التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)

المفردات :

(ما تُمْنُونَ) : ما تصبونه من المنى في الأرحام. (قَدَّرْنا) : قضينا به وأوجبناه عليكم. (تَحْرُثُونَ) الحرث : تهيئة الأرض للزراعة وإلقاء البذور فيها. (تَزْرَعُونَهُ) الزرع : يطلق على نفس الإنبات. (حُطاماً) : هو الهشيم الهالك المتكسر الذي لا ينتفع به. (تَفَكَّهُونَ) أصل التفكه : أكل الفاكهة ثم استعمل مجازا في التلذذ بالحديث ، وتفكه قد يستعمل مرادا به إلقاء الفكاهة عن النفس ، ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن وعلى هذا فيكون تفكه مثل تحرج وتأثم : إذا أزال الحرج والإثم عنه وقد يطلق التفكه ويراد به التعجب لأن عدم التفكه حيث تطلب الفاكهة يدعو إلى العجب ، وفي كتاب الأساس للزمخشري : فظلتم تفكهون : وارد على سبيل التهكم ، أى : تجعلون فاكهتكم وما تتلذون به قولكم : إنا لمغرمون. (الْمُزْنِ) : هو السحاب. (أُجاجاً) : ملحا ولا يمكن شربه. (تُورُونَ) : تخرجونها نارا. (لِلْمُقْوِينَ) أى : المسافرين ، مأخوذ من قولهم : أقوى القوم إذا نزلوا بالقوى أى : الأرض الخالية القفراء البعيدة عن العمران ، وقيل المراد بالمقوين : المقيمين والمسافرين جميعا ، ويقال : الفقر مقو لخلوه من المال ، وللغنى مقو لقوته على ما يريد ، ولا شك أن النار يحتاج إليها الكل.

وتلك حجج وبراهين على إمكان البعث وإثبات أنه في مقدور الله بضرب الأمثلة والنظائر المشاهدة المحسوسة التي لا يمكن إنكارها.

٦٠١

المعنى :

نحن خلقناكم أول مرة وحدنا فهلا تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والأعمال الصالحة! فإنهم أقروا ظاهرا بأن الله خلقهم ، ولكنه إقرار لم يتبع بالطاعة الصحيحة فنزل منزلة العدم ، ولذا حضهم الله على الإقرار بالخلق فقال : فلو لا تصدقون! ، وقيل المعنى : نحن خلقناكم أول مرة فهلا تصدقون بأنا قادرون على الخلق ثانيا يوم القيامة!

ثم أخذ يسوق الأدلة والحجج التي تثبت ذلك فقال : أفرأيتم ما تصبون في رحم النساء من المنى! أأنتم تخلقونه وتصورونه بشرا تام الخلقة؟ أم نحن الخالقون له وحدنا (١)؟ لم يخلق بالطبيعة ، ولم يخلق وحده ، ولم تخلقوه أنتم ، وهذا المنى تحول من حال إلى حال ، ومن صفة إلى صفة فكيف تستبعدون الخلق يوم البعث؟ وإحياءكم بعد أن كنتم ترابا أنتم وآباؤكم؟!

نحن قدرنا بينكم الموت ، ووقتنا موت كل واحد بزمن لا يتقدم ولا يتأخر ، وما نحن بمغلوبين في ذلك أبدا ، وما نحن بمغلوبين أيضا على أن نذهبكم ، ونأتى مكانكم بأمثالكم من الخلق ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الخلق والأطوار ، فنحن قادرون على كل ذلك ، ولقد علمتم النشأة الأولى لكم حيث خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ... إلخ ما هو معروف ، وقيل المعنى : لقد علمتم النشأة الأولى لخلق أبيكم آدم من تراب ، وبين التراب والحياة البشرية بون شاسع ، فهلا تذكرون ذلك؟ وتعلمون أن من قدر على ذلك كله قادر على إحياء الموتى؟!.

أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ نعم الله هو الذي يحيى الأرض بالنبات بعد موتها ، وهو القادر على إخراج النبات الأخضر المثمر من البذور والطين مع أن الحب في الطين قابل للعفونة ، ولكن الله بقدرته يخرج منه نباتا أصفر طريا غضا أفلا يدل هذا على القدرة؟

__________________

١ ـ الاستفهام في قوله أرأيتم المراد به الطلب ، أى : أخبرونى عن المنى ، وقوله : أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون : في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية ، وعلى أنها بصرية تكون مستأنفة لا محل لها ، وقوله : أم نحن الخالقون إنها متصلة ، وقيل : إنها منقطعة لأن ما بعدها جملة الاستفهام المقدر للتقرير.

