التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

إن الإنسان لفي خسر وضلال وكفر وهلاك بسبب ما يتردى فيه من المعاصي والكفر والآثام التي اختارها لنفسه (١) يا سبحان الله الإنسان كالمغمور في الخسران ، وقد أحاط به من كل جانب ، وذلك أنه يذنب في حق الإله الذي رباه وأنعم عليه بكل نعمة وخير.

إن الإنسان ـ جميع أفراده ـ في ذنوب وآثام مهلكة إلا من عصم الله منه ووفقه إلى الخير ، وهم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله إيمانا صادقا خالصا ، ثم أتبعوا ذلك بالعمل الصالح المفيد الذي يرضى الله ورسوله والمؤمنين ، ولكن هل يكتفى منك الله بذلك؟ لا ، بل لا بد من خصلة ثالثة هي التواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، أى : يوصى بعضهم بعضا بالحق الثابت الذي أرشد له الدليل السليم والشريعة الصحيحة ، ويوصى بعضهم بعضا بالصبر على المكروه ، وتحمل المشاق.

إذ لا يكتفى منك الدين بأن تعمل الخير فقط بل لا بد أن تدعو غيرك ـ بعد أن تصلح نفسك ـ تدعوه إلى الحق وإلى الخير وإلى الصراط المستقيم ، وسيلحقك أذى في ذلك بلا شك فاصبر وادع غيرك للصبر ، فالصبر نصف الإيمان والله هو الموفق إلى الخير.

__________________

(١) والله قد خلقه مستعدا للخير ميالا له (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

٩٠١

سورة الهمزة

مكية. وآياتها تسع آيات ، وفيها ينعى الله على العياب الطعان المشاء بالنميمة ، ويعده بنار شديدة مطبقة عليه من كل ناحية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)

المفردات :

(وَيْلٌ) : هلاك وعذاب. (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) : عياب طعان مشاء بالنميمة بين الناس ، وهذه الصيغة ذاتها تدل في اللغة على الكثرة. (وَعَدَّدَهُ) أى : عده مرات متلذذا به. (أَخْلَدَهُ) : جعله خالدا باقيا. (كَلَّا) : ردع وزجر. (لَيُنْبَذَنَ) : ليرمين. (الْحُطَمَةِ) : النار الشديدة ، سميت بذلك لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم. (الْمُوقَدَةُ) ، المتقدة الشديدة. (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) : تصل إليها وتؤثر في موضع الشعور ومركز الإحساس ، أو تطلع على ما فيها وتميز بين أنواعها. (مُؤْصَدَةٌ) : مطبقة مغلقة عليهم. (عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) : عمد طويلة.

ويل شديد لا يدرك كنهه ، ولا تعرف حقيقته : لكل همزة لمزة ، لكل شخص يطعن في أعراض الناس ، ويغض من شأنهم ، ويحقر من أعمالهم ، يسيء إليهم متلذذا

٩٠٢

بعمله ، وإنما دعاه إلى ذلك إعجابه بنفسه ، وغروره بماله الذي جمعه وجعله عدته ، وعده مرات ، وظن أنه لا يموت ، ويروى أن الأخنس بن شريق ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف كان يفعل ذلك مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

سيذكر الله ما أعده لهؤلاء وأمثالهم من العيابين المغرورين بمالهم فقال : كلا : ردع لهم وزجر عن ظنهم الفاسد وحسبانهم الكاذب والله لينبذن من يفعل ذلك في الحطمة ، تلك النار التي تحطم العظام وتأكل اللحوم وتهجم على القلوب.

وما أدراك ما الحطمة؟ وهذا الاستفهام يراد به تفخيم أمرها ، وإكبار شأنها وبيان أنها مما لا تدركها العقول ، ولا تحيط بها الأوهام ، ولا يعرفها إلا خالقها فمن ذا الذي يعلمك بشأنها إلا خالقها؟ ولذا عرفها فقال :

هي نار الله التي ليست كنيران الخلق ، نار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة وتقهرها وتعلوها ، لأنها تدخل في الجوف ، أو هي تعرف أسرار القلوب ، وتميز بين الطائع والعاصي ، إنها مطبقة عليهم فلا يخرجون منها أبدا ، وأبوابها المغلقة شدت بأوتاد طويلة لا تفتح أبدا.

