التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ

عوى وصوت إنسان فكدت أطير

هذا هو الإنسان وطبعه وما جبل عليه ، فطرة سليمة حتى إذا حركت فيها عوامل الشر انقلب أشد من الحيوان ، إلا الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان بالله واليوم الآخر فإنهم يكبحون جماح نفوسهم ، ويردونها إلى الجادة والخير ، فيعملون العمل الصالح ابتغاء مرضاة الله ، وهؤلاء لهم أجر كريم غير مقطوع فلهم الحسنى في الدنيا ، ثم لهم الأجر الكامل في الآخرة.

عجبا لك أيها الإنسان! ما الذي يجعلك تكذب بيوم الدين بعد أن عرفت ذلك؟! أليس الله بأحكم الحاكمين (١) وأعدل العادلين. حيث أثاب الطائعين بالثواب الدائم وجازى المكذبين بالعقاب الصارم.

__________________

(١) هذا استفهام للتقرير بما بعد النفي ، أى : قروا بأنه أحكم الحاكمين.

٨٨١

سورة العلق

وتسمى سورة «اقرأ» أو «القلم». وهي مكية ، وآياتها تسع عشرة آية ، وفيها أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقراءة مع بيان مظاهر قدرة الله مع الإنسان ، وبيان بعض صفاته ثم ذكر مثل يدل على عناد بعض أفراده وبيان جزاء أمثاله.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)

المفردات :

(عَلَقٍ) : جمع علقة ، وهي قطعة دم جامدة (الْأَكْرَمُ) أى : هو أكرم من كل كريم. (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) السفع : الجذب بشدة ، والناصية : شعر مقدم الرأس ، والمراد إذلاله وإهانته. (نادِيَهُ) المراد : أهل النادي. (الزَّبانِيَةَ) : الملائكة الموكلين بالإشراف على الكفار في النار فهم يدفعونهم إليها دفعا. (وَاقْتَرِبْ) : تقرب إلى ربك بالعبادة.

٨٨٢

المعنى :

روى البخاري في صحيحه عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ ما معناه قالت : أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يأتى حراء فيتحنث فيه ـ فيتعبد فيه ـ الليالى ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فاجأه الوحى ، وهو في غار حراء فجأه الملك فيه. فقال : اقرأ. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذنى فغطني ـ ضمني إليه ـ حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ... إلخ الحديث.

وعلى ذلك فصدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن ، رحمة وهدى للناس ، وأول خطاب وجه إلى رسول الله من قبل الحق ـ تبارك وتعالى ـ كان أمرا بالقراءة وحديثا عن القلم والعلم ، أفلا يتدبر المسلمون هذا ويعملون على نشر العلم ويحملون لواءه؟! فهذا نبيهم الأمى أمر بالقراءة وعمل على نشرها.

أما بقية السورة فالظاهر أنها نزلت بعد ذلك ، وأول سورة نزلت كاملة أم الكتاب ـ الفاتحة ـ وخلاصة معنى الآيات : كن قارئا ـ يا محمد ـ بعد أن لم تكن كذلك ، واتل ما أوحى إليك ولا تظن أن ذلك بعيد لأنك أمى لا تقرأ ولا تكتب ، ولا تتوهمن أن ذلك محال ، فالله الذي أبدع هذا الكون وخلق فسوى وقدر فهدى : وخلق الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات ، والمسيطر عليها ، والمتميز عنها بالعقل والتكليف وبعد النظر ، خلقه من قطعة دم جامدة لا حس فيها ولا حركة ولا شعور ، ثم بعد ذلك صار إنسانا كاملا في أحسن تقويم.

هو الله الذي يجعلك قادرا على القراءة ويهبك العلم بما لم تكن تعلم أنت ولا قومك منه شيئا ، وهو القادر على أن ينزل عليك القرآن لتقرأه على الناس على مكث وما كنت تدرى قبله ما الكتاب ولا الإيمان!!

