التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

إذا جاءت الطامة يفصل ربك بين الخلائق ، فمنهم شقي ، ومنهم سعيد ، فأما الشقي فهو الذي طغى وتجاوز الحدود وآثر الحياة الدنيا ، فكانت الجحيم هي المأوى ، وبئس المصير ، وأما السعيد فهو من خاف مقام ربه ، وخاف قيامه بين يدي العزيز الجبار يوم القيامة ، وقد نهى النفس عن هواها ، وألزمها كلمة التقوى ، فكانت الجنة هي المأوى ونعم القرار. أرأيت أسباب دخول جهنم وأنها هي الطغيان والظلم ، وحب الدنيا وترك العمل للآخرة؟ وأسباب دخول الجنة وأنها معرفة الله والخوف منه ، ونهى النفس عن اتباع الهوى؟!

وقد كانوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء بالساعة قائلين : متى تكون؟ ويقصدون بذلك إنكار الوقوع ، فيرد الله عليهم على طريق الاستفهام الإنكارى مخاطبا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون أتم وأبلغ : فيم أنت من ذكراها؟ على معنى : في أى شيء أنت حتى تذكر لهؤلاء وقت حصولها؟ والله وحده عنده علم الساعة ، وإلى ربك وحده منتهاها ، وإنما أنت منذر فقط من يخشاها ، وليس عليك إلا البلاغ فلا يهمنك أمرهم ، ولا تشغل بطلبهم ، وكأنك بهم يوم يرونها ، تراهم كأنهم لم يلبثوا في هذه الدنيا إلا عشية أو ضحاها وقد انقضت ، فإذا هم فيما أنكروه واقعون.

٨٢١

سورة عبس

وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية ، وقد تكلمت عن قصة ابن أم مكتوم ، مع بيان أن القرآن تذكرة فمن شاء فليتعظ به ، ثم بينت أصل الإنسان ونشأته ، ولفتت نظره إلى طعامه وشرابه لعله يتعظ ، ثم لم تهمل الحياة الآخرة وما فيها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)

٨٢٢

المفردات :

(عَبَسَ) العبوس : تقطيب الوجه من الألم. (وَتَوَلَّى) : أعرض.

(الْأَعْمى) : هو ابن أم مكتوم. (يَزَّكَّى) : يتطهر من الذنوب.

(الذِّكْرى) : الموعظة. (اسْتَغْنى) أى : عن الإيمان بالله. (تَصَدَّى) : أصله تتصدى ، أى : تترصد له بالموعظة. (يَسْعى) : يسرع في طلب الخير بجد.

(تَلَهَّى) : أصله تتلهى ، أى : تنشغل عنه. (تَذْكِرَةٌ) : موعظة.

(صُحُفٍ) : جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه. (سَفَرَةٍ) : جمع سافر ، وهو الوسيط بين جماعتين ليصلح ما بينهما. (بَرَرَةٍ) : جمع بار ، وهو من لم يقترف إثما.

(فَقَدَّرَهُ) : هيأه لما يصلح له. (أَنْشَرَهُ) المراد : أحياه. (وَقَضْباً) : كل ما يأكله الإنسان قضبا ، أى : غضا طريّا كالبقول. (غُلْباً) : ملتفة الأغصان.

(أَبًّا) المراد به : الكلأ والمراعى.

روى أن ابن أم مكتوم ، ابن خال خديجة بنت خويلد ـ وكان أعمى ـ جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأله قراءة القرآن ، وتعليمه مما علمه الله ، وكان عند النبي رهط من زعماء قريش كعتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة ، وأبى جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم ، والنبي مشغول بدعوتهم إلى الإسلام وبتذكيرهم بالله وباليوم الآخر ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحرص على إيمان هؤلاء ثقة منه بأن إسلامهم سيجر غيرهم من أتباعهم.

فلما جاء ابن أم مكتوم وناداه قائلا : يا رسول الله : أقرئنى القرآن ، وعلمني مما علمك الله ، وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك كره ذلك منه النبي وعبس في وجهه وقطب ، وأعرض عنه ؛ فنزلت هذه الآيات تعاتب النبي عتابا رقيقا على تركه الفقير الأعمى الذي جاء يسأل ويزداد علما ونورا ، وعلى توجهه إلى الأغنياء الأقوياء ، وفي هذا كسر لقلوب الفقراء ، فلدفع هذا عوتب الرسول على عبوسه في وجه الفقير الأعمى.