٦٠٢

لو يشاء ربك بعد خلقه لجعله هشيما متكسرا لا غلة ولا خير ، كما يحصل الآن ونراه بأعيننا في حقلين متجاورين متفقين في كل شيء أو نفس الحقل الواحد ، ونرى أن هذا النبات يثمر ، وذاك في ليلة واحدة يصبح هشيما لا خير فيه ، وتبارك الله أحسن الخالقين!

لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ، وتتعجبون من سوء الحال والمصير ، أو فظللتم تتلاومون على سوء أفعالكم ، وكل ذلك تفسير باللازم ، والأقرب فظللتم تزيلون التفكه والفكاهة عنكم ، والرجل لا يطرح الفكاهة والمسرة عن نفسه إلا عند الألم والحزن ، أو المراد تتفكهون قائلين : إنا لمغرمون ـ وهذا من باب التهكم ـ بل نحن محرومون من عطاء الله.

أفرأيتم الماء الذي تشربونه؟ أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون؟ نعم هو الله وحده القادر على إنزال المطر ، وإخراج الماء من البحار على هيئة البخار حالة كونه نقيّا صافيا من كل شيء ثم جمعه في السحاب ، ثم إنزاله مطرا يصيب به من يشاء من عباده.

ولو شاء ربك أنزل (١) المطر من السماء ملحا أجاجا لا يصلح للرى ، ولكنه اللطيف الخبير فهلا تشكرون ربكم على ذلك ولا تكفرون! أفرأيتم النار التي تورونها ، وتستخرجونها من الزند أو ثقاب الكبريت ، أو على أى صورة أأنتم أنشأتم شجرها؟ أأنتم خلقتم مادتها؟ أم نحن الخالقون؟ نعم هو ربك وحده الذي خلق فقدر كل ذلك ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

نحن جعلنا النار تذكرة لجهنم ، وعبرة لمن يعتبر ، وجعلناها متاعا يتمتع بها الخلق جميعا المقيم والمسافر ، والغنى والفقير ، والحاضر والبادي ، ولا غرابة فالنار أحد العناصر المهمة كالماء والتراب والهواء.

إذ كان الأمر كذلك فسبح باسم ربك العظيم ، ونزهه عن كل نقص. وإذا كان الأمر بتقديس الاسم فما بال المسمى جل شأنه؟!

__________________

١ ـ جواب لو هنا مجرد من اللام ، وفيما قبله مقرون باللام ، والنحويون يجيزون ذلك ، أما لما ذا كان هذا الوضع هنا؟ ففي الحقيقة الله أعلم بأسرار كتابه ، وإن كان الكشاف والآلوسي وغيرهما عللوا عللا عللا ليست قوية في نظري.

٦٠٣

وانظر ـ وفقك الله ـ إلى الاستدلال بخلق الإنسان وأطواره ، ثم بالإنبات ثم بالأمطار ، ثم بالنار. وهل هناك إنسان في أية بقعة لا يرى أمامه خلق الإنسان والنبات ، والمطر ، والنار؟

إن هذا لهو حق اليقين

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)

٦٠٤

المفردات :

(بِمَواقِعِ النُّجُومِ) : بمساقطها للغروب. (مَكْنُونٍ) : محفوظ ومصون.

(مُدْهِنُونَ) الإدهان : جعل الأديم ـ الجلد ـ مدهونا بمادة زيتية ليلين ليونة حسية ، ثم استعمل الإدهان في الليونة المعنوية ، ولذا سميت المداراة والملاينة مداهنة على سبيل المجاز ، وهو لشهرته صار حقيقة عرفية ، ورشح هذا أن المتهاون في الأمر لا يتصلب فيه ولا يتشدد. (رِزْقَكُمْ) أى : شكركم. (الْحُلْقُومَ) : مجرى الطعام.

(مَدِينِينَ) من دان بمعنى حاسب وجازى ، أى : محاسبين ومجزيين ، وعليه قولهم : كما تدين تدان ، وقيل المراد مربوبين. (فَرَوْحٌ) أى : استراحة. (وَرَيْحانٌ) : رزق حسن. (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) : احتراق بها.

تلك حقائق ختمت بها السورة الكريمة تتعلق بالقرآن الكريم ، وبمناقشة المنكرين وما يكون عند خروج الروح ، وما يلاقيه السابقون وأصحاب اليمين ، والمكذبون الضالون ، تلك حقائق من رب العالمين.

لله أن يقسم بما يشاء من خلقه ، فهو تعظيم له بالدليل ، ولفت لأنظار المخلوقين حتى يروا ما في هذه الأشياء المقسم بها من عظمة تدل على القدرة الكاملة لله ـ سبحانه وتعالى ـ وأما نحن فليس لنا أن نقسم بغير الله وصفاته القديمة.

المعنى :

فلأنا أقسم بمواقع النجوم ، أى : مساقطها عند الغروب (١) ـ وإن هذا القسم عظيم لو تعلمونه لعظمتموه إنه لقرآن كريم ... الآية.