٨٨٣

اقرأ باسم ربك ، أى : بقدرته ـ فالاسم كما مر علم على الذات وبه تعرف ، والله يعرف بصفاته ـ الذي خلق كل مخلوق فسواه وعدله في أى صورة شاءها له ـ وقد خلق الإنسان من علق ، اقرأ يا محمد ، والحال أن ربك الأكرم من كل كريم. لأنه واهب الكرم والجود ، وهو القادر على كل موجود ، ولقد كرر الأمر بالقراءة لأنها تحصل للإنسان العادي بالتكرار. وتكون للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتكرير الأمر ، وإذا كان الله أكرم من كل كريم ، أفيصعب عليه أن يهبك نعمة القراءة وحفظ القرآن وأنت لم تأخذ بأسبابها العادية ، اقرأ إن شئت قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [سورة القيامة آية ٦٧](سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [سورة الأعلى آية ٦].

اقرأ وربك الأكرم الذي علم الناس كيف يتفاهمون بالقلم مع بعد المسافة ، وطول الزمن ، وهذا بيان لمظهر من مظاهر القدرة والعلم (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) نعم لقد أودع الله في الإنسان من الغرائز والتفكير ما جعله يبحث ويستقصى ، ويجرب حتى وصل إلى معرفة أسرار الكون ، وطبائع الأشياء فاستخدم كل هذا له وسخره لإرادته (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة ٢٩](وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة ٣١].

ترى أن الله أمر نبيه بالقراءة عامة وخاصة القرآن ثم بين له أن هذا أمر ممكن بالنسبة لله الذي خلق الخلق ، وخلق الإنسان من علق ، وهو الكريم الذي لا يبخل وخاصة على رسوله ، وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى * إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) حقا إن الإنسان ليطغى ويتكبر ويتمادى في الإثم لأنه رأى نفسه قد استغنت عن الغير بكثرة المال والأولاد ، وما كان له ذلك! إن إلى ربك وحده الرجوع يوم القيامة فسوف يحاسبه على ذلك حسابا شديدا.

لعلك تسأل عن تناسق الآيات؟ فأقول لك : لما ذكر الله فيما ذكر بعض مظاهر القدرة والعلم وكمال النعم التي أنعم بها على الإنسان ، ومقتضى ذلك ألا يكفر به أحد ، ولكن الإنسان كفر وبغى فأراد الله أن يبين السبب فقال ما معناه : إنه حب الدنيا والغرور بها والحرص عليها حتى تشغله عن النظر في الآيات الكبرى!

بعد أن أمر الله نبيه بأن يتلو ما أوحى إليه من الكتاب وأبان له سبب كفر الإنسان ضرب له مثلا برأس من رءوس الكفر قيل : هو أبو جهل ، وإن كانت الآية عامة.

٨٨٤

أخبرنى يا محمد عن الذي ينهى عبدا خاضعا لله يصلى له ، ما شأنه؟ إن شأنه لعجيب (١) شخص يكفر ويعصى ربه ، ينهى عن الخير وخاصة الصلاة أخبرنى عن حاله لو كان من أصحاب اليمين ، وكان من السابقين المهتدين ثم يأمر بالتقوى والخير ما شأن هذا؟ إن حاله يكون عجيبا لأنه يستحق المثوبة الكبرى في جنة المأوى.

أخبرنى إن كذب إنسان وأعرض عن الحق وتولى وأعطى نفسه كل ما تتمنى!! ألم يعلم هؤلاء بأن الله يرى ، قروا واعترفوا بأن الله يعلم الغيب والشهادة وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ففروا أيها الناس إلى الله وتوبوا إليه واعملوا على مرضاته.