أليس في هذا العتاب الصريح دليل للمنصف على أن هذا الرسول صادق في كل ما يبلغه عن ربه ، وأن هذا القرآن من عند الله لا من عنده؟

٨٢٣

عبس النبي وأعرض بوجهه لأن جاءه الأعمى ، وهو ابن أم مكتوم ، جاءه وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك ، فعاتبه الله على ذلك قائلا : وما يدريك لعله يتطهر بما يسمعه منك ويتلقاه عنك من الوحى ، نعم أى شيء يعلمك بحال هذا السائل لعله يتطهر أو يتعظ فتنفعه موعظتك؟

التفت الله إلى رسوله الكريم معاتبا لائما قائلا ما معناه : إن ما صدر منك كان على هذا التفصيل : فالذي استغنى عن الإيمان بالله وعن طاعته وطاعة رسوله ، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق وعن استماع النصيحة فأنت تتعرض له ، وتشغل نفسك بوعظه ، وأما من جاءك طالبا الهداية خائفا من الله ، فأنت عنه تتلهى وتشتغل عنه بسواه ، وهذا عتاب للنبي وإنكار لهذا العمل ، مع أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ ، فمن ركب رأسه ، واغتر بدنياه ، وأغفل آخرته ، وظن أنه غنى عن هداية الله فليس على الرسول عيب ولا لوم في بقائه على حالته.

ثم لما ذكر الله هذه الحادثة أعقبها ببيان وظيفة الرسول وعمله وأن هذه الرسالة التي أرسل بها الرسول ليست محتاجة إلى حيلة ولا موعظة ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وعلى ذلك فلست أيها الرسول في حاجة إلى الإلحاح على هؤلاء ليؤمنوا.

كلا .. إنها ـ آيات القرآن ـ تذكير ووعظ ، لمن غفل عن الله ؛ فمن شاء ذكره واتعظ به فليفعل ، ومن لم ينفعه وعظه فقد جنى على نفسه.

ثم إن الله تعالى وصف هذه التذكرة بأوصاف تدل على عظم شأنها ، فقال : إنها مودعة وثابتة في صحف عالية مكرمة مشرفة ، مرفوعة مطهرة عن النقص والعيب ، لا تشوبها شائبة خلل في أية ناحية من النواحي ، وقد أتت بأيدى ملائكة سفرة بين الله وبين الخلق ، وهم كرام على الله (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء ٢٦] وأبرار وأطهار ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.

فهذا هو حال القرآن جاء تذكرة وموعظة ، وكان بالمنزلة العالية المرفوعة المطهرة وجاء على أيدى ملائكة أمناء كرام بررة ، فهل يعقل بعد هذا أن يكفر به عاقل؟! قتل الإنسان! ما أشد كفره! وما أفظعه! أفلا ينظر إلى نفسه من أى شيء خلق؟ إنه خلق من نطفة قذرة ، ثم كان خلقا سويا قد قدره الله وهيأه ليقوم بما يكلف به ،

٨٢٤

وليؤدى رسالته في عمارة الكون ثم قد هداه الله إلى الخير والشر بما أودع فيه من عقل وغرائز ، وبما أرسل له من رسل وكتب ، ألا ترى أن الله هداه السبيلين ، ثم بعد ذلك أماته فجعل له قبرا يواريه ، ثم إذا شاء بعد ذلك أحياه للحساب ، فانظر إلى مبدئك ومنتهاك.

كلا أيها الإنسان : ارتدع عما أنت فيه ، وثب إلى رشدك وارجع إلى ربك فأنت لم تقض ما أمر به ربك ، ولم تعرف ما طلب منك.

إذا كان الأمر كذلك فلينظر الإنسان إلى طعامه كيف يكون؟ ألم يروا أن الله أنزل من السماء ماء وصبه على الأرض صبا ، ثم شق الأرض بالنبات ، وأحياها بالزرع والخضروات ، فأنبت منها قمحا وشعيرا ، وعنبا وفاكهة ، وبقولا وزيتونا ونخلا ، وحدائق ملتفة الأغصان كثيفة ، كل هذا لكم ولأنعامكم!!!

فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)

المفردات :

(الصَّاخَّةُ) : الصوت الشديد الذي يصم الآذان ، والمراد هنا : النفخة التي بها تقوم القيامة. (وَصاحِبَتِهِ) : زوجته. (يُغْنِيهِ) : يصرفه ويصده عن كل من عداه. (مُسْفِرَةٌ) : مضيئة متهللة ، تقول : أسفر الصبح : إذا أضاء (مُسْتَبْشِرَةٌ) : فرحة. (غَبَرَةٌ) : غبار. (تَرْهَقُها) : تدركها من قرب ، والمراد : تعلوها. (قَتَرَةٌ) : سواد الدخان. (الْفَجَرَةُ) : الذين خرجوا عن حدود العقل.