أما القسم بالنجوم عند غروبها ، وذهاب أثرها ، فلأنها والحالة هذه تكون أكثر دلالة على وجود خالقها والمؤثر فيها ، وأن هذا النجم الذي بزغ بعد غروب الشمس لا يصح

__________________

١ ـ في هذا إشارة إلى أن لا في قوله لا أقسم أصلها لام التوكيد الداخلة على مبتدأ وخبر ثم حذف المبتدأ وأشبعت الفتحة فتولد منها الألف فليست هي لا النافية ، وقيل هي لا النافية ، ولكنها زائدة للتوكيد وتقوية الكلام ، وقيل غير زائدة والمنفي قول المشركين ، وأقسم كلام جديد ، ويضعف هذا الرأى أن وجود الواو في مثل هذا واجب كقولك : لا ، وشفاك الله ، وأيضا يصح المعنى على أصالة النفي كما ذكرنا ذلك في الشرح.

٦٠٥

أن يعبد بل يجب أن يكون هو دليلا على وجود الله ، ولذا قال الله : وإنه لقسم ـ لو تعلمون ـ عظيم ، وقيل ، إن المعنى : لا أقسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم ، إن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما فضلا عن هذا القسم العظيم ، والله أعلم بأسرار كتابه.

إنه لقرآن كريم ، البحر مثله ، من أى النواحي أتيته تجد هدى ونورا وعلما وخيرا وبركة (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

إنه لقرآن كريم كائن في كتاب مصون من غير المقربين من الملائكة «هذا الكتاب المصون هو اللوح المحفوظ ، فلا يطلع عليه سواهم ، ولا يمسه إلا الطاهرون المطهرون من كدر الطبيعة البشرية ودنس الغرائز النفسية ومطهرون من دنس الأجسام وقذارة الأحداث» ، ومن غير الملائكة الأطهار يوصف بهذا؟ والطهارة على ذلك معنوية.

هذا كتاب لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من كل حدث ولذا فهم بعض الأئمة أن القرآن ينبغي ألا يمسه إلا طاهر من الحدث الأصغر والأكبر ، وبعضهم رأى أن سند هذا الحكم هو الحديث عن رسول الله «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر»

هو تنزيل من رب العالمين ، لا يأتيه باطل ، ولا يقرب منه شك ، وهو هدى للعالمين.

أفهذا الحديث الذي ذكرت نعوته هنا أنتم أيها الكفار مدهنون ، ومتهاونون؟! لا يصح هذا ولا يليق ، وأنتم تجعلون شكر رزقكم وما أنعم الله به عليكم أنكم تكذبون؟ تكذبون بما يجب عليكم تصديقه ، وبما أنزل في هذا القرآن.

فلو لا إذا بلغت الروح الحلقوم عند الحشرجة وأنتم حينئذ بلغت هذا الحد تنظرون ونحن أقرب إلى هذا الشخص منكم قرب علم وقدرة ، ولكن لا تبصرون ، فهلا إن كنتم غير مؤمنين بالبعث يمكنكم أن ترجعوا روحه ، وتمنعوا موته كما تظنون أن لا بعث ولا عقاب!! والمعنى باختصار : إن صدقتم نفى البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده لينتفى عنه الموت فينتفى البعث أى إن تحقق الشرطان وهما : إن كنتم غير مدينين إن كنتم

__________________

١ ـ سورة المائدة آية ١٦.

٦٠٦

صادقين فهلا أرجعتم نفس الميت وأنتم حاضرون ساعة خروجها من جسده (١).

ولكن البعث أمر محقق نطق به الحق ـ تبارك وتعالى ـ ومن أصدق من الله حديثا! والناس فيه ثلاثة أنواع فأما إن كان من السابقين المقربين فله روح وريحان وجنة نعيم ، وأما إن كان من أصحاب اليمين فله السلامة من العذاب لأنه من أصحاب اليمين ، أو فعليه سلام من إخوانه أصحاب اليمين ، وأما إن كان من المكذبين الضالين فله نزل من حميم يشربه بعد أكل الزقوم ـ وهذا تهكم به ـ وله تصلية جحيم واحتراق بها.

إن هذا الذي ذكر في هذه السورة وخاصة في أواخرها لهو اليقين الحق والخبر الصدق الذي لا شك فيه ولا ريب ، وإذا كان الأمر كذلك فسبح مستعينا باسم ربك العظيم ، وقدسه ونزهه عن كل نقص وعيب فتعالى الله عما يشركون!

__________________

١ ـ فلو لا بمعنى هلا ، ولو لا الثانية تأكيد له ، وإذا في قوله «فلو لا إذا» إذا ظرفية فقط ، وجواب الشرطين هو هلا ترجعونها.