كلا : كلمة ردع وزجر لمن يعصى الله مطلقا ، فأقسم لئن لم ينته هؤلاء الكفار أو العصاة عن أفعالهم لنعذبنهم عذابا شديدا ، ولنذلنهم إذلالا يتناسب مع تكبرهم في الدنيا وما ذلك على الله بعزيز. لنجذبن تلك الناصية بشدة ، تلك الناصية التي طالما كذبت لغرورها بقوتها واعتقادها أنها تمتنع عن الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهذا كذب بلا شك ، وقد أخطأت لأنها تجاوزت حدها وأساءت إلى غيرها وخاصة الأبرار الصادقين ، سنفعل مع صاحبها كل إهانة فليدع أهل ناديه ليدفعوا عنه شيئا!! بل سندعو الزبانية ، أى : سيدعو الله زبانية جهنم يدفعونه دفعا لها (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [سورة الطور آية ١٣] وليس له شفيع ولا نصير.

كلا ـ ردع للكافر عن عمله ـ لا تطعه أيها الرسول واسجد لله دائما وتقرب إليه بالعبادة فإنها الحصن والوقاية ، وطريق النجاح.

__________________

(١) هذا إشارة إلى أن : أرأيت؟ استفهام للإنكار والتعجب وهي تفيد معنى أخبرنى.

٨٨٥

سورة القدر

وهي مكية على الصحيح ، وآياتها خمس آيات ، وفيها تكلم عن بدء نزول القرآن ، وأنه نزل ليلة القدر ، التي تنزل فيها الملائكة والروح بكل أمر من الله ، وهي سلام من كل سوء.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)

المفردات :

(لَيْلَةِ الْقَدْرِ) : ليلة التقدير ، أو الشرف الرفيع والقدر العالي. (وَالرُّوحُ) :

هو جبريل.

المعنى :

إن ربك أنزل القرآن ـ أى : بدأ نزوله ـ في ليلة مباركة كثيرة الخيرات والبركات لأن فيها نزلت الآيات البينات ، وهذه الليلة من رمضان لقول الله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (١) وهي ليلة القدر التي ابتدأ الله فيها بتقدير دينه الحنيف. وتحديد دعوة رسوله الكريم ، وهي ليلة القدر والشرف والعزة والكرامة لأن الله أعلى فيها منزلة نبيه ، وشرف الإنسانية برسالة السماء الكبرى خاتمة الرسالات وقد جاء هذا

__________________

١ ـ سورة البقرة آية ١٨٥.

٨٨٦

التصريح بشرفها وعلو مكانتها حيث يقول الله : وما أدراك ما ليلة القدر؟ لا أحد يعرف كنهها ، ولا يحيط أحد بفضلها إلا بما سأذكره عنها ، ليلة القدر خير من ألف شهر ، ولا غرابة فالليلة التي ابتدأ الله فيها نزول القرآن هي ليلة مباركة فيها يفرق ويفصل كل أمر حكيم لأنه من الحكيم الخبير ، أليست هذه الليلة خيرا من ألف شهر ، بل هي خير ليلة في الوجود ، وأسمى وقت في الزمن وبالطبع العمل فيها خير من العمل في غيرها ألف مرة.

واستأنف بيان بعض فضلها فقال : إنها تتنزل فيها الملائكة ـ وخاصة جبريل المكلف بالوحي ـ يتنزلون فيها بإذن ربهم من كل أمر حكيم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأول عهد النبي بشهود الملائكة وجبريل معهم كان في تلك الليلة التي تنزلت الملائكة من عالمها إلى عالم الأرض ، نزلوا بالوحي على رسول الله. وهذه الليلة ليلة سلام وأمان ولا غرابة ففيها ابتدأ نزول القرآن مصدر الإسلام ومبدأ السلام ، روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ليخبر عن ليلة القدر فوجد رجلين يتنازعان فنسي الخبر. ليلة القدر مصدر السلام والأمان حتى مطلع الفجر.