٨٢٥

المعنى :

هكذا الشأن بعد تعداد النعم ، والتذكير بآلاء الله ـ تعالى ـ التي تقتضي من الإنسان النظر الصحيح والبعد عن الكبر والكفر والفجور ، أخذ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يذكرنا بيوم القيامة وأهواله التي تجعل الإنسان يذهل عن أحب الناس إليه ، فإذا وقعت الواقعة وجاءت الصاخة ، يوم يفر المرء ويتباعد عن أخيه ولا يأخذ بناصره ولا يواليه (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) (١) وقد كان في الدنيا يستنصر به ويعتز ، بل يفر كذلك من أبويه ، أمه وأبيه ، بل يفر كذلك من الذين يتعلق بهم قلبه أشد من غيرهم كزوجة وبنيه وكيف لا يكون ذلك؟ ولكل امرئ منهم يومئذ شيء يصرفه ويصده عن قرابته وأهله ، ويوم القيامة ترى وجوها مضيئة متهللة فارغة البال ضاحكة السن مستبشرة فرحة ، تلك هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهناك وجوه أخرى عليها غبرة ويعلوها سواد فهم في هم وحزن وكمد ، أولئك هم الكفرة الذين كفروا بالله ورسوله ولم يؤمنوا باليوم الآخر وكانوا في الدنيا فجرة قد خرجوا عن حدود الشرع والعقل والعرف الصحيح ، واجترحوا السيئات فكان جزاؤهم ذلك وبئس المصير.

__________________

١ ـ سورة الدخان آية ٤١.

٨٢٦

سورة التكوير

وهي مكية. وآياتها تسع وعشرون آية ، وقد تضمنت الكلام على البعث بذكر مقدماته. وما يكون فيه ، ثم القسم المؤكد على أن القرآن حق أوحى به إلى محمد على لسان جبريل الأمين. وما كان محمد بمجنون ولا متهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤)

المفردات :

(كُوِّرَتْ) : لفت مثل تكوير العمامة ، أى : لفها ، والمراد : اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها. (انْكَدَرَتْ) : انتثرت وتساقطت. (سُيِّرَتْ) : أزيلت عن أماكنها بالرجفة. (الْعِشارُ) : هي السحاب ، وتعطيلها : منعها من حمل الماء ، وقيل : هي النياق أتى على حملها عشرة أشهر. وهي من كرائم المال ، وتعطيلها : إهمالها. (حُشِرَتْ) : جمعت. (سُجِّرَتْ) : ملئت بالنار بعد أن غاض ماؤها.

(زُوِّجَتْ) : زوجت الأرواح بأبدانها وعادت إلى أجسامها. (الْمَوْؤُدَةُ) : هي

٨٢٧

البنت تدفن حية. (الصُّحُفُ) : ما يسجل فيه العمل. (كُشِطَتْ) : أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة. (سُعِّرَتْ) : أوقدت نارها إيقادا شديدا.

(أُزْلِفَتْ) : قربت وأدنيت.

المعنى :

ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بذكر علامات ودلائل تكون يوم القيامة. بعضها سابق عليه وبعضها يكون فيه ، وعلى العموم فمقدمات البعث تكون بخراب الدنيا واختلال نظامها وهلاك كل من فيها ، وذلك عند النفخة الأولى ، في هذا الوقت تكور الشمس وتلف حتى لا يكون لها ضوء أو حرارة ، والنجوم تتناثر وتسقط ، وترجف الأرض وتضطرب فتزول الجبال من أماكنها ، وتصبح كالعهن المنفوش ، عند ذلك يملأ الخوف والاضطراب كل الكون ، فلو فرض وكانت حياة عندئذ يذهل كل إنسان عن أعز شيء لديه ، فتراه يهمل عشاره وكرائم ماله ، بل تذهل كل مرضعة عما أرضعت (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (١) وترى الوحوش قد جمعت من كل مكان وأصبحت في صعيد واحد ، والبحار سجرت بالزلازل حتى اختلطت وضاعت الحواجز بينها ، وتعود بحرا واحدا ، ويكون التسجير : معناه امتلاؤها بالماء. ولعل المراد بالتسجير هنا : ملؤها بالنار بدل الماء ، ولا غرابة فباطن الأرض شديد الحرارة جدا بدليل البراكين التي تخرج منه ، وليس ببعيد عند انتهاء الدنيا ، أن تتشقق الأرض ويغيض الماء لتبخره ، ثم يمتلئ البحر بالنار التي تخرج من باطن الأرض ، تلك هي مقدمات البعث الأولى ، وبعدها يكون البعث والحياة والنشور وهذا عند النفخة الثانية ، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [سورة الزمر آية ٦٨].