٩٠٣

سورة الفيل

مكية. وآياتها خمس آيات ، وفيها يذكر الله قصة أصحاب الفيل ، وخلاصتها :

كان على اليمن ملك يسمى أبرهة الأشرم ، وقد بنى كنيسة عظيمة بصنعاء ، وكانت على جانب كبير من الأبهة وفخامة البناء ، وأراد أن يصرف الحج من الكعبة إليها ، وأخبر النجاشيّ ملك الحبشة بذلك ، ويروى أن أعرابيا أحدث فيها وفر ، فغاظ ذلك الملك ، وأقسم ليدمرن الكعبة ، فجهز جيشا عظيما ، وقصد به إلى مكة ، وكان في مقدمته فيل عظيم ، ولما شارف الجيش مكة أمر الملك بنهب أموال العرب ، وكان فيها إبل لعبد المطلب بن هاشم جد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاستاقها الجند ، فلما علم عبد المطلب بذلك طلب مقابلة الملك ، فقابله وكلمه في شأن الإبل فرد عليه الملك قائلا : لقد أعجبتنى حين رأيتك ثم زهدتني فيك حين كلمتنى ، تسألنى الإبل وتترك البيت الذي هو دينك ودين آبائك!! فرد عليه عبد المطلب قائلا : أما الإبل فهي لي وأما البيت فله رب يحميه ، فرد عليه أبرهة الإبل ...

ويروى أن عبد المطلب لما انصرف من عند الملك أمسك بحلقة باب الكعبة وقال :

لاهم (١) إن العبد يمنع

رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم

أبدا محالك

إن كنت تاركهم وقبلتنا

فأمر ما بدا لك

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه لهدم البيت والانصراف إلى اليمن ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ، ولما وجهوه إلى اليمن أو إلى الشام قام ونهض.

عند ذلك أرسل الله عليهم طيرا تحمل في مناقيرها وأرجلها حجارة صماء ألقتها عليهم فانتشر المرض فيهم حتى مات أغلبهم ، وصاروا كأوراق الشجر الجافة.

ولكن هل هذه الحجارة قتلتهم بنفسها أو لأنها تحمل جراثيم الطاعون؟ الله أعلم بذلك ، والثابت أنهم عقب إلقائها عليهم مات معظم الجيش ، وانصرف أبرهة ومن بقي عن هدم الكعبة ، ومات أبرهة في الطريق.

__________________

(١) أصله : اللهم.

٩٠٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)

المفردات :

(كَيْدَهُمْ) : مكرهم وحيلتهم. (تَضْلِيلٍ) : هلاك وضياع. (أَبابِيلَ) : جماعات متفرقة. (سِجِّيلٍ) : الطين الذي تحجر. (كَعَصْفٍ) العصف : ورق الزرع الذي يبقى بعض الحصاد فتأكله الماشية.

المعنى :

ألم تعلم بقصة متواترة مستفيضة أصبح العلم بها يساوى في قوته وجلائه العلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة؟ والمراد : أخبرنى بقصة أصحاب الفيل ، أخبرنى كيف فعل ربك بهم؟ ألم يجعل كيدهم ومكرهم وحيلتهم في هدم الكعبة ، في ضلال وباطل ، ولم يصلوا إلى ما أرادوا؟!.

وقد أرسل الله عليهم طيرا جماعات تحمل حجارة فيها جراثيم الأمراض التي فتكت بمعظم الجيش ، حتى باء بالخيبة ، ورجع بالخذلان المبين ، هذه الطيور رمت الجيش بحجارة من طين متحجر ، فأهلكت أكثره ، وتركته نهبا للطير ، أشبه ما يكون بالعصف المأكول للحيوان ، وهو ورق الشجر إذا جف بعد الحصاد.