٨٨٧

سورة البينة

وتسمى سورة البرية أو «لم يكن» ، وآياتها ثمان آيات ، وفيها الرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب ، ببيان أن ما جاء به النبي هو الحق ، ثم ذكرت جزاء من بقي على الكفر منهم ، ومن آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)

المفردات :

(مُنْفَكِّينَ) : مفارقين كفرهم تاركين ما هم عليه. (الْبَيِّنَةُ) : الحجة الظاهرة

٨٨٨

التي يتميز بها الحق من الباطل ، من البيان وهو الظهور. (مُطَهَّرَةً) : طاهرة من الزور والبهتان. (قَيِّمَةٌ) : لا عوج فيها. (حُنَفاءَ) : مائلين عن الباطل.

(الْقَيِّمَةِ) أى : الكتب القيمة ، أو الأمم المستقيمة العادلة. (الْبَرِيَّةِ) : الخلق.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) : إقامة ومكث.

المعنى :

أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس أجمعين ، أرسل لهم بالهدى ودين الحق ، ليخرجهم من ظلمات الجهالة ، وفساد العقيدة ، وذل التقليد الأعمى ، وكان الكفار من أهل الكتاب أو المشركين سواء في البعد عن الحق والدين الصحيح. أما أهل الكتاب فبعد أن فارقهم موسى وعيسى تخبطوا وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وأصبح دينهم خليطا ممقوتا فيه إلى جانب الحق البسيط ضلالات وضلالات ، وأما المشركون الذين لا يقولون بالتوحيد ولا يؤمنون بالبعث كمشركي مكة ، فقد تردوا في الباطل إلى أقصاه ، وأصبح دينهم مسخا من عقائد جاهلية وتقاليد بالية حسبوها دين إبراهيم الخليل ، والله يعلم أنه منها برىء.

ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا من المشركين ببعثة النبي العربي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فلما جاءهم ما عرفوا ـ بعثة النبي ـ كفروا به ، ولهذا ذكرهم أولا ، على أنهم أشد جرما من المشركين الذين يجهلون الحق ، وهؤلاء عرفوه وكفروا به عنادا وحسدا من عند أنفسهم ، ما كان هؤلاء وأولئك منفكين عن باطلهم حتى تأتيهم البينة الواضحة ، والحجة الظاهرة التي تقصم ظهر الباطل ، وما هي؟ هي رسول من الله ، وقد كان رسول الله نفسه بينة وحجة ظاهرة على أن دينه هو الحق ، فهو الصادق الأمين صاحب الخلق القويم والمعجزات الناطقة بصدقه ، والمنزل عليه القرآن الذي يتلوه ، أى : يقرؤه مع كونه أميا ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن حفظا عن ظهر قلب.

يتلو صحفا ـ القرآن ـ مطهرة من كل عيب وزور وكذب ، تلك الصحف فيها كتب قيمة لا عوج فيها ولا نقص ، وما المراد بالكتب؟ قيل : هي ما في القرآن مما بقي صحيحا من كتب موسى وإبراهيم مثلا ، أو هي سور القرآن : وكأن كل سورة كتاب

٨٨٩

مستقل قائم بذاته ، أو هي أحكام الإسلام وشرائعه ، وعلى كل فهي كتب قيمة لا عوج فيها ولا باطل ، ولا كذب ولا بهتان (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) [سورة الكهف الآيتان ١ و ٢].

وهل انتهى الكفر بإرسال النبي حتى يصح قوله تعالى : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) والجواب : إن إرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان صدمة للشرك زلزلت عقائد المشركين وفتحت قلوب الجهلاء الملتاثين ، وأنارت الطريق حتى عرفت الحق من الباطل ، فكانت بعثته حدا فاصلا بين عهدين ، لهذا صح قوله : «حتى» ولكن لم يؤمن الكل بالنبي. بل بعضهم وقف من النبي موقف العناد يصد عن سبيل الله ، ويحاول بكل ما أوتى من قوة وجهد أن يصرف الناس عن رسول الله ، أراد الله أن يسلى الرسول ببيان أن كفر الناس وعنادهم طبيعة فيهم ، وقد حصل لإخوانك الأنبياء مثلك ، وتفرق الناس معهم واختلفوا في شأنهم بين مؤمن وكافر (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (١) ولقد اختلف أهل الكتاب على أنبيائهم ، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة والحجة القائمة ، أى : بعد إرسال الرسل إليهم.

