبال بيوتا حالة كونهم فارهين ، وكانوا يقطعون الصخر وينحتونه لبناء مساكنهم ، وهذه شهادة لهم بقوة العمل وسعة الفكر ، وأما فرعون وما أدراك ما فرعون؟ إنه ملك مصر وصاحب الحول والطول الذي كان

__________________

(١) هذه إشارة إلى أن (إرم) بدل من عاد وهو ممنوع من الصرف.

٨٦٠