٩٠٥

سورة قريش

مكية. وآياتها أربع ، وفيها أمرت قريش بعبادة ربها صاحب النعم عليها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)

المفردات :

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) يقال : آلفت الشيء إيلافا ، وألفته إلفا وإلافا ، بمعنى : لزمته وعكفت عليه ، وقيل المراد بذلك : المعاهدات التجارية والمحالفات التي عقدوها مع غيرهم ، وهذه المادة تدل على اجتماع الشمل مع الالتئام. (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) الرحلة والارتحال : شدهم الرحال للسير هذه في الأصل ، ثم صارت اسما للسفر. (هذَا الْبَيْتِ) : الكعبة. (آمَنَهُمْ) : نجاهم وسلمهم.

كلنا يعرف أن مكة وما حواليها بلاد قاحلة لا نبات فيها ولا زرع ، (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (١) وهذا الوضع جعل سكانها يفكرون في أمر معاشهم ، فكانوا تجارا. يتاجرون مع جيرانهم في الشمال والجنوب ، فرحلوا إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا ، ولأنهم أهل بيت الله وجيرانه كان الناس

__________________

١ ـ سورة ابراهيم آية ٣٧.

٩٠٦

يحترمونهم ، ويكرمونهم ، ويعاملونهم معاملة حسنة ، بذلك زادت منافعهم ، واتسعت تجارتهم وكثر ربحهم ، وعقدوا المعاهدات والمحالفات التجارية مع جيرانهم.

وخلاصة معنى السورة : إن كانت قريش «هم أولاد النضر بن كنانة» لا يعبدون ربهم لسبب من الأسباب فليعبدوا رب هذا البيت لأنه آلفهم رحلة الشتاء والصيف للتجارة وكسب الرزق ، وكانوا بذلك أغنياء آمنين ينتقلون حيث شاءوا ، بفضل الله الذي جعلهم جيران بيته وخدم حجاجه (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) ولله وحده المنة والفضل على أهل مكة حيث نجّى البيت من أبرهة لتظل لهم مكانتهم وتجارتهم مع جيرانهم ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم بعد جوع وفقر ، وآمنهم بعد خوف وذل.

فالله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي وسع لهم في الرزق ، ومهد لهم سبيل الأمن ، وأعطاهم القبول عند الناس لأنهم أهل بيته وخدم حجاجه ، فاستطاعوا بذلك أن يجدوا قوتهم ويأمنوا على أنفسهم وتجارتهم ، وإذا كان الله هو صاحب الفضل في ذلك كله فليعبدوه وحده دون سواه ؛ لأنه أطعمهم بدل جوع شديد ، وآمنهم بدل خوف كثير.

٩٠٧

سورة الماعون

مكية. وآياتها سبع آيات ، وفيها ينعى الله على من يكذب ، ويبين صفاته.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)

المفردات :

(بِالدِّينِ) : بالجزاء ، وقيل : بالإسلام كله. (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) : ينهره ويزجره زجرا شديدا. (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) : لا يحث عليه. (فَوَيْلٌ) : هلاك. (ساهُونَ) : غافلون عنها. (الْماعُونَ) : كل ما يستعان به وينتفع.

أرأيت الذي يكذب بالدين؟ أخبرنى عنه من هو؟ فإن الواجب على المتدين أن يعرفه على حقيقته حتى يبتعد عنه لا عن صفاته؟ فالاستفهام أريد به تشويق السامع ليعرف ما بعده ، وللإشارة إلى أن هذا الأمر خفى! وكل يدعى أنه مصدق بيوم الدين ، هل عرفت من هو المكذب بالدين؟ إن لم تكن عرفته فذلك هو : الذي يدع اليتيم ، ويدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا شديدا عن حقه في ماله إن كان له مال ، أو عن حقه في الصدقة إن كان فقيرا ، وهو الذي لا يحض على إطعام المساكين ، وإذا كان لا يحث عليه

٩٠٨

فمن باب أولى لا يطعم هو ، وانظر إلى علامة المكذب بيوم الدين التي ذكرها القرآن : منع الحقوق وإيذاء الضعفاء ، والبخل الشديد على المستحقين ، إذا عرفت ذلك فويل وهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم غافلون ، الذين يصلون صلاتهم بدون خشوع وخضوع ، وبدون استحضار قلبي لعظمة الله ، وبدون تدبر لمعانى ما يقرءون ، صلاة لا يشعر صاحبها أنه بين يدي الخالق فتراه يسبح بفكره ويسرح طرفه ويتحرك ويعبث بأطرافه ولا يعرف عدد ما يصلى ، تلك صلاة بعض الناس الذين يكذبون بيوم الدين وهي بلا شك لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقد سها أصحابها عن ذكر الله وهم لذلك يراءون الناس ويذكرونهم ويفعلون لهم ولا يفعلون لله ، وهم لشدة الشح وكثرة البخل يمنعون الماعون!