هذه هي أولى مراحل البعث ذكرت بعد مقدماته ، وإذا النفوس عادت إلى أبدانها ، بعد أن كانت بعيدة عنها ، وكانت الحياة الثانية لأجل البعث ، وفيه يؤتى بالموءودة التي دفنت حية خوف الفقر أو العار ، وتلك كانت عادة من عادات العرب في الجاهلية ، فجاء الإسلام وحاربها وقضى عليها ، واستبدل من أولئك الأعراب الذين كانوا يئدون

__________________

١ ـ سورة عبس آية ٣٧.

٨٢٨

البنات أحياء عربا فيهم ظرف الإسلام ، وحكمة المسلمين وغرس فيهم التربية الإسلامية العالية التي قوامها : لا ضرر ولا ضرار ، والتمسك بأهداب الفضيلة والمثل العليا.

هذه الموءودة تسأل : لأى ذنب قتلت؟! لم يكن لها ذنب ـ علم الله ـ وهذا سؤال للتبكيت والتوبيخ والتسجيل عليهم ، وإذا الصحف التي كتبت فيها الأعمال ، وسجل فيها ما اقترفه كل إنسان ، نشرت ليقرأ كل إنسان كتابه ، ويعرف عمله وحسابه ، وإذا السماء كشطت وأزيلت فلم يعد لها وجود. والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بكشط السماء هو رفع الحجاب (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١) فترى كل نفس عند ذلك عملها ، وتقوم عليها شهودها ، فتبصر ما لم تكن تبصره من قبل ، وإذا الجحيم سعرت وأحميت نارها وأوقدت ، وإذا الجنة أزلفت وقربت وقدمت للمتقين.

وإذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ... إلخ ما ذكر هنا من الأمور الاثنى عشر. وجواب هذا الشرط قوله : علمت نفس ما أحضرت ، أى : إذا حصل هذا ـ ما ذكر ـ علمت نفس ما قدمت من عمل إن كان خيرا فجزاؤه خير ، وإن كان شرّا فجزاؤه شر.

وقد فصل هنا ما أجمل في سورة «ق» عند بيان ما يسبق الحساب فقال هناك : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) وقال هنا : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إلى قوله : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) وهنا أجمل في ذكر ما يحصل يوم الحساب حيث اكتفى بسؤال الموءودة ، وتسعير جهنم. وتقريب الجنة ، وفي سورة «ق» فصل كثيرا حيث قال : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ...) ... إلخ. الآيات.

اعتاد العرب في كلامهم أنهم إذا أقسموا على إثبات أمر واضح ظاهر ، قالوا : لا أقسم ؛ إشارة إلى أنه لا يحتاج إلى قسم ، وقيل : إنه يؤتى بلا في القسم إذا أريد تعظيم المقسم به على ما فصلناه عند قوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٢) وعلى ذلك يمكننا أن نفهم قوله تعالى هنا : فلا أقسم بالخنس.

__________________

١ ـ سورة ق آية ٢٢.

٢ ـ سورة القيامة الآية الأولى

٨٢٩

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)

المفردات :

(بِالْخُنَّسِ) : جمع خانس ، وهو المنقبض المستتر. (الْكُنَّسِ) : جمع كانس ، أو كانسة ، وأصله من قولهم : كنست الظبية : إذا دخلت الكناس وهو مكانها ومأواها ، ومنه قولهم : كنست المرأة : إذا دخلت هودجها ، والمراد : الكواكب التي تظهر في أفلاكها للعين ليلا تشبيها لها بالمرأة إذا ظهرت في هودجها ، أو الظبية إذا ظهرت في كناسها. (عَسْعَسَ) : أقبل بظلامه. (تَنَفَّسَ) : ظهر وامتد حتى صار نهارا بينا. (ذِي قُوَّةٍ) : صاحب قوة في الجسم وغيره. (مَكِينٍ) : صاحب مكانة. (صاحِبُكُمْ) : هو الرسول عليه‌السلام. (بِضَنِينٍ) أى : بمتهم ، أو ببخيل. (رَجِيمٍ) : ملعون. (ذِكْرٌ) : عظة وعبرة.