٦٠٧

سورة الحديد

حكى القرطبي أنها مدنية بالإجماع ، وبعضهم نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب : أنه سمع آيات من أول سورة الحديد عند أخته فأسلم ، وعلى هذا تكون هذه الآيات مكية ، والظاهر أنها مدنية كلها كما حكى القرطبي ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ؛ وتشمل هذه السور الحث على التسبيح لله ، ثم طلب الإيمان والإنفاق ، ثم التعرض لجزاء الإيمان والإنفاق يوم القيامة ، ووعظ المؤمنين بالعظات البالغات ، ثم بيان الدنيا وحقيقتها ، وبيان دعائم الحكم ، وضرب الأمثال بالأنبياء وأممهم ، وعلى العموم فالسورة تدور حول الحث على الإنفاق والبذل في سبيل الله.

التسبيح لله وحده

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)

٦٠٨

المفردات :

(سَبَّحَ لِلَّهِ) التسبيح : التنزيه والتقديس لله ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص. (أَيَّامٍ) : جمع يوم وهو الوقت المحدد بطلوع الشمس إلى غروبها.

(اسْتَوى) : تطلق في اللغة على معان كثيرة : بمعنى استقر. ومنه استوى على الكرسي ، وعلى ظهر الدابة ، واستوى بمعنى : قصد ، وبمعنى : استولى وظهر ، ومنه : «استوى بشر على العراق» والمراد : استولى وتصرف بما يريد. (الْعَرْشِ) : هو سرير الملك ، وعليه قوله تعالى (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) وقد يطلق على سقف البيت ، وعلى هودج المرأة ، وعلى الملك والسلطان ، وعليه قولهم : ثل عرشه وسقط : إذا ذهب ملكه. (يَلِجُ) : يدخل. (يَعْرُجُ فِيها) : يصعد. (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : يدخل أحدهما في زمن الآخر. (بِذاتِ الصُّدُورِ) : صاحبات الصدور ، والمراد الأسرار العميقة التي لا تفارق الصدر أبدا.

المعنى :

التسبيح : تنزيه الله ـ تعالى ـ في القول والاعتقاد والعمل ، عما لا يليق به ، ووصفه بكل كمال ، والسمو به عن كل نقص ، والله ـ جل جلاله ـ يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض بلسان المقال أو بلسان الحال (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) فتسبيح العقلاء تنزيه وتقديس وعبادة. وتسبيح غيرهم دلالة على الصانع وأنه صاحب كل كمال ومنزه عن كل نقص ، أو هو الانقياد والخضوع لأمر الله وتصريفه ، ولا شك أن الكل بهذا المعنى يسبح له (٢) ، سبح لله ما في السموات والأرض ، وهو العزيز الذي لا يغلب ـ سبحانه وتعالى ـ الحكيم في كل ما يفعل ـ جل شأنه ـ لله (٣) ملك السموات والأرض ، وله التصرف المطلق فيهما وكأن سائلا سأل وقال : ما مظاهر ملكه؟ فأجيب بأنه يحيى من يشاء ويميت من يشاء وهو على كل شيء قدير.

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٤٤.

(٢) وقد عبر القرآن عن التسبيح تارة بالمصدر كما في أول سورة الإسراء ، وبالماضي كما هنا وفي سورة الحشر والصف ، وعبر في سورة الجمعة والتغابن بالمضارع ، وفي سورة الأعلى بالأمر عبر بذلك استيفاء لأنواع الكلمة وليسبح كل إنسان في جميع الأوقات والأحوال الله سبحانه وتعالى.

(٣) هذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها ، ولذلك فصل بينهما.

٦٠٩

هو الأول فليس قبله شيء ، إذ هو السابق على جميع الموجودات لأنه مصدرها ، وهو الآخر لأنه الباقي بعد فناء خلقه ، وهو الظاهر وجوده لكثرة الدلائل المادية والمعنوية عليه ، وهو الباطن فلا تعرف العقول ذاته على حقيقتها ، ولا تدركها الأوهام وهو بكل شيء عليم ، روى في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة : «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنّا الدّين وأغننا من الفقر!».

هو الذي خلق السموات والأرض (١) في ستة أيام ، الله أعلم بمقدارها ، وهو القادر على خلقها في لحظة (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) لكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور ، وليعلمهم أن خلق السموات والأرض أكبر من خلقهم ، وليس هو بالهين (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (٣).

ثم استوى على عرشه ، واستقام أمره ، واستقر على حسب ما يريده مما لا يعلم ذلك إلا هو ، وهذا هو رأى السلف ، وأما الخلف فيؤولون قائلين : استوى على عرشه بعد تكوين خلقه بمعنى أنه يدبر الأمر ويفصل الآيات ، يعلم ما يلج في الأرض ويدخل فيها من نبات وبذور ، وإنسان ومعادن وكنوز ، وما يخرج منها من زروع وثمار ، ومياه وجثث وغيرها ، وهو يعلم ما ينزل من السماء من مطر أو شهب أو ملك أو آيات ، وما يعرج فيها ويصعد إليها من عمل أو ملك أو غيره ، وهو معكم بعلمه وقدرته أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير.