أرأيت من يكذب بالدين؟ هو الذي يشتد على اليتيم ، ولا يعطى حقوق المساكين وهو غافل عن صلاته مراء للناس في عمله ، ومانع خيره عن غيره ، فالويل ثم الويل لهؤلاء ، إن صاموا وإن صلوا.

٩٠٩

سورة الكوثر

مكية على الصحيح ، وآياتها ثلاث آيات. وفيها يذكر الله أنه أعطى نبيه الخير الكثير ثم يطالبه بالصلاة والصدقة شكرا له على ما أنعم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)

المفردات :

(الْكَوْثَرَ) : الشيء الكثير. قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر : بم رجع ابنك؟ فقالت : رجع بكوثر ، وقيل : هو نهر في الجنة. (شانِئَكَ) : مبغضك. (الْأَبْتَرُ) : مقطوع الأثر والذكر.

المعنى :

كان المشركون حينما يرون النبي والمسلمين في قلة من العدد وقلة من المال يستخفون بهم ويهونون من شأنهم ظانين أن الحق والخير إنما يكون مع المال والغنى وكثرة العدد ، وإذا رأوا النبي وقد مات له ولد قالوا : قد بتر محمد ولم يبق له ذكر ، وكان المنافقون كذلك إذا رأوا ما عليه المسلمون من شدة وضيق ذات اليد انتظروا منهم السوء ومنوا أنفسهم بالغلبة عليهم ، وكان ضعاف المسلمين ربما وقع في نفوسهم شيء من خواطر السوء إذا وقعوا في ضيق أو شدة ؛ لهذا كله نزلت السورة تبين ما عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أعطى من الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وما سيؤول إليه حال حاسديه ومبغضيه ، ولعلنا نعتبر بذلك ونرضى!

٩١٠

إنا أعطيناك الكوثر ، أى : الخير الكثير البالغ حد الإفراط ، ألم يعطك ربك النبوة والدين الحق؟ وأرسلك للناس كافة؟ وجعل دينك خاتم الأديان ، ونهاية الرسالات ، وجمع فيه بين خير الدنيا والآخرة ، وجمع فيه الحسن والكمال من كل ناحية؟ ألم يعطك القرآن والعلم والحكمة؟ ألم يعطك الفضل الكثير والخير العميم ، والهدى والنور؟ وسعادة الدنيا والآخرة لك ولأصحابك ولأمتك إلى يوم القيامة؟!

نعم أعطاك هذا كله ، ومن بينه الكوثر ـ إذا فسر بنهر في الجنة ـ وإذا كان الأمر كذلك فصل لربك وتوجه إليه وحده وتوكل عليه ولا ترج غيره ؛ فإنه نعم المولى ونعم النصير ، صل لله وانحر ذبيحتك مما هو نسك لله ، كل هذا له وحده فإنه هو الذي رباك وأعطاك وهداك ووفقك.

أما شانئوك وحاسدوك ومبغضوك فهم المقطوع أثرهم ، الذين لا يبقى لهم ذكر جميل ، وقد شبه الله الذكر الجميل بذنب الحيوان لأنه يتبعه وهو زينة له ، وشبه الحرمان من الأثر الطيب بقطع الذنب ، وقد شاع البتر في ذلك ، وبعض العلماء يفسر الصلاة بصلاة العيد ، والنحر بالأضحية فقط ، وليس هذا بسديد.