المعنى :

فلا أقسم بالكواكب المتخفية عن العين نهارا ، الجواري لكي تظهر في أفلاكها ليلا كالظباء في كناسها ، لا أقسم بهذا على أنه قول رسول كريم لظهور ذلك للعيان فلا

٨٣٠

يحتاج إلى إقسام ، أو المعنى : لا أقسم بهذه الأشياء لعظمها فإنها عظيمة في نفسها ولو لم يقسم بها ، والمعنى على القسم بها قسما مؤكدا ، وأقسم بالليل إذا عسعس وأدبر ظلامه ، والصبح إذا أضاء وظهر (١) أقسم بهذا على أن القرآن قول رسول كريم وهو جبريل لأنه حمله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسب إليه ، هذا الرسول ذو قوة في العقل (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) (٢) فهو شديد القوى ذو حصافة في العقل والرأى ، عند ذي العرش جل جلاله ، مكين ، أى : صاحب مكانة وشرف ، والعندية عندية تشريف وإكرام لا عندية مكان ، وهو مطاع في الملأ الأعلى : أمين على الوحى وعلى نقله ، وما صاحبكم هذا بمجنون كما يصفه المشركون ، وهو على ثقة من جبريل حين يبلغه ، والحال أنه رآه على صورته الأصلية بالأفق العالي الظاهر ـ عند سدرة المنتهى ـ وما محمد على الغيب ، أى : الوحى بمتهم بل هو صادق في خبره ، ويؤيد هذا المعنى قراءة بظنين ، وقيل : وما هو على الغيب ببخيل ، فليس مقصرا في تبليغ الوحى ، وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم ، حيث إن محمدا أمين ، وليس مجنونا : وما هو على الغيب بمتهم إذ ليس هذا القرآن قول شيطان ، ولا قول كاهن ، وليس أساطير الأولين.

فأين تذهبون (٣) وأى طريق تسلكون؟ وأية حجة تقولون؟ بعد أن سدت عليكم كل الطرق وأقيمت عليكم الحجج والبراهين ، وبطلت جميع المفتريات التي تفترونها.

ما هذا القرآن إلا ذكر وتذكرة وموعظة وعبرة ، عظة للعالمين لمن شاء أن يستقيم على الجادة ويسير على سواء السبيل ، والمعنى أن من شاء الدخول في الإسلام ـ لمن شاء منكم أن يستقيم ـ هو الذي ينتفع بهذا الذكر الحكيم ، أما غيرهم فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فلا يمكن أن يروا نور الحق ، ولا أن يهتدوا بنور القرآن.

ولكن هل مشيئة العباد مطلقة غير خاضعة لأية قوة أو مشيئة أخرى؟ الجواب : إن إرادتكم الخير خاضعة لإرادة الله ولا تكون إلا بعد مشيئة الله رب العالمين ، فهو سبحانه

__________________

(١) في قوله (والصبح إذا تنفس) استعارة تصريحية تبعية ، أو هي مكنية على تشبيه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة وإثبات التنفس قرينة ، وإسنادها له تخييل.

(٢) سورة النجم آية ٦.

(٣) هذا الاستفهام للإنكار ، والتعجيز.

٨٣١

الذي يودع في البشر إرادة الخير. فتنصرف همة أصحاب الخير إليه ، ولو شاء لسلبكم تلك الإرادة فكنتم كالحيوان.

ولما كان رب العالمين وكان ما نحهم كل ما يتمتعون به كانت إرادة البشر مستندة إلى إرادة الله ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فمشيئة العبد في دائرة صغيرة هذه الدائرة داخلة في دائرة مشيئة الله الكبرى.

بقيت كلمة أخرى في إقسام الله بالكواكب الخنس والكنس ، وبالليل والصباح أو بالشمس والقمر أو غير ذلك ، والظاهر أن هذا القسم للفت الأنظار إلى تلك الأشياء ، وأنها دلائل على قدرة الله وبديع نظامه في الكون ، ثم جاءت صفات لها كالخنس والكنس توبيخا لمن يعبد الكواكب ببيان بعض صفاتها التي يستحيل معها أن تكون آلهة بل هي مخلوقة متغيرة متحولة من حال إلى حال ، مصرفة يصرفها المولى ـ جل جلاله ـ والله أعلم.

٨٣٢

سورة الانفطار

وهي مكية. وعدد آياتها تسع عشرة آية ، وهي تتضمن الكلام على البعث والتذكير بيوم القيامة وأن النفس تشهد فيه ما عملت ، ثم ناقشت الإنسان في شأن مخالفته لربه وتماديه في فجوره ، مع أنه صاحب نعم جليلة عليه ، وقد جعل له شهودا كراما كاتبين ، ثم كانت النهاية لكل إنسان إما الجنة وإما النار ، والأمر يومئذ لله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)

٨٣٣

المفردات :

(انْفَطَرَتْ) : انشقت. (انْتَثَرَتْ) : تساقطت. (فُجِّرَتْ) : فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من برزخ. (بُعْثِرَتْ) : قلب ترابها الذي وضع على موتاها ، ويلزم هنا إخراج من دفن فيها. (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟) : ما خدعك وجعلك تعصاه؟! (فَسَوَّاكَ) : خلقك كامل الأعضاء حسن الهيئة. (الْأَبْرارَ) : جمع بر ، وهو من يعمل البر ويلتزم به في كل تصرفاته. (الْفُجَّارَ) : جمع فاجر ، وهو الخارج عن الحدود. (يَصْلَوْنَها) : يقاسون حرها. (يَوْمَ الدِّينِ) : يوم الحساب والجزاء. (وَما أَدْراكَ) : ما أعلمك ما هو؟