عجبا لهؤلاء ـ اليهود والنصارى ـ كيف يقفون معك هذا الموقف!! هل جئتهم بأمر جديد عليهم! لا ، هل أمرتهم بالمنكر ونهيتهم عن المعروف؟ إنك لم تأمرهم إلا بعبادة الله وحده مع الإخلاص والبعد عن الشرك والميل عن الإثم وكل بهتان ، وأمرتهم بإقامة الصلاة لله وإيتاء الزكاة؟ ما لهم لا يؤمنون؟! إن كان هؤلاء متمسكين بدينهم حقا ومؤمنين به حقا فدينهم الصحيح يدعو لذلك ، ويدعوهم للإيمان بالنبي محمد وذلك ـ الذي ذكر من العبادة والإخلاص ... إلخ ـ هو دين الكتب القيمة الصحيحة التي لم تحرف بعد ، وهو دين الأمم المستقيمة على الحق والخير ، فهل لهؤلاء عذر في ترك الإسلام؟ وهل يقبل منهم أن يعاندوا رسول الإسلام؟! ما جزاء من يكفر بتلك الشريعة الغراء السهلة السمحة؟ وما جزاء من يؤمن بها ويصدق رسولها؟ أما جزاء الذين كفروا من أهل الكتاب ـ وكانوا أولى الناس بأن يتسابقوا إلى الإسلام ـ والمشركين الذين يعبدون الأوثان ويقدسون الأصنام والأحجار فهم في نار جهنم ، خالدين فيها أبدا.

__________________

١ ـ سورة الأحقاف آية ٩.

٨٩٠

ولا غرابة في ذلك فهم شر الخلق على الإطلاق لأنهم كذبوا على الله وصدوا عن سبيله وكذبوا بكتابه ، ولم يصدقوا رسوله ، بل كذبوه وآذوه وأخرجوه وحاربوه.

أما جزاء من آمن بالله وباليوم الآخر ، وصدق رسول الله فأولئك هم خير البرية ، وكان جزاؤهم عند ربهم ـ وهذه نهاية الشرف لهم ـ جنات إقامة ومكث ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار فيها ما يدعون ويشتهون : وهم فيها خالدون أبدا.

ولا غرابة فقد رضى الله عن أعمالهم التي عملوها ، ورضى أن يمدحهم ويثيبهم عليها ، وهم قد رضوا عنه لأنهم فرحوا بلقائه وسروا بنعيمه.

وذلك الفوز العظيم لمن خشي ربه ، فاحذروا أيها الناس واعملوا لتنالوا هذا الأجر العظيم.

٨٩١

سورة الزلزلة

مدنية ، وقيل : إنها مكية. آياتها ثمان آيات ، وفيها أثبت الله أن الخير مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، وأن الشر مهما كان سيجازى عليه صاحبه ، كل ذلك يوم القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)

المفردات :

(زُلْزِلَتِ) الزلزلة : الاهتزاز والاضطراب الشديدان. (أَثْقالَها) : جمع ثقل ، وهو في الأصل متاع البيت ، والمراد به هنا : ما في جوف الأرض من دفائن. (يَصْدُرُ النَّاسُ) المراد : يخرجون من قبورهم. (أَشْتاتاً) : متفرقين فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير. (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة يقال : ذرة.