٩١١

سورة الكافرون

مكية. وآياتها ست آيات ، وفيها قطع لآمال الكفار وبيان الفرق بين عبادتهم وعبادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه واسع جدا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) ولا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ (٦)

روى أن زعماء الشرك أتوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما يئسوا منه ورأوا أن في دعوته خيرا ولكن يمنعهم من اتباعه حب التقليد الأعمى والعظمة الكاذبة ، وقالوا له : تعال نعبد إلهك مدة وتعبد آلهتنا مدة فيحل بذلك الصلح بيننا وبينك ، وتزول العداوة من بيننا فإن كنا في خير أخذت منه حظا ، وإن كنت في خير أخذنا منه حظا ، فنزلت السورة ردا عليهم ، وقطعا لأطماعهم.

المعنى :

قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين مرنوا على الكفر فلم يعد فيهم خير ، ولن يرجى منهم إيمان ، قل لهم : لا أعبد الذي تعبدونه فأنتم تعبدون آلهة تتخذونها شفعاء للّه الواحد القهار ، أنتم تعبدون آلهة تظنون أنها تحل في صورة أو تظهر في صنم أو وثن ، وأنا أعبد اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولا مثيل له ولا ند ، ولا يحل في جسم أو شخص ، وهو الغنى عن الشفعاء ولا يتقرب إليه بمخلوق ، بل القربى والوسيلة إليه في العبادة فقط ؛ فبين الذي أعبد والذي تعبدون فرق شاسع ، فلا أنا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد.

٩١٢

يا أيها الكافرون الثابتون على الكفر : لا أنا عابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي فالآيات ٢ ، ٣ تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد ، فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعبد اللّه وهم يعبدون الأصنام والأوثان والشفعاء ، والآيتان ٤ ، ٥ تدلان على الاختلاف في نفس العبادة ؛ فعبادة النبي خالصة للّه لا يشوبها شرك ولا تصحبها غفلة عن المعبود ، وعبادتكم كلها شرك وإشراك وتوسل بغير العمل فكيف يلتقيان!! وبعض العلماء يرى ـ دفعا للتكرار ـ أن المعنى : لا أعبد في المستقبل ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم في الماضي ولا أنتم عابدون ما أعبد فيه ، والأمر سهل والنهاية واحدة.

لكم دينكم وعليكم وحدكم وزره ، ولى ديني الذي أدعو إليه وعلى تبعاته وأوزاره ، وهاتان الجملتان لتأكيد المعنى السابق.

٩١٣

سورة النصر

مدنية. وآياتها ثلاث آيات ، وفيها البشارة للنبي وصحبه بنزول العون لهم ونصرة دينهم وفتح قلوب الناس لهذا الدين ، ثم أمرهم بالتسبيح والتنزيه للّه ـ تعالى ـ على أنه سبب النجاح.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اَللّهِ واَلْفَتْحُ (١) ورَأَيْتَ اَلنّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللّهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واِسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوّاباً (٣)

المفردات :

(نَصْرُ اللّهِ) : عونه ومعونته. (وَالْفَتْحُ) بمعنى : فتح البلاد ، أو الحكم في القضية التي بينكم وبين خصوم الإسلام. (أَفْواجاً) : جمع فوج ، بمعنى الجماعات. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) التسبيح : هو التقديس والتنزيه ، والحمد : هو الثناء عليه بما هو أهله.

المعنى :

كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان الناس وخاصة قريش والعرب ، والنبي كبشر لا يعلم الغيب ولذا كان قلقا ضجرا بعض الشيء على الدعوة ، فأتت هذه السورة تبشره وتذكره بأن هذا كان الأولى أن تبتعد عنه ، وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ؛ فقد يكون الشيء حسنة عندك وهو عند غيرك لمم ـ صغير من الذنوب ـ يصح الاستغفار منه.

٩١٤

وإذا جاء نصر اللّه وعونه وهو لا بد حاصل ، وجاء الفتح للبلاد المغلقة والقلوب المقفلة إذا جاء هذا وذاك ، ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه جماعات كثيرة إذا حصل هذا فالواجب مقابلته بالشكر والثناء على اللّه بما هو أهله ، إذا حصل هذا فسبح ربك وقدسه تقديسا ، ونزهه تنزيها يليق بجنابه ، سبحه حامدا له فعله الجميل ذاكرا له صفاته المناسبة وأسماءه الحسنى ، واستغفر لذنبك واطلب المغفرة مما قد تكون ألممت به وهو لا يليق بك كخاتم الأنبياء والمرسلين ، استغفر اللّه إنه كان توابا كثير القبول لتوبة عباده ، إنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئة ، ويعلم ما نفعل ، والخطاب في السورة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكل من يصلح له الخطاب.