المعنى :

يذكرنا القرآن كثيرا بيوم القيامة ، وأن الإنسان فيه يشهد ما قدمته يداه من خير أو شر وسيجازى عليه ، ويقدم لذلك بذكر بعض أهوال يوم القيامة ليجذب قلب السامع إلى دائرة الاتعاظ والتهويل والتفخيم ، فترى السامع وقد حبس أنفاسه ساعة يسمع (إذا السماء انفطرت) وتشققت ، وإذا الكواكب التي كانت زينة ونورا تصبح وقد تناثرت وسقطت بلا نظام ، كسقوط العقد إذا انفرط حبه في يد صاحبه ، ولا تنس أن الأرض تسير سيرا ، وتضطرب اضطرابا. ويقع الخلل في جميع أجزائها فترى البحار وقد فجرت تفجيرا ، وتشققت جوانبها وامتلأت ماء حتى اختلط عذبها بملحها ، ولم يعد بينها حاجز بل يغمر البسيطة الماء ثم لا يلبث أن يتبخر ، والبحار تسجر وتملأ لهبا ودخانا ، أرأيت الأرض في هذه الساعة : وكأنى بك وأنت تنظر إلى القبور وقد بعثرت ، وذرى ترابها وأخرج من فيها للحساب ، وقد نشرت الصحف وقرئت الكتب عندئذ تعلم كل نفس ما قدمت من صالح الأعمال أو سيئها وما أخرت منه.

عجبا لك أيها الإنسان العاقل المفكر ما الذي غرك وخدعك ، وجرأك على عصيان ربك الكريم؟! وقد علمت ما سيكون يوم القيامة من أهوال ، وما ستلاقيه أنت من أحوال ، وما سيظهر لك من أعمال ، يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم المتعالي المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال ، الذي خلقك أولا ، وهو على خلقك ثانيا أقدر

٨٣٤

وأقدر ، الذي خلقك فسواك وجعلك حسن الصورة كامل الهيئة سالما في أعجب الصور وأتقنها وأجملها وأدقها (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) الأعضاء ، الذي خلقك فعدلك وصيرك معتدلا متناسب الخلق منتصب القامة ، فلست كبقية الحيوان ، وقد عدلك ، أى صرفك عن صورة غيرك.

«كلا» ارتدع عن الاغترار بمولاك ، ولا تجعل كرمه حجة لعصيانه ؛ فتلك حجة المغرورين المخدوعين ، فقد خلقك في صورة حسنة كاملة وركّبك في أى صورة شاءها.

ولكنكم يا معشر العصاة والكفار لا ترتدعون بل تكذبون بيوم الدين ، أو تكذبون بدين الإسلام ، والحال أن الله جعل عليكم حافظين : ملائكة تكتب أعمالكم وتحفظها ليوم الدين ، وهم كرام بررة ، كاتبون للأعمال : خيرها وشرها ، يعلمون كل ما تفعلون.

ويوم القيامة تعرفون وتندمون ولات ساعة مندم.

وما نتيجة هذا الحفظ والكتب من الملائكة؟ النتيجة : إن الأبرار لفي نعيم مقيم ، وإن الفجار لفي جحيم مقيم ، يصلونها ويحترقون بنارها يوم الدين. أما الأبرار فأولئك هم العاملون المؤمنون بالله وباليوم الآخر وبالملائكة والكتاب والنبيين ، الذين آتوا المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، ووفوا بالعهود ، وصبروا في البأساء والضراء وحين البأس أولئك هم الذين صدقوا الله في إيمانهم ، وأما الفجار فهم على النقيض من ذلك كله.

وما أدراك ما يوم الدين؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين؟! وهذا تعجب من حال الإنسان الذي لا يعرف هذا اليوم الشديد ولا يعمل له لينجو من عذابه.

٨٣٥

سورة المطففين

وهي مكية في قول الأكثرين ، وعدد آياتها ست وثلاثون آية ، وتتضمن هذه السورة تفصيلا لبعض أنواع الفجور كالتطفيف في الكيل ، والتكذيب بيوم الدين ، والاعتداء على الغير ، والقول بأن القرآن أساطير الأولين ، وسبب هذا ، وجزاؤه يوم القيامة ، ثم تفصيل جزاء الأبرار ، فكأن هذه السورة جاءت بيانا للسورة السابقة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)

المفردات :

(وَيْلٌ) : هلاك وعذاب. (لِلْمُطَفِّفِينَ) : الذين يأخذون حقهم كاملا ، ويعطون حق غيرهم ناقصا. (اكْتالُوا) : أخذوا ما لهم من حق بالكيل.