له ملك السموات والأرض ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، وإلى الله وحده ترجع الأمور ، يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، بمعنى أنه يدخل هذا في زمن ذاك ، وبالعكس ، ونحن في مصر نرى الليل في الشتاء طويلا بينما يكون النهار في الصيف قصيرا ، وفي الصيف يكون العكس ، وفي الربيعين يتساوى الليل والنهار ، سبحانه من قادر حكيم! وهو العليم بذات الصدور ومكنوناتها التي لا تفارقها (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (٤) سبحانه وتعالى عما يشركون؟

__________________

١ ـ الظاهر والله أعلم أن هذه الجمل بيان وتفسير لتمام ملكه ولذا فصلت عن سابقتها.

٢ ـ سورة يس آية ٨٢.

٣ ـ سورة غافر آية ١٩.

٤ ـ سورة غافر آية ٥٧.

٦١٠

الحث على الإيمان والإنفاق

آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)

المفردات :

(مُسْتَخْلَفِينَ) : خلفاء عن الله فيه ، أو خلفاء عمن سبقكم ليأخذه من بعدكم.

٦١١

(مِيثاقَكُمْ) : عهدكم الذي أخذه عليكم في عالم الذر. (الْفَتْحِ) أى : فتح مكة.

(الْحُسْنى) أى : الجنة. (يُقْرِضُ) المراد : ينفق في سبيل الله.

وهذه الآيات تدعو إلى الإيمان بالله ورسوله وإلى الإنفاق في سبيل الله بعد ما مضى من وصفه جل شأنه.

المعنى :

البذل والتضحية أول الدعائم في حياة الأمم ، وأساس نجاح الدعوات والإنفاق في سبيل الله للقيام بأعباء الأمة وما تتطلبه حياتها فريضة فرضها الإسلام الذي هو النظام الإلهى والدستور السماوي وهو حين يعالج مشكلة ، يوقظ أولا الضمير ، ويحيى الروح الديني ، ويربط علاجه بالإيمان ورضا الله ورسوله ؛ وكان الإسلام في مستهل حياته ـ ولا زال كذلك ـ في أشد الحاجة إلى البذل والتضحية والإنفاق ليسد حاجة المحتاج ، ويلم شعث الدولة ويدعم أركان الجيش.

آمنوا أيها الناس بالله ورسوله ، فإن كنتم كفارا فكونوا مؤمنين ، وإن كنتم مؤمنين فآمنوا بالله إيمانا كاملا ، وداوموا عليه ، وأنفقوا في سبيل الله ، وسبيل الله كل خير يعود عليكم وعلى وطنكم ودينكم ، أنفقوا مما تحت أيديكم من الأموال وأنتم خلفاء الله عليها ، فالمال مال الله والخير خيره ، فأنفقوا منه ولا تبخلوا ، وثقوا أنكم ورثتم غيركم فيه وخلفتموه عليه وهو بلا شك سينتقل إلى غيركم ، ولن ينفعكم منه إلا ما قدمتموه لله ، والحديث : «ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت».

وإذا كان الأمر كذلك فالذين آمنوا منكم ، وأنفقوا جزءا من مالهم ، لهم أجر عند ربهم كبير.

وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ أى شيء استقر لكم وثبت عندكم حالة كونكم غير مؤمنين (١) والحال أن الرسول يدعوكم والقرآن في يمينه

__________________

١ ـ في هذا إشارة إلى أن (ما) مبتدأ وهي اسم استفهام للإنكار ، و (لكم) خبر ، و (لا تؤمنون) حال ، و (الرسول يدعوكم) حال أخرى

٦١٢

والسنة في يساره لتؤمنوا بربكم من أول الأمر أو لتداوموا على الإيمان وتقووه وقد أخذ الله ميثاقكم بما نصب من الأدلة المادية في الكون ، وما خلق فينا من قوى وغرائز كلها توصل إلى الإيمان ، لو نظرنا بها مجردين عن الهوى والتقليد الأعمى ، وقيل : إن الميثاق هو ما أخذه ربك على الناس في عالم الذر ، حين أشهدهم على أنفسهم قائلا : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ؛ وما لكم لا تؤمنون والرسول يدعوكم للإيمان ، وقد أخذ ربكم عليكم الميثاق ، لا عذر لكم ، إن كنتم تريدون الإيمان فبادروا إليه.

هو الذي ينزل على عبده محمد آيات بينات هي القرآن الكريم ، وينزل معجزات واضحات ، كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور ، وينقذكم من الكفر إلى الإيمان ويهديكم الصراط السوى ، وإن الله بكم لرءوف رحيم.