روى أن هذه السورة كانت بمثابة نعى اللّه لنبيه ، فإنه إذا حصل هذا فقد أدى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم رسالته كاملة ، وإذا أداها فسيلحق بالرفيق الأعلى ، ولقد فهم هذا المعنى بعض الصحابة وبكى على رسول اللّه.

٩١٥

سورة المسد

مكية. وآياتها خمس آيات. وفيها ذم أبى لهب وامرأته حمالة الحطب.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) واِمْرَأَتُهُ حَمّالَةَ اَلْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)

المفردات :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) التباب : الهلاك والخسران ، والمراد : خسر وهلك أبو لهب. (سَيَصْلى) : سيجد حرها ويذوق لهبها. (حَمّالَةَ الْحَطَبِ) : هل الحطب على حقيقته؟وكانت أروى بنت حرب بن أمية أخت أبى سفيان وزوج أبى لهب تحمل الحطب حقيقة ، أم كانت امرأة تسعى بين الناس بالوقيعة والفساد ، وهذه الجملة جاءت كناية عن ذلك. (مَسَدٍ) المسد : الحبل المفتول فتلا شديدا.

المعنى :

روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حينما أمر بالجهر والتبليغ العلنى للناس خاصة المقربين من أهله وقف على البطحاء فنادى : «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقون؟ قالوا : نعم ، قال : فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل اللّه (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ).

٩١٦

هلك أبو لهب وخسر خسرانا شديدا ، وهذا دعاء عليه ، وقد هلك وخسر بالفعل بدليل قوله تعالى ثانيا : (وَتَبَّ) ما أغنى عن أبى لهب ماله ، ولا نفعه كسبه وعمله ، ولم ينفعه شيء من ذلك في تثبيط دعوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقد كان أبو لهب عم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم واسمه عبد العزى ، وكان من ألد أعدائه ، يسير وراء النبي فإذا قال شيئا كذبه ، ولهذا ذكر اللّه جزاءه فقال : سيصلى نارا لا يعرف قدرها ولا وصفها إلا خالقها ، نارا ذات لهب ، سيصلى هو وامرأته أذم حمالة الحطب.

روى أنها كانت تضع الشوك في طريق رسول اللّه بعد جمعه لهذا السبب ، وقيل : إنها كانت تسعى جاهدة في إيقاع العداوة بين النبي والناس ، وتحمل حطب نار الفتنة ، وتوقد بينهم نار العداوة ، وقد زاد سبحانه في تبشيع صورتها بقوله : في جيدها حبل من مسد ، وقد كان لها قلادة حلفت لتبيعنها في الإنفاق ضد رسول اللّه ، فأعقبها اللّه بدلها حبلا في جيدها : حبلا محكما ليوضع في عنقها ، وهي في نار جهنم ، وقيل : إن المعنى على تحقيرها وتصويرها بصورة الحاطبات الممتهنات إذلالا لكبريائها هي وزوجها.

٩١٧

سورة الإخلاص

مكية. وآياتها أربع آيات ، وهي سورة التوحيد والتنزيه للّه ـ سبحانه وتعالى ـ وهذا هو الأصل الأول والركن الركين للإسلام ؛ لذلك ورد أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب قراءتها ؛ إذ الأصول العامة ثلاثة : التوحيد ، تقرير الحدود وأعمال الخلق ، وذكر أحوال يوم القيامة ، ولا حرج على فضل اللّه الذي يهب لمن يقرؤها بتدبر وتفهم مثل ما يهبه لقارئ ثلث القرآن.

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اَللّهُ أَحَدٌ (١) اَللّهُ اَلصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ (٣) ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)

المفردات :

(أَحَدٌ) : واحد في ذاته وصفاته وأفعاله. (اَلصَّمَدُ) : المقصود وحده في قضاء الحوائج. (كُفُواً) : مكافئا ومماثلا ونظيرا.