المعنى :

حينما يريد الله انقضاء الدنيا ، وقيام الساعة ، يأمر الأرض فتتزلزل وتهتز اهتزازا عنيفا لم يكن مألوفا ، وتخرج دفائنها وأثقالها من نار ومياه ومعادن وما بقي من جثث ، عندئذ

٨٩٢

يقول الإنسان الذي يرى هذا : ما لها؟ أى : ما الذي حصل للأرض؟! فإن هذا لم يألفه ولم يعرف له سببا ، وفي ذلك الوقت تحدثك الأرض حديثها ، وتنطق بلسان الحال لا بلسان المقال ، كما قال العلامة الطبري في تفسيره : إن هذا تمثيل ، فما وقع للأرض مما لم يكن مألوفا إنما كان بسبب أن ربك أوحى لها ، وأمرها بهذا أمرا تكوينا ، وكل ما يحصل في الكون فهو من قبيل الأمر التكويني من الله ، إلا أن هناك أمورا تحصل بلا سبب ظاهرى فتسند للأمر التكويني ، وما يحصل بسبب عادى لا يسند إليه ، وإن كان في الواقع منه ، يومئذ يخرج الناس من قبورهم متفرقين كل على حسب عمله ، ليروا جزاء أعمالهم ، فمن يعمل ما يوازن مثقال ذرة من خير يثب عليه ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر يجاز عليه (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١) وهذه السورة سورة ترغيب وترهيب.

__________________

١ ـ سورة الأنبياء آية ٤٧.

٨٩٣

سورة العاديات

مكية ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يقسم الله على أن الإنسان الذي أنعم عليه كفور جحود ، وأنه شهيد على ذلك ، وأنه محب للمال بخيل ، ثم هدده بالعقاب الشديد يوم القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)

المفردات :

(وَالْعادِياتِ) أى : الخيل التي تعدو وتسرع في الجري. (ضَبْحاً) الضبح : نوع من السير ، أو نوع من العدو ، وقيل : هو اسم للصوت. (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أورى فلان : إذا أخرج النار بزند ونحوه. والقدح : ضرب شيء بشيء ليخرج من بينهما شرار النار. (فَالْمُغِيراتِ) : الإغارة والهجوم. (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أى : هيجن ، والنقع : الغبار. (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) : توسطن به جمعا. (لَكَنُودٌ) الكنود في الأصل : الأرض التي لا تنبت ، شبه به الإنسان الذي يمنع الحق والخير والواجب عليه ، والمراد به الكفور ، أو العاصي. (لَشَدِيدٌ) أى : بخيل ممسك شديد الضن بالمال. (بُعْثِرَ) أى : بعث وأثير وأخرج. (وَحُصِّلَ) : أظهر ما في الصدور محصلا مجموعا.

٨٩٤

المعنى :

أقسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالخيل إذا عدت حالة كونها تضبح ضبحا ، فالخيل التي تغير على العدو في الصباح ، فالخيل التي تثير التراب وتهيجه فوق الرءوس فتتوسط به جموع الأعداء ، وهن متلبسات بالغبار.

أقسم الله بالخيل الشديدة العدو التي تخرج من أفواهها زفيرا عاليا ، فالتي تورى النار أثناء الجري ، وتغير على العدو في الصبح ، وتثير النقع وتتوسط به جمع الأعداء ، وتلك أوصاف للخيل التي يجاهد بها أصحابها في سبيل الله ، وهذا شرف كبير ، ولذلك أقسم الله بها ، على أن الخيل من الدواب التي لها مكانتها ، وهي كما قال العربي : ظهورها حرز وبطونها كنز. ومهما استحدث من آلات الحرب فلا زال للخيل مكان ملحوظ ، على أن هذه الأوصاف تعلمنا كيف نستخدم الخيل ، حتى لا نتخذها زينة فقط. (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [سورة النحل آية ٨].

أما المقسم عليه فقوله : إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديد ، وقد وصف الله الإنسان بثلاث صفات : الأولى كونه كنودا ، أى : مناعا للخير جحودا يجحد نعمة ربه ، ولا يقوم بشكرها ، وهذا إنما يكون من الإنسان الكفور أو العاصي ، لقد صدق الحديث : «الكنود الّذى يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده» الثانية كونه على أعماله شهيدا ؛ فأعماله شاهدة عليه فلا تحتاج لدليل ، وهو لا يستطيع إنكار جحده لظهوره ، على أنه إن أنكر بلسانه عناده فبينه وبين ضميره يشهد بأنه منكر جاحد لنعم ربه ، وسيشهد على نفسه يوم القيامة ، فهو إذا على أعماله شهيد ، والثالثة : إنه لحب الخير لشديد ، نعم ، إن الإنسان لأجل حبه المال حبا جما بخيل به شحيح لا ينفق منه إلا بقدر بسيط ، وهو حريص عليه ، متناه في الحرص ، ممسك مبالغ في الإمساك.