وأى شيء ثبت لكم غير منفقين في سبيل الله بعد هذا؟! ولله ميراث السموات والأرض وما فيهن ، فستخرجون من الدنيا ، والله هو الذي يرث الأموال ويعطيها لمن يشاء ، ويبقيها عند من يشاء ولن تستفيد إلا ما قدمته من خير ، وأما الوارث فأمره عند ربه ، وله رزقه وحظه في الدنيا ، وكم رأينا من جمع المال الكثير من طريق الحلال أو الحرام ثم تركه لوارثه ، فلم يبقه الوارث أكثر من شهور ، وأما من جمع فالويل له إن لم يكن قد أدى الزكاة وأنفق في سبيل الله ، وتوخى الحق في جمع المال ، وكم رأينا أناسا جمعت القليل أو لم تجمع أصلا ، وكانت في حياتها مثلا أعلى للمسلم في المعاملة فلم يغش ولم يخادع ولم يكن في جمع المال كحاطب ليل ، ثم ترك أولاده ولهم الله فلم يمض غير القليل حتى من الله عليهم بالمال والجاه والغنى والسعادة (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً).

[الكهف ٨٢]

يا أخى ثق أنك لن تغني ابنك ، والمورث هو الله وحده ؛ فأد حقوق الله واحذر الدنيا والمال!! وليس معنى هذا أن تنفق كل مالك ، لا : بل اعمل كما أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائله في هذا قائلا معناه : أنفق الثلث والثلث كثير لأن تذر أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة على الناس يتكففون السؤال. (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [سورة الإسراء آية ٢٩].

لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل وقتئذ مع من أنفق وقاتل بعده أولئك السابقون أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلهم خير بلا شك ، وقد وعدهم الله الجنة ، مثوى لهم ، والله بما تعملون خبير.

٦١٣

من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا؟ (١) بمعنى : من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله مخلصا متحريا أكرم ماله رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه الله ويعطيه أجره على الإنفاق مضاعفا أضعافا كثيرة ، وله أجر كريم ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

لهذا المنفق المقرض هذا الأجر الكريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم ، وعن أيمانهم وفي كل جهاتهم ، ويقال لهم : بشراكم اليوم دخول جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك هو الفوز العظيم ، وهل هناك أرفع درجة من هذا؟!

المنافقون يوم القيامة

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)

__________________

١ ـ هذا ندب للإنفاق على صورة بديعة ، يؤكد الأمر السابق ، ويوبخ من يترك الإنفاق ، والاستفهام ليس على حقيقته بل للحث والطلب ، والعبارة فيها استعارة في الفعل (يقرض) تبعية أو استعارة في الجملة كلها استعارة تمثيلية ، وسنشير في الشرح إلى ذلك.

٦١٤

المفردات :

(انْظُرُونا) أى : انتظرونا ، وفي قراءة : أنظرونا ، أى : أمهلونا ، أو انتظرونا.

(نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) : نستضيء بنوركم. (بِسُورٍ) : هو حائط بين الجنة والنار.

(بَلى) : نعم. (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) : امتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة.

(الْأَمانِيُ) : طول الأمل وامتداد الأجل. (فِدْيَةٌ) : ما يفتدى به. (مَوْلاكُمْ) أى : أولى بكم.

المعنى :

اذكر يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا ، والحال أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون لهم : انظرونا لعلنا نقتبس من نوركم ، ونستضيء به ، وذلك أنه روى أنه يعطى المؤمنون النور يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط المستقيم ، ويستضيء المنافقون بنورهم ولا يعطون النور ، فبينما هم يمشون على نورهم ـ كما كانوا يسيرون ظاهرا معهم في الدنيا ـ إذ يبعث الله فيهم ريحا وظلمة فيطفئ بذلك نور المنافقين ، ويقول المؤمنون : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (١) خوف أن يسلبوا النور كما سلب من المنافقين ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواقع أقدامهم قالوا للمؤمنين : انتظرونا نقتبس من نوركم. (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) والقائل هم الملائكة أو المؤمنون ، فلما رجعوا وانصرفوا يطلبون النور ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور ضخم باطنه فيه الرحمة لأنه جهة الجنة التي فيها المؤمنون ، وظاهره أى : جانبه مما يلي المنافقين من قبله العذاب.

ينادى المنافقون المؤمنين قائلين : ألم نكن معكم نصلى ونصوم ونحارب معكم؟ قالوا : بلى! ولكنكم فتنتم أنفسكم وامتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة وغركم بالله الغرور. فحقّا السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إلى الخداع ، ومن ذكر المنية وهولها نسى الأمنية وما حولها ، ومن أطال الأمل ، قصر في العمل ، بل غفل عن الأجل وجاء الغرور بالباطل ، وقانا الله شره.