المعنى :

هذا هو الأساس الأول ، والمهمة الأولى التي جاء إليها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فشمر عن ساعد الجد ، وأخذ يدعو الناس إلى التوحيد ، وعبادة اللّه الواحد لهذا أمر في هذه السورة بأن يقول للناس : هو اللّه أحد.

قل لهم يا محمد : الخبر الحق المؤيد بالصدق ، والبرهان القاطع هو اللّه أحد ، فاللّه واحد في ذاته ليس مركبا ولا متعددا ، واحد في صفاته فليس لغيره صفة تماثله ، وواحد في أفعاله فليس لغيره فعل يدانى فعله أو يشبهه.

٩١٨

ولعل تصدير الكلام بضمير الشأن ـ هو ـ للتنبيه من أول الأمر على فخامة الكلام الآتي ، ولبيان أنه من الخطورة والروعة ما يجعلك تبحث عنه وتلتفت إليه. وذلك أن الضمير يدعوك إلى ترقب ما بعده ، فإذا جاء تفسيره وتوضيحه تمكن في النفس أى تمكن ، ولعلك تسأل : أما كان الأولى أن يقال : اللّه الأحد بدل أحد؟ والجواب على ذلك : أن المقصود إثبات أن اللّه ـ جل جلاله ـ واحد ليس متعددا في ذاته ، ولو قيل اللّه الأحد لأفادت العبارة أنهم يعتقدون الوحدانية ويشكون في ثبوتها للّه. مع أن المقصود نفى العدد لأنهم كانوا يعتقدونه ولهذا قال : اللّه أحد اللّه الصمد ، أى : ليس فوقه أحد ولا يحتاج إلى أحد ، بل هو وحده الذي يحتاج إليه كل ما عداه ، إليه وحده يلجأ الخلق في الشدائد والأزمات جل جلاله وتباركت آلاؤه.

(لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ) وهذا تنزيه للّه عن أن يكون له ولد أو بنت أو والد أو أم ، أما كونه لا ولد له فهذا رد على المشركين الذين يقولون : الملائكة بنات اللّه ، وعلى النصارى واليهود الذين يقولون : العزير والمسيح أبناء اللّه ، ولم يكن اللّه مولودا كما قالت النصارى : المسيح ابن اللّه ثم عبدوه كأبيه ، أما استحالة أن يكون له ولد فإن الولد يقتضى انفصال جزء من أبيه وهذا بلا شك يقتضى التعدد والحدوث ومشابهة المخلوقات ، على أنه غير محتاج إلى الولد فهو الذي خلق الكون وهو الذي فطر السموات والأرض وهو الذي يرثهما.

أما استحالة كونه مولودا فهي من البديهيات الظاهرة ؛ لاحتياج الولد إلى والد ووالدة ، وإلى ثدي ومرضعة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) نعم ما دام واحدا في ذاته ليس متعددا ، وليس والدا لأحد ولا مولودا لأحد ، فليس يشبه أحدا من خلقه ، وليس له مثيل أو نظير أو ند أو شريك سبحانه وتعالى عما يشركون.

وهذه السورة مع وجازتها ردت على مشركي العرب وعلى النصارى واليهود كما مر وأبطلت مذهب المانوية القائلين بالنور والظلمة ، وعلى النصارى القائلين بالتثليث ، وأبطلت مذهب الصابئة الذين يعبدون النجوم والأفلاك ، وردت على مشركي العرب الذين زعموا أن غيره يقصد عند الحوائج ، وأن له شريكا تعالى اللّه عن ذلك كله.

٩١٩

وتسمى هذه السورة سورة الإخلاص ، لأنها تضمنت إثبات وحدانية اللّه ، وأنه لا شريك له ، وأنه هو المقصود وحده في قضاء الحوائج ، وأنه لم يلد ولم يولد ، وأنه لا مثيل له ولا نظير ، وهذا يقتضى الإخلاص في عبادة اللّه وحده ، أو الاتجاه إليه وحده.

٩٢٠