(يَسْتَوْفُونَ) : يأخذونه وافيا كاملا. (كالُوهُمْ) : أعطوهم شيئا بالكيل.

٨٣٦

(يُخْسِرُونَ) : ينقصون الكيل والميزان. (أَلا يَظُنُ) : ألا يعلم. (كَلَّا) : كلمة ردع وزجر لهم عما هم فيه من التطفيف والتكذيب. (سِجِّينٍ) : هو علم على سجل ضخم فيه سوءات الفجار. (مَرْقُومٌ) : بين ظاهر الكتابة ، أو له علامة يعرف بها ، أى : معلم. (مُعْتَدٍ) : متجاوز حدود العقل والشرع. (أَثِيمٍ) : كثير الآثام والانهماك في الشهوات. (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أكاذيبهم نقلها الخلف عن السلف. (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) : غلب عليها وغطاها ، أى : اسودت من الذنب.

المعنى :

بعض النفوس قد ملئت بالشح والأنانية وحب الذات ، طغى عليها حب المال طغيانا شديدا ، فتراه إذا كان له حق عند غيره أخذه كاملا غير منقوص ، وطفف في الكيل أو الميزان ، وإذا كان لغيره حق عنده نقصه في الكيل أو الميزان ، الويل لهؤلاء! ثم الويل لهم! فإن عملهم هذا لون من الفجور والآثام والأنانية يحاربها الإسلام (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

عجبا لهؤلاء ثم عجبا! ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون؟؟! إن هؤلاء المطففين لو كانوا يظنون (١) أن الله باعث الخلق ومحاسبهم على أعمالهم لما أقدموا على تلك الأعمال الشنيعة ، إذ لو اعتقدوا حقا أن الله يبعث خلقه ويحاسبهم لتركوها ، وكان التعبير بقوله (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) أبلغ وصف لهم ، فاسم الإشارة يدل على أنهم ممتازون بهذا الوصف القبيح ، وعلى بعدهم عن رحمة الله ، ووصفهم بأنهم لا يظنون البعث دليل على أنهم أسوأ من الكفار فإنهم يظنون البعث ، ثم انظر إلى وصف اليوم ويا بؤسهم فيه ، ويا خير من يؤمن بالله ويعمل صالحا في ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس ويطول قيامهم أمام رب العالمين للحساب.

المعنى :

ارتدعوا أيها الفجار من المطففين والمكذبين بيوم الحساب عن ذلك وارجعوا إلى ربكم القادر على كل شيء ، فستحاسبون على أعمالكم حسابا شديدا ، وقد أعد الله لهم

__________________

(١) هذا المعنى على أن (ألا) الهمزة فيها للإنكار والتعجب ، ولا للنفي. وليست أداة استفتاح.

٨٣٧

كتابا أحصى أعمالهم ، ولم يغادر منها صغيرة ولا كبيرة ، وإن هذا الكتاب لفي الديوان الجامع الذي دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين ، وما أدراك ما سجين؟ والمراد تفخيمه وأنه لا أحد يعرف عنه شيئا إلا ما أخبر به الحق ـ تبارك وتعالى ـ فقال : هو كتاب مرقوم ظاهر الكتابة ، أو معلم يعرفه بعلامته كل من رآه أنه لا خير فيه.

الويل والهلاك للمكذبين ، الذين يكذبون بيوم الدين ، ومنشأ ذلك هو كثرة الاعتداء وتجاوز الحدود ، وارتكاب الآثام والشرور ولذا يقول الله : وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، وتأويل ذلك أن النفس التي اعتادت الظلم والطغيان والبغي والاسترسال في الشرور والآثام يصعب عليها جدا الإذعان لأخبار الآخرة والتصديق بها ، فإن تصديقها ـ مع هذه الأعمال ـ حكم صريح عليها بالسفه والجنون ، وهذه النفس تكون جامحة طامحة ، فصاحبها يعللها ، ويهون عليها الأمر بالتغافل والتكذيب بيوم القيامة ، أو التعلق بالأمانى الباطلة. تلك حقائق قرآنية نادى بها العلم الحديث ؛ فلذلك إذا تليت آيات القرآن التي تنادى بإثبات البعث على هذه النفس لم يكن منها إلا أن تقول : تلك أساطير الأولين وأكاذيبهم ، حكيت لنا وأثرت عنهم ، ولكنها أحاديث لا حقيقة لها ، ولا تستحق النظر.