__________________

١ ـ سورة التحريم آية ٨.

٦١٥

فاليوم لا يؤخذ منكم فداء ، ولا ينفعكم مال ولا بنون ، ولا يؤخذ من الذين كفروا كذلك ، مأواكم أيها المنافقون النار ، هي مولاكم وأولى بكم (١) ، وبئس المصير.

وعظ وإرشاد

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)

المفردات :

(يَأْنِ) المراد : ألم يأت وقته ، مأخوذ من أن يأنى ، وفي قراءة : يئن مأخوذ من آن يئين يقال : آن لك أن تفعل كذا ، أى : حان وقرب وقت الفعل. (تَخْشَعَ) : تذل وتلين ، والمراد تمتثل جميع أحكام القرآن. (الْأَمَدُ) : الزمن. (فَقَسَتْ) :

__________________

١ ـ مولاكم هل هي مصدر؟ أى : ولايتكم بمعنى ذات ولايتكم ، أو هي ظرف مكاني بمعنى أنه مكانكم الذي يقال فيه «إنه أولى بكم».

٦١٦

صارت قاسية لا تلين. (الشُّهَداءُ) : جمع شهيد ، والمراد به من قتل في سبيل الله ، والملائكة تشهد له بالجنة.

المعنى :

أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم ، أى : تلين عند الذكر وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتطيعه! أما آن لطائفة من المؤمنين ـ وهم الذين فترت قلوبهم نوعا ما عن الخشوع ـ أن تخشع قلوبهم ، وتقبل على امتثال أمر الله بأرواح مطمئنة ، ونفوس راضية مرضية ، لأجل تذكيرهم بالله ، ولأجل استماعهم لوعظ القرآن!!

روى عن ابن عباس أنه قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية.

(وَلا يَكُونُوا (١) كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) نهى الله المؤمنين أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم كاليهود والنصارى ، فطال عليهم الزمن. وجرفتهم حوادث الأيام فطغت عليهم حتى قست قلوبهم وصارت كالحجارة أو أشد قسوة ، وبعدوا بذلك عن الدين الحق فكتبوا كتبا نسبوها لله ، والواقع أنها لهم ، هذه الكتب فيها شيء من الحق ، وكثير من الباطل ، فكان منهم لهذا قليل من المؤمنين لم يغيروا ولم يحرفوا ، وكثير منهم فاسقون.

فيا أيها المسلمون : لا تكونوا كهؤلاء ، وقد كان المسلمون كذلك ـ حافظوا على القرآن ، ولم يغيروا فيه ، ولم يبدلوا ، ولقد صدق الله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، والحمد لله كان للأزهر نصيب كبير في المحافظة على عقائد المسلمين ألا ترى إلى عقائد كثير من المسلمين في إيران والعراق وغيرهما ، وإن كان الأزهر الآن ، يجحد فضله الكثير من المصريين ، ولا يعرف فضله حقيقة إلا في غير مصر.

أيها المسلمون : لقد عاتب الله المؤمنين في العصر الأول بهذه الآية ، ونحن نعرف للرعيل الأول كله على العموم فضله وسبقه وحسن إيمانه ، وكمال إسلامه فما بالنا نحن

__________________

١ ـ لا الناهية والواو عاطفة للفعل المنفي بلا على تخشع ، ولذا نصب ، ويصح أن تكون لا ناهية والفعل مجزوم بها وصحح هذا قراءة : ولا تكونوا بالتاء.

٦١٧

الآن!! ألم يأن لنا أن نعود إلى القرآن! ، ألم يأن للمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها أن يهتدوا إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم! ألم يأن لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويعودوا إلى صوابهم مرة ثانية؟؟ ولا غرابة في ذلك ، ولا عجب فالله يحيى الأرض الجدبة بعد موتها بالنبات والزرع ، وهو القادر على أن يحيى القلوب الميتة بالصدق والإخلاص وحسن الخشوع ، وقوة الإيمان ، قد بين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون.

إن الذين تصدقوا من الرجال والنساء ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، حيث بذلوا أموالهم خالصة لوجه الله ، لا يريدون جزاء ولا شكورا ، هؤلاء يضاعف لهم أجرهم أضعافا ، ويعطون في مقابلة الحسنة عشر أمثالها ، وقد يزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف ، ولهم أجر كريم ، وثواب جزيل ، والذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا كاملا أولئك ـ والإشارة إلى بعد مرتبتهم وكمال جزائهم ـ هم الصديقون والشهداء عند ربهم أى : أولئك عند ربهم وفي حكمه بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل ، والصديقون هم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه ، والشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل الله ، وسموا بذلك لأن الله والملائكة شهدوا لهم بالجنة ، وقيل : لأنهم أحياء فهم شهود ، لهم أجرهم الكامل ونورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم.