يحصل منه هذا؟! أفلا يعلم الإنسان أن ربه به بصير؟ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وأخرجت الناس من الدور ، ثم أظهرت دفائن القلوب وأسرار الصدور : إن ربهم بهم يومئذ لخبير ، وإنه سيجازى على النقير والقطمير.

٨٩٥

سورة القارعة

وهي مكية ، وآياتها إحدى عشرة آية ، وفيها يصف بعض مناظر يوم القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)

المفردات :

(الْقارِعَةُ) (١) القرع : الضرب بشدة ، وسميت الحادثة العظيمة قارعة لأنها تقرع أصحابها وتصك آذانهم ، والمراد بها هنا : يوم القيامة ؛ لأنه يقرع الناس بالهول والفزع الشديد. (كَالْفَراشِ) : حيوان صغير أحمق يتهافت على النار. (الْمَبْثُوثِ) : المتفرق (كَالْعِهْنِ) : الصوف ذي الألوان. (الْمَنْفُوشِ) : الذي نفش. (فَأُمُّهُ) : ما يأوى إليها كما يأوى الولد إلى أمه. (هاوِيَةٌ) : هي نار جهنم. (حامِيَةٌ) : ملتهبة.

__________________

(١) وإعرابها : القارعة مبتدأ ، و (ما) مبتدأ ثان ، أو خبر مقدم ، والقارعة مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر القارعة.

٨٩٦

المعنى :

القارعة التي تقرع الناس بأهوالها ، وتصك آذانهم بصوتها هي يوم القيامة ، يوم الفزع الأكبر والهول الشديد ، واليوم الذي تصطك فيه الأجرام العلوية بالسفلية ، ويقرع فيها أعداء الله بالعذاب الشديد والخزي والنكال ، تلك هي القارعة الكبرى وما القارعة؟ وهذا استفهام للتهويل والتفخيم ، وما أدراك! ما القارعة؟! نعم أى شيء يعرفك بها ويعلمك حقيقتها؟ لا أحد يخبرك عنها إلا خالقها وهو الله ، وأنت لا تعرف عنها إلا ما يقصه عليك ربها.

يوم يكون الناس حيارى مضطربين كالفراش المتفرق الذي يقع في النار لتخبطه وسوء تقديره ، وتكون الجبال الرواسي ـ التي كانت مثلا في الثبات وعدم التأثر ـ كالصوف المنفوش ، يا سبحان الله! أما حال من فيها فها هو ذا : فمن ثقلت موازينه لحسن أعماله وكثرة إخلاصه ، فهو يومئذ في عيشة راضية ، أى : فهو في حال تقر بها عينه ، وتطمئن لها نفسه حتى يصبح راضيا مغتبطا.

وأما من خفت موازينه لسوء عمله واتباعه الباطل وبعده عن الحق فأمه هاوية ، ما أروع هذا التعبير! ما يأوى إليه نار حامية ، نار يهوى فيها صاحبها ، وما أدراك ، ما هيه؟ أى : أنت لا تعرف عنها شيئا ، إنها نار حامية تكوى الوجوه ، وتشوى الجلود ، وقانا الله شرها.