«كلا» ليست آيات القرآن أساطير ، وإنما هي الحق لا مراء فيه ، إنما دفعهم إلى هذا وجرأهم عليه أعمالهم السيئة التي مرنوا عليها ودربوا حتى اسودت قلوبهم ، وران عليها الفساد فلم تعد تبصر الخير على أنه خير ، فإن الرين الذي ينشأ عن الذنب كالصدإ على المرآة ، والتوبة تجلوه : ومداومة العمل الفاسد تجعل الفساد ملكة عند الإنسان فيعمل الشر بلا تفكير ولا روية ، وذلك هو الرين أو الطبع أو القفل.

(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ

٨٣٨

(٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)

المفردات :

(لَمَحْجُوبُونَ) : لممنوعون من رؤية ربهم. (لَصالُوا الْجَحِيمِ) : لداخلوها وذائقو حرها. (الْأَبْرارِ) : جمع بر ضد الفاجر. (عِلِّيِّينَ) : علم لديوان ضخم سجل فيه عمل الأبرار الصالحين من الثقلين. (يَشْهَدُهُ) : من الشهود وهو الحضور ، والمراد أنهم يحافظون عليه ، أو من الشهادة. (الْأَرائِكِ) : جمع أريكة وهي السرير عليه الكلة. (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) : بهجته. (رَحِيقٍ) : جيد الخمر.

(مَخْتُومٍ) : ختمت أوانيه تكريما لشاربيها. (مِزاجُهُ) : ما يخلط به ذلك الشراب. (تَسْنِيمٍ) : عين مرتفعة حسا ومعنى. (الْمُقَرَّبُونَ) : هم السابقون ، والأبرار : هم أصحاب اليمين. (فَكِهِينَ) فرحين مسرورين للاستهزاء بالمؤمنين.

(لَضالُّونَ) : منحرفون عن الحق وعن الطريق السوى. (حافِظِينَ) لأعمالهم شاهدين عليها. (ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) : جوزوا على عملهم.

٨٣٩

المعنى :

كان الكفار لسوء تفكيرهم ، وغرورهم بأنفسهم يقولون : إن كان محمد صادقا في أن هناك بعثا ، فنحن في المنزلة العليا والدرجة الرفيعة ، (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (١).

وهنا بين الله للكفار الفجار منزلتهم يوم القيامة فقال : إنهم عند ربهم يومها لمحجوبون عن رؤيته ، ولممنوعون عن خيره وبره ، ثم إنهم يومها لداخلون جهنم ، وذائقون حرها وجحيمها ، ثم يقال لهم من قبل الملائكة تأنيبا وتوبيخا : هذا هو العذاب والجزاء الحق الذي كنتم إذا سمعتم خبره تكذبون به وتكفرون ، وها أنتم أولاء قد عاينتموه بأنفسكم بل وذقتم مره!

«كلا» ردع لهم عما هم فيه ليعقب بوعد الأبرار كما عقب سابقا بوعيد الفجار ، إن كتاب الأبرار لفي عليين ، نعم كتاب حسناتهم مسجل في ديوان عمل الأبرار. فسيجازون على عملهم أحسن الجزاء ، والعرب تصف ما يدل على السرور والسعادة بالعلو والطهارة والفسحة والوجاهة ، كما أن وصف الشيء بالسفل والضيق والظلمة يدل على الحزن والكآبة ؛ لذلك كان كتاب الأبرار في عليين ، وكتاب الفجار في سجين ، والقرآن عرفنا بكتاب الأبرار حيث قال : وما أدراك ما عليون؟ هو كتاب مرقوم معلوم ، بين الكتابة واضح الرسوم ، يشهده المقربون من الملائكة ويحافظون عليه ، أو يشهدون على ما فيه ، هذا حال كتاب الأبرار فما حالهم هم؟ إن الأبرار لفي نعيم على السرر يجلسون وينظرون إلى ما أعد لهم ، وإلى ما أعد للفجار المذنبين ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ورونقه ، يسقون من خمر خالص جيد لا غول فيه ، ولا هم عنها ينزفون ، قد ختم باسمهم إكراما لهم ، ختامه مسك ، وفي ذلك فليتبار المتبارون في تخليصه ، وليتنافس المتنافسون في الحصول عليه.

وشراب المؤمنين في الجنة خمر جيدة قد مزجت بعين يقال لها تسنيم لأنها عين مرتفعة حسا ومعنى : أعنى عينا يشرب منها المقربون السابقون ، فهي معدة ليكرم الله بها أولياءه وأحبابه.

__________________

١ ـ سورة فصلت آية ٥٠.

٨٤٠