والذين كفروا بالله ورسوله ، وكذبوا بآياته القرآنية ، والكونية ، أولئك ـ والإشارة لبعد منزلتهم في النار ـ أصحاب النار الخالدون فيها الملازمون لها ، وهي لهم وبئس القرار قرارهم.

حقيقة الدنيا والآخرة

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ

٦١٨

مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

المفردات :

(لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : هما شيء واحد ، وقيل : اللعب : ما رغب في الدنيا ، واللهو : ما شغل عن الآخرة. (وَزِينَةٌ) الزينة : ما يتزين به من اللباس والحلي ونحوها.

(وَتَفاخُرٌ) : التباهي بالأموال والأولاد. (غَيْثٍ) : مطر. (الْكُفَّارَ) أى : الزراع. وسمى الزارع كافرا لأنه يستر البذر في الأرض ؛ وقيل : هم غير المسلمين.

(يَهِيجُ) : يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له. (حُطاماً) أى : هشيما متكسرا من اليبس.

المعنى :

الدنيا الغرور هي سبب البعد عن الدين ، الدنيا الفانية هي التي يؤثرها ضعفاء العقول والنفوس على الآخرة الباقية ، وهي سبب الإعراض عن الله ، والبعد عن الخشوع ، وحبها رأس كل خطيئة ، وهي مركب الشيطان ؛ بها يعد الإنسان بالفقر ويأمره بالفحشاء ؛ والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ، فالدنيا هي سبب قسوة القلب ، وتغيير الذمم ، وتحريف أهل الكتاب الكلم من بعد مواضعه ، وهي التي تدعو إلى الشح وعدم البذل ، هذه الدنيا ما هي!! أليس من الخير أن نعرفها على حقيقتها.

اعلموا أيها الناس أن الدنيا عرض زائل ، ومتاع حائل ؛ كل ما فيها لعب يتعب صاحبه ، ولا خير فيه كلعب الصبيان ، وكل ما فيها لهو يشغل الإنسان عما ينفعه

٦١٩

ويفيده ، وهي لعب ولهو ، ومتاعها زينة يتزيا به الجهلاء والكفار ، مع أن زينة العقلاء السعداء هي إيمان راسخ ، ويقين ثابت ؛ وذكر صاحب النعم ؛ وإيمان بوجوده وجودا ذاتيا كاملا ؛ وإيمانه بكتبه ورسله واليوم الآخر ذلك هو الإيمان وتلك زينة المؤمنين بالله ورسله ؛ وهي كذلك تفاخر بالأحساب والأنساب ؛ وتكاثر في جمع الأموال والأولاد هذه هي مشاغل الدنيا الفانية الزائلة ؛ فكل ما يشغل عن الآخرة فهو الدنيا ؛ أما الدنيا عند المؤمن الصحيح فهي قنطرة الآخرة وممر لها يعمل فيها ؛ وينتفع ببعض مباهجها وزينتها ؛ ولكنه دائما يذكر الله ؛ ولا ينساه ، ويستعين بالدنيا على تحصيل الثواب والأجر الذي ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

هذه الدنيا الفارغة سريعة الزوال والانصرام. فهي كمثل غيث نزل بأرض فأنتج زرعا أعجب الكفار نباته ؛ أما المسلمون حقا فهم لا يعجبون به ولا يغترون بل إذا رأوه قالوا : ما شاء الله ولا قوة إلا بالله! وذكرهم هذا بربهم الواحد الأحد.

عيون من لجين شاخصات

على أطرافها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

والكافر لا يتخطى نظره الماديات ؛ وقيل : المراد بالكفار : هم الزراع مطلقا ، هذا النبات الذي أعجب الزراع لا يلبث أن تراه قد هاج ووصل إلى أقصى ما يتأتى له ، فتراه عقيب ذلك مصفرّا ينذر بالنهاية ، ثم يكون حطاما متكسرا يابسا بعد خضرة يانعة ، كل ذلك في وقت وجيز.

هكذا الدنيا تقبل سريعة ثم تزداد وتقوى زمنا يسيرا ثم تراها وقد انفضت من حولك أو خرجت منها ، كما يخرج الإنسان من الدنيا صفر اليدين إلا من العمل الصالح.

وفي الآخرة عذاب شديد للعصاة والمذنبين ، وفيها مغفرة ورضوان من الله كبير وما الحياة الدنيا إلا متاع يغتر به من يطمئن له.

سابقوا أيها العقلاء إلى ما يكون سببا للمغفرة (١) والرضوان من ربكم ، وسارعوا مسارعة السابقين إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا بالله

__________________

١ ـ مجاز مرسل علاقته السببية.

٦٢٠