٨٩٧

سورة التكاثر

مكية ، وآياتها ثمان آيات ، وفيها يحذرنا الله عاقبة التكاثر في المال والجاه ، ويخبر أن عذاب العصاة واقع لا محالة ، وأن جهنم حق لا شك فيها ، وأنكم ستسألون عن نعيم الدنيا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)

المفردات :

(أَلْهاكُمُ) : شغلكم. (التَّكاثُرُ) : التبارى في الكثرة ، أى : المفاخرة بكثرة المال والولد ، أو المراد التغالب في تكثير المال وكثرة الرجال. (عِلْمَ الْيَقِينِ) أى : علما يقينيا ، والعلم اليقيني : هو الذي نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع عن عيان أو دليل صحيح. (عَيْنَ الْيَقِينِ) أى : لترونها رؤية حقيقية كأنها هي اليقين نفسه ، فعلم العيان والمشاهدة يسمى عين اليقين.

المعنى :

ألهاكم التكاثر في الأموال والرجال والتغالب في جمعها عن تحصيل ما ينفعكم وعمل

٨٩٨

ما يبقى لكم يوم القيامة ، ألهاكم ذلك وشغلكم عن الخير الذي ينفعكم حتى صرتم موتى والمعنى : أنكم بقيتم على ذلك طول حياتكم.

وقد ورد أن قبيلتين تفاخرتا بكثرة المال والرجال حتى ذهبوا إلى قبورهم ، وتفاخروا بمن مات فنزلت السورة تنعى عليهم ذلك وتحذرهم عاقبته ومغبته.

ارتدعوا عن ذلك العمل الذي ينشئ التدابر والتقاطع والانشغال بما لا ينفع صاحبه. كلا سوف تعلمون عاقبة هذا التكاثر وعند ذلك تندمون ولا ينفع الندم ، ثم كلا سوف تعلمون ، وهذا تأكيد للمعنى السابق ، كلا! لو تعلمون عاقبة ذلك علما يقينيا لا شك فيه ولا شبهة علما ناشئا عن اعتقاد صحيح لما تفاخرتم بالمال أو بالرجال ، ولما تسابقتم في تكثير المال والرجال ، ولانصرفتم إلى ما هو خير لكم وأجدى عليكم ، ألا وهو التسابق في تحصيل الخير ، فلمثل هذا فليعمل العاملون.

أقسم لترون الجحيم ـ وهذا كناية عن ذوق عذابها ـ ثم لترونها ولتتذوقن عذابها لأنكم تسابقتم في المال وتكاثرتم وتفاخرتم به ، ولترونها لذلك رؤية مشاهدة ، رؤية محسوسة وهي الرؤية اليقينية ، ثم بعد ذلك لتسألن عن النعيم الذي تتفاخرون به وتتسابقون في تحصيله ، فاحذروا أيها الناس وانتبهوا.

٨٩٩

سورة العصر

مكية. وآياتها ثلاث آيات. وفيها القسم على أن الإنسان لفي خسر وضلال إلا من عصمه الله من المؤمنين العاملين الذين تواصوا بالحق والصبر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)

المفردات :

(الْعَصْرِ) : هل المراد به الدهر كله؟ أو هو الوقت الخاص الذي يكون في طرف النهار.؟ (خُسْرٍ) : ضلال وفساد. (تَواصَوْا) : يوصى بعضهم بعضا. (بِالْحَقِ) : بالثابت والمراد به الخير. (بِالصَّبْرِ) الصبر : قوة النفس على تحمل المشاق.

يقسم الله بالدهر ، لما فيه من العبر ، وما يكون فيه من الأحوال المتناقضة التي تدل على أن لهذا الكون ، ولهذا الدهر إلها هو المتصرف القادر فيه ، ألست ترى فيه ليلا ونهارا يتعاقبان ، وترى فيه آية لليل وأخرى للنهار ، ألست ترى فيه سراء ، وضراء ، وسعادة وشقاء وصحة ومرضا ، وخوفا وأمنا ، وإنسانا يموت من الجوع وآخر يهلك من الشبع ، وهذا يموت من الغرق ، وذاك يموت من الحرق ، كل ذلك والعصر زمن لا دخل له في شيء أبدا ، بل هذا يدل على أن للكون إلها هو خالقه ومدبره وهو المستحق لأنه يتوجه إليه وحده ويعبد.

٩٠٠